• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

من معاجز الإمام الباقر عليه السّلام

الولاية التكوينيّة
حدّث إبراهيم بن سعد قال: حدّثنا حكم بن سعد قال:
لقيتُ أبا جعفر محمّدَ بن عليٍّ الباقر عليه السّلام وبيده عصاً يضرب بها الصخر فينبع منه الماء. فقلت: يا ابن رسول الله، ما هذا ؟! قال: نبعةٌ مِن عصا موسى التي يتعجّبون منها. ( دلائل الإمامة لمحمّد بن جرير الطبريّ الإماميّ 96 ـ وعنه: إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للشيخ الحرّ العامليّ 64:3 / ح 82، بإسناده عن حكيم ابن أسد. وجاء في كتاب الغرفة للسيّد محمّد علي الشاه عبدالعظيميّ 41، وعلى الصفحة 130 روى عن حكم أنّه قال: لقيتُ الباقر عليه السّلام وبيده عصاً، يضرب الصخر فينبع منه الماء ).
وحدّث أبو المفضّل محمّد بن عبدالله قال: حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد ابن عقدة، عن يحيى بن زكريّا، عن الحسن بن محبوب الزرّاد، عن محمّد بن سنان، عن المفضَّل بن عمر الجعفيّ، عن جابر بن يزيد الجُعفيّ قال:
مررتُ بعبدالله الحسن، فلمّا رآني سبّني وذكر الباقر عليه السّلام ( أي بسوء )، فجئتُ إلى أبي جعفر عليه السّلام، فلمّا أبصر بي تبسّم وقال: يا جابر، مررتَ بعبدالله بن حسن فسبّك وسبّني ؟! قلت: نعم يا سيّدي، ودعوتُ الله عليه. فقال لي: أوّل داخلٍ يدخل عليك هو.
فإذا هو قد دخل! فلمّا جلس قال له الباقر عليه السّلام: ما جاء بك يا عبدالله ؟! قال: أنت الذي تدّعي ما تدّعي! قال له الباقر عليه السّلام: ويلَك قد أكثرت! ثمّ قال: يا جابر، قلت: لبّيك، قال: احفرْ في الدار حَفيرة.
قال جابر: فحفرت. فقال لي ائْتِني بحطبٍ كثيرٍ وألْقهِ فيها. ففعلت، ثمّ قال: أضْرِمْه ناراً. ففعلت، ثمّ قال: يا عبدَالله بن حسن! قُمْ وادخلْها واخرجْ منها إن كنتَ صادقاً! قال عبدالله: قمْ فادخلْ أنت قَبْلي.
فقام أبو جعفر عليه السّلام ودخَلَها.. فلم يزل يدوسها برِجْله ويدور فيها حتّى جعلها رماداً، ثمّ خرج فجاءٍ وجلس، وجعل يمسح العرقَ عن وجهه، ثمّ قال: قُمْ قبّحك الله! فما أقربَ ما يحلّ بك كما حلّ بمروان بن الحكم وبولده!( دلائل الإمامة للطبريّ الإماميّ 109 ـ وعنه: إثبات الهداة للحرّ العاملي 64:3 ـ 65 / ح 87. وروى قريباً من ذلك:
ابن شهرآشوب المازندرانيّ في مناقب آل أبي طالب 185:4، وعنه الشيخ المجلسي في بحار الأنوار 261:46 / ح 62 ).
وعن المفضَّل بن عمر قال: بينما أبو جعفر ( الباقر ) صلوات الله عليه سائرٌ مِن مكّة إلى المدينة.. إذ انتهى إلى جماعةٍ على الطريق، فإذا رجلٌ منهم قد نفق حمارُه ( أي مات )، وتبدّد متاعه، وهو يبكي. فلمّا رأى أبا جعفرٍ عليه السّلام أقبل إليه وقال له:
يا ابن رسول الله، نفقَ حماري وبقيتُ منقطعاً، فادعُ اللهَ أن يُحييَ لي حماري.
فدعا أبو جعفر عليه السّلام.. فأحيا اللهُ تعالى له حمارَه. ( الثاقب في المناقب لابن حمزة 369/ح1. ورواه ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 184:4 ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 260:46 / ح 61، وعوالم العلوم للشيخ عبدالله البحراني 110:19 / ح 4. وكذا نقله الحضينيّ في كتابه الهداية الكبرى 51 ـ من المخطوطة.. وفيه: قال جابر الجعفيّ: فحرّك أبو جعفر عليه السّلام شفتَيه بما لم يسمعه أحد منهم، فإذا نحن بالحمار وقد انتفض، فأخذه صاحبه وحمل عليه رَحْلَه.. وسار معنا حتّى دخل مكّة. عنه: إثبات الهداة للحر العاملي 62:3 / ح 75 ).
وعن أحمد بن إسحاق قال: حدّثنا عبدالله بن عبدالرحمان بن أبي نجران، عن أبي محمّد الثماليّ، عن إسحاق الجريريّ قال:
قال الباقر عليه السّلام: يا جريري، أرى لونك قد فقع، أبِكَ بواسير ؟!
قلت: نعم يا ابن رسول الله، وأسأل اللهَ عزّوجلّ ألاّ يحرمني الأجر.
قال: فأصِفُ لك دواءً ؟
قلت: يا ابن رسول الله، لقد عالجتُه بألف وأكثر من دواء.. فما انتفعت بشيءٍ من ذلك، وإنّ بواسيري تشخب دماً!
قال: وَيْحك يا جريريّ، فأنا طبيبُ الأطبّاء، ورأس العلماء، ورأس الحكماء، ومَعدِن الفقهاء، وسيّدُ أولادِ الأنبياء على وجه الأرض.
قلت: كذلك يا سيّدي ومولاي.
قال: إنّ بواسيرك أُناث تشخب دماً.
قلت: صدقتَ يا ابن رسول الله.
فذكرني على الدواء واستعملته.. فوَالله الذي لا إله إلاّ هو، ما فعلته إلاّ مَرّةً واحدةً حتّى برئ ما كان بي، فما أحسستُ بعد ذلك بدمٍ ولا وجع. فعُدتُ إليه مِن قابل، فقال لي: يا إسحاق قد بَرِئتَ والحمد لله. ( طبّ الأئمّة عليهم السّلام لابنَي بسطام ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 199:62 / ح 5 ).
وعن محمّد بن مسلم قال: خرجتُ إلى المدينة وأنا وَجِع، فقيل له ( أي للإمام الباقر عليه السّلام ): محمّد بن مسلم وَجِع. فأرسل إليّ أبو جعفر عليه السّلام إناءً مع غلام، مغطّى بمنديل، فناولنيه الغلام وقال لي: اشربْه؛ فإنّه أمرَني ألاّ أبرحَ حتّى تشربه.
فتناولته.. فإذا رائحة المِسْك منه، وإذا شراب طيّبُ الطعم بارد، فلمّا شربتُه قال لي الغلام: يقول لك مولاي: إذا شربتَه فتعال. ففكّرت فيما قال لي وما أقدر على النهوض قبل ذلك على رِجْلي، فلمّا استقرّ الشراب في جوفي، فكأنّما أُنشِطتُ مِن عِقال، فأتيتُ بابه فاستأذنتُ عليه فصوّت بي: صحّ الجسم، أُدخُلْ. فدخلتُ عليه وأنا باكٍ، فسلّمت عليه وقبّلت يده ورأسه، فقال لي: وما يُبكيك يا محمّد ؟ فقلت: جُعلت فداك، أبكي على اغترابي وبُعد شقّتي وقلّة القدرة على المُقام عندك أنظر إليك. فقال لي: أمّا قلّة القدرة فكذلك جعل اللهُ أولياءَنا وأهلَ مودّتنا، وجعل البلاء إليهم سريعاً. وأمّا ما ذكرتَ من الغُربة.. فإنّ المؤمن في هذه الدنيا لغريب، وفي هذا الخلق منكوس حتّى يخرجَ مِن هذه الدار إلى رحمة الله. وأمّا ما ذكرتَ مِن بُعد الشُّقّة، فلَك بأبي عبدالله عليه السّلام ( أي الإمام الحسين سلام الله عليه ) أُسوة، بأرضٍ نائية عنّا بالفرات. وأمّا ما ذكرتَ مِن حُبِّك قُربَنا والنظرَ إلينا، وأنّك لا تقدر على ذلك، واللهُ يعلم ما في قلبك وجزاؤك عليه. ( كامل الزيارات لأبي القاسم جعفر بن محمّد بن قُولَويه 275 / ح 7. مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 181:4. رجال الكشّي أو اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي 167/ الرقم 281. الاختصاص للشيخ المفيد 52 ـ 53. وعن بعض هذه المصادر: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 257:46 / ح 59 و 333:46 / ح 18، وعوالم العلوم للشيخ عبدالله البحرانيّ 385:19 / ح 1، وإثبات الهداة للحرّ العاملي 58:3 / ح 60 ).
وروى ابن الصبّاغ المالكيّ المذهب.. عن أبي بصير أنّه قال: قلت يوماً للباقر: أنتم ذريّة رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟ قال: نعم، قلت: رسول الله وارث الأنبياء جميعهم، ووارث جميع علومهم؟ قال: نعم، قلت: فأنتم ورثة جميع علوم رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟ قال: نعم، قلت: فأنتم تقدرون أن تُحْيُوا الموتى وتُبرئوا الأكمه والأبرص، وتُخبِروا الناس بما يأكلون في بيوتهم ؟ قال: نعم، نفعل ذلك بإذن الله تعالى.
ثمّ قال: أُدنُ منّي يا أبا بصير. وكان أبو بصير مكفوفَ النظر، قال: فدنوت منه.. فمسح يده على وجهي، فأبصرتُ السهلَ والجبل والسماء والأرض، فقال: أتُحبّ أن تكونَ هكذا تُبصر وحسابُك على الله، أو تكونَ كما كنتَ ولك الجنّة ؟ قلت: الجنّة أحبُّ إليّ.
قال أبو بصير: فمسح بيده على وجهي، فعدتُ كما كنت. ( الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصبّاغ المالكي 199 ـ طبعة الغري. نور الأبصار للشبلنجي الشافعيّ 194 ـ الطبعة العثمانيّة بمصر، أو ص 291 ـ الطبعة الحديثة. دلائل الإمامة للطبري الإمامي 226 / ح 17. الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي 274:1 / ح 5. إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي 503:1 ـ 504. بصائر الدرجات للصفّار القمّي 289/ح1. الكافي للكليني 391:1 / ح 3. الهداية الكبرى للحضيني 243. مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 184:4. الثاقب في المناقب لابن حمزة 373/ح1. رجال الكشّي أو اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي 174/ الرقم 298. إثبات الوصيّة للمسعوديّ 152. وعن بعض هذه المصادر: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 237:46 / ح 13، و 201:81 / ح 59، وإثبات الهداة للحرّ العاملي 40:3 / ح 6 و ص 68 ـ 69 عن الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي ).
معارف خاصّة
عن عليّ بن أبي حمزة وأبي بصير قالا: كان لنا موعدٌ على أبي جعفر عليه السّلام، فدخلنا عليه أنا وأبو ليلى، فقال: يا سكينة هلمّي المصباح. فأتت بالمصباح، ثمّ قال: هلمّي بالسفط الذي موضع كذا وكذا ( السفط: وعاء تُوضع فيه الأشياء ).
قال: فأتته بسفطٍ هنديٍّ أو سنديّ، ففضّ خاتمه، ثمّ أخرج منه صحيفة صفراء.. فأخذ يُدرجها من أعلاها وينشرها من أسفلها، حتّى إذا بلغ ثلثها أو ربعها نظر إليّ، فارتعدت فرائصي، حتّى خفتُ على نفسي، فلمّا نظر إليّ في تلك الحال وضع يده على صدري فقال: أبَرِأْتَ أنت ؟ قلت: نعم جُعلتُ فداك، قال: ليس عليك بأس.
ثمّ قال: أُدنُ. فدنوت، فقال لي: ما ترى ؟ قلت: اسمي واسم أبي وأسماءَ أولادٍ لي لا أعرفهم! فقال: يا عليّ، لولا أنّ لك عندي ما ليس لغيرك ما اطّلعتُك على هذا، أما إنّهم سيزدادون على عدد ما ها هنا.
قال عليّ بن أبي حمزة: فمكثتُ ـ والله ـ بعد ذلك عشرين سنة، ثمّ وُلِد لي الأولاد بعد ما رأيتُ بعيني في تلك الصحيفة. ( مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 193:4 ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 266:46 ـ 267 / ح 65، وعوالم العلوم للشيخ عبدالله البحراني 72:19 / ح 1 ).
وعن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن داود بن أبي يزيد، عن بعض الأصحاب، عن عمر بن حنظلة قال:
قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّي أظنّ أنّ لي عندك منزلة.
قال: أجل.
قلت: فإنّ لي إليك حاجة.
قال: وما هي ؟
قلت: تعلّمني الاسمَ الأعظم.
قال: وتُطيقه ؟!
قلت: نعم.
قال: فادخل البيت. فدخلت.. فوضع أبو جعفر عليه السّلام يده على الأرض فاظْلمّ البيت، فأُرعِدتْ فرائصي، فقال: ما تقول .. أُعلِّمُك ؟ فقلت: لا. فرفع يده، فرجع البيت كما كان. ( بصائر الدرجات للصفّار القمّي 210 / ح 1 ـ وعنه: إثبات الهداة للحرّ العاملي 46:3 / ح 22، وبحار الأنوار للشيخ المجلسي 27:27 / ح 6 و 235:46 / ح 4 و 5، وعوالم العلوم للشيخ عبدالله البحراني 66:19 / ح 2 و ح 3 عن مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 188:4 ).
ورُوي أنّ جماعة استأذنوا على أبي جعفر عليه السّلام.. قالوا: فلمّا صرنا في الدهليز إذا قراءة سريانيّة بصوتٍ حسن، يقرأ ويبكي حتّى أبكى بعضنا وما نفهم ما يقول، فظننّا أنّ عنده بعضَ أهل الكتاب استقرأه. فلمّا انقطع الصوت دخَلْنا عليه فلم نَرَ عنده أحداً، قلنا: يا ابن رسول الله، لقد سمعنا قراءةً سريانيّة بصوتٍ حسن!
قال: ذكرتُ مناجاة إليا ( وفي نسخة: إلياس ) فأبكتَنْي. ( الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي 286:1 / ح 19 ـ وعنه: بحار الأنوار 254:46 / ح 50 ).
وروى أحمد بن إبراهيم عن خاله، عن عليّ بن حسّان، عن عبدالرحمان بن كثير، عن أبي عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام قال:
كان أبو جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السّلام في طريق مكّة ومعه أبو أُميّة الأنصاريّ وهو زميله في محمله، فنظر إلى زوج ورشان في جانب المحمل معه، فرفع أبو أُميّة يدَه ليُنحّيَه، فقال له أبو جعفر: مهلاً؛ فإنّ هذا الطير جاء يستخفر بنا أهلَ البيت؛ لأنّ حيّةً تُؤذيه وتأكل فراخه كلَّ سنة، وقد دعوت اللهَ له أن يدفع عنه، وقد فعل. ( دلائل الإمامة للطبري الإمامي 98 ـ وعنه: بحار الأنوار للمجلسي 22:65 / ح 39، وأخرجه في البحار 238:46 / ح 19 باختلافٍ يسير عن: بصائر الدرجات للصفّار القمّي 344/ح 16.
وبصيغةٍ أخرى روى الراونديّ في الخرائج والجرائح 604:2 / ح 2، وابن حمزة في الثاقب في المناقب 390/ ح 2.. وفيهما: عن جابر بن يزيد الجعفيّ: فذهبتُ لآخذه، فصاح بي: مَهْ يا جابر؛ فإنّه استجار بنا أهلَ البيت. قلت: وما الذي شكا إليك ؟ فقال:شكا إليّ أنّه يفرّخ في هذا الجبل منذ ثلاث سنين، وأنّ حيّةً تأتيه فتأكل فراخه، فسألني أن أدعوَ الله عليها ليقتلها، ففعلت، وقد قتلها الله.. وعن الخرائج: روى الحرّ العامليّ في إثبات الهداة 56:3 / ح 53 ).
وروى الحضينيّ بإسناده عن محمّد بن مسلم الثقفيّ، عن أبي جعفر ( الباقر ) عليه السّلام.. قال محمّد بن مسلم: كنتُ عنده ذات يوم إذ وقع عليه ورشان وهَدَلا هديلَهما، فردّ عليهما أبو جعفر عليه السّلام بمِثله، فلمّا طارا على الحائط هدل الذَّكَر على الأُنثى، فردّ عليه أبو جعفر عليه السّلام هديلاً لا يعرفه الناس. ثمّ نهضا.. فقلت: جُعلتُ فداك، ما قال هذا الطائر ؟ قال: يا ابن مسلم، كلُّ شيءٍ خلَقَه اللهُ مِن بهيمةٍ أو طائر وما فيه الروح، أسمعُ لنا وأطوع من بني آدم، إنّ هذا الورشان أتاني وشكا لي مِن زوجته، وقد كان ظنّ بها ظنَّ سوء، فحلَفتْ له فلم يقبل، فقالت له: بمَن ترضى ؟ فقال: بمحمّد بن عليّ، فقال: رضيت.
فأقبلا إليّ فأخبراني بقصتهما، فسألتها عمّا ذكر، فحلفَتْ لي بالولاية أنّها ما خانَتْه، فصدّقتُها فنهيتُه عن تهمة زوجته، وأعلمته أنّه ظالمٌ لها؛ فإنّه ليس من بهيمةٍ ولا طائرٍ يحلف بولايتنا إلاّ أبَرّ، إلا بني آدم، فإنّه حلافٌ مهين، لا يعرفنا حقَّ معرفتنا إذا حلف بحقّنا كاذباً. ( الهداية الكبرى للحضيني 50. الكافي للكلينيّ 470:1 / ح 4. مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 191:4. بصائر الدرجات للصفّار القمي 342 / ح 5 ـ وعنه: بحار الأنوار للمجلسي 238:46 / ح 17، وإثبات الهداة للحرّ العاملي 40:3 / ح 7 ).
وقال الكسائي: دخلتُ على الرشيد ذات يوم وهو في إيوانه، وبين يديه مالٌ كثير.. وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمّله.. فقال:
هل علمتَ مَن أوّلُ مَن سنّ هذه الكتابة في الذهب والفضّة ؟
قلت: يا سيّدي، هذا عبدالملك بن مروان.
قال: فما كان السبب في ذلك ؟
قلت: لا علمَ لي في غير أنّه أوّل مَن أحدث هذه الكتابة.
قال: سأخبرك.. كانت القراطيس للروم، وكان أكثر مَن بمصر نصرانيّاً على دِين الملك ملك الروم، وكان تُطرّز بالرومية، وكان طرازها: أباً وابناً وروحاً قدّيساً، فلم يزل كذلك صدر الإسلام كلّه يمضي على ما كان عليه، إلى أن مَلَك عبدُالملك فتنبّه عليه.. فبينما هو ذات يوم إذ مرّ به قرطاس فنظر إلى طرازه، فأمر أن يُترجَم بالعربيّة، ففُعل ذلك فأنكره وقال: ما أغلظَ هذا في أمر الدِّين والإسلام!.. تخرج منهم هذه القراطيس فتدور في الآفاق والبلاد وقد طُرِّزت بشرك مثبّت عليها!
فأمر بالكتابة إلى عبدالعزيز بن مروان ـ وكان عاملَه بمصر ـ بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرّز به من ثوبٍ وقرطاس وسُتُر وغيرِ ذلك، وأن يأخذ صنّاع القراطيس بتطريزها بسورة التوحيد و « شَهِد اللهُ أنّه لا إلهَ إلاّ هو ».. وكتب إلى عمّال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرّزة بطراز الروم ومعاقبة مَن وُجِد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع. فلمّا أُثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد، وحُمل إلى بلاد الروم منها انتشر خبرها، ووصل إلى ملكهم فتُرجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه فاستشاط غضباً، وكتب إلى عبدالملك: إنّ عمل القراطيس بمصر وسائر ما يُطرَّز هناك للروم، ولم يزل يطرَّز بطراز الروم إلى أن أبطَلْتَه.. وقد بعثتُ إليك بهديّة تشبه محلَّك، وإن أحببتَ أن تجعل ردَّ ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كانُ يُطرَّز من أصناف الأعلاق، حاجةً أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية. وقد كانت عظيمةَ القدر.. فلم يقبلها عبدالملك.. فكتب إليه ملك الروم: أنا أحلف بالمسيح، لتأمرنّ بردِّ الطراز إلى ما كان عليه، أو لآمرنّ بنقش الدنانير والدراهم، فإنّك تعلم أنّه لا يُنقَش شيء منها إلاّ ما يُنقَش في بلادي ـ ولم تكن الدراهم والدنانير نُقِشتْ في الإسلام ـ فيُنقَش عليها مِن شتم نبيّك ما إذا قرأتَه ارفضّ جبينُك له عَرَقاً، فأُحبّ أن تقبل هديّتي وتردّ الطراز إلى ما كان عليه.
فلمّا قرأ عبدالملك الكتابَ غلظ عليه، وقال: أحسبُني أشأمَ مولودٍ وُلِد في الإسلام؛ لأنّي جنيتُ على رسول الله مِن شتم هذا الكافر ما يبقى غابرَ الدهر ولا يمكن مَحْوُه من جميع مملكة العرب. إذ كانت المعاملات تدرو بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم. فجمَعَ عبدالملك أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عند أحدٍ منهم رأياً يعمل به، فقال له روح بن زنباغ:
إنّك لتعلم الرأيَ والمخرج من هذا الأمر، ولكنّك تتعمّد تركَه!
فقال: وَيْحكَ مَن ؟!
قال: الباقر من أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله.
قال: صدقت! ولكنّه أُرْتِجَ علَيّ الرأيُ فيه.
فكتب إلى عامله بالمدينة أن أشْخِصْ إلى محمّدَ بنَ عليّ بن الحسين مكرَّماً، ومتّعْه بمئتَي ألف درهمٍ لجهازه، وبثلاثمئة ألفِ درهم لنفقته، وأزح علّتَه في جهازه وجهاز مَن يخرج معه من أصحابه.
فلّما وافى ( عليه السّلام ) أخبره عبدُالملك الخبر، فقال له الباقر: لا يَعْظُمنّ هذا عليك؛ فإنّه ليس بشيءٍ من جهتين: إحداهما أنّ الله جلّ وعزّ لم يكن لِيُطلقَ ما يُهدّدك صاحبُ الروم في رسول الله صلّى الله عليه وآله، والأخرى ـ وجود الحيلة فيه (أي الحلّ والخلاص). قال عبدالملك: وما هي ؟! قال عليه السّلام:
تدعو في هذه الساعة بصُنّاعٍ يضربون بين يَدَيك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذِكْرَ رسول الله صلّى الله عليه وآله، أحدُهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذِكْرَ البلد الذي يُضرَب فيه والسنة التي تُضرَب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتَعْمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الثلاثة الأصناف التي العشر منها عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستّة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً، فتجزّئها من الثلاثين فتصير العِدّة من الجميع وزنَ سبعة مثاقيل، وتصبّ سنجاتٍ من قوارير لا تستحيل إلى زيادةٍ ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل.
وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنّما هي الكسرويّة التي يُقال لها اليوم البغليّة... وكان وزن الدرهم منها قبل افسلام مثقالاً، والدراهم التي كانت وزن العشرة منها وزنَ ستّة مثاقيل، والعشرة وزنَ خمس مثاقيل هي السميريّة الخِفاف والثقال، ونقشُها نقشُ فارس.
ففعل عبدالملك ذلك، وأمَرَه محمّد بن عليّ بن الحسين ( الباقر عليه السّلام ) أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدّم إلى الناس في التعامل بها وأن يتهدّدوا بقتل مَن يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تُبطَل وتُرَدّ إلى مواضع العمل حتّى تُعاد على السكك الإسلاميّة.
ففعل عبدالملك ذلك وردّ رسولَ ملكِ الروم إليه يُعْلُمه بذلك ويقول: إنّ الله عزّوجلّ مانعُك ممّا قدرتَ أن تفعله، وقد تقدّمتُ إلى عمّالي في أقطار الأرض بكذا وبإبطال السكك والطراز الروميّة.
فقيل لملك الروم: افعلْ ما كنتَ تهدّدتَ به ملكَ العرب.
فقال: إنّما أردتُ أن أُغيظه بما كتبتُ به إليه؛ لأنّي كنتُ قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم، فأمّا الآنَ فلا أفعل؛ لأنّ ذلك لا يتعامل به أهلُ الإسلام!
وامتنع ملكُ الروم مِن الذي قال، وثبتَ ما أشار به محمّدُ بن عليّ بن الحسين إلى اليوم. ( المحاسن والمساوئ للبيهقيّ 129:2 ).
إخباره بالمغيَّبات
عن الحسن بن عليّ الوشّاء، عن محمّد بن حُمران قال: حدّثنا زرارة قال:
قال: أبو جعفر عليه السّلام: حدِّثْ عن بني إسرائيلَ ـ يا زرارةُ ـ ولا حَرَج. فقلت: جُعِلتُ فداك، إنّ في حديث الشيعة ما هو أعجب من أحاديثهم، قال: وأيّ شيءٍ هو يا زرارة ؟
قال زرارة: فاخلتس في قلبي، فمكثتُ ساعةً لا أذكر ما أريد! قال عليه السّلام: لعلّك تريد التقيّة ؟! قلت: نعم، قال: صدّقْ بها؛ فإنّها حقّ. ( بصائر الدرجات للصفّار القمّي 240/ح 19 ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 237:2 / ح 28 ).
ونقل الإربلي عن ( دلائل ) الحميري، عن مالك الجهني قال:
كنتُ قاعداً عند أبي جعفر ( الباقر ) عليه السّلام فنظرتُ إليه وجعلتُ أفكّر في نفسي وأقول: لقد عظّمك اللهُ وكرّمك، وجعلك حُجّةً على خَلْقه. فالتفَتَ إليّ وقال: يا مالك، الأمر أعظم ممّا تذهب إليه. ( كشف الغمّة للإربليّ 350:2 ).
وعن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام قال لرجلٍ من أهل خراسان: كيف أبوك ؟ قال: صالح، قال: قد مات أبوك بعدما خرجتَ حيث سِرْتَ إلى جُرجان. ثمّ قال له: كيف أخوك ؟ قال: تركته صالحاً، قال: قد قتله جارٌ له يقال له « صالح » يوم كذا في ساعة كذا.
فبكى الرجل وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ممّا أُصِبت! فقال أبوجعفر عليه السّلام: اسكنْ؛ فقد صارا إلى الجنّة، والجنّة خيرٌ لهما ممّا كانا فيه. فقال الرجل: إنّي خلّفتُ ابني وَجِعاً شديد الوجع، ولم تسألني عنه ؟! قال: قد بَرِئ، وقد زوّجه عمُّه ابنتَه وأنت تَقْدِم عليه وقد وُلِد له غلام واسمه « عليّ » وهو لنا شيعة، وأمّا ابنك فليس لنا شيعة بل هو لنا عدوّ! ( مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 192:4، الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي 595:2 / ح 6. الثاقب في المناقب لابن حمزة 382 / ح 4. الهداية الكبرى للحضيني 52 ـ من المخطوطة ).
عن صفوان بن يحيى، عن حمزة بن الطيّار، عن أبيه محمّد قال: جئتُ إلى باب أبي جعفر عليه السّلام أستأذن عليه فلم يأذن لي، وأذِن لغيري، فرجعتُ منزلي وأنا مغموم، فطرحتُ نفسي على سريري في الدار وذهب عنّي النوم، فجعلت أفكّر وأقول: أليس المرجئة تقول كذا، والقَدَريّة تقول كذا، والحَروريّة تقول كذا، والزيدية تقول كذا ؟! فنُفنّد عليهم قولَهم!
وأنا أفكّر في هذا.. حتّى نادى المنادي فإذا بالباب يُدَقّ، فقلت: مَن هذا ؟ فقال: رسولٌ لأبي جعفر عليه السّلام، يقول لك أبو جعفر عليه السّلام: أجِبْ. فأخذتُ ثيابي ومضيتُ معه.. فدخلتُ عليه، فلمّا رآني قال:
يا محمّد! لا إلى المرجئة ولا إلى القَدَريّة ولا إلى الحَروريّة ولا إلى الزيديّة، ولكن إلينا، إنّما حجبتُك لكذا وكذا.
فقَبِلتُ وقلتُ به. ( رجال الكشّي أو اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي 348 / الرقم 649 ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 271:46 / ح 74 ، 75، وعوالم العلوم للشيخ عبدالله البحراني 125:19 / ح 7. وأورده الإربلي في كشف الغمّة 139:2 ـ وعنه: إثبات الهداة للحرّ العاملي 59:3 / ح 67 ).
وفي حديث الحلبيّ: أنّه دخل أُناسٌ على أبي جعفر عليه السّلام، وسألوا علامةً ( أي علامة إمامته )، فأخبرهم بأسمائهم، وأخبرهم عمّا أرادوا يسألونه عنه، وقال:
أردتم أن تسألوا عن هذه الآية من كتاب الله:  كشجرةٍ طيّبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماءِ تُؤتي أُكُلَها كلَّ حِينٍ بإذنِ ربِّها  ، قالوا: صدقت، هذه الآية أردنا أن نسألك عنها. قال: نحن الشجرة التي قال الله تعالى: « أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء »، ونحن نُعطي شيعتَنا ما نشاء مِن أمرِ علمنا. ( مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 193:4 ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 266:46 / ح 15. وروى الخبرَ هذا أيضاً: الحضينيّ في الهداية الكبرى عن أبي عبدالله الصادق عليه السّلام في حديثٍ.. أنّ جماعةً كثيرين من الشيعة دخلوا على أبي جعفر ( الباقر ) عليه السّلام فقالوا له: الإمام يعرف شيعتَه ؟ قال: نعم. قالوا: فنحن شيعة ؟ قال: نعم كلُّكم، فقالوا: ما علامة ذلك ؟ قال: أُخبركم بأسمائكم وأسماء آبائكم وأُمهاتكم وقبائلكم وعشائركم. قالوا: أخْبِرْنا.
فأخبرهم بجميع ذلك، فقالوا: صدقتَ والله، فقال: وأُخبركم بما أردتم أن تسألوني. ثمّ أخبرهم به وبجوابه. وعن الهداية الكبرى: إثبات الهداة للحرّ العامليّ 63:3 / ح 77، والآية في سورة إبراهيم: 24 ، 25. كما روى الخبرَ أيضاً: السيّد محمّد علي الشاه عبدالعظيميّ في الغرفة ص 139 عن الثعلبيّ ).
وعن عيسى بن عبدالرحمان عن أبيه قال: دخل ابن عكاشة بن محصن الأسديّ على أبي جعفر الباقر عليه، وكان أبو عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام قائماً عنده... فقال لأبي جعفر عليه السّلام: لأي شيءٍ لا تُزوِّج أبا عبدالله؛ فقد أدرك التزويج! وكان عليه السّلام بين يديه صرّة مختومة، فقال: أما إنّه سيجيء نَخّاس من أهل بربر فينزل دار ميمون، فنشتري له بهذه الصرّة جارية.
قال: فأتى لذلك ما أتى.. فدخلنا يوماً على أبي جعفر عليه السّلام فقال: ألا أُخبركم عن النخّاس الذي ذكرتُه لكم؟ قد قَدِم، فاذهبوا فاشتروا له بهذه الصرّة منه جارية. قال: فأتينا النخّاس فقال: قد بِعتُ ما كان عندي إلاّ جاريتينِ مريضتين، إحداهما أمثلُ من الأخرى. قلنا: فأخرِجْهما حتّى ننظر إليهما. فأخرجهما، فقلنا: بِكَم تبيعنا هذه المتماثلة ؟ قال بسبعين ديناراً. قلنا: أحسِنْ. قال: لا أُنقص مِن سبعين ديناراً. قلنا: نشتريها منك بهذه الصرّةِ ما بلَغَتْ! ولا ندري ما فيها. وكان عنده رجلٌ أبيضُ الرأس واللحية، قال: فُكُّوا وزِنُوا. فقال النخّاس: لا تفكّوا؛ فإنّها إن نقصت حبّة من السبعين ديناراً لم أُبايعكم. فقال الشيخ: أُدنوا، فدَنَونا وففَكَكْنا الخاتم، ووزنّا الدنانير، فإذا هي سبعون ديناراً لا تَزيد ولا تنقص!
فأخذنا الجارية.. فأدخَلْناها على أبي جعفر عليه السّلام، وجعفر عليه السّلام قائمٌ عنده، فأخبَرْنا أبا جعفرٍ عليه السّلام بما كان، فحَمِد اللهَ وأثنى عليه ثمّ قال لها: ما اسمكِ ؟ قالت: حميدة، قال عليه السّلام: حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة، أخبِريني عنكِ أبِكْرٌ أنتِ أم ثيّب ؟ قالت: بِكر، قال: وكيف ولا يقع في أيدي النخّاسين شيء إلاّ أفسدوه ؟! فقالت: كان يَجيئُني فيقعد منّي مقعد الرجل من المرأة، فيسلّط اللهُ عليه رجلاً أبيضَ الرأس واللحية، فلا يزال يلطمه حتّى يقوم عنّي.. ففعل بي مراراً، وفعل الشيخ به مراراً.
فقال: يا جعفر، خُذْها إليك.
فوَلَدتْ له خيرَ أهل الأرض، موسى بنَ جعفرٍ عليه السّلام. ( الكافي للشيخ الكليني 476:1 / ح 1. دلائل الإمامة للطبري الإمامي 148 ـ 149. كشف الغمّة للإربلي 145:2 ـ 146. الهداية الكبرى للحضيني 50 ـ من المخطوطة. وعن الكافي: إثبات الهداة للحرّ العاملي 41:3 / ح 9 ).
وعن الحسن بن مختار، عن أبي بصير قال: كنتُ أُقرِئ امرأةً القرآنَ وأُعلِّمُها إياه.. فمازحتها بشيء، فلمّا قَدِمتُ على أبي جعفر عليه السّلام قال لي: يا أبا بصير! أيَّ شيءٍ قلت للمرأة ؟!
فقلت بيدي هكذا ـ يعني غطّيتُ وجهي ـ فقال: لا تعودنّ إليها.
وفي رواية حفص بن البختريّ أنّه عليه السّلام قال لأبي بصير: أبلِغْها السّلام فقل: أبو جعفر يُقرِئكِ السلامَ ويقول: زوِّجي نفسَكِ من أبي بصير. قال أبو بصير: فأتيتُها فأخبرتُها، فقالت: الله! لقد قال لك أبو جعفر هذا ؟! فحلفتُ لها، فزوّجتْ نفسَها منّي. ( مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 182:4 ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 258:46 / ح 59 ، وعوالم العلوم والمعارف للشيخ عبدالله البحراني 120:19 / ح 3 ).
وروى الحضينيّ بإسناده عن ميسَّر بيّاع الثياب الزطيّة قال:
قمتُ على باب أبي جعفر ( الباقر ) عليه السّلام فطرقته، فخرجتْ إليّ جارية خماسيّة، فوضعتُ يدي على رأسها وقلت لها: قولي لمولاكِ هذا مُيسَّر بالباب.
فناداني مِن أقصى الدار: أُدخلْ لا أباً لك!
ثمّ قال: أما ـ واللهِ ـ يا ميسَّر، لو كانت هذه الجدران تحجب أبصارَنا عمّا تحجب عنه أبصارَكم، لكنّا نحن وأنتم سواء.
فقلت: واللهِ ما أردت إلاّ لأزداد بذلك إيماناً.
( الهداية الكبرى للحضيني ص 51 ـ من المخطوطة ).
وعن الحسن بن عليّ الوشّاء، عن عبدالله، عن موسى بن بكير، عن عبدالله بن عطاء المكّي قال:
اشتقتُ إلى أبي جعفر ( الباقر ) عليه السّلام وأنا بمكّة، فقدمتُ المدينة ـ وما قدِمتُها إلاّ شوقاً إليه ـ فأصابني تلك الليلة مطر وبردٌ شديد، فانتهيتُ إلى بابه نصفَ الليل، فقلت: ما أطرقه هذه الساعة، وأنتظر حتّى أُصبح.. فإنّي لأُفكّر في ذلك إذْ سمعته يقول: يا جارية، افتحي الباب لابن عطاء؛ فقد أصابه في هذه الليلة بردٌ وأذى.
قال ابن عطاء: فجاءت وفتحت الباب، فدخلت عليه (عليه السّلام ).
( بصائر الدرجات للصفّار القمّي 252 / ح 7، وص 257 / ح 1 ـ وعنه: إثبات الهداة للحرّ العاملي 47:3 / ح 23. وروى الخبرَ هذا أيضاً: الإربلي في كشف الغمّة 139:2، وابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 188:4 ).
وعن أبي حمزة الثُّمالي قال: كنتُ مع أبي جعفر عليه السّلام ومعنا سليمان بن خالد، إلى حائط ( أي بستان ) من حيطان المدينة.. فما سرنا إلاّ قليلاً حتّى قال: الساعةَ يستقبلُنا رجلانِ قد سرقا سرقةً وأضمرا عليها. فما سرنا إلاّ قليلاً حتّى استقبلَنا الرجلان، فقال أبو جعفر عليه السّلام لغلمانه: عليكم بالسارقَين. فأُخِذا، حتّى أُتيَ بهما إلى بين يديه، فقال لهما: أسَرقتُما ؟! فحَلَفا بالله: ما سَرَقْنا! فقال أبو جعفر عليه السّلام: واللهِ لئن لم تُخرِجا ما سرقتُما لأبعثنّ إلى الموضع الذي وضعتما فيه سرقتَكما، ولأبعثنّ إلى صاحبكما الذي سرقتما منه. فأبيا أن يردّا الذي سرقاه.
فقال أبو جعفر عليه السّلام لغلمانه: أوثقوهما، وانطلقْ أنت يا سليمان إلى ذلك الجبل ـ وأشار بيده إلى ناحيةٍ منه ـ فاصعدْ أنت وهؤلاء الغلمان معك؛ فإنّ في قُلّة الجبل كهفاً، فاستخرِجوا ما فيه وائتوني به. قال سليمان: فانطلقتُ إلى الجبل.. وصعدتُ إلى الكهف فاستخرجنا منه عيبتين محشوّتين، حتّى دخلتُ بهما على أبي جعفر عليه السّلام، فقال يا سليمان، لترى غداً العجبَ.
فلمّا أصبحنا أخذ أبو جعفر عليه السّلام بأيدينا ودخلنا معه إلى والي المدينة، وقد جاء المسروق منه برجالٍ بُرآء، فقال: هؤلاء سرقوا. فأراد الوالي أن يعاقب القوم، فقال أبو جعفر عليه السّلام ابتداءً منه: إنّ هؤلاء ليسوا سرّاقة، إنّ السارقَينِ عندي. فقال للرجل: ما ذهَبَ منك ؟
قال: عَيبةٌ فيها « كذا وكذا ». فأتى بها، ثمّ قال للوالي: إن ادّعى فوق هذا فهو كاذب مبطل، وعندي عيبة أخرى لرجلٍ آخر، وهو يأتيك إلى أيّام، وهو من أهل بربر، فإذا أتاك فأرشِدْه إليّ، وأمّا هذان السارقان فإنّي لستُ ببارحٍ حتّى تقطعَهما.
فأُتيَ بهما، فقال أحدهما: تقطعُنا ولم نُقرَّ على أنفسنا ؟! فقال الوالي: ويلكما! يشهد عليكما مَن لو شَهِد على أهل المدينة لأجزتُ شهادته. فلمّا قطعهما قال أحدهما: يا أبا جعفر، لقد شهدتَ بحقّ، وما يسرُّني أنّ الله أجرى توبتي على يد غيرك، وأنّ لي بناءً خارج المدينة، وإنّي لأعلمُ أنّكم أهلُ بيتِ النبوّة ومَعدِن العلم. فرَقّ له أبو جعفر عليه السّلام وقال: أنت على خير، وإلى خير. ثمّ التفتَ إلى الوالي وإلى جماعةٍ من الناس فقال: واللهِ لقد سبقَ يدُه بدنَه إلى الجنّة بعشرين سنة.
فقال سليمان بن خالد لأبي حمزة الثمالي: يا أبا حمزة، ورأيتَ دلالةً أعجبَ من هذه ؟ّ! فقال أبو جعفر عليه السّلام: يا سليمان، العجب في العيبة الأخرى. فوَاللهِ ما لبثنا إلاّ ثلاثةً حتّى أتى البربريّ إلى الوالي فأخبره بقصّة عيبته، فأرشده الوالي إلى أبي جعفر عليه السّلام، فأتاه.. فقال له أبو جعفر: ألا أُخبرك بما في عيبتك قبل أن تُخبرني بما فيها! فقال له البربريّ: إن أنت أخبرتَني بما فيها علمتُ أنّك إمام فرَضَ الله طاعتك. فقال عليه السّلام: فيها ألفُ دينار لك وألف دينار لغيرك، ومن الثياب « كذا وكذا ». قال: فما اسم الرجل الذي له ألف دينار ؟ قال: محمّد بن عبدالرحمان، وهو على الباب ينتظر يراني أُخبر بالحقّ. فقال البربريّ: آمنتُ بالله وحدَه لا شريك له، وبمحمدٍ صلّى الله عليه وآله رسوله، وأشهدُ أنّكم أهل بيت الرحمةِ الذين أذهب الله عنكم الرجسَ وطهّركم تطهيراً. فقال أبو جعفر عليه السّلام: لقد هُدِيت، فخُذْ واشكرْ.
قال سليمان: حججتُ بعد ذلك بعشر سنين، فكنتُ أرى الأقطعَ مِن أصحاب أبي جعفر. ( الثاقب في المناقب لابن حمزة 384 / ح 7. وروى قريباً منه: قطب الدين الراوندي في الخرائج والجرائح 276:1 ح 8، والشيخ الطوسي في اختيار معرفة الرجال 356 / الرقم 664، والإربلي في كشف الغمة 144:2، وابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 185:4 ، 186 ).
وعن محمّد بن زَنْجَويه، عن عبدالله بن الحكم، عن عبدالله بن إبراهيم الجعفري في حديث طويل.. قال:
فقال إسماعيل بن عبدالله بن جعفر لأبي عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام: أَنشدُك الله، هل تذكر يوماً أتيتُ أباك محمّد بن عليّ عليهما السّلام وعلَيّ حُلّتان صفراوان، فأدام النظرَ إليّ ثمّ بكى، فقلتُ له: ما يُبكيك ؟
فقال لي: يُبكيني أنّك تُقتَل عند كِبَر سنّك ضَياعاً، لا ينتطح في دمك عنزان. قال: فقلت: متّى ذاك ؟ فقال: إذا دُعيتَ إلى الباطل فأبيتَه، وإذا نظرتَ إلى أحولَ مشؤومِ قومه ينتمي من آل الحسن على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله، يدعو إلى نفسه، قد تَسمّى بغير اسمه، فأحدِثْ عهدَك واكتبْ وصيّتك؛ فإنّك مقتول من يومك أو مِن غد!
فقال له أبو عبدالله عليه السّلام: نعم، وهذا ـ وربِّ الكعبةِ ـ لا يصوم من شهر رمضانَ إلاّ أقلَّه، فأستودعك اللهَ يا أبا الحسن، وأعظَمَ اللهُ أجرَنا فيك، وأحسنَ الخلافةَ على مَن خلّفت، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
قال: ثمّ احتمل إسماعيل وردّ جعفر إلى الحبس، قال: فوَاللهِ ما أمسينا حتّى دخل عليه بنو أخيه بنو معاوية بن عبدالله بن جعفر فتوطّأوه حتّى قتلوه، وبعث محمّد بن عبدالله إلى جعفر فخلّى سبيلَه. ( الكافي للكليني 364:1 / ح 17 ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 285:47 ـ 286 ).
وروى ابن الصبّاغ المالكي عن كتاب ( الدلائل ) للحميري، عن زيد بن حازم قال: كنت مع أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام، فمرّ بنا زيد بن عليّ، فقال أبو جعفر: ما رأيتُ هذا لَيخرجَنّ بالكوفة، ولَيُقتَلنّ، ولَيُطافَنّ برأسه.
فكان كما قال عليه السّلام. ( الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصبّاغ المالكي ص 200 ـ طبعة الغري ).
فيما روى الشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ عن الحافظ ابن الأخضر في ( معالم العترة الطاهرة ) من طريق الحافظ أبي نُعَيم الإصفهانيّ، عن ابن الرضا محمّد الجواد قال: قد قال محمّد الباقر: يرحم اللهُ أخي زيداً؛ فإنّه أتى أبي فقال: إنّي أريد الخروجَ على هذه الطاغية بني مروان، فقال له: لا تفعلْ يا زيد؛ إنّي أخاف أن تكون المقتولَ المصلوب بظهر الكوفة.. أما علمتَ يا زيد أنّه لا يخرج أحدٌ من ولد فاطمة على أحد السلاطين قبل خروج السفياني إلاّ قُتل.
فكان الأمر كما قال له أبي. ( ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي 420 ـ طبعة إسلامبول ).
وفي رواية الشيخ الكلينيّ، أنّ الإمام الباقر عليه السّلام قال لأخيه زيد: أُعيذك بالله ـ يا أخي ـ أن تكونَ غداً المصلوبَ بالكُناسة.
ثمّ ارفضّتْ عيناه وسالت دموعه، ثمّ قال: اللهُ بيننا وبين مَن هتك سترَنا، وجحد حقَّنا، وأفشى سرَّنا، ونسَبَنا إلى غيرِ جَدِّنا، وقال فينا ما لم نَقُلْه في أنفسنا. ( الكافي للكليني 356:1 / ح 16 ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 203:46 / ح 79، وعوالم العلوم للشيخ عبدالله البحرانيّ 238:18 / ح 2. ورواه الحرّ العامليّ في إثبات الهداة عن مصادر متعدّدة 38:3 / ح 1 ـ عن الكافي، وح 35 ـ عن قرب الإسناد للحميري رواية الخزّاز القمّي من كتاب ( الكفاية في النصوص )، وح 91 ـ عن إثبات الوصيّة للمسعوديّ.. وفيه أنّ الإمام الباقر عليه السّلام قال ـ وقد مرّ زيد ـ: أتَرَون أخي هذا ؟! واللهِ لَيخرجنّ بالكوفة، وليُقتلَنّ وليُصلبنّ ويُطاف برأسه! )
وروى ابن الصبّاغ المالكي، عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام أنّه قال:
كان أبي في مجلسٍ عامٍّ ذاتَ يومٍ من الأيّام، إذْ أطرق برأسه إلى الأرض ثمّ رفعه فقال: يا قوم، كيف أنتم إذا جاءكم رجلٌ يدخل عليكم مدينتَكم هذه في أربعة آلاف، يستعرضكم على السيف ثلاثةَ أيّامٍ متوالية.. فيقتل مقاتلتكم، وتَلقَون منه بلاءً لا تَقْدرون عليه ولا على دفعه! وذلك مِن قابل ( أي السنة المقبلة )، فخذوا حِذْرَكم، واعلموا أنّ الذي قلتُ لكم هو كائن لابدّ به منه.
فلم يلتفتْ أهل المدينة إلى كلامه، وقالوا: لا يكون هذا أبداً. فلمّا كان مِن قابل تحمّل أبو جعفر من المدينة بعياله هو وجماعة من بني هاشم وخرجوا منها.. فجاءها نافع ابن الأزرق فدخَلَها في أربعة آلاف، واستباحها ثلاثة أيّام، وقتل فيها خَلْقاً كثيراً لا يُحصَون، وكان الأمر على ما قاله عليه السّلام. ( الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصبّاغ المالكي ص 200 ـ طبعة الغري ـ وعنه: الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار 133 ـ طبعة مصر، والحرّ العاملي في إثبات الهداة 67:3. وروى هذا الخبرَ أيضاً: الطبريّ الإمامي في دلائل الإمامة 98، وابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 192:4، وقطب الدين الراوندي في الخرائج والجرائح 289:1 / ح 23 ـ وعن بعض هذه المصادر: الشيخ المجلسيّ في بحار الأنوار 254:46 / ح 51.. وفي آخره: فقال أهل المدينة (بعد الواقعة): لا نردُّ على أبي جعفر شيئاً نسمعه منه أبداً بعدما سمعنا ورأينا؛ فإنّهم أهلُ بيت النبوّة، وينطقون بالحق ).
وعن أبي بصير قال: كنت مع الباقر عليه السّلام في المسجد؛ إذْ دخل عمر بن عبدالعزيز عليه ثوبان ممصّران، متّكئاً على مولىً له. فقال عليه السّلام: لَيَلينَّ هذا الغلام، فيُظهر العدل، ويعيش أربع سنين ثم يموت.. فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء. فقلنا: يا ابن رسول الله، أليس ذكرتَ عدله وإنصافه ؟ قال: لأنّه يجلس في مجلسٍ لاحقَّ له فيه.
ثمّ ملك وأظهر العدل جهدَه! ( الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي 276:1 / ح 2 ـ وعنه: إثبات الهداة 51:3 / ح 40، وبحار الأنوار 251:46 / ح 44 ).
وروى الطبري الإمامي قال: أخبرني أبو الحسين محمّد بن هارون بن موسى قال: حدّثنا أبي قال: أخبرني أبو جعفر محمّد بن أحمد بن الوليد قال: حدّثنا محمّد بن الحسن بن فرّوخ، عن عبدالله بن الحجّال، عن ثعلبة، عن أبي حازم يزيد غلام عبدالرحمان قال:
كنتُ مع أبي جعفر ( الباقر ) عليه السّلام بالمدينة، فنظر إلى دار هِشام بن عبدالملك التي بناها بأحجار الزيت ( موضع بالمدينة )، فقال: أما ـ واللهِ ـ لتُهدَمنّ، أما ـ واللهِ ـ لتبدونّ أحجارُ الزيت، أما ـ واللهِ ـ إنّه لموضعُ النفس الزكيّة.
فسمعتُ هذا منه وتعجّبت، وقلت: مَن يهدم هذه الدار وهشام بناها ؟! فلمّا مات هشام بعث الوليد مَن يهدمها، فهدَمَها ونقلها حتّى بدرت أحجار الزيت! ( دلائل الإمامة للطبري الإمامي. كشف الغمّة للإربلي 137:2 ـ وعنه: الحرّ العاملي في إثبات الهداة 59:3 / ح 62، والشيخ المجلسي في بحار الأنوار 268:64 / ح 68، والشيخ عبدالله البحرانيّ في عوالم العلوم 131:19 / ح 3 ).
وعن الثعلبيّ في ( نزهة القلوب ): رُويَ عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال:
أشخصني هِشام بن عبدالملك.. فدخلت عليه وبنو أُميّة حوله، فقال لي: أُدنُ يا تُرابيّ. فقلت: مِن التراب خُلِقنا وإليه نصير.
فلم يزل يُدنيني حتّى أجلسني معه.. ثمّ قال: أنت أبو جعفر الذي تقتل بني أُميّة ؟!
فقلت: لا. قال: فمَن ذاك ؟!
فقلت: ابن عمّنا أبو العبّاس بن محمّد بن عليّ بن عبدالله بن العبّاس.
فنظر إليّ وقال: واللهِ ما حويتُ عليك كذباً.
ثمّ قال: ومتى ذاك ؟ فقلت: عن سُنيّاتٍ ـ واللهِ ـ وما هي ببعيدة. ( مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 187:4 ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 262:46 / ح 63، وعوالم العلوم للشيخ عبدالله البحراني 137:19 / ح 9 وص 289 / ح 1 ).
وعن جابر بن يزيد الجعفيّ مرفوعاً إلى الإمام الباقر عليه السّلام: لا يزال سلطانُ بني أُميّة حتّى يسقط حائط مسجدنا هذا ـ يعني مسجد الجعفيّ ـ فكان كما أخبر عليه السّلام. ( مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 187:4 ).
وحدّث سفيان عن وكيع، عن الأعمش أنّه قال: قال لي المنصور ـ أي أبا جعفر المنصور ـ: كنتُ هارباً مِن بني أُميّة أنا وأخي أبو العبّاس.. فمررنا بمسجد المدينة ومحمّد بن علي ( الباقر ) جالس، فقال لرجلٍ إلى جانبه. كأنّي بهذا الأمر وقد صار إلى هذين.
قال المنصور: فأتى الرجل فبشَّرَنا به، فمِلْنا إليه وقلنا: يا ابن رسول الله، ما الذي قلت ؟! فقال: هذا الأمر صائرٌ إليكم عن قريب، ولكنّكم تَسوؤون إلى ذريّتي وعترتي، فالويل لكم عن قريب!
قال المنصور: فما مضت الأيّام حتّى تملّك أخي وتملّكتْها. ( دلائل الإمامة لمحمّد بن جرير الطبري الإمامي 96 ـ وعنه: إثبات الهداة للحرّ العاملي 63:3 / ح 79 ).
وقال ابن حجر الهيثميّ: وسبقَ جعفراً ( الصادق ) إلى ذلك ( أي إلى الإخبار بمُلْك أبي جعفر المنصور ) والدُه الباقر؛ فإنّه أخبر المنصورَ بمِلْك الأرض شرقها وغربها وطول مدّته، فقال له المنصور: ومُلكنا قبل مُلككم ؟
قال: نعم. قال: ويملك أحدٌ مِن وُلْدي ؟ قال: نعم. قال المنصور: فمدّة بني أُميّةَ أطولُ أم مدّتُنا ؟ قال: مدّتُكم.. ولَيلْعبنّ بهذا المُلْك صبيانُكم كما يلعب بالأكرّة! هذا ما عَهِد إليّ أبي.
قال ابن حجر: فلمّا أفضت الخلافة للمنصور بملك الأرض.. تعجّب من قول الباقر! ( الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثميّ ص 121 ـ طبعة مصر ).
وفي تعريفه بالإمام محمّد الباقر عليه السّلام.. قال النبهاني ( وهو من علماء أهل السنّة ): محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين رضيَ الله عنهما، أحد أئمّة ساداتنا آل البيت الكرام، وأوحد أعيان العلماء الأعلام. ومن كراماته:
ما رُويَ عن أبي بصير قال: كنتُ مع محمّد بن عليّ في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله إذ دخل المنصور وداود بن سليمان قبل أن يُفضى المُلْك لبني العباس.. فجاء داود إلى الباقر فقال له ( الباقر ):
ما منع الدوانيقيَّ أن يأتي ؟!
قال: فيه جفاء. فقال الباقر:
لا تذهب الأيّام حتّى يليَ هذا الرجلُ أمرُ الخَلْق، فيطأَ أعناقَ الرجال، ويملك شرقها وغربها، ويطول عمره فيها حتّى يجمع من كنوز المال مالا يجمعه غيرُه.
فأخبر داودُ المنصورَ بذلك، فأتى المنصور إليه وقال: ما منعني مِن الجلوس إليك إلاّ إجلالُك. وسأله عمّا أخبر به داودَ فقال: هو كائن. قال المنصور: ومُلْكُنا قبل ملككم ؟ قال: نعم. قال: ويملك بعدي أحدٌ مِن وُلْدي ؟ قال: نعم. قال المنصور: فمدّه بني أُميّة أطول أم مدّتنا ؟ قال الباقر: مدّتكم أطول.. ولَيلعبنّ بهذا المُلْك صبيانكم كما يلعبون بالكرة، وبهذا عَهِد إليّ أبي.
فلمّا أفضت الخلافة إلى المنصور تعجّب من قوله! ( جامع كرامات الأولياء ليوسف بن إسماعيل النبهاني 164:1 ـ طبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة. وروى هذا الخبرَ أيضاً: ابن الصبّاغ المالكيّ في كتابه: الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة 199 ـ طبعة الغريّ ).
وروى الشيخ الكلينيّ وابن شهرآشوب ذلك باختلاف.. عن أبي بصير قال:
كنتُ مع أبي جعفرٍ ( الباقر ) عليه السّلام جالساً في المسجد، إذ أقبل داود بن عليّ وسليمان بن خالد وأبو جعفر عبدالله بن محمّد أبو الدوانيق، فقعدوا ناحيةً من المسجد، فقيل لهم: هذا محمّد بن عليّ جالس.
فقام إليه داود بن عليّ وسليمان بن خالد، وقعد أبو الدوانيق مكانه، حتّى سلّموا على أبي جعفر عليه السّلام، فقال لهم أبو جعفر عليه السّلام ما منَعَ جبّارَكم مِن أن يأتيَني ؟! فعذّروه عنده، فقال عند ذلك أبو جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام:
أما والله.. لا تذهب الليالي والأيّام حتّى يملك ما بين قطريها، ثمّ ليطأنّ الرجالُ عقبه، ثمّ لتُذلّنّ له رقاب الرجال، ثمّ ليملكنّ مُلكاً شديداً. فقال له داود بن عليّ: وإنّ مُلكنا قبل مُلككم ؟ قال: نعم يا داود، إنّ ملككم قبل ملكنا، وسلطانكم قبل سلطاننا. فقال له داود: أصلحك الله فهل له من مدّة ؟ فقال: نعم يا داود، واللهِ لا يملك بنو أُميّة يوماً إلاّ ملكتم مِثْلَيه، ولا سنةً إلاّ ملكتم مثلَيها، وليتلقّفها الصبيان منكم كما تلقف الصبيان الكرة.
فقام داود بن عليّ مِن عند أبي جعفر عليه السّلام فَرِحاً يريد أن يُخبر أبا الدوانيق بذلك، فلمّا نهضا جميعاً هو وسليمان بن خالد ناداه أبو جعفر عليه السّلام مِن خَلْفه: يا سليمان بن خالد! لا يزال القوم في فسحةٍ مِن ملكهم ما لم يُصيبوا منّا دماً حراماً ـ وأومأ بيده إلى صدره ـ فإذا أصابوا ذلك الدمَ فبطنُ الأرض خيرٌ لهم مِن ظهرها، فيومئذٍ لا يكون لهم في الأرض ناصر، ولا في السماء عاذر.
ثمّ انطلق سليمان بن خالد فأخبر أبا الدوانيق ( وهو المنصور )، فجاء أبو الدوانيق إلى أبي جعفر عليه السّلام فسلّم عليه، ثمّ أخبره بما قال له داود بن عليّ وسليمان بن خالد. فقال ( الباقر ) له: نعم يا أبا جعفر، دولتكم قبل دولتنا، وسلطانكم قبل سلطاتنا، سلطانكم شديد عسرٌ لا يُسْرَ فيه، وله مدّة طويلة.. واللهِ لا يملك بنو أُميّة يوماً إلاّ ملكتُم مثليه، ولا سنةً إلاّ ملكتم مثلَيها، ولَيتلقّفُها صبيانٌ منكم فضلاً عن رجالكم كما تتلقّف الصبيانُ الكرة.. أفهمت ؟
ثمّ قال عليه السّلام: لا تزالون في عُنفوان المُلْك ترغدون فيه ما لم تُصيبوا مِنّا دماً حراماً! فإذا أصبتُم ذلك الدمَ غَضِب اللهُ عزّوجلّ عليكم، فذهب بملككم وسلطانكم، وذهب بريحكم، وسلّط الله عزّوجلّ عليكم عبداً مِن عبيده أعور، وليس بأعور، مِن آل أبي سفيان، يكون استئصالكم على يديه وأيدي أصحابه.. ثم قطع الكلام! ( الكافي للكليني 210:8 / ح 256 ـ وعنه: بحار الأنوار 341:46 / ح 33، وإثبات الهداة للحرّ العاملي 43:3 / ح 13. وكذا رواه باختصار: ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 191:4 ـ وعنه: بحار الأنوار 176:47 / ح 23 ).
وروى ابن الصباغ المالكي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال: كنت عند أبي ( أي الباقر عليه السّلام ) في اليوم الذي قُبض فيه، فأوصاني بأشياءَ في غُسله وتكفينه، وفي دخوله قبره. قال: فقلت له: يا أبتِ واللهِ ما رأيتك منذ اشتكيتَ أحسنَ منك اليوم، ولا أرى عليك أثرَ الموت. فقال: يا بُنيّ، أما سمعتَ عليَّ بن الحسين يناديني مِن وراء الجدار: يا محمّد عجِّلْ. ( الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصبّاغ المالكي 202 ـ طبعة الغري. نور الأبصار للشبلنجي الشافعي 195 ـ الطبعة العثمانيّة بمصر ـ وعنهما: إثبات الهداة للحرّ العاملي 70:3 ).
وعن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله الصادق عليه السّلام قال: مرض أبو جعفر عليه السّلام مرضاً شديداً فخِفْنا عليه، فقال: ليس علَيّ مِن مرضي هذا بأس. قال: ثمّ سكت ما شاء الله، ثمّ اعتلّ علّةً خفيفة فجعل يوصينا، ثمّ قال: يا بُنيّ، أدخِلْ علَيّ نفراً مِن أهل المدينة حتّى أُشهدهم. فقلت: يا أبتا، ليس عليك بأس، فقال: يا بُنيّ، إنّ الذي جاءني وأخبرني أنّي لستُ بميّت في مرضي ذلك، هو الذي أخبرني أنّي ميّت في مرضي هذا. ( مختصر بصائر الدرجات 7 ـ 8، ـ وعنه: إثبات الهداة 109:3 / ح 114. وقريب منه: دلائل الإمامة للطبري الإمامي 102 ـ 103، وعنه: بحار الأنوار 287:27 / ح 6، و 213:46 / ح 3، وإثبات الهداة 50:3 / ح 32 ـ عن بصائر الدرجات للصفّار القمّي 482 / ح 6.
وفي بعض المصادر: أنّ الإمام الباقر عليه السّلام أخبر بيوم وفاته، فمات في ذلك اليوم ـ كما في دلائل الإمامة 103 ـ وفي رواية عبدالله بن أبي يعفور: سمعت أبا عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام يقول: إنّ أبي قال لي ذات يوم: إنّما بقيَ مِن أجَلي خمسُ سنين. فحَسَبتُ.. فما زاد ولا نقص ـ كما في إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي 504:1، ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 186:4 ).
وعن الحسين بن زيد، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام.. قال الحسين: سمعته يقول: يخرجُ رجلٌ مِن ولْد موسى ( أي الكاظم عليه السّلام ) اسمه اسم أمير المومنين عليه السّلام ( أي عليّ )، فيُدفَن في أرض طوس ـ وهي من خراسان ـ، يُقتَل فيها بالسُّمّ فيُدفَن فيها غريباً! ( يقصد الإمام عليَّ بنَ موسى الرضا صلوات الله عليه ).. فمَن زاره عارفاً بحقّه أعطاه الله عزّوجلّ أجرَ مَن أنفق مِن قبل الفتح وقاتل. ( مَن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق 583:2 / ح 3183 ـ وعنه: وسائل الشيعة للحرّ العاملي 434:10 / ح 6، وإثبات الهداة للحرّ العاملي 45:3 / ح 18 ).استجابه دعائه
عن عبدالله بن محمّد المروزيّ، عن عمارة بن زيد، عن عبدالله بن العلا، عن جعفر الصادق عليه السّلام قال:
كنتُ مع أبي وبيننا قوم من الأنصار، إذ أتاه آتٍ فقال له:
إلْحَقْ؛ فقد احترقتْ دارك!
فقال: يا بُنيّ ما احترقت.
فذهب ثمّ لم يلبث أن عاد فقال: قد ـ واللهِ ـ احترقت دارُك!
فقال: يا بُنيَّ ـ واللهِ ـ ما احترقت.
فذهب.. ثمّ لم يلبث أن عاد ومعه جماعة من أهلنا وموالينا يبكون ويقولون: قد احترقت دارك. فقال: كلاّ ـ واللهِ ـ ما احترقت، ولا كَذِبتُ ولا كُذِبت، وأنا أوثقُ بما في يدي منكم وممّا أبصرَتْ أعينُكم.
وقام أبي وقمتُ معه.. حتّى انتَهَوا إلى منازلنا والنارُ مشتعلة عن أيمان منازلنا وعن شمائلها ومن كلّ جانبٍ منها، ثمّ عدَلَ ( أي الإمام الباقر عليه السّلام ) إلى المسجد فخرّ ساجداً.. وقال في سجوده: وعزّتِك وجلالك، لا رفعتُ رأسي مِن سجودي أو تُطفيها.
قال ( الصادق عليه السّلام ): فوَاللهِ ما رفعَ رأسَه حتّى طُفِئت، واحترق ما حولها، وسَلِمتْ منازلنا.
ثمّ ذكر عليه السّلام أنّ ذلك لدعاءٍ كان قرأه عليه السّلام. ( بحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 285:46 ـ 286 / ح 89 عن الكتاب العتيق للغروي. وأورده الشيخ الحرّ العامليّ في كتابه: إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات 66:3 / ح 93 قائلاً في مقدّمته: روى بعضُ علمائنا في كتابٍ ألّفه، ووُجد في نسخةٍ عتيقةٍ في خُزانة أمير المؤمنين عليه السّلام بإسنادٍ ذكره عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام قال:.. ).
وروى الشيخ الطوسي في أماليه، أنّ رجلاً من أهل الشام ـ وكان مركزه بالمدينة ـ يتردّد على مجلس أبي جعفر ( الباقر ) عليه السّلام، يقول له: يا محمّد، ألا ترى أنّي إنما أغشى مجلسك حياءً منّي لك، ولا أقول إنّ أحداً في الأرض أبغض إليّ منكم أهلَ البيت، وأعلمُ أنّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين ( أي حاكم الشام ) في بغضكم، ولكنْ أراك رجلاً فصيحاً لك أدب وحُسن لفظ، وإنّما اختلافي إليك لحسن أدبك! وكان أبو جعفر عليه السّلام يقول له خيراً، ويقول: لن تَخفى على الله خافية.
فلم يلبث الشاميّ إلاّ قليلاً حتّى مَرِض واشتدّ وجعه، فلمّا ثقل دعا وليَّه وقال له: إذا أنت مددتَ علَيّ الثوب في النعش، فائتِ محمّدَ بن عليّ ( أي الباقر عليه السّلام ) وسَلْه أن يُصلّيَ علَيّ، وأعلِمْه أنّي أنا الذي أمرتك بذلك.
فلمّا أن كان في نصف الليل ظنّوا أنّه قد برد، وسَجَّوه، فلمّا أن أصبح الناس خرج وليُّه إلى المسجد فلمّا أن صلّى محمّدُ بن عليّ ( الباقر ) عليه السّلام وتورّك، وكان إذا صلّى عقّب في مجلسه، قال له: يا أبا جعفر، إنّ فلاناً الشامي قد هلك، وهو يسألك أن تصلّيَ عليه. فقال أبو جعفر عليه السّلام: كلاّ، إنّ بلاد الشام بلاد صرد ( أي برودة شديدة )، والحجاز بلاد حَرّ ولهبها شديد، فانطلقْ فلا تَعجلنّ على صاحبكم حتّى آتيَكم.
ثمّ قام عليه السّلام من مجلسه فأخذ وضوءً، ثمّ عاد فصلّى ركعتين، ثمّ مدّ يده تلقاء وجهه ما شاء الله، ثمّ خرّ ساجداً حتّى طلعت الشمس، ثمّ نهض عليه السّلام فانتهى إلى منزل الشاميّ.. فدخل عليه، فدعاه فأجابه، ثمّ أجلسه وأسنده، ثمّ أتى له بسَويقٍ فسقاه وقال لأهله: املأوا جوفه، وبرّدوا صدره بالطعام البارد.
ثمّ انصرف عليه السّلام.. فلم يلبث إلاّ قليلاً حتّى عُوفيَ الشاميّ فأتى أبا جعفر عليه السّلام فقال: أخْلِني ( أي سامحني )، فأخلاه، فقال الشامي: أشهد أنّك حُجّة الله على خَلْقه، وبابُه الذي يُؤتى منه، فمَن أتى من غيرك خاب وخَسِر، وضلّ ضلالاً بعيداً. فقال له أبو جعفر عليه السّلام: ما بدا لك ؟ قال: أشهد أنّي عهدتُ بروحي، وعاينتُ بعيني، فلم يتفاجأني إلاّ ومنادٍ ينادي.. أسمعه بأذُني ينادي وما أنا بالنائم: رُدُّوا عليه روحَه؛ فقد سألَنا ذلك محمّدُ بن عليّ. فقال له أبو جعفر عليه السّلام: أما علمتَ أنّ الله يُحبّ العبدَ ويبغض عملَه، ويبغض العبدَ ويحبّ عمله ؟!
فصار بعد ذلك مِن أصحاب أبي جعفر عليه السّلام. ( أمالي الطوسي 24:2 ـ 25 ـ وعنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 233:46 / ح 1، والعوالم للشيخ عبدالله البحراني 106:19 / ح 1. وروى ذلك باختلاف يسير: ابنُ شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 186:4 مختصراً بإسناده عن محمّد بن سليمان، وابن حمزة في الثاقب في المناقب 369 / ح 2.. وفيه: أنّ الإمام الباقر عليه السّلام قال: إذا غسّلتموه فدَعُوه على السرير ولا تكفّنوه حتّى آتيَكم. ثمّ قام فتطهّر، وصلّى ركعتين ودعا وسجد بعده فأطال السجود.. ثمّ قام فلبس نعليه وتردّى برداء رسول الله صلّى الله عليه وآله ومضى إليه، فلمّا وصل ودخل البيتَ الذي يُغسَّل فيه وهو على سريره وقد فُرِغ من غُسله، ناداه باسمه فقال: يا فلان. فأجابه ولبّاه ورفع رأسه وجلس، فدعا عليه السلام بشربة سويق فسقاه، ثمّ سأله: ما لك ؟ فقال: إنّه قد قُبض روحي بلا شكٍ منّي، وإنّي لمّا قُبِضتُ سمعتُ صوتاً ما سمعتُ قطُّ أطيبَ منه: رُدُّوا إليه روحَه؛ فإنّ محمّد بن عليٍّ قد سأَلَناه ).
كرامات باهرة
كتب كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعيّ: نُقل عن أبي الزبير بن محمّد بن أسلم المكي قال: كنّا عند جابر بن عبدالله ( الأنصاريّ )، فأتاه عليّ بن الحسين ومعه ابنه محمّد ( أي الباقر ) وهو صبيّ، فقال عليّ لابنه محمّد: قبّلْ رأس عمّك. فدنا محمّد من جابر فقبّل رأسه، فقال جابر: مَن هذا ؟ وكان قد كُفّ بصره، فقال له عليّ: هذا ابني محمّد.
فضمّه جابر إليه وقال: يا محمّد، محمّدٌ جَدُّك رسول الله صلّى الله عليه وآله يقرأ عليك السلام. فقال لجابر: وكيف ذلك يا أبا عبدالله ؟! فقال: كنتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله والحسين في حِجْره وهو يلاعبه، فقال: يا جابر، يُولَد لابني الحسين ابنٌ يُقال له « عليّ »، إذا كان يومُ القيامة ينادي منادٍ: لِيقُمْ سيّد العابدين، فيقوم عليّ بن الحسين، ويُولَد لعليٍّ ابنٌ يُقال له « محمّد »، يا جابر إن رأيتَه فأقرِئْه منّي السلام.
( رواه جماعة من أعلام علماء السنّة، منهم: محمّد بن طلحة الشافعيّ في مطالب السَّؤول في مناقب آل الرسول ص 81 ـ طبعة طهران، وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة ـ طبعة عبداللطيف بمصر، وابن حجر العسقلاني في لسان الميزان 168:5 ـ طبعة حيدر آباد الدكن، والحمزاوي في مشارق الأنوار 121 ـ طبعة مصر، وابن الصبّاغ الماكي في الفصول المهمّة 197 ـ طبعة الغري، والبدخشي في مفتاح لنجا في مناقب آل العبا ص 164 ـ من المخطوطة، وينابيع المودة للشيخ سليمان القندوزي الشافعي ص 333 ـ طبعة اسلامبول، والكواكب الدريّة 164:1 ـ طبعة الأزهريّة بمصر، ونور الأبصار للشبلنجي الشافعي 192 ـ طبعة العثمانية بمصر، وتذكرة خواصّ الأمّة لسبط ابن الجوزي 347 ـ طبعة الغري، والمختار في مناقب الأخيار لابن الأثير الجَزَريّ ص 30 ـ نسخة المكتبة الظاهريّة بدمشق ).
وفي رواية أُخرى: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لجابر: يا جابر، يُوشِك أن تلتحق بولدٍ لي من ولد الحسين عليه السّلام، اسمه كاسمي، يبقر العلم بقراً ( أي يفجّره تفجيراً )، فإذا رأيته فأقرِئْه عنّي السلام. قال جابر رضي الله عنه: فأخّر الله تعالى مدّتي.. حتّى رأيتُ الباقر عليه السّلام، فأقرأته السلام عن جدّه صلّى الله عليه وآله. ( الفصول المهمّة لابن الصبّاغ 193 ـ طبعة الغري. أخبار الدول وآثار الأُول للقرماني 111 ـ طبعة بغداد. وسيلة النجاة للسهالوي 338 ـ طبعة فيض في لكهنو. الروضة النديّة لمصطفى رشدي الدمشقي 16 ـ طبعة الخيريّة بمصر.
وقريب من هذه الرواية، روى: الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 22:10 ـ طبعة مكتبة القدسي بالقاهرة، وابن قتيبة الدينوري في عيون الأخبار 212:1 ـ طبعة مصر، والمتّقي الهندي في منتخب كنز العمّال المطبوع بهامش المسند 330:5 ـ طبعة الميمنية بمصر، وابن الأثير الجزري في المختار في مناقب الأخيار 30 ).
وأمّا مَن ذكره بلقب « الباقر » فعدد كبير من المؤرّخين والحفّاظ والمحدّثين وأصحاب السِّير.. بعين ما لقّبه النبيّ صلّى الله عليه وآله، منهم: النووي في شرح صحيح مسلم 102:1 ـ طبع القاهرة، والراغب الإصبهاني في مفردات غريب القرآن 37 ـ طبعة الميمنية بمصر، وپارسا البخاري في فصل الخطاب نقلاً عن ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي 380 ـ طبعة اسلامبول، وابن خلّكان في وفيات الأعيان 23:2 ـ طبعة ايران، وابن حجر في الصواعق المحرقة 120 ـ طبعة أحمد البابي بحلب، واليافعي الشافعي في روض الرياحين 57 ـ طبعة القاهرة، وفي مرآة الجنان 247:1 ـ طبعة حيدرآباد، والأبياري في العرائس الواضحة 204 ـ طبعة القاهرة، والبدخشيّ في مفتاح النجا 164 ـ من المخطوطة، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب 306 ـ طبعة الغري، وسبط ابن الجوزي في تذكرة خواص الأمّة 346 ـ طبعة الغري، والقاري في شرح الفقه الأكبر 151، وأبو الفداء في المختصر في أخبار البشر 303 ـ طبعة مصر، والهروي في جمع الوسائل في شرح الشمائل 187:1 ـ طبعة الأدبية بمصر، والقرماني في أخبار الدول وآثار الأُول 111 ـ طبعة بغداد، والسيد عبّاس المكي في نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس 23:2 ـ طبعة القاهرة، وابن الصبّان المالكي في إسعاف الراغبين المطبوع بهامش نور الأبصار 253 ـ طبعة العثمانية بمصر ).
وعن إسماعيل بن مهران، عن أبي جميلة، عن مُعاذ بن كثير، عن أبي عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام قال:
إنّ الوصيّة نزلت من السماء على محمّد صلّى الله عليه وآله كتاباً لم ينزل على محمّد صلّى الله عليه وآله كتاب مختوم إلاّ الوصيّة. فقال جبرئيل عليه السّلام: يا محمّد، هذه وصيّتك في أُمّتك عند أهل بيتك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: أيُّ أهل بيتي يا جبرئيل ؟ قال: نجيب الله منهم وذريّته، ليرثك علمَ النبوّة كما ورثه إبراهيم عليه السّلام وميراثه لعليٍّ عليه السّلام، وذريّتك مِن صُلبه.
قال: وكان عليها خواتيم، قال: ففتح عليٌّ عليه السّلام الخاتمَ الأوّل ومضى لما فيها، ثمّ فتح الحسن عليه السّلام الخاتمَ الثاني ومضى لما أُمر به فيها، فلمّا تُوفّي الحسن عليه السّلام ومضى فتح الحسينُ عليه السّلام الخاتمَ الثالثَ فوجد فيها: قاتلْ فاقتلْ وتُقتَل، واخرجْ بأقوامٍ للشهادة، لا شهادةَ لهم إلاّ معك. قال: ففعل عليه السّلام، فلمّا مضى دفعها إلى عليّ بن الحسين عليه السّلام قبل ذلك، ففتح الخاتم الرابع فوجد فيها أن: اصمتْ واطرق لما حُجِب العلم.
فلمّا تُوفّي ومضى دفعها إلى محمّد بن عليّ عليه السّلام ففتح الخاتم الخامس فوج فيها أن: فسِّرْ كتابَ الله، وصدِّقْ أباك، وورّث ابنك، واصطنع الأُمة، وقُمْ بحقّ الله عزّوجلّ، وقُلِ الحقّ في الخوف والأمن، ولا تَخْشَ إلاّ الله. ففعل، ثمّ دفعها إلى الذي يليه.
قال: قلت له: جُعلت فداك، فأنت هو ؟
فقال: ما بي إلاّ أن تذهب ـ يا مُعاذ ـ فتروي علَيّ.
فقلت: أسأل اللهَ الذي رزقك من آبائك هذه المنزلة أن يرزقك مِن عقبك مثلَها قبل الممات. قال: قد فعل الله ذلك يا مُعاذ.
فقلت: فمَن هو جُعلت فداك ؟ قال: هذا الراقد ـ وأشار بيده إلى العبد الصالح ( أي موسى الكاظم ) عليه السّلام وهو راقد. ( الكافي للشيخ الكليني 279:1 / ح 1 ).
وفي رواية أُخرى: ثمّ دفعه إلى ابنه محمّد بن عليّ، ففكّ خاتماً فوجد فيه: حدّثِ الناس وأفْتِهم، ولا تخافنّ إلاّ اللهَ عزّوجلّ؛ فإنّه لا سبيل لأحدٍ عليك. ففعل... ( الكافي للكليني 280:1 / ح 2 ـ وعنه: الجواهر السنيّة للحرّ العاملي 170 ـ 171. ورواه الشيخ الصدوق في أماليه 328/ح2، والطوسي في أماليه 56:2، والشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة 669/ح15، وابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 298:1 ـ 299 ).
وعن الحلبي، عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال:
دخل الناس على أبي ( أي الباقر ) عليه السّلام، قالوا: ما حدُّ الإمام ؟
قال: حدٌّ عظيم، إذا دخلتم عليه فوقّروه وعظّموه، وآمنوا بما جاء به من شيء، وعليه أن يَهديَكم، وفيه خصلة.. إذا دخلتُم عليه لم يقدرْ أحدٌ أن يملأ عينَه منه؛ إجلالاً وهيبة لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كذلك كان، وكذلك يكون الإمام.. ( الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي 596:2 / ح 8 ـ وعنه: بحار الأنوار للمجلسي 244:46 / ح 32، وإثبات الهداة للحرّ العاملي 54:3 / ح 48. ورواه البياضي النباطي مختصراً في الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم 184:2 / ح 18 ).
وعن أبي حمزة الثماليّ: لمّا كانت السنةُ التي حجّ فيها أبو جعفر محمّد بن عليّ عليهما السّلام... قال عكرمة: مَن هذا عليه سيماء زهرة العلم ؟! لأُجرّبنّه. فلمّا مَثُل بين يديه ارتعدت فرائصه وأُسقِط في يدَي أبي جعفر عليه السّلام وقال:
يا ابنَ رسول الله، لقد جلستُ مجالسَ كثيرةً بين يدي ابن عبّاسٍ وغيره، فما أدركني ما أدركني آنفاً!
فقال له أبو جعفر عليه السّلام: ويلك يا عُبيدَ أهل الشام! إنّك بين يدَي بُيوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها آسمُه. ( مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 182:4 ـ وعنه: بحار الأنوار 258:46. وخاتمة الرواية إشارة إلى الآية 36 من سورة النور المباركة ).
وروى اليافعيّ عن عبدالله بن عطاء أنّه قال:
ما رأيتُ العلماءَ عند أحدٍ أصغرَ علماً منهم عند محمّد بن عليّ بن الحسين رضي الله تعالى عنهم. ( روض الرياحين لعبد الله بن أسعد اليافعي 57 ـ طبعة القاهرة ).
وروى أبو نُعَيم الإصفهاني عن عبدالله بن عطاء أيضاً قوله:
ما رأيتُ العلماءَ عند أحدٍ أصغرَ علماً منهم عند أبي جعفر، ولقد رأيتُ الحكَمَ عنده كأنّه متعلِّم! ( حلية الأولياء لأبي نعيم الإصفهاني 185:3 ـ طبعة السعادة بمصر. ومرآة الجنان لليافعيّ 247:1 ـ طبعة حيدر آباد ).
وروى الشيخ مصطفى رشدي الدمشقي كلام ابن عطاء بعين ما تقدّم، ولكن في آخره: ولقد رأيتُ الحكمَ بن عُيَينة ـ مع جلالته ـ بين يديه كأنّه صبيّ بين يَدَي معلِّمه! ( الروضة النديّة للدمشقيّ ص 13 ـ طبعة الخيريّة بمصر. مفتاح النجا للبدخشي 164 ـ من المخطوطة. فصل الخطاب لپارسا البخاري ـ على ما في ينابيع المودّة للقندوزي الحنفيّ ص 380 ـ طبعة اسلامبول.. وفيه: قال بعضهم: ما رأيت من العلماء عند أحدٍ كان أقلَّ علماً إلاّ عند الإمام محمّد الباقر رضي الله عنه. فيما كتب سبط ابن الجوزيّ في تذكرة خواصّ الأمّة 347 ـ طبعة الغري: عن ابن عطاء: لقد رأيتُ الحكَمَ عنده كأنّه عصفورٌ مغلوب. ويعني بالحكم الحكمَ بن عُيَينة، وكان عالماً جليلاً في زمانه ).
وروى الشيخ الكلينيّ أنّ قتادة فقيه أهل البصرة قال للإمام الباقر عليه السّلام: واللهِ لقد جلستُ بين يدَي الفقهاء وقُدّام ابن عبّاس.. فما اضطرب قلبي قُدّامَ واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامَك! فقال له أبو جعفر ( الباقر ) عليه السّلام: أتدري أين أنت ؟ أنت بين يَدَي بُيوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرفَع! ( الكافي 256:6 ـ وعنه: بحار الأنوار 155:10 / ح 4 و 329:23 / ح 10 و 357:46 / ح 11.
وأورده الديلميّ في إرشاد القلوب 324:2 ).
وعلى نحوٍ من التفصيل روى ذلك الحرّ العامليّ.. حيث كتب: عن عدّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن محمّد بن عليّ، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة الثمالي قال:
كنتُ جالساً في مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله إذ أقبل رجل فقال: أتعرف أبا جعفر محمّدَ بن عليّ ؟ قلت: نعم، فما حاجتك ؟ قال: هيّأتُ له أربعين مسألةً أسأله عنها.. إلى أن قال أبو حمزة:
فما انقطع كلامه حتّى أقبل أبو جعفر عليه السّلام وحوله أهل خراسان وغيرهم يسألونه عن مناسك الحجّ، فمضى حتّى جلس مجلسه، وجلس الرجل قريباً منه.. إلى أن قال: فقال له: مَن أنت ؟ قال: أنا قتادة بن دعامة البصريّ، فقال له أبو جعفر عليه السّلام: أنت فقيه أهل البصرة ؟ قال: نعم، فقال أبو جعفر عليه السّلام: وَيْحك يا قتادة! إنّ الله عزّوجلّ خلَقَ خَلْقاً مِن خَلْقه فجعلهم حُججاً على خلقه، فهُمْ أوتاده في أرضه، قُوّامٌ بأمره في علمه، اصطفاهم قَبلَ خَلقه أظلّةً عن يمين عرشه.
قال أبو حمزة: فسكت طويلاً، ثمّ قال ( قتادة ): أصلحك الله، واللهِ لقد جلستُ بين يَدَي الفقهاء وقدّامَ ابن عبّاسٍ فما اضطرب قلبي قدّامَ أحدٍ منهم ما اضطرب قدّامَك! فقال له أبو جعفر: وَيْحك! أتدري أين أنت ؟ أنت بين يدَي « بُيوتٍ أذِنَ اللهُ أنْ تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها اسمُه، يُسبِّح له فيها بالغُدوِّ والآصالِ * رجالٌ لا تُلِهيهُم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذِكْرِ اللهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاة »، فأنت ثمّ ونحن أولئك. فقال قتادة: صدقتَ والله ـ جعلني الله فداك ـ، واللهِ ما هي بيوت حجارةٍ ولا طين.. ( إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للشيخ الحرّ العاملي 42:3 ـ 43 / ح 11 ).
وروى الحسن بن مُعاذ الرضوي قال: حدّثنا لوط بن يحيى الأزديّ، عن عمارة بن زيد الواقدي قال: حجّ هشام بن عبدالملك بن مروان سنةً من السنين، وكان قد حجّ في تلك السنة محمّدُ بن عليّ الباقر وابنه جعفر بن محمّد عليهما السّلام.
قال جعفر بن محمّد في بعض كلامه: الحمد لله الذي بعَثَ محمّداً بالحقّ نبيّاً واكرَمَنا به، فنحن صفوة الله على خَلْقه، وخيرته من عباده، فالسعيدُ مَن اتّبَعَنا، والشقيّ مَن عادانا وخالفنا، ومن الناس مَن يقول أنّه يتولاّنا ويوالي أعداءَنا، ومَن يليهم مِن جلسائهم وأصحابهم أعداءُ ديننا، فهو لم يسمع كلامَ ربِّنا ولم يعمل به.
قال أبو عبدالله جعفر بن محمّد عليه السّلام: فأخبر مُسْلمةٌ أخاه بما سمع فلم يعرض لنا حتّى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة.. فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه، فأُشخصنا إليه، فلمّا وردنا دمشق حَجَبنا ثلاثة أيّام ثمّ أذن لنا في اليوم الرابع، فدخَلْنا وإذا هو ( أي هشام ) قد قعد على سرير المُلْك وجندُه وخاصّته وقوفٌ على أرجلهم سماطَين مستحلّين، وقد نصب البرجاس ( وهو غرض أو هدف في الهواء على رأس رمح ) حذاءه ( أي جانبه ) وأشياخُ قومه يرمون..
فلمّا دخل أبي وأنا خلفه، ما زال يستدنينا منه حتّى حاذيناه وجلسنا قليلاً، فقال لأبي: يا أبا جعفر، إرمِ مع أشياخ قومِك الغرض. فإنّما أراد أن يهتك بأبي، وظنّ أنّه يقصر ويُخطئ ولا يُصيب إذا رمى، فيشفى منه بذلك، فقال له أبي: قد كَبُرتُ عن الرمي، فإن رأيتَ أن تَعفيَني، فقال ( أي هشام ): وحقِّ مَن أعزّنا بدينه ونبيِّه محمّدٍ لا أَعفيك.
ثمّ أومأ ( أي هشام ) إلى شيخٍ مِن بني أُميّة أن أعطِه قوسك، فتناول أبي عند ذلك قوسَ الشيخ، ثمّ تناول منه سهماً فوضَعَه في كَبِد القوس، ثمّ انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه، ثمّ رمى فيه الثانيةَ فشقّ فُواقَ سهمه إلى نصله ( فواق السهم موضع الوتر منه )،.. ثمّ تابع الرميَ حتّى شقّ تسعة أسهمٍ بعضها في جوف بعض! وهشام يضطرب في مجلسه، فلم يتمالك أن قال: أجَدْتَ يا أبا جعفر! وأنت أرمى العرب والعجم، هلاّ زعمتَ أنّك كَبُرتَ عن الرمي ؟
ثمّ أدركته ( أي هشام ) الندامةُ على ما قال، وكان هشام لم يُكَنِّ أحداً قبل أبي.. ( دلائل الإمامة لمحمّد بن جرير الطبري الإمامي 104 ـ وعنه: بحار الأنوار 181:72 / ح 9، و 306:46 / ح 1. ورواه السيّد عليّ بن طاووس في: الأمان من أخطار الأسفار والأزمان 66 ـ تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث ـ وعن الأمان: إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للحرّ العاملي 61:3 ـ 62 / ح 72.. وفيه أنّ هشاماً قال: ما رأيتُ مِثْلَ هذا الرميِ قطُّ منذُ عقلت! وما ظننتُ أنّ في الأرض أحداً يرمي مِثْلَ هذا الرمي! ).
الإمام محمد بن علي.. خامس الوصيين.. وباقر علم النبيين..
وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب (عليهم السلام)، خامس الأئمة الاثني عشر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
كانت أمه أم عبد الله فاطمة بنت الحسن (عليه السلام) صدّيقة لم يدرك في آل الحسن مثلها(1).
فهو هاشمي من هاشميَّين، علوي من علويَّين، فاطمي من فاطميّين، لأنه أول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين (عليهما السلام) وكان أصدق الناس لهجة وأحسنهم بهجة وأبذلهم مهجة(2).
ولد (عليه السلام) بالمدينة المنورة سنة 57 هـ (وقيل 56) وتوفي فيها سنة 114 هـ ودفن بالبقيع إلى جنب أبيه زين العابدين (عليه السلام) وعمّ أبيه الحسن بن علي (عليهما السلام) (3).
كنيته أبو جعفر وألقابه كثيرة أشهرها الباقر أو باقر العلم.
خامس الأئمة.. محمد بن علي (عليه السلام) باقر العلم وجامعه
مؤسس لمدرسة الحديث.. ومرجع لرواته يوسف فخر الدين ظروف ولادته ونشأته:
لعلّ أدق وصف للمرحلة التي عايشها قد جاء على لسان الإمام الباقر نفسه (عليه السلام) حيث يقول:
((قُتلتْ شيعتنا بكل بلد، وقُطِّعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يُذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمن عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام)، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى إن الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال من شيعة علي (عليه السلام))) (4).
وقد ذُكر عن حالة الظلم والجور أنه: (لما فرغ الحجاج من ابن الزبير قدم المدينة، وأساء إلى أهلها، وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم، منهم جابر بن عبد الله الأنصاري، وسهل بن سعد).
وينقل عن المسعودي: (تأمّر الحجّاج على الناس عشرين سنة وأحصي من قتله صبراً سوى من قتل في عساكره وحروبه فوجد مئة وعشرون ألفاً، ومات الحجّاج وفي حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألفاً مجردة (عاريات)، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف، ولا من المطر والبرد في الشتاء، وكان له غير ذلك العذاب) (5).
فالوضع السياسي إذاً يمكن تلمُّس ملامحه على الوجه التالي:
ملاحقة واضطهاد للموالين لأهل البيت (عليهم السلام) وقتلهم وتشريدهم وحبسهم ونفيهم وسائر أنواع الممارسات المتعسفة والظالمة بحقهم.
الأذية والفتك بسائر المسلمين المعارضين للسياسة الأموية السفيانية وبالتالي المروانية.
الاضطهاد والإرهاب السياسي والفكري والاعتقادي والمذهبي، وبالتالي استخدام صنوف التعذيب والوسائل المتاحة لتحقيق ذلك، وفرض المفاهيم والطروحات التي تنسجم مع مصلحة النظام القائم بعيداً عن روح الإسلام ومضمونه.
ابتعاد نظام الحكم كلياً عن شرع الإسلام الحنيف ومبادئه وحدوده وقوانينه، وإعطاء السلطات والصلاحيات المطلقة للفرد الحاكم أو الوالي أحياناً بما ينسجم مع هواه ومزاجه وفرديته بعيداً عن رادع أو وازع ديني أو ضميري أو إيماني.
أمام هذا الواقع من الإرهاب والقمع واستبدال مفاهيم الإسلام وأطروحاته وأفكاره وأحكامه بحكم الهوى والسيف والسوط، وأمام سقوط أو محاولات إسقاط وهتك الحرمات والتطاول على المقامات والمقدسات والكرامات، وما يستتبع كل ذلك من تداع للفكر والسلوك وانسحاق أو تزلف أمام السلطان الجائر، وانغماس في الرذيلة والفجور وإتباع الشهوات، كان لا بدّ من حفظ تماسك الأمّة والرسالة الإلهية وتمسك المسلمين بثوابت الإسلام وركائزه ودعائمه الأساسية كالقرآن والسنّة الشريفة والفرائض الإلهية والأئمة الهداة.
ومن أجل ذلك ومنذ استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) خطا الإمام زين العابدين (عليه السلام) خطوات في سبيل تحصين المجتمع الإسلامي فكرياً وروحياً وفقهياً ليكمل الإمام محمد الباقر (عليه السلام) منهج أبيه وأجداده...
علم الرواية.. علم الإسلام:
لم يكن العلم الإسلامي قد دوّن بعد في زمن الإمام الباقر (عليه السلام).. ولمّا لم تكن الحرية ممنوحة لأهل البيت (عليهم السلام) فقد لجأ الناس في زمن الأمويين إلى من بقي من الصحابة والتابعين ينهلون منهم علم التفسير والرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ... ومع أساليب الإغراء والتهديد التي أشرنا إليها كثر الوضّاعون الذين يضعون الأحاديث وينسبونها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  لخدمة مصالح النظام القائم أو لمآرب أخرى.
وكان من عادة الراوي أو العالم آنذاك أن يتخذ له في المسجد زاوية ويلتف الناس حوله يسألونه فيحدثهم أو يلقي عليهم الرواية مع ذكر راويها وطرقها المنسوبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعندما كانت الفرصة السياسية والأمنية تسمح ببعض الحرية كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) ومن بعده الإمام الباقر (عليه السلام) يجلسان للناس ليصححا مسار الحركة الفكرية والفقهية خصوصاً وفق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، بعد الذي طاولها من تشويه ودسّ وتكذيب.
ولذلك كان علم الرواية من أهم الأسلحة البنّاءة التي واصل الإمام الباقر (عليه السلام) استخدامها ليَبِيْنَ فضل أهل البيت (عليهم السلام) وعلمهم ومناقبهم وتقدمهم على من تصدى لهذا العلم من علماء زمانهم، ولتَبِيْنَ حقائق الإسلام بأصوله وفروعه كذلك.
وإليك شذراً من الروايات والأقوال التي تصور حال الإمام الباقر (عليه السلام) وعلمه ودوره:
عن عبد الله بن عطاء المكي قال: (ما رأيت العلماء عند أحد قطّ أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهما السلام)، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلّمه).
وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي (عليه السلام) شيئاً قال: (حدثني وصيّ الأوصياء ووارث علم الأنبياء...)(6).
وقال فيه محيي الدين بن شرف النووي (المتوفى سنة 676): (محمد بن علي بن الحسين القرشي الهاشمي المعروف بالباقر، سمي بذلك لأنه بقر العلم أي شقه فعرف أصله وخفاياه، وهو تابعي جليل، وإمام بارع، مُجمَعٌ على جلالته، معدود في فقهاء المدينة وأئمتهم، سمع جابراً وأنساً وجماعات من كبار التابعين، وروى عنه أبو إسحاق السبيعي وعطاء بن أبي رباح وعمر بن دينار الأعرج والزهري وربيعة الرأي وجماعة آخرون وكبار الأئمة).
وقال فيه ابن العماد الحنبلي:(... كان من فقهاء المدينة وقيل له الباقر لأنه بقر العلم وتوسع فيه وعرف أصله وهو أحد الأئمة الإثني عشر...).
وقال فيه محمد بن طلحة الشافعي:(... هو باقر العلم، وجامعه وشاهر علمه ورفعه، ومتفوق دره وراضعه، ومنمق درره وراصعه، صفا قلبه وزكا عمله، وطهرت نفسه، وشرفت أخلاقه، وعمرت بطاعة الله أوقاته، ورسخت في مقام التقوى قدمه، فالمناقب تسبق إليه، والصفات تشرّف به، له ألقاب ثلاثة: باقر العلم، والشاكر والهادي...).
وقال فيه محمود بن عبد الفتاح الحنفي:(... أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكمة واللطائف ما لا يخفى...)(7).
وقال المفيد في الإرشاد:(روى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين).
وقال ابن شهرآشوب معلقاً:(... فمن الصحابة نحو جابر بن عبد الله الأنصاري، ومن التابعين نحو جابر بن يزيد الجعفي وكيسان السختياني صاحب الصوفية، ومن الفقهاء نحو ابن المبارك والزهري والأوزاعي وأبي حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر النهري، ومن المصنفين نحو الطبري والبلاذري والسلافي والخطيب في تواريخهم وفي الموطأ وشرف المصطفى والإبانة وحلية الأولياء وسنن أبي داود والألكاني ومسندَي أبي حنيفة والمروزي وترغيب الأصفهاني وبسيط الواحدي وتفسير النقاش والزمخشري ومعرفة أصول الحديث ورسالة السمعاني فيقولون قال محمد بن علي وربما قالوا قال محمد الباقر).
وقال ابن شهرآشوب أيضاً في المناقب:(اجتمعت العصابة على أن أفقه الأولين ستة وهم أصحاب أبي جعفر (الباقر) وأبي عبد الله (الصادق) (عليهما السلام) وهم زرارة بن أعين، ومعروف بن خربوذ المكي، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن اليسار، ومحمد بن مسلم الطائفي، وبريد بن معاوية العجلي)(8).
لعلّ هذه الشذرات اليسيرة تكفي لتسليط الضوء على دور وحقيقة موقع الإمام الباقر(عليه السلام) في المسلمين وبينهم.
فلقد استطاع الإمام بعلمه وورعه وتقواه وسيرته بسيرة آبائه وأجداده حتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكسب من جديد له ولأهل البيت (عليهم السلام) ثقة الأمّة التي حاول الأمويون زعزعتها بمختلف الأساليب والتي لم يكن أقلها لعن الإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته على المنابر مدة 40 سنة.. فعاد من جديد فقه علي (عليه السلام) الذي هو فقه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتجدد فكر الإسلام المحمدي الأصيل، وانطلق الفكر من عقاله لينير درب الأمّة المظلومة الجاهلة المتعطشة إلى النبع الصافي من عرين أهل بيت النبوة.المدرسة.. المؤسسة (التلمذة):
لم يكتفِ الإمام الباقر (عليه السلام) بنقل الرواية والحديث بل لجأ إلى التأسيس، تأسيس مدرسة، تأسيس منهج وطريقة جديدة بل متجددة، محياة بعد محاولة إماتة وطمس.. واعتمد لتحقيق ذلك أساليب لعلّ أهمها في التأسيس تربية (كادر) مؤهل لحفظ أمانة المؤسسة والمنهج والطريقة.
ولقد خرّج الإمام (عليه السلام) فضلاً عن المئات بل الآلاف ممن تتلمذ على يديه وسمع روايته وعلمه، خرّج تلامذة فحولاً في العلم والمعرفة والرواية.
خطّ لهم الدرب وسيرهم برعاية الله وأسُسُ أنوار المذهب والولاية.
ومن الذين تخرّجوا من مدرسته وحملوا آثارها إلى مختلف الأقطار:
أبان بن تغلب.. الذي عاصر ثلاثة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأخذ عنهم (السجاد والباقر والصادق).. وأخذ عنه (عن الباقر) أكثر مما أخذ عنهما... كان مقدماً في كل فن من العلوم.. منها الفقه والحديث والأدب واللغة والنحو.
ألّف كتباً كثيرة منها كتاب في تفسير غريب القرآن.
وقال له الإمام الباقر(عليه السلام): ((اجلس في مسجد المدينة وافتِ الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك)).
ولقد بلغ من علم أبان هذا وفضله أنه قد وثّقه علماء السنّة ومحدثوهم مع اعترافهم بتشيعه، ووصفه الذهبي في ميزان الاعتدال (بالصلابة في تشيعه وصدق الحديث...) (9).
ومن أعيان مدرسة الإمام الباقر(عليه السلام) زرارة بن أعين وكان مرجعاً في الفقه والرواية على مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) فيه وفي جماعة من أصحابه:((لولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا الفقه، هؤلاء حفّاظ الدين وأمناء أبي الباقر (عليه السلام) على حلاله وحرامه وهم السابقون إلينا في الدنيا والآخرة)).
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين حواري محمد بن علي وحواري جعفر بن محمد (عليهما السلام) فيقوم عبد الله بن شريك العامري، وزرارة بن أعين، وبريد بن معاوية العجلي، ومحمد بن مسلم الثقفي، وليث بن البختري المراديّ، وعبد الله ابن أبي يعفور، وعامر بن عبد الله بن جذاعة، وحجر بن زائدة، وحمران بن أعين)) (البحار / ج46 / ص344).
وقال الصادق(عليه السلام): ((لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي الباقر(عليه السلام))) (10).
فلقد اهتم الإمام زين العابدين (عليه السلام) ومن ثم الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام) بالخصوص ـ لمناسبة مرحلتهما أكثر لذلك ـ اهتموا بتأسيس المدرسة والتفرغ للتدريس والتعليم، والاهتمام بتخريج أمناء ثقاة عدول صلحاء علماء يعتمدون عليهم في العلم والرواية ويرجع شيعتهم إليهم في مسائلهم في سائر الأمصار... ولقد بلغ من شدة اهتمام الباقر (عليه السلام) بذلك العلم وتعليمه وتأصيله في نفوس تلامذته بالخصوص أن فرغ وقتاً يخاله المرء مبالغاً فيه لكثرة ما علّم وأجاب على المسائل.
يقول محمد بن مسلم: (ما شجر في رأيي شيء إلاّ سألت عنه أبا جعفر الباقر حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، وسألت ولده أبا عبد الله عن ستة عشر ألف حديث).
وجابر الجعفي روى عن الإمام الباقر(عليه السلام) نحواً من خمسين ألف حديث في مختلف المواضيع كما نصت على ذلك المؤلفات في أحوال الرواة(11).
ويقول السيد هاشم معروف الحسني بعد نقل ذلك: (ولو افترضنا وليس ببعيد أن هذا العدد مبالغ فيه، فمما لا ريب فيه في أنه (جابر) كان قد أكثر من الرواية عنه (عن الباقر(عليه السلام))، وقلما يجد المتتبع باباً من أبواب الفقه وغيره من المواضيع الإسلامية إلاّ ويجد له (لجابر) رواية أو أكثر فيه).
ولعلّ أهم وأبرز تلامذة وحواريي الإمام الباقر(عليه السلام) مع هؤلاء:
الفضيل بن يسار وأبو بصير الأسدي، وجرير بن عبد الله، وعبد الله بن جندب، وعلي بن النعمان، وصفوان الجمال، وعبد الله بن شريك العامري، وبريد أو (يزيد) بن معاوية العجلي، ومحمد بن مسلم الثقفي، وعبد الله بن أبي يعفور وعامر بن عبد الله بن جذاعة، وحجر بن زائدة، وحمران بن أعين وغيرهم.
ولم يكن دور الإمام الباقر(عليه السلام) مقتصراً على الفقه والحديث، بل كان هو وأصحابه يناظرون في أصول الإسلام ويحاولون تركيزها في النفوس حتى لا تتعرض لما أثير في ذلك العصر من الجدل والنزاع في أصول العقائد(12).
هذه إطلالة على بعض جهود الإمام الباقر(عليه السلام) رغم المآسي والمحن والابتلاءات التي عايشها مع جده وأبيه(عليهما السلام) ومع شيعته وأهل بيته... جهود لإعادة إحياء ما طمس من فكر الإسلام، ولتوضيح ما أبلس وأشكل على الأمّة... ولضخ النبع الصافي لعلوم أهل البيت (عليهم السلام) وتشييد أعمدة الفقه والعلم لمذهب التوحيد والولاية.
سعى جاهداً بنفسه، وربّى جيلاً عالماً (فلقد أدرك الحسن بن علي الوشّاء تسعمائة شيخ في مسجد الكوفة يتدارسون ويروون الحديث عن جعفر بن محمد وأبيه(عليهما السلام)).
ولقد كانت له مناظرات مع المخالفين لرأيه ومع الخوارج وحتى مع أهل البدع يوضح فيها الإسلام ويبين كيف السبيل والمنهج إلى الله والهدى.
وخير ما نختم به ما جاء في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق حيث روي أنه:
(جاءه أحد الخوارج وقال له: يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟ قال له:((أعبد الله))، فقال: هل رأيته؟ قال:
((لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس، ولا يدرك بالحواس، ولا يشبه الناس، موصوف بالآيات، لا يجور في حكم، ذلك هو الله لا إله إلاّ هو))، فخرج الرجل وهو يقول:
(اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ))(14).
وما جاء في كتاب سيرة الأئمة الاثني عشر ص229: حيث يرسم الإمام(عليه السلام) الصورة المثالية ويحدد النموذج الراقي والحضاري والمتمدن لخطّ التشيع:
((والله ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلاّ بالتواضع والتخشع، وأداء الأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبرّ بالوالدين، وتعهّد الجيران من الفقراء وذوي المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير)).
((إنما شيعة علي(عليه السلام) المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون لاحياء الدين، إذا غضبوا لم يظلموا، وإذا رضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا وسلم لمن خالطوا)).

دور الإمام الباقر (عليه السلام) في  بناء الجماعة الصالحة
عبَّاس أحمد عبَّاس
الإمام الباقر (عليه السلام) وبناء الشخصية الإسلامية المتكاملة تعدد الأدوار ووحدة الهدف:
بعد وفاة النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) انتقل الدور إلى الأئمة المعصومين الاثني عشر لقـــيادة هذه الأمة والمجتمع الإسلامي.
ويقسّم الشهيد الصدر حياة الأئمة (عليهم السلام) وأدوارهم في المجتمع الإسلامي إلى مراحل ثلاث:
ـ المرحلة الأُولى: وهي مرحلة تفادي الانحراف وصدمته بعد وفاة رسول اللّه (ص) ، فقاموا بالتحصينات اللازمة وحافظوا على الرسالة الإسلامية بقدر الإمكان.
ـ المرحلة الثانية: مرحلة بناء الجماعة الصالحة الشاعرة بكل حدود وأبعاد المفهوم الإسلامي ، هذا العمل مارسه الإمام الباقر (عليه السلام) على مستوى القمة ، واستمر إلى زمن الصادق والكاظم (عليهما السلام).
ـ المرحلة الثالثة: لم تُحدَّد من قبل الأئمة (عليه السلام) أنفسهم ، بل حدَّدها بشكل بارز ، موقف الحكم المنحرف من الأئمة ، بعد أن بدا للخلفاء أنّ قيادة أهل البيت (عليه السلام) أصبحت على مستوى تسلُّم زمام الحكم ، والعود بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام.
المنهج الصحيح للتفكير له تأثير في إيجاد التقدُّم أو الانحطاط:
المنهج الذي اتبعه الإمام الباقر (عليه السلام) اهتمَّ ببناء الجماعة الصالحة الواعية ، عن طريق تفجير الحركة الفكرية والثقافية ، وتقدُّم النهضة العلمية ؛ لأنّ المعرفة والفهم الدقيق لِمَا يعتقده الإنسان ، هو الذي يُحدِّد قيمته.
وبدراستنا للمنهج الذي اتبعه الإمام الباقر (عليه السلام) ، والتعرُّف على النماذج والوجوه التي تخرَّجت من مدرسته الفكرية ، والنتائج التي تمخَّضتْ عن هذا المنهج ، يمكننا أن نخرج اليوم بأطروحةٍ ومنهجٍ يمكن اتباعه لبناء جيلٍ واعٍ ، قويٍ صلبٍ ، محبٍّ لله ، يُدرك عقيدته ويمكنه أن يُحدث التغييرات الصحيحة في مجتمعه وأُمَّته.
من هو الإمام الباقر (عليه السلام):
ولادته و نشأته هو أول امتزاج لأطهر عنصرين ؛ ففيه التقت شخصيتا الإمامين الحسن المجتبى والحسين الشهيد (عليهما السلام) . من خلال الأب ، وهو الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، والأُمّ السيدة الزكية فاطمة بنت الإمام الحسن ، وتُكنَّى أُمّ عبد الله ، وكانت من سيِّدات نساء بني هاشم ، يقول فيها الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (كانت صدِّيقة ، لم تدرك في آل الحسن مثلها).
وُلِد في يثرب ، يوم الجمعة ، الثالث من شهر صفر ، سنة ( 56 هـ ) . وقيل: سنة ( 57 هـ ) في غرة رجب . سمَّاه جدُّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بمحمّد ، ولقّبه بالباقر قبل أن يُولد بعشرات السنين ، مبشِّراً من وراء الغيب بما سيقوم به سبطه ، من نشر العلم وإذاعته بين الناس ، كما حمل له تحيَّاته على يد الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري.
كنيته : أبو جعفر.
وألقابه كثيرة ، منها: الشبيه ؛ لأنّه كان يشبه جدَّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) , الأمين ، الشاكر , الهادي ، والباقر ، وهو أشهر ألقابه . ويكاد يُجمع المؤرِّخون والمترجمون للإمام ، على أنّه إنّما لُقِّب بالباقر لأنّه بَقَر العلم ، أي شقَّه ، وتوسَّع فيه ، فعَرَف أصلَه وعَلِم خفيَّه.
ملامح العصر الذي عاش فيه الإمام الباقر (عليه السلام):
عاش الإمام الباقر في الفترة من 57 ـ 114 هـ ، في زمنِ استيلاء الأمويين على السلطة ، وبسط نفوذهم بالقوة والمكر ، وكل أشكال الانحرافات الأخرى.
لقد سعوا بكل الوسائل والأساليب لتشييد مُلكهم العضوض ، وجعْلِه كالطود الهائل الذي تتكسر على جوانبه كل حركات الإصلاح وثورات التغيير . طود ظاهره الدين والحكم باسم الإسلام ، وباطنه الفسق والفجور والانحلال . لقد سعوا للقضاء على العلم ، وإشاعة الجهل والأفكار الضالة والمنحرفة ، والتضييق على منارات العلم ، بل القضاء على أصوات الحق كلَّما ارتفعت لتفضح جوْرَهُم وظلمهم ، فشاع في زمنهم كل أنواع الانحرافات.
وتتلخَّص أساليبهم في الأمور التالية:
ـ تحريف العقيدة ؛ بإضفاء صبغة الشرعية الدينية على حكم بني أمية ، باختلاق الأحاديث المكذوبة ، وتفسير الآيات بروايات مدسوسة بفضائلهم ، وأنَّهم مختارون من قبل الله عزّ وجلّ . فاحْتَمُوا بذلك ، وعصموا مُلكهم من التعرُّض للانهيار على أيدي المطالبين بالعودة إلى القرآن وسُنَّة الرسول.
ذكر الواقدي أنَّ معاوية خاطب أهل الشام ـ أثناء رجوعه بعد تنازل الحسن ـ ، فقال: أيُّها الناس ، إنّ رسول الله قال: (إنَّك ستلي الخلافة من بعدي ، فاختر الأرض المقدَّسة) وقد اخترتُكم ، فالعنوا أبا تراب ، فلعنوه ، فلمَّا كان من الغد ، كتب كتاباً ثمَّ جمعهم فقرأه عليهم.
وفيه: هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية ، صاحب وحي الله الذي بعث محمداً نبياً ، وكان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب ، فاصطفى له من أهله وزيراًً ، وكاتباً أمينا ، فكان الوحي ينزل على محمد،  وأنا أكتبه ، وهو لا يعلم ما أكتب . فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه.
فقال له الحاضرون كلُّهم: صدقت يا أمير المؤمنين.
سُبّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المنابر حتى تولَّى الخلافة عمر بن عبد العزيز ، فأبطل هذه السُنّة التي سنّها معاوية ومَن حكم بعده.
وذكر الطبري أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مئة ألف درهم حتى يروي أنّ هذه الآية أُنزلت في علي: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)
، وأنّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم ، وهي قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) ، فلم يقبل . فبذل له مئتي ألف درهم ، فلم يقبل . فبذل له أربعمئة ألف ، فقبله وروى ذلك.
هدموا مبدأ الخلافة‌ في‌ الإسلام‌ ، فلم‌ تقم‌ لها من‌ بعده‌ إلى اليوم‌ قائمة ‌، وحوَّلوه إلى مُلك عضوض يتوارثه الأبناء عن الآباء.
أشغلوا الناس بالفتوحات ظاهراً ، وفي الحقيقة هي وسيلة للتخلُّص من المناوئين ، ومصدر للاستيلاء على ثروات هذه البلاد.
تبذير لأموال المسلمين وصرفها في غير مواضعها المشروعة ، فأغدقوا العطايا والمناصب على الوصوليين الانتهازيين.
حوَّلوا نشاط الوعَّاظ والخطباء إلى وعظ الرعايا المسلمين ، وحثهم على التذرُّع بالصبر ، والطاعة والخضوع للأوضاع السياسية القائمة.
بثّوا العقائد الباطلة كالجبر والتفويض والإرجاء خدمةً لسلطانهم ; لأنّ هذه المفاهيم تستطيع أن تجعل الأمة مستسلمة للحكام الطغاة ، ما دامت تُبررّ طغيانهم وعصيانهم لأوامر الله ورسوله.
وأشاعوا بين المسلمين روح التعصّب ، فقرّبوا العرب ، وأبعدوا غير العرب . وأثاروا الشعوبية ، فمزّقوا بذلك وحدة الصف الإسلامي.
حبسوا الحقوق عن مستحقيها ، خاصة سهم ذوي القربى عن بني هاشم ؛ إمعاناً في إضعافهم ، وإبعاد الناس عنهم . ثمَّ حرّفوا وبدّلوا ، فقالوا: إنَّما ذوي القربى قرابةَ الخليفة منه . وأنَّ لا قرابة لرسول الله يرثونه ، إلاَّ أولاد أمية .. وحتى صعد الحجّاج بن يوسف يوماً أعواد منبره ، وقال على رؤوس الأشهاد: أرسولك أفضل أم خليفتك ؟ يعرض بأنّ عبد الملك بن مروان أفضل من رسول الله.
انتشار وشيوع الانحراف الأخلاقي والاجتماعي في أوساط الأمة ، بدءً من بيوت حكّام بني أمية ، حيث اشتهر يزيد بن معاوية بفسقه ، وشرب الخمر ، واللعب بالكلاب ، والقرود ، ومروان بن الحكم أيضاً فاحشاً بذيئاً ، كما كان أولاده وأحفاده على شاكلته.
ابتعادهم عن الدين والعقيدة تماماً ، كأنّ الدين والقرآن والعبادات حكراً على الطبقة الفقيرة والمحرومة ؛ للصبر على ما هم فيه ، حتى إن مَن يُذكِّرهم بالله ، يكون مصيره القتل.
حجّ عبد الملك بن مروان بالناس في عام ( 75 هـ ) فقال : (لست بالخليفة المستضْعَف (يعني عثمان) ، ولا بالخليفة المُداهِن (يعني معاوية) ، ولا بالخليفة المأفون (يعني يزيد) ، ألا وإنّي لا أُداري هذه الأمة إلاّ بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم.. والله ، لا يأمرني أحد بتقوى الله ـ بعد مقالي هذا ـ إلاَّ ضربتُ عنقه ، ثمَّ نزل).
القضاء على خصومهم بأشد أنواع التنكيل والقتل ؛ تحت ذريعة الخروج على الخليفة ، والزندقة . فمِن واقعة الطف ، فالحرة واستباحة المدينة المنورة ، بل امتد القتل والتنكيل إلى الجميع ، ولو بالاشتباه لانتمائه وحبه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
(استدعى معاوية بسر بن أبي أرطاة ـ وكان بسر قاسي القلب ، فظَّاً ، سفَّاكاً للدماء ، لا رأفة عنده ولا رحمة ـ فأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة ، حتى ينتهي إلى اليمن . وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي ، إلاَّ بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنّهم لا نجاة لهم ، وأنّهم محيط بهم . ثمَّ اكْفُفْ عنهم وادعهم إلى البيعة . فمَن أبى ، فاقتله . واقتل شيعة علي حيث كانوا ... ورحم الله عمر بن عبد العزيز حين نظر إلى (ولاة) المسلمين في بعض أيَّام حكومة بني أمية ، فقال: الوليد بالشام ، والحجاج بالعراق ، وقده بن شريك بمصر ، وعثمان بن يوسف باليمن ،؛ امتلأت الأرض ـ والله ـ جوراً.
في هذه الظلمات المطبِقة بعضها فوق بعض ، كان أهل البيت (عليهم السلام) يحملون مشعل الهداية لكل الناس . ففي السنوات الأربع الأولى من حياته ، عاش الإمام الباقر (عليه السلام) في ظلّ جدّه الحسين (عليه السلام) ، فشهد الحوادث ، وأدرك ما يجري من خَطبٍ فادح على
الإسلام . حتى إذا كان عاشوراء سنة 61هـ ، شهد مصرع أهل بيته ، وشارك السبايا فيما جرى عليهم ، وعاش المحن التي توالت على المسلمين ، من قتلٍ وتشريدٍ ونهب للأموال ، كما عاش محنة سبّهم لجدّه الإمام علي (عليه السلام) على المنابر ستة عقود ، وسلب حقوقهم.
وفي المرحلة التي عاشها في ظلّ أبيه الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، كان العمل منصبّاً على إعادة بناء المجتمع الإسلامي ، وتشييد دعائم العقيدة الإسلامية القويمة ، من خلال بثّ القيم العقائدية والأخلاقية ، عِبْرَ الأدعية ، والتذكير الدائم بمصائب أهل البيت ، وما جرى عليهم.
وقبل وفاته ، وجّه الإمام زين العابدين (عليه السلام) أهل بيته وشيعته ، إلى الإمام من بعده . فحينما سأله ابنه عمر عن سرّ اهتمامه بالباقر (عليه السلام) ، أجابه: (أنّ الإمامة في ولْده إلى أن يقوم قائمنا (عليه السلام) ، فيملأها قسطاً وعدلاً ، وأنّه الإمام أبو الأئمة...).
وإنْ كان النص الذي رواه جابر بن عبد الله الأنصاري قد سبق من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) [النص فيه] على الإمام الباقر والأئمة من بعده . وقد جاء في هذا النص ما يلي: (فقال: يا رسول الله ، وَمَنْ الأئمة من ولد علي بن أبي طالب؟ قال: (الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة ، ثمَّ سيد العابدين في زمانه عليّ بن الحسين ، ثمَّ الباقر محمد بن عليّ ـ وستدركه يا جابر ـ فإذا أدركته ، فاقرأه منّي السلام ).
من جهوده لنشر العلم والمعرفة:
حضور المحافل العامة ؛ ليحدّث الناس ويرشدهم . كما كان يفسّر القرآن ، ويعلّم الناس الأحاديث النبويّة الشريفة ، ويثقّفهم بالسيرة النبويّة المباركة . وأظهر الله على لسانه من معارف الدين ما أشاد به الجميع ، حتى قال الشيخ المفيد (قدِّس سرِّه): لم يَظهر عن أحدٍ من ولد الحسن والحسين (عليهما السلام) من علم الدين والآثار ، وعلم القرآن والسيرة ، وفنون الآداب ، ما ظهر عنه.
كان العلماء يقصدونه من كل أفق ؛ بحثاً عن علمه الإلهي ، حتى روي عن عبد الله بن عطاء أنّه قال: (ما رأيتُ العلماء عند أحدٍ قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) . ولقد رأيتُ الحكم بن عتيبة ـ مع جلالته في القوم ـ بين يديه كأنّه صبي بين يدي معلمه).
وكم حاجج من المخالفين وأعادهم إلى الصواب .
ربّى طائفة عظيمة من الفقهاء والمفسِّرين ، من أمثال: جابر بن يزيد الجعفي ، ومحمد بن مسلم ، وأبان بن تغلب . كما أنّه نشر العلم عبر مَن روي عنه من علماء عصره ، من أمثال: المبارك ، والزهري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي.
قد فجّر بركان الإصلاح الذي قضى على عقود من الظلم الأموي ، من قلب البيت الأموي ، وعلى يد أحد حكَّامها ، وهو عمر بن عبد العزيز ، الذي أحدث تغييرات مهمة وخطيرة في سياسة الحكم الأموي ، لا يتَّسع المجال للبحث وراء دوافعها ، لكن هذه التغييرات لا شك أنَّها كانت الحكم على النظام الأموي بالإعدام ، بعد أن كشف زيفه للناس ، وفضح ممارساته البعيدة والمخالفة للدين ، ولكل الأعراف الإنسانية ، بل وكشف حقائق التاريخ لكل المخدوعين بمقولة الصحابة العدول ، فهزَّ صروح الكذب والافتراء على النبي وآل البيت.
هذه الجهود الإصلاحية ، وهذا التغيّر الذي حدث في شخصية هذا الفتى الأموي ، لا يمكن أن نعزوه إلى الصدفة ، أو تأثير ثقافة منحرفة خالفها هو بعد ذلك ، وكشف زيفها وانتهاكاتها ، بل إلى منهجِ حقٍ أثَّر وتأثَّر به . وكانت أولى قرارات عمر بن عبد العزيز بعد تولِّيه الحكم:
سحْب الحملة الأموية عن أسوار القسطنطينية ، محذِّراً عامله على خراسان عبد الرحمن بن نعم بقوله: (فلا تغْزُ بالمسلمين ، فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم) ، مخالفاً بذلك سيرة الخليفة الثالث ، وحكَّام بني أمية.
أبطل ضريبة الأرض ، ومنع أخذ الجزية من غير العرب بعد إسلامهم ، قائلاً:(إنّ الله أرسل محمداً هادياً ، ولم يُرسله جابياً).
ألغى الهِبَات الممنوحة لبني مروان ، كما ألغى المُرتَّبات الخاصة لهم.
أوقف سبّ الإمام علي (عليه السلام) وأبناءه من على المنابر ، بعد عقود من هذا الأذى الشنيع لآل البيت (عليهم السلام).
ردَّ المظالم التي كانت للناس عند بني أمية ، بل وعند أسلافهم ، حتى ردّ فدك إلى ورثتها الشرعيين ، وردَّ عليهم سهم الخمس.
روي أنَّه لمّا ردّ عمر بن عبد العزيز فدكاً على ولْد فاطمة (عليها السلام) ، اجتمع عنده قريش ، ومشايخ أهل الشام من علماء السوء ، وقالوا له: نقمت على الرجلين فعلهما ، وطعنت عليهما ، ونسبتهما إلى الظلم والغصب؟!
فقال:
(قد صحّ عندي وعندكم أنّ فاطمة بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ادّعت فدكاً ، وكانت في يدها ، وما كانت لتكذب على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، مع شهادة عليّ (عليه السلام) وأم أيمن وأم سلمة . وفاطمة (عليها السلام) عندي صادقة فيما تدّعي وإن لم تُقِم البينة ، وهي سيدة نساء الجنّة . فأنا اليوم أردّ على ورثتها ، وأتقرّب بذلك إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) يشفعون لي يوم القيامة . ولو كنتُ بدل أبي بكر ، وادّعت فاطمة (عليها السلام) ، كنتُ أُصدِّقها على دعوتها).
فسلّمها إلى الباقر (عليه السلام).
إنَّنا نجد في شخصية عمر بن عبد العزيز مثالاً لمَن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه ، وقد استمع إلى المثل الذي ضربه الله عزَّ وجلَّ في محكم كتابه للمؤمنين:( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنّةِ وَنَجّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ) (التحريم/10 ـ 11).
إنّه العلم الذي فجّرهّ الإمام الباقر (عليه السلام) ، فبَقَرَ به خاصرة الباطل حتى أخرج الحقّ منه.
الهوامش:
------------------------------------------------------------------------------------
(1) بحار الأنوار / العلامة المجلسي / ج46/ ص215 .
(2) المصدر نفسه، وكذلك راجع أعيان الشيعة / السيد محسن الأمين / ج1 / ص650 ـ 651.
(3) البحار / المصدر نفسه / وكذلك الأعيان.
(4) الشيعة والحاكمون / محمد جواد مغنية / منشورات دار ومكتبة الهلال ودار الجواد / بيروت / ط5 سنة 81 / ص95.
(5) المرجع نفسه / ص97 ـ 98.
(6) راجع بحار الأنوار / ص286، والأعيان ص650 ـ 651، وسيرة الأئمة الاثني عشر / ص198.
(7) سيرة الأئمة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني / ط دار القلم بيروت / 1981 / ص 199 ـ 200.
(8) الأعيان / ص655.
(9) سيرة الأئمة / ص205.
(10) م. ن. ص206.
(11) م. ن. ص207 و209.
(12) م. ن. ص211.
(13) م. ن. ص212.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page