• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

خطبه الزهراء في مسجد النبيّ

حينما قرّرت السلطة أن تمنع فاطمة (عليهاالسلام) فدكاً و بلغها ذلك قررت الاعلان عن مظلوميتها بالذهاب إلى المسجد و إلقاء خطاب مهم في الناس، و سرى الخبر في المدينة أن بضعة النبي (صلى اللَّه عليه و آله) و ريحانته تريد أن تخطب في الناس في مسجد أبيها (صلى اللَّه عليه و آله) وهزّ الخبر أرجاء المدينة و احتشد الناس في المسجد ليسمعوا هذا الخطاب المهم.

و روى لنا عبداللَّه بن الحسن عن آبائه (عليهم السلام) صورةً من هذا الخطاب قائلاً: إنه لما أجمع أبوبكر و عمر على منع فاطمة (عليهاالسلام) فدكاً و بلغها ذلك، لاثَتْ خِمارَها على رأسها، و اشتملت بِجلبابها، و أقبلتْ في لمةٍ من حَفَدَتِها و نساء قومها، تَطَأ ذُيولَها، ما تَخْرِمُ مشيَتُها مشْيَةَ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله)

[أي: ما تنقص مشيتها مشيه أبيها، كأنه هو.] حتى دخلت على أبي بكر و هو في حَشْدٍ من المهاجرين و الأنصار و غيرهم، فَنبِطَتْ دونها مُلاءة
[أي: ضرب بينها و بين القوم سترٌ و حجابٌ.]، فجلست ثم أنت أنه أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس، ثم امهلت هنيئة حتى إذا سكن نَشيج القوم وَ هَدَأَتْ فورتهم؛ افتتحت الكلام بحمد اللَّه والثّناء عليه و الصلاة على رسوله (صلى اللَّه عليه و آله) فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها، فقالت (عليهاالسلام):

«الحمد للَّه على ما أنعم، و له الشُّكر على ما ألهم، و الثناء بما قدم مِن عمومِ نِعَمٍ ابتدأها، و سُبوغِ آلاءٍ أسداها، و تَمامِ مِنَنٍ أوْلاها، جَمَّ عن الاِحصاء عددُها، و نأى عن الجزاءِ أمَدُها، و تفاوَتَ عَنِ الاِدراك أبَدُها، وَ نَدَبَهُمْ لاستزادَتِها بالشكر لاتصالها، و استحمد إلى الخلائق بإجزالها، و ثنى بالندب إلى أمثالها، و أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، كلمةً جعل الاخلاص تأويلها، و ضمن القلوب موصولها، و أنار في التفكُّر معقولها.
الممتنع من الأبصار رؤيته، و من الألسن صفته، و من الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شى ء كان قبلها، و أنشأها بلا احتذاء أمثله امتثلها، كونها بقدرته، و ذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، و لا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتاً لحكمته، و تنبيهاً على طاعته، و إظهاراً لقدرته و تعبُّداً لبريته و إعزازاً لدعوته، ثم جعل الثواب على طاعته، و وضع العقاب على معصيته، ذِيادةً
[ذياده: دفعاً.] لعباده عن نقمته، و حياشه
[حياشة: جمعاً و سوقاً.] لهم إلى جنته.

و أشهد أن أبي محمداً عبده و رسوله اختاره قبل أن أرسله، و سماه قبل أن اجتباه، و اصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، و بستر الأهاويل مصونة، و بنهاية
العدم مقرونة، علماً من اللَّه تعالى بمآيل الةامور، و إحاطةً بحوادث الدهور، و معرفةً بمواقع الاُمور، ابتعثه اللَّه إتماماً لأمره، و عزيمةً على إمضاء حكمه، و إنفاذاً لمقادير حتمه، فرأى الاُمم فِرَقاً في أديانها، عُكَّفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً للَّه مع عرفانها.

فأنار اللَّهُ بأبي محمد (صلى اللَّه عليه و آله) ظلمها، و كشف عن القلوب بُهَمَها
[البهم: معضلات الامور و مشكلاتها.]، و جلى عن الأبصار غُمَمَها، و قام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، و بَصّرَهُم من العَماية، و هداهم إلى الدين القويم، و دعاهم إلى الطريق المستقيم.
ثم قبضه اللَّه إليه قبض رأفة و اختيار، و رغبة و إيثار، فمحمد (صلى اللَّه عليه و آله) من تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، و رضوان الرب الغفار، و مجاورة الملك الجبار، صلى اللَّه على أبي نبيه، و أمينه، و خيرته من الخلق وصفيه، والسلام عليه و رحمة اللَّه و بركاته».

ثم التفتت إلى أهل المجلس و قالت: «أنتم عباد اللَّه نصب أمره و نهيه، و حملة دينه و وحيه، و اُمناء اللَّه على أنفسكم، و بلغاؤه إلى الاُمم، زعيم حق له فيكم، و عهد قدمه إليكم، و بقيةٌ استخلفها عليكم، كتاب اللَّه الناطق، و القرآن الصادق، و النور الساطع، و الضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائداً إلى الرضوان اتّباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج اللَّه المنورة، و عزائمه المفسرة، و محارمه المحذرة، و بيناته الجالية، و براهينه الكافية، و فضائله المندوبة، و رخصه الموهوبة، و شرائعهُ المكتوبة.
فجعل اللَّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، و الصلاه تنزيهاً لكم عن الكبر، و الزكاة تزكية للنفس، و نماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجَّ تشييداً للدين، والعدل: تنسيقاً للقلوب، و طاعتنا نظاماً للملّة، و إمامتنا أماناً للفرقة، و الجهادَ عِزّاً للإسلام، و الصبر معونةً على استيجاب الأجر، و الأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منساة في العمر و منماة للعدد، و القصاص حقناً للدماء، و الوفاء بالنذر تعريضاً للمغفره، و توفية المكاييل و الموازين تغييراً للبخس، و النهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، و اجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، و ترك السرقة إيجاباً للعفة، و حرم اللَّه الشرك إخلاصاً له بالربوبية.

فاتّقوا اللَّه حق تقاته، و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون، و أطيعوا اللَّه فيما أمركم به و نهاكم عنه، فإنه إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء.
ثم قالت: أيها الناس! اعلموا أنّي فاطمة و أبي محمد، أقول عوداً و بدواً، و لا أقول ما أقول غلطاً، و لا أفعل ما أفعل شططاً (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)
[التوبة (9): 128.] فإن تعزوه و تعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، و أخا ابن عمى دون رجالكم، وَلَنْعِمَ المعزي
[المعزى: المنتسب.] إليه، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة
[صادعاً: مبيناً، و النذارة: الانذار.] مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثبجهم
[الثبج: وسط الشي ء و معظمه.] آخذاً باكظامهم
[الكظم: مخرح النفس من الحق.] داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة، يجف الأصنام و ينكث الهام، حتى انهزم الجمع و ولّوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، و أسفر الحق عن محضه، و نطق زعيم الدين، و خرست شقاشق الشياطين، وطاح و شيظُ
[الوشيظ: الخسيس من الناس.] النفاق، وانْحَلَّتْ عُقَدُ الكفر و الشقاق، وفُهْتُم
[فهتم: تلفظتم.] بكلمة الإخلاص في نفرٍ من البيض الخماص
[الخماص: الجياع، و هنا اختياراً.] و كنتم على شفا حفرة من النار، مذقة
[المذقة: اللبن الممزوج بالماء كناية عن سهولة شربه.] الشارب و نهزة
[النهزه: الفرصة.] والطامع، وقَبسَةَ العَجْلان، و موطئ القدام تشربون الطرق
[الطرق: الماء الذي خوصته الإبل و بركت فيه] ، و تقتاتون القد
[القد: قطعه جلد غير مدبوغ.] أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم اللَّه تبارك و تعالى مبحمد (صلى اللَّه عليه و آله)، بعد اللتيا و التي، و بعد أن منى ببهم
[البهم: الشجعان الأقوياء.] الرجال و ذؤبان العرب، و مردة أهل الكتاب، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللَّه، أو نجم قَرْنُ الشيطان
[نجم قرن الشيطان: طلع أتباعه.]، أو فغزت فاغرةٌ
[الفاغرة: الطائفة.] من المشركين قذف أخاه في الهواتها، فا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه
[الأخمص: باطن القدم.] و يُخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات اللَّه، مجتهداً في أمر اللَّه، قريباً من رسول اللَّه، سيداً في أولياء اللَّه، مشمراً ناصحاً، مُجِداً كادِحاً، لا تأخذه في اللَّه لومه لائم، و أنتم في رفاهية من العيش، و ادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر
[الدوائر: العواقب السيئة.] و تتوكفون الأخبار
[تتوكفون الأخبار: تنتظرون أخبار السوء بناء.] و تنكصون عند النزال، و تفرون من القتال.

فلما اختار اللَّه لنبيه (صلى اللَّه عليه و آله) دار أنبيائه و مأوى أصفيائه ظهر فيكم حسكة

[الحسكة: العداوة و الحقد.] النفاق، و سمل جلبابُ الدين، و نَطَقَ كاظِمُ
[كاظم: ساكت.] الغاوين، و نبغ خامل الأقلين، و هدر فنيق
[الهداير: ترديد البعير صوته في حنجرته. والفنيق: الفحل المكرم من الأبل الذي لا يهان و لا يركب لكرامته على أهله.] المبطلين، فخطر في عرصاتكم، و اطلع الشيطان رأسه من مغرزه
[مغزره: مخبئه.] هاتفاً بكم فَأَلْفاكُم لدعوته مستجيبين، و للغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، و أحشمكم
[أحشكم: أغضبكم.] فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، و وردتم غير مشربكم، هذا و العهد قريب، والكلم رحيب، و الجرح لما يندمل، و الرسول لما يقبر، إبتداراً
[ابتدر القوم: تسابقوا في الأمر.] زعمتم خوف الفتنة (ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين)

[التوبة (9): 49.]

فهيهات منكم، و كيف بكم، و أنى تؤفكون، و كتاب اللَّه بين أظهركم، اموره ظاهرة، و أحكامه زاهرة، و أعلامه باهرة، و زواجره لايحة، و أوامِرُهُ واضحةٌ، و قد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟، (بئس للظالمين بدلاً)
[الكهف (18): 50.]

(و من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين)
[آل عمران (3): 85.]

ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها
[نفرتها: جزعها.]، ويسلس
[يسلس: يسهل.] قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها، و تهيجون جمرتها، و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، و إطفاءِ أنوار الدين الجلي، و إهمال سنن النبي الصفي (صلى اللَّه عليه و آله)، تشربون حسواً في ارتغاء
[الحسو: الشرب شيئاً بعد شي ء. والارتغاء: شرب الرغوة، و هي اللبن الممزوج بالماء، و جمله «حسواً في ارتغاء» مثل يضرب لمن يظهر أمراً و هو يريد غيره.] و تمشون لأهله و ولده في الخمرة و الضراء
[الخمر: ما واراك من شجر و غيره. والضراء: الشجر الملتف في الوادي.] و نصبر منكم على مثل حز المدى و وخز السنان في الحشا، و أنتم الآن تزعمون: أن لا إرث لَنا،.فحكم الجاهلية تبغون؟ وَ من أحْسَنُ من اللَّه حكماً لقومٍ يوقنون! أفلا تعلمون؟! بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية: أني ابنته، أيُّها

المسلمون أاُغْلَبُ على إرثي؟..
يابْنَ أبي قحافة أفي كتاب اللَّه ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفَعَلى عمدٍ تركتم كتاب اللَّه و نبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: (وورث سليمان داود)

[النمل (27): 16] و قال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: (فهب لى من لدنك ولياً- يرثنى و يرث من آل يعقوب)
[مريم (19): 5- 6.] و قال: (و أُولو الأحارم بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللَّه)
[الأنفال (8): 75.] و قال: (يوصيكم اللَّه في أولادكم للذّكر مثل حظ الاُنثَيَين)
[النساء (4): 11.] و قال: (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتقين)
[البقرة (2): 180.]

و زعمتم أن لا حظوة لي و لا إرث من أبي و لا رحم بيننا، أفخصكم اللَّه بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا و أبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمى؟.

فدونكها مخطومة مرحولة
[دونكها: أي خذها. و الخطام: الزمام. و الرحل للناقة كالسرج للفرس. و المقصود: خذ فدكاً جاهزة مهيئة.] تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم اللَّه، و الزعيم محمد (صلى اللَّه عليه و آله)، و الموعد القيامة، و عند الساعة يخسر المبطون، و لا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر و سوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه و يحلُّ عليه عذابٌ مقيمٌ».

ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت: «يا معشر النقيبه
[النقيبة: الفتية.] و أعضاد الملة و حضنة الإسلام، ما هذا الغميزه
[الغميزة: نقص في العقل أو العمل. و السنه: النعاس من غيرِ نَوْمٍ.] في حَقّي و السِنَةُ عن ظُلامَتي؟ أما كانَ رسولُ

اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله) أبي يقول: «المرء يحفظ في ولده»؟ سرعان ما أحدثتم، و عجلان ذا إهالة
[الإهالة: الودك و هو دسم اللحم، و جملة: «سرعان ذا إهالة» مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشي ء قبل وقته.] ولكم طاقة بما اُحاول، وقوةٌ على ما أطلب و اُزاول، و أتقولون مات محمد (صلى اللَّه عليه و آله)؟ فخطب جليل استوسع وهنه واستنهر
[استنهر: اتسع.] فتقه وانفتق رتقه
[انفتق رتقه: أي انشق المكان الملتثم منه.]، واظلمت الأرض لغيبته، و كسفت الشمس و القمر، و انتثرت النجوم لمصيبته، و أكدت الآمال، و خشعت الجبال، واُضيع الحريم، و اُزيلت الحرمة عند مماته، فتلك و اللَّه النازلة الكبرى، و المصيبة العظمى، لامثلها نازلة، و لا بائقة
[البائقه: الداهيه.] عاجلة، أعلن بها كتاب اللَّه جل ثناؤه في أفنيتكم، و لقبله ما حل بأنبياء اللَّه و رسله حكم فصلٌ، و قضاءٌ حتمٌ: (و ما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإنْ مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضر اللَّه شيئاً و سيجزي اللَّهُ الشاكرين)
[آل عمران (3): 144.]

إيهاً بني قيلة
[بنو قيلة: هم الأنصار من الأوس و الخزرج.] أاُهضَمُ تُراث أبي؟ و أنتم بمرأىً منّي و مسمع، و منتدىً
[المنتدى: النادى بمعنى المجلس.] و مجمع تلبسكم الدعوة، و تشملكم الحيرة، و أنتم ذوو العدد و العدة، و الأداة و القوّة، و عندكم السلاح و الجنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، و تأتيكم الصرخة فلا تيغيثون، و أنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير و الصلاح، و النُخبة التي انتخبت، و الخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب، و تَحَمَّلْتُم الكدَّ و التعب، و ناطحتم الاُمم و كافَحْتُم البهم، لا نبرح أو تبرحون، نأمُرُكُم فتأتمرون حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، و درَّ حلب الأَيام، و خضعت ثغرة الشرك، و سكنت فورة الإفك، و خمدت نيران الكفر، و هدأت دعوة

الهرج، و استوسق نظام الدين، فأنّى حزتم بعد البيان؟
[استوسق: احتمع و انتظم. و في الاحتجاج: «فأنّى حرتم بعد البيان».] و أسررتم بعد الاِعْلانِ؟ و نكصتم بعد الاِقدام؟ و أشركتم بعد الإيمان؟.
بُؤساً لقومٍ نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وهمّوا بإخراج الرَّسول، و هم بدأوكم أوَّل مرَّةٍ، أتخشونهم فاللَّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا و قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض
[الخفض: السعة في العيش.] و أبعدتم من هو أحق بالبسط و القبض، و خلوتم بالدعة
[الدعة: الراحة و السكون.] و نجوتم بالضيق من السعة، فمججتم
[مججتم: رميتم.] ما وعيتم، و دسعتم
[دسعتم: قيّأتم.] الذي تسوغتم
[تسوغتم: شربتم بسهولة.] فإن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعاً فإن اللَّه لغنيٌ حميدٌ.
[إقتباس من سورة إبراهيم: 8.]


ألا و قد قلت ما قلت هذا على معرفةٍ منّي بالجذلة
[جذل: فرح.] التي خامرتكم
[خامرتكم: خالطتكم.] و الغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس
[فيضة النفس: إظهار المضمر في النفس لاستيلاء الهم و غلبة الحزن.] و نفثة الغيظ، و خور القناة
[كناية عن ضعف النفس.] و بثة الصدر
[بثة الصدر: إظهار ما فيه من الحزن.] و ثقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها
[احتقبوها: إحملوها على ظهوركم.] دبرة
[الدبرة: قرحة الدابة تحدث من الرحل و نحوه.] الظهر، نقبة الخفّ
[نقبة الخف: رقّته.] باقية العار، موسومة بغضب الجبار و شنار الأبد، موصولة بنار اللَّه الموقدة، التي تطلع على الأفئدة،

فبعين اللَّه ما تفعلون (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)
[الشعراء (26): 227.]، و أنا ابنة نذيرٍ لكم بين يدى عذابٍ شديد فاعلموا إنّا عاملون، و انتظروا إنّا منتظرون».
و بعد هذا لجأ أبوبكر إلى اُسلوب التضليل و الاستغفال في محاولة منه لتدارك الموقف فقال: يا بنت رسول اللَّه، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً رؤوفاً رحيماً، على الكافرين عذاباً أليماً و عقاباً عظيماً، إن عزوناه
[عزوناه: نسبناه.] أباك دون النساء، و أخا إلفك دون الأخلاء
[الأخلاء: مفرده الخليل و هو الصديق.] آثره على كل حميم، و ساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم إلا سعيد، و لا يبغضكم إلا شقى بعيد، فأنتم عترة رسول اللَّه الطيبون، الخيرة المنتجبون على الخير أدلتنا، و إلى الجنة مسالكنا.
و أنت يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء صادقةٌ في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، و لا مصدودة عن صِدْقِكِ، واللَّه ما عَدَوْتُ رأْيَ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله) و لا عملتُ إلا بإذنه، و الرائدُ لا يكذب أهلَه، و إني اُشهد اللَّه وكفي به شهيداً أنّي سمعت رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله) يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ذهباً و لا فضةً و لا داراً و لا عقاراً و إنما نورث الكتاب و الحكمة و العلم و النبوة، و ما كان لنا من طعمةٍ فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه» و قد جعلنا ما حاولته في الكراع
[الكراع:- بضمّ الكاف-: جماعة الخيل.] و السِلاح يقاتل بها المسلمون و يجاهدون الكفار، و يجالدون
[يجالدون: يضاربون.] المردة الفُجار، و ذلك بإجماع من المسلمين

[قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: 16/ 221: أنّه لم يرو حديث إنتفاء الإرث إلّا أبوبكر وحده. و له كلام في ذلك أيضا في ص 227 و 228 فراجع، و قال السيوطي في تاريخ الخلفاء: 73 و أخرج أبوالقاسم البغوى، و أبوبكر الشافعى في فوائده و ابن عساكر عن عائشة قالت: اختلفوا في ميراثه (صلى اللَّه عليه و آله) فما وجدوا عند أحد من ذلك علماً، فقال أبوبكر: سمعت رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله) يقول: إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.]، لم انفرد به وحدي، و لم أستبد بما كان الرأي عندي و هذه حالى و مالى، و هي لك و بين يديك، لا تُزوى
[لا تزوى: لا تمنع.] عنك، و لا تُدَّخَرُ دونَكِ و إنك و أنت سيدة امة أبيك، و الشجرة الطيبة لبنيك، لا ندفع مالك من فضلك، و لا يوضع في فرعك و أصلك، حكمك نافذٌ فيما ملكت بيداي، فهل ترين أن اُخالفَ في ذلك أباك (صلى اللَّه عليه و آله)؟

فقالت (عليهاالسلام): «سبحان اللَّه ما كان أبي رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله) عن كتاب اللَّه صادفاً
[صادفاً: معرضاً.] و لا لأحكامه مخالفاً! بل كان يتبع أثره، و يقفو سورة، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور، و هذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل
[الغوائل: المهالك.] في حياته، هذا كتاب اللَّه حكماً عدلاً، و ناطقاً فصلاً يقول: (يرثني و يرث من آل يعقوب)

[مريم (19): 6.] و يقول: (وورث سليمان دواد)
[النمل (27): 16] و بين عز و جل فيما وزع من الأقساط، و شرع من الفرائض و الميراث، و أباح من حظ الذكران و الإناث من أزاح به علة المبطلين، و أزال التظني و الشبهات في الغابرين، كلّا بل سوّلتْ لكم اَنْفُسُكُم أمراً فصَبْرٌ جميل و اللَّه المستعان على ما تصفون».

فقال أبوبكر: صدق اللَّه و رسوله، و صدقت انبته، أنت معدن الحكمة، و موطن الهدى و الرحمة، و ركن الدين، و عين الحجة، لا أبعد صوابك، و لا انكر خطبابك، هؤلاء المسلمون بينى و بينك، قلّدوني ما تقلدت، و باتّفاقٍ منهم أخذت ما أخذت غير مكابِرٍ و لا مستبدٍ و لا مستأثر و هم بذلك شهود.
و هذه اُولى محاولة لأبي بكر استطاع فيها من إخماد عواطف المسلمين و حرف رأيهم عن مناصرة الزهراء (عليهاالسلام) من خلال الاتضليل و التظاهر بالصلاح و اتّباع سنة النبي (صلى اللَّه عليه و آله).
ثمَّ التفتت فاطمة (عليهاالسلام) إلى الناس و لقالت: «معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية
[المغضيه: غض طرفه أي أطبقه، و المغضية أي المطبقة.] على الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم. فأخذ بسمعكم و أبصاركم و لبئس ما تأوَّلتم، وساء ما به أشرتم، و شر ما منه اغتصبتم، لتجدنَّ و اللَّهِ محمله ثقيلاً، وغبه

[غبّه: عاقبته.] وبيلاً، إذا كشف لكم الغطاء و بان ما وراءَه
[أي: ظهر لكم الشي ء الذي وراء الشدة.] الضراء، و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون (و خسر هنالك المبطلون)
[غافر (40): 78.]

ثم عطفت على قبر النبي (صلى اللَّه عليه و آله) و قالت: قد كان بعدك أنباءٌ و هنبثةٌ
[الهنبثة: الأمر الشديد.]
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب و اختلَّ قومك فاشهدهم و لا تغب عند الإله على الأدنين مقترب لمّا مضيت و حالت دونك الترب لما فقدت و كلُّ الأرض مغتصب عليك ينزل من ذي العزة الكتب فقد فقدت و كُلُّ الخير محتجب فليت قبلك كان الموت صادفنا.

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها و كلُّ أهل له قربى و منزلةٌ أبدت رجالٌ لنا نجوى صدورهم تجهَّمتنا رجالٌ واستخفّ بنا وكنت بدراً و نوراً يستضاء به و كان جبريل بالآيات يؤنسنا فليت قبلك كان الموت صادفنا فليت قبلك كان الموت صادفنا

[الاحتجاج: 1/ 253- 279 طبعة منظمة الأوقاف (انتشارات اُسوة).]

أنهت الزهراء خطابها و قد أوضحت فيه الحقّ بأجلى صورة، واستجوبت الخليفة و فضحت مخططاته بالأدلة و البراهين الساطعة المحكمة و ذكرت فضائل الخليفة الحقيقى في الإسلام و كمالاته المطلوبة، فتوتر الجو و انساق الرأي العام لصالح الزهراء (عليهاالسلام) و جعلت أبابكر في زاوية حرجة و أمام طريق مسدود.

قال ابن أبي الحديد: سألت ابن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد، و قلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلِمَ لم يدفع إليها أبوبكر فدكاً و هي عنده صادقة؟ فتبسم ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً: لو أعطاها اليوم فدكاً لمجرد دعواها؛ لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة و زحزحته عن مقامه و لم يمكن الاعتذار و الموافقة، لأنّه يكون قد سجل على نفسه أنهّا صادقة فيما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة و شهود.

[شرح ابن أبي الحديد: 16/ 284.]


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page