• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

ثقافة الانتظار

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

في هذه الأجواء المشحونة بالصراع العقائدي لا بدّ للإنسان أن يدلي بدلوه ويعلو بحجته ويجادل بالتي هي أحسن في سبيل بناء
عقيدة رصينة مستمدة من الأدلة العقلية والنقلية بعيدة عن جنوح العاطفة وإفرازات التمذهب.
ولكن الحديث عن الإمام المهدي عليه السلام يختلف باختلاف الثقافة التوعوية التي يحملها المخاطب والأسس والتراكمات التي
بنيت عليها شخصيته العقائدية, فالخطاب الموجه إلى الفرد المنتظِر خطاب يفترض به أن يكون قد تجاوز مرحلة النفي والإثبات،
والنقض، والإبرام، والدليل والدليل المعاكس.
فإن الحديث العلمي، وبسط النظريات، ومطارحة الأفكار، والرأي والرأي الآخر يكون ضرورياً ومعطاءاً إذا كانت تركيبة المتلقي الثقافية
وموروثاته العقائدية مخالفة ومتضاربة في خطوطها العريضة مع البنية العقائدية للمتكلم.
إذن للحديث العلمي مجاله الخاص مكاناً وزماناً حيث يمكن تحصيل النتائج وإعطاء الثمار في مواجهة المخاطب إذا كان يخالفك في
الفكر والعقيدة. وإذا كان هناك من أعرض عن آيات الله تعالى الدالة على طرح الإصلاح العالمي كضرورة تأريخية وسنّة إلهية كما
يعبر عنها الشهيد الصدر قدس سره.
أما إذا اُريد للحديث أن يكون مع المنتظرين وللمنتظرين فقط فسيأخذ منحى آخر وطريقاً ثانياً وسيكون له مذاقه الخاص ولونه
المنفرد؛ لأن المتلقي مهيأ ومعدّ لمثل هذه الاطروحة أساساً فتراه يحمل في قلبه العقيدة المهدوية متطلعاً إلى مولاه تطلعه
لاشراقة الشمس في أوّل إطلالها وجمال بزوغها.
إذن فليس من الصحيح البداية من الصفر والبحث في قضية هي أساساً من المسلمات عند المخاطَب فيكون فضولاً من القول
وتحصيلاً للحاصل بتعبير المناطقة.
فلا بدّ أن يكون مجرى الحديث عاطفياً تعبوياً مع من حمل في فكره عقيدة الانتظار وآمن بها في قلبه، فنحن لسنا بحاجة _ مع
المنتظرين _ إلى دليل يثبت لنا أصل وجود الإمام عليه السلام وولادته وانه حي يرزق ليومنا الحاضر وحتّى يأذن الله تعالى له
فيخرج ليملأها عدلاً وقسطاً كما ملأت ظلماً وجوراً, نعم نحن لسنا بحاجة إلى كل هذا بقدر ما نحن بأمس الحاجة إلى معرفة
حقيقة الإمام ومقامات الإمام والإمامة, نحن بحاجة إلى الالتفاف حول الإمام... إلى حبّ الإمام... إلى عشق الإمام عليه السلام.
وليس المقصود من حب الإمام هو الأعتقاد بوجوب محبته فإنها من القضايا الضرورية في الفكر الأسلامي (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(1) وهكذا ليس المقصود هو التلفظ بها وطروّها على اللسان فإن الأمر إذا كان بهذا النحو فهو سهل يسير.
لكن المقصود والذي يسعى الفرد المنتظِر _ وكذلك المجتمع المنتظِر _ إلى تحقيقه والوصول إليه هو جوهر الحب ولبّه وأصل
العشق ومعدنه ومنبت الوله ومركزه.
لا بدّ للمنتظر من السعي الجاد والفاعل لاستشعار حضور الإمام عليه السلام وتنسم عبيره الفواح والهيام به والشوق للقياه، وأن
لا يقرّ له قرار ولا يهنأ له عيش ولا يهدأ له بال ولا يرقأ له دمع إلاّ باكتحال نواظره بطلعته الرشيدة وغرته الحميدة.

حقيقة الحب:
الحبّ ليس كلمات تنمق ولا عبارات تزين ولا أحرفاً تكتب. الحب الحقيقي هو أن يحترق القلب ثمّ يحترق حتّى يذوب في هوى
محبوبه.
الحب لا تسعه الكلمات ولا تحيط به الحروف ولا تستوعبه العبارات، فهو احساس وشعور واحتراق وذبول وسهر الليل وفكر النهار
وشخوص البصر بانتظار رؤية الحبيب وذهاب الفكر سعياً لرضاه وخوض المخاطر في سبيل لقياه.
الحب هو حزن القلب وابتسامة الثغر، هو أنين الكتوم وصَرخة الموتور, الحب هو تتبع حركات المحبوب وسكناته والأنس بألم الفراق
على أمل اللقاء.
ما أروع صورة الحب وهي تتجلى في زيارة (آل ياسين) حيث تلتهب عواطف المحب وتجيش لواعج عشقه فيبعث بسلامه ليس
إلى شخص الحبيب فحسب بل لكل سكناته ولحظات حياته وخفقات قلبه، فتراه يقول: (السَّلامُ عَلَيْكَ فِي آنَاءِ لَيْلِكَ وَأَطْرَافِ نَهَارِكَ...
السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقُومُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقْعُدُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقْرَأُ وَتُبَيِّنُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُصَلِّي وَتَقْنُتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ
حِينَ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُهَلِّلُ وَتُكَبِّرُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَحْمَدُ وَتَسْتَغْفِرُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُصْبِحُ وَتُمْسِي، السَّلامُ
عَلَيْكَ فِي اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى...).(2)
نعم هذا هو كنه الحب ومعدنه وأصله وفرعه ومبدأه ومنتهاه.
من هنا يجب أن نبدأ المسير وتتحرك قافلة المنتظرين ونتعلم كيف نحب وكيف نعشق، فنحن بحاجة إلى مناجات الإمام وعطفه
ورأفته. نحن بحاجة إلى استشعار حضور الإمام عليه السلام لا مجرد وجوده المقدس. نحن بحاجة إلى التعلم خطوة بعد خطوة
ومرحلة تلو أخرى من أجل الوصول إلى الهدف المنشود والعلم المنصوب والأمل المصبوب والغوث والرحمة الواسعة.
فكما أن العلم يحصل بالكسب والتعلم فهكذا العاطفة الصادقة والحبّ الصافي والعشق الخالص لا يأتي جزافاً بل لا بدّ له من السير
والسلوك والجدّ والاجتهاد والحركة والمثابرة في طريق رسمه لنا أئمّة الهدى وخطه لنا قادة الورى وثابر على سلوكه العلماء وثبت
على نهجه العرفاء وولج في بحر أمواجه الأولياء.
فلا بدّ للوالج في أعماق الحب، والسابح في غمراته أن يسلك الطريق ويحث الخطى ويديم المسير _كما أسلفنا _ للوصول إلى
بركان الحب الحقيقي ومنبع الفيض المهدوي.
إشارة:
قد يصل البعض _ وهو القليل النادر _ ويرتقي بمدارج الوله والعشق من دون اعتماد الطرق والوسائل التي سنذكرها وما ذاك إلاّ
بعناية خاصة ونظرة عاطفة ونفحة قدسية من ينبوع الحب ومعدن العشق؛ لأن هذه الإشارات والاضاءات ما هي إلاّ مقدمة موصلة _
كما يعبر عنها الأصوليون _ فمن وصل إلى ذي المقدمة بدونها فبإمكانه الاستغناء عنها، وإن كانت تفيده في الثبات والزيادة، فإن من
وصل في سيره وسلوكه يبقى في حاجة إلى الاستقرار، فليس كل من وصل استقر ولا كل من عرج ثبت.
وهكذا فإن الواصل محتاج دائماً إلى الزيادة لأن المحبوب متصل بغير المحدود فيكون حبه لا حدود له, فلو وقف سبقه الآخرون ولو لم
يتزود تجاوزه العاشقون.
والخلاصة إن هذه الطرق ضرورية لمن وصل إلى النبع ولمن لم يصل فهي للأوّل زيادة في الكمال وللثاني أساس للمسار.

الطريق الأوّل
معرفة الحبيب
الفرق بين المعرفة والعلم:
ينبغي لنا قبل الحديث عن أقسام المعرفة وأنواعها أن نشير إلى الفارق بين العلم من جهة والمعرفة من جهة أخرى، حيث إن
المعرفة وإن كانت فرع العلم إلاّ أنها تمتاز عنه بخصوصيات وميزات ارتقت بها لتكون محطاً لنظر أهل البيت عليهم السلام فمن هنا
كان تأكيدهم عليها ولفت نظرهم إليها في الكثير من أحاديثهم ورواياتهم, ففي رواية الصدوق كما جاء في أماليه عن الصادق عليه
السلام: (لا يقبل الله عملاً إلاّ بمعرفة, ولا معرفة إلاّ بعمل, فمن عرف دلته المعرفة على العمل ومن لم يعمل فلا معرفة له, إن
الإيمان بعضه من بعض).(3)
هذا الترابط والتلاحم الوثيق بين المعرفة والعمل لا نجده متوفراً وحاصلاً بين العلم والعمل حيث يمكن افتراق الأوّل عن الثاني كما
جاء في الحديث الشريف، عن عليّ عليه السلام: (علم بلا عمل كشجر بلا ثمر).(4)
فهو صريح بإمكانية فصل العلم عن العمل، بينما نلاحظ أن هناك ترابطاً ذاتياً وتلائماً عضوياً بين المعرفة والعمل، فالعمل من مقومات
وذاتيات المعرفة وهي بدونه تنسلخ عن هويتها (فلا معرفة إلاّ بعمل)، (ومن لم يعمل فلا معرفة له).
إذن تحصّل من كل هذا أن العلم والذي هو (انطباع صورة الشيء في الذهن) كما يعرّفه المناطقة ليس بالضرورة أن تكون فيه جنبة
عملية ودافع حركي بخلاف المعرفة فإنها تتفاعل ذاتياً مع العمل وتنسجم عضوياً مع الحركة الميدانية.
ويمكن أن نلاحظ مائزاً آخر بينهما وهو أن المعرفة فيها جنبة شهودية وكاشفية باعتبار تولدها من القلب (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)(5)
فهي ليست وليدة الفكر بخلاف العلم فهو تراكم معلومات وحركة العقل بينها وبين المجاهيل, فلذا لا يمكن أن تكون المعرفة حجاباً
بخلاف العلم, فما أكثر ما يحجب الإنسان من الوصول إلى ربه ويبقى غارقاً في عالم الألفاظ, لذا نقرأ في المناجاة الشعبانية لأمير
المؤمنين عليه السلام: (إِلَهِي هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاعِ إِلَيْكَ وَأَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ حَتَّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ
فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ وَتَصِيرَ أَرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ)(6) فهي إشارة واضحة إلى كون العلم لا يمتلك ولا يختزن في طياته
الحالة الكشفية فهو في أفضل مراتبه يشكّل (حجاباً نورانياً) وهذا ما يميزه عن الجهل باعتبار الأخير (حجاباً ظلمانياً) ولا يمكن أن
يكشف هذه الحجب النورانية إلاّ المعرفة القلبية ونور البصيرة كما أشارت إليه المناجاة.
ولذلك كانت المعرفة من أهم الركائز التي بنيت عليها أسس الهداية وهذا ما نجده واضحاً وجلياً في دعاء المعرفة حيث يقول:
(اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ رَسُولَكَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ
حُجَّتَكَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي).(7) فالضلالة والغرق في بحار الظلمة ناتج عن الجهل
وعدم المعرفة، وحينما نلاحظ الدعاء وربطه بين معرفة الحجة وبين النجاة من الضلال يتبين لنا العنصر الوحيد المنجي والمنقذ في
الدارين والمحور الأساس التي تثمر معه معرفة الله ورسوله ألا وهو (معرفة الإمام)، بل نستطيع القول أن لا معرفة بالله ورسوله
بدون معرفة الإمام, إذ كيف يعرف الأوّل والثاني وهو ضال عن الدين, وهل الضلال عن الدين إلاّ جهل بهما.

محاور المعرفة:
ويمكن اختزال محاور المعرفة في نقطتين:
1- معرفة مقامات الإمام المهدي عليه السلام.
2 - معرفة حقه على الخلق.


ومن الحسن إلفات النظر إلى أنه كلما سبرنا غور مقامه وعرفنا جزءاً من حقيقة كنهه زادت حقوقه علينا وعظمت مسؤليتنا تجاهه.
ومن الممكن أن تتداخل بعض مقاماته لتشكل إحدى الوسائل في إثبات حقوقه على الخلائق.


1- معرفة مقامات الإمام المهدي عليه السلام:
لا بدّ لنا من إعطاء ضابطة عامة وهي ضرورية للدخول في خضم هذه الأنوار الألهية والفيوضات الربانية، وهي أنه لا يمكن لغير
المعصوم أن يعرف المعصوم عليه السلام حقّ معرفته ويكون على اطلاع تام بكل مقاماته وقربه, فهذا مما لا يمكن، إذ أن العصمة
كمال ولا يمكن معرفة الكمال لمن هو محتاج إليه, ولهذا نجد الزيارة تؤكد على ذلك، فنقرأ في زيارة صاحب العصر عليه السلام:
(السَّلامُ عَلَيْكَ يَا حُجَّةَ اللَّهِ الَّتِي لا تَخْفَى، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، السَّلامُ عَلَيْكَ سَلامَ مَنْ عَرَفَكَ
بِمَا عَرَّفَكَ بِهِ اللَّهُ وَنَعَتَكَ بِبَعْضِ نُعُوتِكَ الَّتِي أَنْتَ أَهْلُهَا وَفَوْقَهَا...).(8)
مما يعني أن هناك بعض الحقائق لا يمكن الوصول إليها وبعض الجوانب الحقيقية في عظمة الإمام المهدي عليه السلام. من
المستحيل سبر غورها ومعرفة كنهها.
والتعمق بزيارة الجامعة يرشدنا إلى حقائقهم النورانية وانه من المستحيل الوصول إلى كمال معرفتهم، فنلاحظ هذا المقطع من
الزيارة الكريمة: (كَلامُكُمْ نُورٌ، وَأَمْرُكُمْ رُشْدٌ، وَوَصِيَّتُكُمُ التَّقْوَى، وَفِعْلُكُمُ الْخَيْرُ، وَعَادَتُكُمُ الْإِحْسَانُ، وَسَجِيَّتُكُمُ الْكَرَمُ، وَشَأْنُكُمُ الْحَقُّ
وَالصِّدْقُ وَالرِّفْقُ، وَقَوْلُكُمْ حُكْمٌ وَحَتْمٌ، وَرَأْيُكُمْ عِلْمٌ وَحِلْمٌ وَحَزْمٌ، إِنْ ذُكِرَ الْخَيْرُ كُنْتُمْ أَوَّلَهُ وَأَصْلَهُ وَفَرْعَهُ وَمَعْدِنَهُ وَمَأْوَاهُ وَمُنْتَهَاهُ، بِأَبِي
أَنْتُمْ وَأُمِّي وَنَفْسِي كَيْفَ أَصِفُ حُسْنَ ثَنَائِكُمْ وَأُحْصِي جَمِيلَ بَلائِكُمْ...)(9) حيث تدرج الإمام عليه السلام في بيان بعض حقائقهم
والتي تنطبق على إمامنا وسيدنا صاحب العصر والزمان عليه السلام.
وذلك من خلال تقسيم مراتب الموصوف إلى ثلاثة مقاطع حيث وصفتهم الزيارة في مقطعها الأوّل بتسعة أوصاف كل واحد غاية في
العظمة ويعجز الآخرون عن الإتصاف بها بشكل تام, ثمّ لمّا عجزت الكلمات وضاقت المصاديق عن الأحاطة بعلو شأنهم وجلالة
قدرهم استعاض الإمام الهادي عليه السلام عن المصاديق المتكثرة الحاكية عن علو مقامهم بمعنى جامع ومفهوم شامل ينطبق
على كل الصفات والنعوت المذكورة وغيرها وذلك في المقطع الثاني فقال: (إِنْ ذُكِرَ الْخَيْرُ كُنْتُمْ أَوَّلَهُ...)(10) فالخير اسم جنس
يحوي جميع الكمالات، ولكن هل يا ترى قد استوعب بعد حقيقة الإمام عليه السلام ؟ كلا, لذا نجد الزائر يعترف بالعجز ويقرّ
بالقصور فيتحول من الاخبار ببعض مقاماتهم ونعوتهم إلى التساؤل والحيرة أمام هذه الأنوار فيقول: (بِأَبِي أَنْتُمْ وَأُمِّي وَنَفْسِي كَيْفَ
أَصِفُ حُسْنَ ثَنَائِكُمْ وَأُحْصِي جَمِيلَ بَلائِكُمْ) (11) كما هو في المقطع الثالث من الزيارة.

2- حقوق الإمام المهدي عليه السلام على الخلق:
ذكرنا سالفاً أن معرفة الحقّ كلما كثر وتعاظم كان ذلك موجباً لبيان عظم شخصية صاحب الحقّ, فهي من جهة تشترك مع الفقرة
الأولى في بيان مقام الإمام المهدي عليه السلام ، ومن جانب آخر فهي مدعاة للوصول إليه والارتباط به, إذ من الواضح أن الارتباط
يختلف شدة وضعفاً بالسبب الموصل والرابط المقرب, فيتغير طردياً باختلاف الرابط قوة وضعفاً.
ومن هنا كان لا بدّ لتمتين الرابطة وتأصيل العلاقة وتركيزها في نفس المنتظر من بيان ومعرفة الحقّ الذي عليه تجاه الإمام عليه
السلام ، وقد ذكر الكثير في هذا الشأن في كتاب (مكيال المكارم في الدعاء للقائم) للشيخ الاصفهاني قدس سره. وهنا نذكر
نبذة منها للفائدة.
فنقول:
الأوّل: حق الوجود:
كما في توقيع الإمام المهدي عليه السلام المروي في الإحتجاج: (فإنا صنايع ربنا والناس بعد صنايع لنا).(12) ويحتمل الحديث عدة
معان:
المعنى الأوّل: ما روي في الاحتجاج. انه اختلف جماعة من الشيعة في أن الله عز وجل فوّض إلى الأئمّة صلوات الله عليهم أن
يخلقوا ويرزقوا.
فقال قوم: هذا محال، لا يجوز على الله تعالى لأن الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله عز وجل, وقال آخرون: بل الله عز وجل أقدر
الأئمّة على ذلك وفوّض إليهم فخلقوا ورزقوا، وتنازعوا في ذلك نزاعاً شديداً.
فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان, فتسألونه عن ذلك ليوضح لكم الحقّ فيه فإنه الطريق إلى صاحب
الأمر، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلّمت وأجابت... إلى قوله... فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه فخرج إليهم من جهته توقيع
نسخته: إن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسّم الأرزاق لأنه ليس بجسم ولا حال في جسم ليس كمثله شيء وهو السميع
البصير. وأمّا الأئمّة عليهم السلام فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق ويسألون, فيرزق، إيجاباً لمسألتهم وإعظاماً لحقهم.(13)
حيث يشير هذا التوقيع الشريف الصادر من الناحية المقدسة وبصراحة إلى وسائطية أهل البيت عليهم السلام في إيصال الفيوضات
الإلهية إلى سائر المخلوقات, وإلى هذا تضمنت الإشارة أيضاً في دعاء الندبة: (أَيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ).(14)
ونسبة الفعل إلى السبب والواسطة كثيرة جداً في العرف واللغة.
المعنى الثاني: إنه العلة الغائية والغرض الحقيقي من خلق جميع ما أنشأه وأبدعه الله تعالى من عالم الإمكان. ومما يؤيد هذا
المعنى _ بأنهم عليهم السلام العلة الغائية للخلق _ الكثير من الروايات منها حديث الكساء المشهور.(15)
ونكتفي في بيان هذا الحقّ على هذا القدر ونعتقد بأنه يفي للتدليل على أن من حقّه عليه السلام على الخلق هو (حق الوجود)

الثاني: حق البقاء:
إضافة إلى أن حق الوجود هو من حقوق الإمام والحجة علينا فإن استمرارية الوجود وبقاء عالم الإمكان مرتبط بالحجة، والحديث في
الكافي الشريف بسند صحيح عن الوشاء قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام: هل تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: (لا), قلت:
إنا نروي أنها لا تبقى إلاّ أن يسخط الله عز وجل على العباد. قال: (لا تبقى إذاً لساخت).(16)
وفيه أيضاً عن أبي عبدالله عليه السلام: (لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت) (17) ومن الواضح انه ليس المقصود بالأرض هي مجرد
هذا الكوكب الذي نعيش عليه بل هو مجرد مثل للحياة, والمقصود أن منبع الحياة سوف ينضب باعتبار أن الأرض هي مركز الحياة
والخلافة الإلهية.
وجاء في غيبة النعماني عن الصادق عن أمير المؤمنين عليهما السلام: (واعلموا أن الأرض لا تخلو من حجة لله عز وجل ولكن الله
سيعمي خلقه عنها بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم ولو خلت الأرض ساعة واحدة من حجة لله لساخت بأهلها).(18)

الثالث: حق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ففي سورة الشورى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (19) وفي حديث نداء القائم عليه السلام حين ظهوره في
مكّة يسند ظهره الشريف إلى الكعبة ويكلم الناس ويقول: (وأسألكم بحقّ الله وحق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبحقي فإن
لي عليكم حقّ القربى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).(20)

الرابع: حقّ المنعم على المتنعم وحقّ واسطة النعمة:
ففي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أتى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتّى
تعلموا أنكم كافأتموه) (21) وقد اجتمع الحقّان لمولانا صاحب العصر والزمان عليه السلام فإن ما ينتفع به أهل كل زمان إنما هو
ببركات إمام زمانهم عليه السلام كما جاء في الزيارة الجامعة: (وَأَوْلِيَاءَ النِّعَم).(22)
وفي كتاب بصائر الدرجات عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليهما السلام: (يا أبا حمزة لا تنامنّ قبل طلوع الشمس فإني
أكرهها لك إن الله يقسّم في ذلك الوقت أرزاق العباد وعلى أيدينا يجريها).(23)
وفي الكافي الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الله خلقنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده ولسانه الناطق في
خلقه ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة ووجهه الذي يؤتى منه وبابه الذي يدل عليه وخزانه في سمائه وأرضه, بنا أثمرت
الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض وبعبادتنا عبد الله ولولا نحن ما عبد الله).(24)

الخامس: حقّ الوالد على الولد:
فإن الشيعة مخلوقون من فاضل طينتهم عليهم السلام كما أن الولد مخلوق من صلب والده، ففي الكافي الشريف عن الرضا عليه
السلام: (الإمام الأنيس الرفيق والوالد الشفيق).(25)
وفيه أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام: (إن الله خلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك وخلق أرواح شيعتنا من عليين وخلق
أجسادهم من دون ذلك فمن أجل ذلك القرابة بيننا وبينهم قلوبهم تحن إلينا).(26)
وفي إكمال الدين عن عمر بن سالم صاحب السابري قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الأية (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي
السَّماءِ).(27)
قال: (أصلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفرعها أمير المؤمنين عليه السلام والحسن والحسين ثمرتها وتسعة من ولد
الحسين أغصانها والشيعة ورقها. والله إن الرجل منهم ليموت فتسقط ورقة من تلك الشجرة).(28) وإلى هذا المعنى يشير الشاعر
(أبو يعقوب النصراني) بقوله:
يا حبذا دوحة في الخلد نابتة ما مثلها نبتت في الخلد من شجر
المصطفى أصلها والفرع فاطمة ثمّ اللقاح عليّ سيد البشر
والهاشميان سبطاه لها ثمر والشيعة الورق الملتف بالثمر
هذا مقال رسول الله جاء به أهل الرواية في العالي من الخبر
إني بحبهّم أرجو النجاة غداً والفوز مع زمرة من أحسن الزمر(29)

السادس: حقّ الإمام على الرعية:
في الكافي الشريف بإسناده عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام: ما حقّ الإمام على الناس؟
قال عليه السلام: (حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا).(30)
وفي خطبة أمير المؤمنين عليه السلام المروية في روضة الكافي, قال عليه السلام: (أما بعد فقد جعل الله تعالى لي عليكم بولاية
أمركم ومنزلتي التي أنزلني الله عزّ ذكره بها منكم... ) إلى أن قال: (فأعظم ما افترض الله تبارك وتعالى من تلك الحقوق حقّ الوالي
على الرعية).(31)
وكما قلنا, فهناك الكثير من الحقوق لا نذكرها طلباً للاختصار ويمكن مراجعتها في مظانها من الكتب المختصة.
إلى هنا نكتفي بالعنصر والطريق الأوّل من عناصر الوصول والارتباط بالإمام المهدي عليه السلام وهو المعرفة بالمقام أوّلاً ثمّ
بالحقوق لننتقل إلى الطريق والعنصر الثاني من عناصر الارتباط والتعلق.

الطريق الثاني
دوام الذكر للإمام المهدي عليه السلام
يتنوع ذكر الإمام المهدي بتنوع جهة صدوره ويختلف باختلاف منبعه, ولكل من أنواع الذكر فائدته المرجوة وثمرته المترقبة وإن كان
بعضها آكد في إيجاد رابطة الحب والعشق للإمام عليه السلام, ويمكن تقسيم الذكر له سلام الله عليه إلى ثلاثة أنواع:

1- الذكر القولي (اللساني):
إن ذكر الإنسان لمحبوبه مدعاة لتركيز العلاقة وتمتين الارتباط مضافاً إلى ما فيه من ثمرات عديدة, إذ يعتبر الذكر اللساني بنحو من
الانحاء مقدمة وواسطة إلى الذكر القلبي (الخفي) _ والذي يأتي التعرض إليه _ إذ ليس المقصود من الذكر اللساني هو مجرد
لقلقة اللسان وتلفظ بحروف وكلمات دونما وعي واختزان لمعانيها والتأمل في معطياتها فإن ذلك لا يجدي نفعاً ولا يسمن ولا يغني
من جوع, كما جاء في الحديث الشريف (لا يجوز تراقيهم) (32) في معرض ذكر الخوارج وانهم يقرأون القرآن وقلوبهم خاوية
ومشغولة عنه,إذ أن الذكر اللساني إنما يعطي ثماره إذا كان منبهاً للقلب من الغفلة وموقظاً له من النوم وواسطة لتجسيد الالفاظ
وتطبيقها عملياً على أرض الواقع والارتقاء بعالم الاقوال إلى عالم الافعال والاعمال.
كل هذا يمكن أن نستفيده من الذكر اللساني, ولذا نجد أن بعض الاعلام رجح الذكر اللساني حتى على الذكر القلبي من بعض
الجوانب, قال صاحب كشف الغطاء: (وهو _ أي الذكر _ معدود من أعظم القربات والفعل به شاهد, مستغن عن أن يكون له من
النقل معاضد, ولا يقتصر منه على (الذكر الخفي) وإن كان رجحانه غير خفي, فإن الاعلان باللسان أبلغ في إظهار العبودية مما لم
يطلع عليه إنسان ولكل منهما جهة رجحان).(33)
ولذا نرى وبقراءة سريعة للابعاد الروحية والممارسات العبادية أن القرآن الكريم والشريعة الإسلاميّة وأهل البيت عليهم السلام
أعطوا أهمية كبيرة وخاصة لهذا الجانب العبادي, فالتوصية بذكر الله لساناً واضحة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام إذ حاولت
هذه المدرسة العملاقة _ ونجحت في ذلك _ زرع ثقافة (الذكر) بمختلف أبعاده, فجعلوا عليهم السلام لكل زمان ومكان وحالة فردية
أو اجتماعية دعاء خاصاً وذكراً معيناً, بل تركوا بعض الاذكار سيالة وسارية المفعول في كل حين وخصصوا بعضها في أماكن وأزمنة
معينة.
وفي استعراض سريع _ فيما يخص الطريق الثاني _ لكتب الأدعية والزيارات نلاحظ أنها قد تنوعت لتشمل الذكر اليومي
والاسبوعي وفي أثناء الاسبوع من الناحية الزمانية وهكذا مكاناً حيث نجد الكثير من الاذكار قد حددت بمكان معين قد اختص به
الإمام المهدي عليه السلام كما في بعض الزيارات المختصة في (سرداب الغيبة), وما ذلك التنوع والتعدد والاختلاف في الذكر إلا
لجعل المنتظِر مشغولاً بشكل أو آخر بمولاه ودائم التحسس بإمامه غير غافل عنه وإن غيبته الدهور والاعوام, حاضر في قلبه
ووجدانه وإن لم تره عينه.
ولتمام الفائدة نذكر بعض الزيارات والأدعية الواردة في حق الإمام المهدي عليه السلام كمفردات تفصيلية باعثة على إيجاد الرابط
وتعميق العلاقة به سلام الله عليه لمن أخذ بها وعمل عليها.
نماذج من الذكر اللساني:

1- دعاء العهد:

وهو الدعاء المروي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: (من دعا إلى الله تعالى أربعين صباحاً بهذا العهد كان من أنصار
قائمنا، فإن مات قبله أخرجه الله تعالى من قبره وأعطاه بكل كلمة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة وهو هذا: اللَّهُمَّ رَبَّ النُّورِ
الْعَظِيم، وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفِيع...).(34)

2- زيارة آل ياسين:

وهي زيارة واردة من الناحية المقدسة حيث قال الإمام المهدي عليه السلام: (إذا أردتم التوجه بنا إلى الله تعالى وإلينا فقولوا كما
قال الله تعالى: سَلامٌ عَلَى آلِ يس، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا دَاعِيَ اللَّهِ وَرَبَّانِيَّ آيَاتِهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا بَابَ اللَّهِ وَدَيَّانَ دِينِهِ...).(35)

3- دعاء الندبة:

حيث يستحب أن يدعى به في الأعياد الأربعة (الفطر، والأضحى، والغدير، ويوم الجمعة) وأوّله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ
عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيما...).(36)

4- ما يزار به كل يوم بعد صلاة الفجر:

(اللَّهُمَّ بَلِّغْ مَوْلايَ صَاحِبَ الزَّمَانِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنْ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَبَرِّهَا وَبَحْرِهَا...).(37)


5- ما يدعى به لصاحب الأمر عليه السلام كل يوم جمعة:

وهو دعاء مروي عن الإمام الرضا عليه السلام وأوّله: (اللَّهُمَّ ادْفَعْ عَنْ وَلِيِّكَ وَخَلِيفَتِكَ وَحُجَّتِكَ عَلَى خَلْقِكَ وَلِسَانِكَ الْمُعَبِّرِ عَنْكَ
النَّاطِقِ بِحِكْمَتِكَ...).(38)

6- الدعاء له عليه السلام في قنوت يوم الجمعة:

فقد روى السيد ابن طاووس في كتاب (جمال الأسبوع) عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه سأل مقاتل بن مقاتل: (أي شيء
يقولون في قنوت صلاة الجمعة؟) قال: قلت: ما يقول الناس. فقال عليه السلام لي: (لا تقل كما يقولون ولكن قل: اللهم أصلح
عبدك وخليفتك بما أصلحت به أنبياءك ورسلك، وحفّه بملائكتك، وأيّده بروح القدس من عندك، واسلكه من بين يديه ومن خلفه
رصداً يحفظونه من كل سوء، وأبد له من بعد خوفه أمناً، يعبدك لا يشرك بك شيئاً، ولا تجعل لأحد من خلقك على وليّك سلطاناً,
وائذن له في جهاد عدوك وعدوّه, واجعلني من أنصاره إنّك على كل شيء قدير).(39)



2- الذكر العملي (الفعلي):

مما لا شك فيه عدم انحصار الذكر باللسان فقط, فإن له مجالات أخرى غير القول واللفظ, فالذكر من التذكر وعدم النسيان والغفلة,
وهذا باب واسع جداً يفتح أكثر من نافذة ومنطلق لذكر الإمام عليه السلام, فمضافاً إلى الذكر اللساني (القولي) الذي أشرنا إليه
فإن هناك الذكر الفعلي والعملي والجوارحي, فحب الإمام عليه السلام والتعلق به وتوطيد الأرض له ينفتح على عمل الإنسان
المنتظر مضافاً إلى قوله, فالعمل يجب أن يكون مجسداً للانتظار, وهذه هي الدعوة الصامتة التي حث عليها أهل البيت عليهم
السلام فقالوا: (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم) (40) وفي أخرى: (كونوا لنا دعاة صامتين).(41)
أي أن تجسيد ذكر الإمام عليه السلام يمكن أن يكون من خلال العمل, فعمل الإنسان إذا كان في خدمة الإمام عليه السلام فهو
ذكر له سلام الله عليه, وفعل المنتظِر إذا كان بنية حب الإمام عليه السلام فهو ذكر عملي له, وبهذا المنظار ومن خلال رؤية
سريعة لآليات الذكر العملي نستعرض بعض المفاصل الحيوية في هذا الجانب وبنحو إجمالي تاركين التفصيل لمجالاته الخاصة.

وسائل الذكر العملي:
أ - إيصال الهدية له عليه السلام:
من الطرق المؤثرة في جلب الحب واستقراره هو التهادي وتبادل الهدايا, ففي الحديث الشريف: (تهادوا تحابوا) (42) حيث أن النص
صريح بأن الهدية مقدمة موصلة لا محالة للمحبة, ومن هنا نفهم أن الإهداء إلى الحبيب أمر متعارف لا نقاش فيه, لأن الوصول إلى
معدن الحب يفيض بنفسه على غيره بوجه من أوجه المحبة والعشق يتجلى تارة بالهدية أو الذكر أو غير ذلك, ولكن النص الروائي
أراد أن يدل على وسائل جلب المحبة، فالتهادي ممن ليس بينك وبينه محبة حقيقية, ركيزة أساسية لجلبها, حيث تفتح آفاق القلب
بين المتهاديين, فلذا لا بدّ من استعمال هذا الأسلوب والأخذ بهذا الطريق من أجل الوصول إلى محبة الإمام عليه السلام وعدم
الغفلة عنه, ولكن يبقى في الذهن سؤالان يراودان القلب ويشغلان الذهن.
الأوّل: إن التهادي الوارد في الحديث الشريف من باب المفاعلة وهي تقتضي التهادي بين الطرفين، ترى ما هي
هدية الإمام عليه السلام لنا؟


الثاني: ماذا نهدي نحن للإمام وكيف تصل إليه هدايانا؟
أنواع الهدية للإمام عليه السلام:
أما بالنسبة إلى السؤال الثاني فيمكن الاجابة عليه من خلال ما يلي:


1- التصدق بقصد سلامته عليه السلام.


2- إهداء جميع ثواب العبادات والأعمال الصالحة له سلام الله عليه, كالحج نيابة عنه عليه السلام وزيارة المشاهد المشرفة والعتبات
المقدسة كذلك, وقراءة القرآن, وغيرها.

3- صلته بالمال بأن يجعل المؤمن بعض ماله هدية لإمام زمانه عليه السلام(وهذا غير الخمس الواجب), إذ أن (صلة الإمام عليه
السلام في غيبته تحصل بصرف المال في المصارف التي يعلم رضاه بها وحبه لها, وبقصد صلته مثل طبع الكتب المتعلقة به وإقامة
مجالس ذكره, والدعوة إليه وصلة شيعته ومحبيه خصوصاً الذرية العلوية والعلماء المروجين ورواة أحاديث الأئمّة الطاهرين ونحوها,
مما لا يخفى على أهله)،(43) فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام قال:(ما من شيء أحب إلى الله من
إخراج الدراهم إلى الإمام وإن الله ليجعل الدرهم في الجنّة مثل جبل أحد.. )،(44) وفي الكافي الشريف أيضاً عن الحسن بن مياح
عن أبيه قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: (يا مياح درهم يوصل به الإمام أعظم وزناً من أحد).(45)

4- صلة الصالحين من شيعته ومواليه بالمال.
فقد جاء في كتاب التهذيب(46) عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال: (من لم يقدر على زيارتنا فليزر صالح إخوانه يكتب له
ثواب زيارتنا, ومن لم يقدر أن يصلنا فليصل صالح إخوانه يكتب له ثواب صلتنا).
هدية الإمام عليه السلام لمحبيه:
أما السؤال الأوّل وهو: ما هي هدية الإمام لنا؟
ففي معرض الجواب عنه نقول: يكفي أن تكون صلتنا له وهديتنا لمحضره محط قبول نظره المبارك وتفضله علينا برضاه بصلتنا, وكما

قال الشاعر:
أهدي لمجلسه الكريم وإنما أهدي له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وماله منّ عليه لأنّه من مائه(47)

وكما قال آخر:
فإن يقبلوا مني هدية قاصر عددت لكم ذاك القبول من الفضل
وكان قبول عندكم فضل رحمة يعز بها قلب الوليّ من الذل
ويوجب شكراً عنده، لمقامكم وفرض حقوق لا يقوم لها مثلي(48)
ولذلك ينبغي التنبه إلى هذه النقطة وتركيزها في القلب, وهو أننا نحن الذين بحاجة إلى أن يتقبل منا الإمام عليه السلام ما نصله
به, أما هو عليه السلام فغناه من الغني المطلق.
جاء في الحديث الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام: (من زعم أن الإمام يحتاج إلى ما في أيدي الناس فهو كافر, إنما الناس
يحتاجون أن يقبل منهم الإمام, قال الله عز وجل: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (49)).
وفي آخر عنه عليه السلام قال: (إني لآخذ من أحدكم الدرهم وإني لمن أكثر أهل المدينة مالاً, ما أريد بذلك إلا أن تطهروا).(50)
هذا مضافاً إلى دعائه لنا, ودعاؤه مقبول عند الله قطعاً لأنه حائز على جميع شروط قبول الدعاء من الاخلاص والنية والتوكّل وغيرها,
وقد جاء في الحديث القدسي: (ادعني بلسانٍ لم تعصني به),(51) وأي لسانٍ أفضل من لسان المعصوم عليه السلام ؟ وجاء في
دعاء الندبة: (أين المضطر الذي يجاب إذا دعا) في إشارة واضحة لقوله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).(52)
وقد جاء في التوقيع الشريف المروي في آخر الاحتجاج عنه عليه السلام: (لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك
الأرض والسماء, فلتطمئن بذلك من أوليائنا القلوب).(53)

وقال السيد الأجل عليّ بن طاووس في المهج: وكنت أنا بسر من رأى فسمعت سحراً دعاءه عليه السلام فحفظت منه الدعاء
لمن ذكره من الأحياء والأموات: (وأبقهم _ أو قال وأحيهم _ في عزنا وملكنا وسلطاننا ودولتنا) (54) وكان ذلك في ليلة الأربعاء ثالث
عشر ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
وجاء في رسالته عليه السلام للشيخ المفيد: (نحن وإن كنا نائين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين... فإنا نحيط علماً بأنبائكم
ولا يعزب عنا شيء من أخباركم... إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء _ أي الشدة وضيق
المعيشة - أو اصطلمكم الأعداء - أي استأصلكم الأعداء _).(55)

ب - ذكر فضائله ومناقبه:
وإقامة مجالس الذكر والحضور الدائم في مثل هذه المجالس فهي من أفضل مصاديق الشعائر التي حثنا الشارع المقدس على
تعظيمها وجعلها علامة لتقوى القلوب, وهي مصداق للسبق إلى الخيرات والمكرمات قال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).(56)

جـ - السعي في خدمته عليه السلام:
وتتمثل خدمته عليه السلام في عصر الغيبة باتباع أوامره الصادرة عنه, أو أي فعل فيه النصرة له وإن لم يأمر به بشكل مباشر.
وينبغي التنبيه على أن الخدمة أخص من النصرة فهي تختزن خضوع النفس وتذللها أمام المولى عليه السلام, فالخادم ناصر الإمام
وليس العكس, فالنصرة لشخص ربما لا تحتوي على مفهوم التذلل كنصرة القوي للضعيف أو نصرة الله للمؤمنين, وقد جاء في
الحديث الشريف عن الصادق عليه السلام قال: (لو أدركته لخدمته أيام حياتي).(57)

يقول صاحب كتاب مكيال المكارم: (تدبر أيها المحب اللبيب في هذا الكلام, أتزعم فيه إغراقاً أو خلاف واقع؟ حاشا, وكلاّ, بل هو
عين الحقيقة, ودلالة إلى نكات دقيقة, منها بيان فضل القائم عليه السلام وشرفه, ومنها الإشارة إلى أن خدمته أفضل العبادات
وأقرب الطاعات لأن الإمام الصادق الذي لم يصرف عمره الشريف إلاّ في صنوف طاعة الله وعبادته في يومه وليلته بيّن أنه لو أدرك
القائم لصرف أيام حياته في خدمته...).(58)

د - الدعوة للإمام المهدي عليه السلام:
ولا ريب أن الدعوة له والتعريف به سلام الله عليه من النقاط المهمة في طريق الذكر العملي للإمام عليه السلام وهي مدعاة
لحب الإمام وكاشفة عن الارتباط به عليه السلام وقد قال تعالى: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) (59) ولما كان أهل البيت عليهم السلام عموماً والإمام المهدي خصوصاً باعتباره إمام عصرنا والواجب علينا طاعته
وامتثال أوامره هو السبيل إلى الله كما أكدت على ذلك الأحاديث والزيارات: (أَنْتُمُ الصِّرَاطُ الْأَقْوَمُ)،(60) (أَيْنَ السَّبِيلُ بَعْدَ
السَّبِيل).(61)
إذن فالدعوة إلى الإمام المهدي وانطلاقاً من الآية الكريمة السابقة يمكن أن تكون على أربعة أقسام.

 

أقسام وأنواع الدعوة للإمام عليه السلام:
القسم الأوّل: الدعوة بالحكمة النظرية:
وذلك بالاستعانة بالأدلة العقلية والنقلية في ضرورة وجود الحجة على الخلق من قبل الله تعالى واعتبار أن عقيدة الانتظار نابعة من
أصل الفطرة الإنسانية والمجتمع البشري بجميع أطيافه. وقد يختص هذا القسم بغير المؤمنين بعقيدة الإمام المهدي عليه السلام.

القسم الثاني: الدعوة بالحكمة العملية:
وآلية هذا القسم هو التهذيب الروحي للمنتظِر وأن يكون بسيره وسلوكه داعية لإمامه عليه السلام أين ما حلّ أو ارتحل, وقد ذكرنا
في صدر الحديث عن الطريق الثاني بعض الأحاديث التي تفيد الحث على ضرورة أن يكون المنتظِر داعية بسلوكه وأخلاقه حيث قال
الإمام الصادق عليه السلام: (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم).(62) وهذا القسم يمكن شموله للمنتظرين وغيرهم.

القسم الثالث: الدعوة بالموعظة الحسنة:

ويتم ذلك من خلال تعريف (المنتظرين) بمقام إمامهم عليه السلام وحقوقه عليهم ومناقبه، وتذكيرهم بالثواب الجزيل للسائرين
على دربه، وعلو مقام المنتظِر لإمامه والأحاديث الواردة في ذلك وترغيبهم في كل فعل وقول يرضي عنهم إمامهم, مضافاً إلى
ترهيبهم وتخويفهم في حالة عدم انصياعهم لما يحب ويرضى, وبيان الأثر الوخيم وما يترتب على عصيانهم وبعدهم من المزالق
والمهالك والغرق والهلكة.

القسم الرابع: الدعوة للإمام بالمجادلة بالتي هي أحسن:
وهو استعمال الأدوات المنطقية والتوصل إلى غرس عقيدة الانتظار في روح فاقدها ورفدها بالأدلة الروحية والكرامات, كل ذلك مع
رفق ولين وحلم من دون شدة وغلظة وتبرم من الآخرين, وعلى شكل مرحلي ودفعات حتّى تكون الفكرة مستوعبة ومتركزة في
الذهن والقلب والوجدان.


3_ الذكر خفي (القلبي):
إن أرقى ما يصل إليه الإنسان المحب هو عمارة قلبه بذكر محبوبه (بِذِكْرِكَ عَاشَ قَلْبِي) (63) وسهر الليل لأجل فراقه والذهول عما
حوله وعمّا يشغله عن محبوبه, فالذاكر لإمامه عليه السلام على وجه الحقيقة هو من تكون جوارحه وجوانحه وجميع وجوده ناطقاً
وولهاً بذكر ولي الله الأعظم عليه السلام، وهو الذي قد استغرقت مشاعره وانجذبت أحاسيسه إلى محبوبه ليكون مصداقاً لقول
الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: (إِلَهِي حَقِّقْنِي بِحَقَائِقِ أَهْلِ الْقُرْبِ وَاسْلُكْ بِي مَسْلَكَ أَهْلِ الْجَذْبِ).(64)
وبهذا الذكر يحصل الاطمئنان والراحة والأنس وهو مدعاة إلى العمل والصبر والمصابرة في طريق الانتظار، ففي المناجاة يقول الإمام
زين العابدين عليه السلام: (وَآنِسْنَا بِالذِّكْرِ الْخَفِيِّ وَاسْتَعْمِلْنَا بِالْعَمَلِ الزَّكِيِّ وَالسَّعْي الْمَرْضِيِّ).(65)
إن هذا الذكر هو ماء الحياة للمنتظِر و هو الاكسير الأعظم الذي به يحصل اللقاء الروحي والتعلق في المحبوب حتّى لا يريد خيراً إلا
من خلاله ولا يأمل شيئاً إلا عن طريقه.
لذلك جاء في دعاء الندبة: (وَاجْعَلْ صَلاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَدُعَاءَنَا بِهِ مُسْتَجَابا وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَهُمُومَنَا بِهِ
مَكْفِيَّةً وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً... ) (66) في أحد معاني هذه العبارات هو عدم الرغبة في بلوغ الكمال والحصول على الخير إلاّ من
خلاله, فلو رزق الإنسان شيئاً لم يكن من خلال إمامه عليه السلام لا يفرح به ولا يكون ذلك مدعاة لسروره, بل لا يعتبره خيراً ورزقاً
على الاطلاق.
يجب أن يكون قلب المنتظِر متلهفاً لطلعة مولاه فإن أوحشته الغربة آنسه ذكر ولي الله الأعظم حتى يستنير قلبه بنور الذكر الخفي
فيرزقه ذلك النور الكشف والشهود، فإنه بالنور يقع الكشف، كما أشار ابن عربي.(67)
ومن هنا نجد الاهتمام البالغ من قبل أهل البيت عليهم السلام لمثل هذا الذكر.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر رضي الله عنه:
(يا أبا ذر, اذكر الله ذكراً خالصاً (خاملاً خ ل) ).
قلت: يا رسول الله, وما الذكر الخالص (الخامل)؟
قال: (الذكر الخفي).(68)

وذلك لما يمتاز به من إخلاص وعدم رياء حيث لا يشوبه شائبة من التعلق بزخارف الدنيا وطلب الجاه والسمعة.
وفي هذا الصدد من المفيد أن نذكر كلاماً للمرجع الشيخ الوحيد الخراساني في التعريف بكلمة التوحيد وأنها من الذكر الخفي وإن
لم تكن من الذكر القلبي قال: (ولهذه الجملة _ كلمة التوحيد _ خصائص في لفظها ومعناها: فحروفها نفس حروف كلمة (الله)
وهي من الذكر الخفي الذي لا يتطرق الرياء إليه, حيث يمكن للإنسان أن يذكر الله بها ولا يظهر عليه).(69)
ومن علامات الذكر الخفي أنك ترى الذاكر لمولاه عينه باكية وقلبه يحترق ويعتصر ألماً لفراقه، و لنعم ما قال الشاعر:
قلبي إليك من الأشواق محترق ودمع عيني من الآماق مندفق
الشوق يحرقني و الدمع يغرقني فهل رأيت غريقاً وهو محتر
ولهذا نلاحظ أن المحب المخلص في محبته يزداد حزنه وبكاؤه طردياً بزيادة محبته وشوقه, ونجد هذا متجلياً في محبة أهل البيت
عليهم السلام للإمام المهدي فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول _ بعد التعرض لجملة من صفات المهدي عليه السلام وأومى
بيده إلى صدره: (هاه... شوقاً إلى رؤيته).(70)
وهذا إمامنا الصادق عليه السلام يبكي بكاء الثكلى محبة للمهدي وحزناً عليه يقول سدير الصيرفي: دخلت أنا والمفضل بن عمر
وأبو بصير وأبان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله الصادق عليه السلام فرأيناه جالساً على التراب وعليه مسح خيبري مطوق بلا
جيب مقصر الكمين, وهو يبكي بكاء الواله الثكلى, ذات الكبد الحرى، قد نال الحزن من وجنتيه وشاع التغيير في عارضيه وأبلى
الدموع محجريه وهو يقول: (سيدي غيبتك نفت رقادي وضيقت عَليَّ مهادي, وابتزت مني راحة فؤادي, سيدي غيبتك أوصلت
مصابي بفجائع الأبد, وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد, فما أحس بدمعة ترقى في عيني وأنين يفتر من صدري عن دوارج
الرزايا وسوالف البلايا إلا ما لقيني... ).(71)
ومن علاماته أن يكون دائم الحزن والغم, ففي الكافي الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (نفس المهموم لنا المغتم
لظلمنا تسبيح, وهمه لأمرنا عبادة).(72)
ولنعم ما قال أمير المؤمنين عليه السلام في الديوان المنسوب إليه:
ومن الدلائل أن يرى من شوقه مثل السقيم في الفؤاد غلائل
ومن الدلائل أن يرى من أنسه مستوحشاً من كل ما هو شاغل
ومن الدلائل ضحكه بين الورى والقلب محزون كقلب الثاكل(73)
وينبغي عدم اليأس - لمن لم يصل إلى هذه المرتبة - من الوصول إلى هذا المقام السامي أو بعضه وذلك بالسعي الحثيث
والعمل الجاد والمثابرة للولوج إلى عالم الذكر الخفي رويداً رويداً والدخول إليه شيئاً فشيئاً, فالحب يستحق العناء والعشق في هذا
المضمار يستأهل التضحية والفداء.
وإليك أخي المنتظِر وأختي المنتظِرة بعض الإشارات المضيئة في هذا الدرب لتكون من السالكين والمستأنسين بالذكر الخفي.
إضاءات في طريق الذكر الخفي:

1- ربط العالم الخارجي بإمامه عليه السلام:
وذلك بالمحاولة الجادة لجعل كل ما حوله وما يراه وما يسمعه وما يحس به مرتبطاً ومذكراً له بالإمام المهدي عليه السلام سواء
كانت الأحداث تجري عليه شخصياً أو على الآخرين, ومثال ذلك ينبغي عليه إذا رأى غريباً أو صادف أنه هو أصبح غريباً أن يتذكر
غربة الإمام عليه السلام وإذا استوحش ينبغي أن يفكر في وحشة الإمام عليه السلام وإذا ظُلم يجب أن تكون مظلوميته مدعاة
للتذكر والتأثر بمظلومية ولي الله الأعظم وإذا رأى شخصاً قد تعلق بحب الدنيا أو عشق شخصاً ويتلهف على لقائه فيكون هذا حافزاً
له ليزيد من تعلقه بإمامه وعشقه له عليه السلام.
وإذا قام بين يدي ربّه ليتذكر قيام مولاه في مثل هذه اللحظة بين يدي خالقه ويقارن بينهما, وهكذا يحاول في كل حدث صغير أو
كبير أن يربطه بنحو من الأنحاء بالإمام المهدي عليه السلام.
وإذا واظبت أخي المنتظِر وأختي المنتظِرة على هذا الأسلوب واتخذت هذه الاضاءة فسوف تحصل بإذن الله على دوام الذكر لولي
الله الأعظم والتعلق به.

2- اختزال الحب:
فالإنسان بطبيعته وخصوصاً المؤمن يحب الإنسانية المعطاءة والكمال وتبعاً لذلك تجده يحب مصاديق الكمال ويقف على رأس الهرم
الكمالي الأنبياء والرسل وأهل البيت عليهم السلام وعموم الصالحين والجماعات الخيرة عبر التأريخ كل هؤلاء يحبهم الإنسان
المؤمن.
لأن الهدف الذي سعوا جميعاً إليه هو نشد العدل والقسط ووأد الباطل والظلم وإزهاقه, فإذا تمركز هدف كل هذه الشخصيات عبر
تأريخ البشرية وتمحور في شخص واحد فينبغي أن يكون التعلق به وحبه وعشقه بنحو عظيم جداً والارتباط به وثيق جداً, وهذا ما
نصطلح عليه (اختزال الحل) ولا نعني بذلك ترك محبة الآخرين أو نسيانهم وإنما توظيف هذه المحبة وتركيزها لشخص واحد
ومصداق فارد وهو شخص الإمام عليه السلام وأطروحته العالمية, وبه تتحقق الخاتمية في الرسالة والإمامة.

3- استشعار المظلومية:
إن من الوسائل المهمة والأكيدة لأيجاد الارتباط والعلاقة الوثيقة بين المنتظر وبين بقية الله الأعظم عليه السلام هو التركيز على
البعد العاطفي في مظلومية الإمام عليه السلام وهنا يجب أن نقف ونتأمل في أبعاد هذه المظلومية والتي على رأسها عدم
معرفتها أو الالتفات إليها.
فليس غريباً أن نبكي على الحسين عليه السلام لعظم ما جرى عليه وعلى أولاده وأصحابه ونساءه فإنها مظلومية تصرخ في
الأجيال مضمخة بالدماء الزواكي، فمن الطبيعي إذن أن تبكي عليه الأرض والسماء لأن جانب الظلامة في قضية الحسين عليه
السلام واضح وجلي لا يحتاج إلى استنطاق التاريخ والتأمل في عالم الغيب، ولكن هذا الأمر لا يجري في بقية الله الأعظم إلاّ بعد
التأمل باستكشاف عظم مظلوميته وذلك لأجل احتواء قضية الإمام المهدي على حلاوة النصر والعدالة العالمية وازهاق الباطل فهذه
الخصائص التي سادت في العقلية الشيعية والإسلاميّة غيبت جوانب أخرى من خصائصه سلام الله عليه ومنها ظلامته.
ومن هنا جاء تأكيد أهل البيت على هذه الخصيصة وهذه الصفة باعتبارها أحد أهم معالم شخصية الإمام عليه السلام حيث نجد أن
أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام قد أكثروا من البكاء والتوجع والتألم له عليه السلام ولا يكون هذا كله نتيجة لشوقهم إليه
فقط.
إذاً هنالك مظلومية عظمى في شخصية الإمام عليه السلام هي الباعثة لتوجع وتألم أهل البيت عليهم السلام وهذا ما نجده
واضحاً جلياً في قضية الإمام الصادق وكيفية بكاءه ونحيبه على الإمام المهدي عليه السلام وقد استعرضنا الرواية سابقاً، كما حاول
أهل البيت وعلى رأسهم النبي الأكرم إبراز جانب المظلومية في الإمام المهدي وذلك من خلال الروايات والأحاديث الكثيرة الواصفة
للإمام والمبينة لخصائص مظلوميته عليه السلام فهو الطريد وهو الشريد وهو الفريد وهو الوحيد المنفرد عن أهله الموتور بأبيه كما
جاء في لسان الكثير من الروايات فعن الاصبغ ابن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (صاحب هذا الأمر الشريد
الطريد الفريد الوحيد) (74) وجرى ذلك على لسان أصحاب أهل البيت لكي يستنطقوا ذاكرة المنتظرين ويستحثوها لابراز هذه
الخصوصية وهذه الظلامة الكبرى، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: (لما دخل سلمان الكوفة ونظر إليها ذكر ما يكون من بلاءها
حتّى ذكر ملك بني أمية والذين من بعدهم ثمّ قال: فإذا كان ذلك فالزموا أحلاس بيوتكم حتّى يظهر الطاهر ابن الطاهر المطهر ذو
الغيبة الشريد الطريد).(75)
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما أوذي نبي مثلما أوذيت) (76) فإن ما لقيه مهدي هذه الأمّة وما سيلقاه أكثر
بكثير من جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الكثير من الروايات فعن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله
عليه السلام يقول: (إن قائمنا إذا قام استقبل من جهال الناس أشد مما استقبله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهال
الجاهلية). قلت: وكيف ذاك؟ قال: (إن رسول الله أتى الناس وهم يعبدون الحجارة والصخور والعيدان والخشب المنحوتة، وإن قائمنا
إذا قام أتى الناس وكلهم يتأول عليه كتاب الله يحتج به عليه)، ثمّ قال: (أما والله ليدخلنّ عليهم عدله جوف بيوتهم كما يدخل الحر
والقر).(77)
وإذا كان الحسين عليه السلام غريباً ووحيداً فإن حفيده المهدي المنتظر أكثر وحدةً وأعظم غربةً من جده الحسين عليه السلام إذ
كيف لنا أن نتصور أن من بيده قلائد الأمور وتصاريف الوجود وهو مشرد لا يعرف قراراً ولا استقراراً ولا أمناً ولا أماناً خلال قرون عديدة
وسنين متطاولة يرى قتلة آبائه الطاهرين وشيعتهم أمام عينيه في كل يوم ولا يثأر لهم حتّى يأذن الله سبحانه وتعالى.
هل يا ترى قد استوعبنا وأدركنا عظم هذه المظلومية؟ كلا لعمري لم نعرف إلاّ غيظاً من فيظ وقليلاً من كثير، لكننا نشير إلى حالته
سلام الله عليه فهي تحكي عن الكثير مما خفي علينا في عبارة موجزة تستبطن من وراءها الكثير الكثير من هذه الظلامة وهي
قوله إشارة لمصيبة جده الحسين عليه السلام: (فلأندبنك صباحاً ومساءاً ولأبكين عليك بدل الدموع دماً).(78)

مصادر التحقيق
القرآن الكريم.
الاحتجاج: الشيخ الطبرسي/ ت محمد باقر الخرسان/ مط دار النعمان.
اقبال الأعمال: ابن طاووس/ ت جواد القيومي/ ط 1.
الأمالي: الصدوق/ ت قسم الدراسات الإسلامية/ ط 1/ قم.
بحار الأنوار: المجلسي/ مؤسسة الوفاء/ ط 2 المصححة/ 1403هـ/ بيروت.
بشارة المصطفى: عماد الدين الطبري/ ت جواد القيومي/ ط 1.
بصائر الدرجات: الصفار/ ت ميرزا محسن كوجه باغي/ ط 1404هـ .
التهذيب: الشيخ الطوسي/ ت حسن خرسان/ دار الكتب الاسلامية/ ط 4.
التوحيد: الصدوق/ ت هاشم الحسيني/ ط 1387هـ/ جماعة المدرسين/ قم.
جمال الأسبوع: ابن طاووس/ ت جواد قيومي/ ط 1/ 1371هـ .
شرح الأخبار: النعمان المغربي/ ت محمد الجلالي/ مط مؤسسة النشر الإسلامي/ جماعة المدرسين/ قم.
شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمد أبو الفضل إبراهيم/ دار إحياء الكتب العربية.
صحيفة الحسين: جواد القيومي/ ط 1/ دفتر انتشارات إسلامي.
الصحيفة السجادية: الإمام زين العابدين/ جامعة المدرسين/ قم/ مط جابخانه دفتر إنتشارات إسلامي.
غاية المرام: هاشم البحراني/ ت علي عاشور.
الغيبة: الشيخ النعماني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط مكتبة الصدوق/ طهران.
فيض القدير شرح الجامع الصغير: المناوي/ ت أحمد عبد السلام/ ط 1.
الكافي: الكليني/ ت علي أكبر الغفاري/ دار الكتب الاسلامية/ ط 3/ 1388هـ .
كشف الغطاء: جعفر كاشف الغطاء/ ط حجرية/ الناشر: مهدوي/ اصفهان.
كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ ط 1405هـ .
المزار: الشيخ المفيد/ ت مدرسة الإمام المهدي عليه السلام / ط 1/ قم.
مستدرك الوسائل: المحقق النوري/ ت مؤسسة آل البيت/ ط 1.
مفاتيح الجنان: الشيخ عباس القمي.
مكيال المكارم: الميرزا محمد تقي الاصفهاني/ ت علي عاشور/ ط 1.
من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ ط 2.
منهاج الصالحين: الشيخ الوحيد.

الهوامش
________________________________________
(1) الشورى: 23.
(2) البحار 53: 171؛ مفاتيح الجنان.
(3) الأمالي: 508.
(4) غرر الحكم: 6290.
(5) النجم: 11.
(6) إقبال الأعمال 3: 399.
(7) الكافي 1: 342/ باب الغيبة/ ح 29.
(8) بحار الأنوار 99: 99.
(9) من لا يحضره الفقيه 2: 616/ الزيارة الجامعة.
(10) السابق.
(11) السابق.
(12) الاحتجاج 1: 260.
(13) الاحتجاج 2: 284.
(14) إقبال الأعمال 1: 509/ دعاء الندبة؛ (مفاتيح الجنان: دعاء الندبة).
(15) الكافي 1: 287/ باب / ح 1.
(16) الكافي 1: 179/ باب / ح 11؛ وعنه البحار 23: 24/ ح 29.
(17) الكافي 1: 179/ باب / ح 10.
(18) كتاب الغيبة: 141.
(19) الشورى: 23.
(20) كتاب الغيبة: 281.
(21) فيض القدير شرح الجامع الصغير/ المناوي 1: 197/ ح 168.
(22) من لا يحضره الفقيه 2: 610/ الزيارة الجامعة.
(23) بصائر الدرجات: 363.
(24) الكافي 1: 144/ باب النوادر/ ح 5.
(25) الكافي 1: 200/ باب نادر (في فضل الإمام وصفاته)/ ح 1.
(26) الكافي 1: 389/ باب (خلق أبدان الأئمّة وأرواحهم وقلوبهم عليهم السلام)/ ح 1.
(27) إبراهيم: 24.
(28) كمال الدين/ الصدوق: 345.
(29) بشارة المصطفى: 76.
(30) الكافي 1: 405/ باب (ما يجب من حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام)/ ح 1.
(31) روضة الكافي 8: 352/ خطبة الإمام أمير المؤمنين/ رقم 550.
(32) الكافي 2: 614/ باب (ترتيل القرآن بالصوت الحسن)/ ح 3.
(33) كشف الغطاء 2: 304.
(34) مفاتيح الجنان.
(35) السابق.
(36) السابق.
(37) مفاتيح الجنان؛ وذكره صاحب المزار: 662.
(38) مفاتيح الجنان.
(39) جمال الأسبوع: 256.
(40) الكافي 2: 78/ باب (الورع)/ ح 14.
(41) شرح الأخبار 3: 506/ ح 1451.
(42) الكافي 5: 144/ باب الهدية/ ح 14.
(43) مكيال المكارم 2: 228.
(44) الكافي 1: 537/ ح 2.
(45) الكافي 1: 538/ ح 5.
(46) التهذيب 6: باب 48/ ح 1.
(47) جمال الأسبوع: 32.
(48) جمال الأسبوع: 33.
(49) التوبة: 103.
(50) الكافي 1: 537/ ح 1.
(51) الكافي 1: 538/ باب (صلة الإمام)/ ح 7.
(52) بحار الأنوار 90: 390.
(53) النحل: 62.
(54) الاحتجاج 2: 324.
(55) عن المهج في بحار الأنوار 53: 303.
(56) المزار: 8؛ وعنه الطوسي في التهذيب 1: 37، عبارة (ثاوين) بدلاً عن (نائين).
(57) البقرة: 148.
(58) الغيبة/ النعماني: 245.
(59) مكيال المكارم 2: 201.
(60) النحل: 125.
(61) من لا يحضره الفقيه 2: 613/ الزيارة الجامعة.
(62) مفاتيح الجنان: دعاء الندبة.
(63) الكافي 2: 78/ باب (الورع)/ ح 14.
(64) الصحيفة السجادية: 227/ (116) دعاءه عند سحر شهر رمضان.
(65) صحيفة الحسين: 216/ دعاء الحسين يوم عرفة.
(66) الصحيفة السجادية: 418/ (194) مناجاة الذاكرين.
(67) مفاتيح الجنان.
(68) فيض القدير شرح الجامع الصغير 3: 763.
(69) الأمالي/ الطوسي: 53.
(70) من حكم الصلاة وأسرارها، منهاج الصالحين للشيخ الوحيد.
(71) الغيبة/ النعماني: 214.
(72) كمال الدين: 352/ ح 50.
(73) الكافي 2: 326/ باب الكتمان/ ح 16.
(74) مكيال المكارم 2: 152.
(75) كمال الدين/ الصدوق: 303.
(76) الغيبة/ الطوسي 163/ ح 124.
(77) بحار الأنوار 39: 56.
(78) الغيبة/ النعماني: 297/ ح 1.
(78) بحار الأنوار 98: 32/ باب 24 (كيفية زيارته صلوات الله عليه يوم عاشوراء)/ الزيارة رقم 8.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page