الذين ينسبون أنفسهم إلى المذهب السني ثلاث فئات وهم : الحنابلة والأشاعرة والماتريدية
1- الماتريدية
ولنبدأ بالحديث عن الماتريدية لأنّ الكلام عن هذا المذهب قصير ، بخلاف الكلام عن الاتجاهين الآخرين ، ومؤسس المذهب الماتريدي هو محمد بن محمد بن محمود أبو منصور السمرقندي الماتريدي ، الذي عدوه من علماء الكلام من أتباع الإمام أبي حنيفـة (1) ، وعـدوه من الفقهاء الأحناف في عصره (2) ، ويقول البـزدوي في أصـول الدين : وكان مـن رؤسـاء أهل السنة (3) ، وقال عنه ابن قطلوبغا الحنفي : إمـام الهـدى (4) ، وقال الزبيدي : إذا أطلق أهل السنة والجماعـة فالمـراد هم : الأشاعـرة والماتريدية . (5) ، وقال عبد الباقي بن عبد القادر في العين والأثر : طوائف أهل السنة ثلاثة : أشاعرة وحنابلة وماتريدية (6) ، وفي مفتاح السعادة قال مصنفه طاش كوبري زاده : ... ثم اعلم أنّ رئيس أهل السنة والجماعة في علم الكلام رجلان : أحدهما حنفي ، والآخر شافعي ، أما الحنفي فهو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي إمام الهدى ، وأما الآخر الشافعي ، فهو شيخ السنة ورئيس الجماعة ، إمام المتكلمين ، وناصر سنة سيد المرسلين ، والذاب عن الـدين ، والسـاعي في حفـظ عقائـد المسلمين أبو الحسن الأشعـري البصري . (7)
وهذا المذهب لم ينتشر بقدر انتشار المذهب الأشعري .
ونكتفي بهذا المقدار ، لبيان أنّ المذهب الماتريدي أحد المذاهب المحسوبة على السنة . (8) .
2- الأشاعرة
ومؤسس المذهب الأشعري هو الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري الذي ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري (9) ، قال فيه السبكي : شيخ طريقة أهل السنة والجماعة ، وإمام المتكلمين ، وناصر سنة سيد المرسلين ، والذاب عن الدين ، والساعي في حفظ عقائد المسلمين سعياً يبقى أثره إلى أنْ يقوم الناس لرب العالمين ، إمام ، حبرٌ ، وتقي بر ، حمى جناب الشرع من الحديث المفترى ، وقام في نصرة ملة الإسلام فنصرها نصراً مؤزراً ... (10)
وقد تبع أبا الحسن الأشعري عدد كبير من علماء السنة من علماء الفقه والحديث ، وقد اعتبر أتباعه مذهبه هو المنهج الصحيح للمذهب السني ، ومن أبرزهم أبو بكر الباقلاني وأبو حامد الغزالي وإمام الحرمين الجويني والسيف الآمدي والسبكي وجلال الدين السيوطي وابن حجر الهيتمي والحافظ ابن عساكر الدمشقي صاحب التاريخ المعروف الذي صنف كتاباً مستقلاً للدفاع عن المذهب الأشعري سماه ، > تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري < ، وذكر ابن عساكر أنّ من أبرز أتباع الإمام الأشعري في العقيدة الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك على الصحيحين والحافظ أبو بكر البيهقي والحافظ أبو نعيم الأصبهاني والخطيب البغدادي ، وغيرهم من أئمة السنة المشهورين (11) ، وقد قال بعد أنّ سمى عددا كبيراً من العلماء المشهورين ونسبهم إلى مذهبه :
فهذا آخر ما يسر الله عز وجل لي ذكره ممن اشتهر من العلماء من أصحابه وشرحت أمره ، ومن لم أذكر منهم أكثر ممن ذكرت ، والمقصود منه إظهار فضله بفضل أصحابه كما أشرت ، ولولا خوفي من الإملال للإسهاب ، وإيثاري الاختصار لهذا الكتاب لتتبعت ذكر جميع الأصحاب ، وأطنبت في مدحهم غاية الإطناب . (12)
إلى أنْ قال : كذلك لا أتمكن من ذكر جميع العلماء مع تقادم الأزمان والأعصار ، وكثرة المشتهرين في البلـدان والأمصار ، وانتشارهم في الأقطار والآفاق من المغرب والشام وخراسان والعراق . (13)
وقد ذهب السبكي إلى أنّ غالبية علماء المسلمين من الأشاعرة ، حيث قال كما تقدم من كلامه في مقام نقد الذهبي في ذمه للأشاعرة : وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب علماء المسلمين وأئمتهم الذين حملوا لنا الشريعة النبوية ، فإنّ غالبهم أشاعرة وهو إذا وقع بأشعري لا يُبقي ولا يذر . (14)
ولا نـريـد أنْ نطيـل هنا ببيان رأي الأشـاعرة في المـذهب الأشعـري ، وإنما الهدف مما قدمناه الإشارة إلى أنّ أتباع المذهب الأشعري هم طائفة كبيرة من علماء السنة المعروفين ، ومع ذلك فإنّ جماعة من علماء السنة لم يقبلوا المذهب الأشعري واعتبروه من المذاهب المنحرفة ، وما ذكره ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري الذي صنفه للدفاع عن أبي الحسن الأشعري ومذهبه إنما ذكره للرد على الحنابلة الذين أسرفوا في نظره بالرد عليه ، يقول الـذهبي في ترجمـة أبي الحسن الأشعـري : حـطّ عليـه جماعـة من الحنابلة والعلماء ، وكل أحد فيؤخذ من قوله ويترك إلا من عصم الله تعالى . (15)
أقول : كلام بعض علماء الحنابلة في المذهب الأشعري وأتباعه بالفعل كان غاية في الجرح والتوهين ، فقد عبر عنهم الفقيه الظاهري ابن حزم الأنـدلـسي في الفصـل بـ > الطائفة الملعونة < (16) ، وبـ > الفـرقــة الملعـونـة < (17) وعبر عنهم الحافظ أبو إسماعيل الأنصاري بشياطين البشر حيث يقول (18) :
كـن إذا ما حاد عن حد الهـدى أشعري الرأي شيطـان البشـــر
شافعي الشـرع سني الحلــــى حنبلي العقد صــوفـي الســـير
وقال الحافظ ابن الجوزي في المنتظم أثناء كلامه عن أبي الحسن الأشعري ومذهبه : وأظهر مقالة خبطت عقائد الناس ، وأوجبت الفتن المتصلة ، وكان الناس لا يختلفون في أنّ هذا المسموع كلام الله ، وأنه نزل به جبريل عليه السلام على محمد (ص) ، فالأئمة المعتمد عليهم قالوا أنه قديم ، والمعتزلة قالوا أنه مخلوق ، فوافق الأشعري المعتزلة في أنّ هـذا مخلوق ، وقال : ليس هذا كلام الله ، إنما كلام الله صفة قائمة بذاته ، ما نزل ولا مما هو يُسمع ، ومازال منذ أظهر هذا خائفاً على نفسه لخلافه أهل السنة ، حتى استجار بدار أبي الحسن التميمي حذراً من القتل ، ثم تبع أقوام من السلاطين مذهبه ، فتعصبوا له ، وكثر أتباعه ، حتى تركت الشافعية معتقد الإمام الشافعي رضي الله عنه ، ودانوا بقول الأشعري . (19)
وقال الفقيه الحنبلي المعروف أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه ذم الكلام أثناء ذمه لمعتقدات الأشاعرة : ... وهذا من فخوخهم ، يصطادون به قلوب عوام أهل السنة ، وإنما اعتقادهم القرآن غير موجود ، لفظته الجهمية الذكور بمرة والأشعرية الإناث بعشر مرات . (20)
إلى أنْ قال : وقد شاع بين المسلمين أنّ رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ، ولا يتوضأ ، ولا يُصلي . (21) وقال أيضاً (22) : سمعت يحيى بن عمار يقول : سمعت زاهر بن أحمد وكان للمسلمين إماماً يقول : نظرت في صير باب ، فرأيت أبا الحسن الأشعري يبول في البالوعة ، فدخلت عليه ، فحانت الصلاة ، فقام يصلي ، وما كان استنـجى ، ولا تمسح ، ولا توضأ ، فـذكرت الـوضوء ، فقـال : لست بمحدث .
وقال أيضاً : وسمعت بلال بن أبي منصور المؤذن يقول : سمعت عمر بن
إبراهيم يقول : لا تحل ذبائح الأشعرية ، لأنهم ليسوا بمسلمين ، ولا بأهل كتاب ، ولا يثبتون في الأرض كتاب الله . (23)
وكلمات الحنابلة في ذم أبي الحسن الأشعري ومذهبه وأتباعه كثيرة ، بل إنّ ابن حزم الأندلسي الظاهري كاد يحكم عليهم بالكفر ، ولذا قال السبكي عن ابن حزم : وقد أفرط في كتابه هذا الغض من شيخ السنة أبي الحسن الأشعري وكاد يُصرح بتكفيره في غير موضع ، وصرّح بنسبته إلى البدعة في كثير من المواضع ، وما هو عنده إلا كواحد من المبتدعة . (24)
3- الحنابلة
ومصطلح الحنابلة يُطلق على من لم يقبل المذهب الأشعري والمذهب الماتـريدي في العقيدة ، وقد يطلقون على أنفسهم أيضاً مصطلح > السلفية < وهم يعتقدون أنهم على العقيدة الصحيحة التي عليها السلف من أهل السنة والجماعة حسب تعبيرهم ، وكما أنّ عددا كبيراً من علماء الحنابلة اعتبروا المذهب الأشعري من المذاهب المنحرفة التي تتنافى مع عقيدة السلف من الصحابة والتابعين ، ففي المقابل ذهب عدد كبير من علماء الأشاعرة إلى إنحراف الحنابلة ، وابتعادهم عن منهج السلف وأنهم يقولون بنسبة التجسيم إلى الذات الإلهية وغير ذلك من المقولات ، وحصل الخلاف بينهم إلى أقصى ما يكون عليه الخلاف بين الناس ، فقد اتهم غير واحد من الأشاعرة الحنابلة بأنهم يقولون بتجسيم الذات الإلهية منهم السبكي (25) ، وعبر عنهم غير واحد بالحشوية الذين خلطوا كل شيء بغثه وسمينه ، يقول الكوثري أثناء كلامه عن ابن تيمية : وقد استمرت فتن المخدوعين من الرواة على طول القرون مجلبة لسخط الله تعالى ولاستسخاف العقلاء من غير أنْ يخطر ببال عاقل أنْ يناضل عن سخافات هؤلاء ، إلى أنْ نبغ في أواخر القرن السابع بدمشق حراني تجرد للدعوة عن مذهب هؤلاء الحشوية السخفاء متظاهراً بالجمع بين العقل والنقل على حسب فهمه من الكتب بدون أستاذ يرشده في مواطن الزلل وحاشا العقل الناهض والنقل الصحيح أنْ يتظافر في الدفاع عن تخريف السخفاء إلا إذا كان العقل عقل صابئ والنقل نقل صبي ، وكم انخدع بخزعبلاته أناس ليسوا من التأهـل للجمع بين الرواية والدراية في شيء . (26)
وقال ابن قيم الجوزية أثناء كلامه على الحنابلة الذين اعتبرهم أهـل السنة كما هو الحال في تعبير الأشاعرة عن أنفسهم : وردوا تأويل الجاهلين ، وانتحال المبطلين الذين عقدوا ألوية الفتنة وأطلقوا أعنة المحنة .
إلى أنْ قال متحدثاً عن خصومهم : فلم يقدروا على أخذ الثأر منهم إلا بأنْ سموهم مشبهة ممثلة ، مجسمة حشوية . (27)
وقال السبكي في كتابه الذي صنفه للرد على عقائد ابن قيم الجوزية بعد أن مدح المذهب الأشعري : وأما الحشوية فهي طائفة رذيلة جهال ينتسبون إلى أحمد ، وأحمد مبرأ منهم . (28)
إلى أنْ قال : ولقد كان أفضل المحدثين في زمانه بدمشق ابن عساكر يمتنع من تحديثهم ، ولا يمكنهم أنْ يحضروا مجلسه ، وكان ذلك أيام نور الدين الشهيد ، وكانوا مستذلين غاية الذلة . (29)
ثم قال متحدثاً عن ابن تيمية : ثم جاء في أواخر المائة السابعـة رجل له فضل وذكاء وإطلاع ، ولم يجد شيخاً يهديه ، وهو على مذهبهم ، وهو جسور متجرد لتقرير مذهبه ، ويجد أموراً بعيدة فبجسارته يلتزمها ، فقال بقيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى ، وأنّ الله سبحانه مازال فاعلاً ، وأنْ التسلسل ليس بمحال فيما مضى كما هو فيما سيأتي ، وشق العصا ، وشوش عقائد المسلمين ، وأغرى بينهم ، ولم يقتصر ضرره على العقائد في علم الكلام حتى تعدى وقال : إنّ السفر لزيارة النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم معصية ... (30)
ورداً على قول ابن قيم في مقدمة قصيدته النونيـة التي قالها في بيـان عقيدتـه الذي جاء فيها : وهذه أمثال حسان مضروبة للمعطل والمشبه والموحد . (31)
قال السبكي : مقصوده بالمعطل الجماعة الأشعرية ، وبالموحد نفسـه وطائفته.
إلى أن قال : وإذا امتحن الإنسان نفسه قطع بأنّ الأشعري ليس بمعطل ، وأنّ هذا النحس مشبه ولا ينجيه إنكاره باللسان ، وقد اعترف على نفسه بأنّ من شبه الله بخلقه فقد كفر . (32)
________________________________________
(1) راجع : كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة ج8 ص 438 .
(2) توضيح المقاصد في شرح قصيدة ابن القيم ج1 ص 111.   
(3) أصول الدين ص 3 .
(4) تاج التراجم لابن قطلوبغا الحنفي ص 201 رقم 220 .
(5) إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين للزبيدي ج2 ص 8 ط . القاهرة
(6) العين والأثر في عقائد أهل الأثر ص 53 ط. دار المأمون للتراث / دمشق .
(7) نقلنا كلامه من مقدمة كتاب التوحيد لأبي منصور الماتريدي للدكتور فتح الله خليف ص 7 .
(8) ومن أراد التفصيل فعليه بمراجعة كتاب بحوث في الملل والنحل للفقيه المحقق العلامة الشيخ جعفر السبحاني ( حفظه الله تعالى ) ج3 ص 7 ، وما بعدها .
(9) سير أعلام النبلاء ج15 ص 85 رقم 51 .
(10) طبقات الشافعية الكبرى ج3 ص 347 رقم 222 ط دار إحياء الكتب العربية / القاهرة .
(11) راجع كتاب تبيين كذب المفتري ط . دار الكتاب العربي / بيروت سنة 1399 .
(12) تبيين كذب المفتري ص 330 .
(13) تبيين كذب المفتري ص 331 .
(14) طبقات الشافعية الكبرى ج2 ص 13- 15 .
(15) سير أعلام النبلاء ج15 ص 86 .
(16) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج5 ص 82 ط. شركة مكتبات عكاظ / الرياض ، وج4 ص 160 ط1 .
(17) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج5 ص 79 ط. شركة مكتبات عكاظ / الرياض ، وج4 ص 159 ط1 .
(18) ذيل طبقات الحنابلة ج1ص66 رقم 27 .   
(19) المنتظم لابن الجوزي ج14 ص 29 وفيات سنة 331 هـ ط. دار الكتب العلمية / بيروت سنة 1412 هـ .
(20) ذم الكلام ج5 ص 136 ، 137 ط . دار الغرباء الأثرية / المدينة المنورة سنة 1419هـ .
(21) ذم الكلام ج5 ص 141 .
(22) ذم الكلام ج4 ص 394 رقم 1274 .
(23) ذم الكلام ج4 ص 413 رقم 1318 .
(24) طبقات الشافعية الكبرى ج1 ص 90 .
(25) طبقات الشافعية الكبرى ج2 ص 13 .
(26) السيف الصقيل للسبكي ص 6 ، راجع المقدمة للكوثري .
(27) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ج1 ص 262 ط. دار العاصمة / الرياض سنة 1412 هـ .
(28) السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل ص 16 ط . مكتبة زهران / القاهرة .
(29) السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل ص 17 .
(30) السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل ص 18 .
(31) السيف الصقيل ص 26 .
(32) السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل ص 16 ط . مكتبة زهران / القاهرة .

أضف تعليق