أيها الحاضرون الكرام! نحن لا نعاديكم ولا نعادي أحدا من المسلمين، بل نحسب جميع المسلمين إخواننا في الدين، ولكن خلافنا معكم ناشئ من التزامنا لحكم العقل و العلم، وهو أننا لا نقلد في أمر ديننا تقليدا أعمى، بل يجب أن نفهم الدين بالدليل والبرهان حتى يحصل لنا اليقين، قال سبحانه وتعالى: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه )(14).
فلا نتبع أحدا ولا نطيعه من غير دليل، فنأخذ بأمر الله سبحانه ونهتدي بهدى النبي (ص) ولا نسلك إلا الطريق السوي الذي رسمه لنا رسول الله (ص) بأمر الله عز وجل، من مطلع رسالته حين جمع رجال قومه الأقربين امتثالا لأمر الله سبحانه حيث قال: (وأنذر عشيرتك الأقربين)(15).
فجمعهم رسول الله (ص): وأطعمهم، ثم قام فيهم بشيرا ونذيرا ثم قال: فمن منكم يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني في القيام به، يكن أخي ووزيري من بعدي؟ فما أجابه إلا علي (ع)، وكان أصغرهم سنا، فأخذ النبي بيده وقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا الخ ـ وقد نقلنا هذا الخبر بالتفصيل وذكرنا مصادره المعتبرة في المجلس الخامس ـ.
وفي أواخر أيام حياته المباركة، وفي أكبر جمع من أمته، يوم الغدير، أخذ بيد علي بن أبي طالب (ع) بأمر الله عز وجل وعينه لخلافته، فقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه... وأخذ له البيعة منهم.
فالدلائل الساطعة والبراهين القاطعة من القرآن الحكيم وأحاديث النبي الكريم (ص) المروية في كتبكم المعتبرة ومسانيدكم الموثقة ـ إضافة على تواترها في كتب الشيعة ـ كلها تشير بل تصرح على أن الصراط المستقيم والسبيل القويم منحصر في متابعة آل محمد وعترته (ص).
ولو تذكرون لنا حديثا واحدا عن النبي (ص) بأنه قال: خذوا أحكام ديني من أبي حنيفة أو مالك أو أحمد بن حنبل أو الشافعي، لقبلناه منكم! ولتركت مذهبي واخترت أحد المذاهب الأربعة!!
ولكن لا تجدون ذلك أبدا وليس لكم أي دليل وبرهان عليه، ولم يدعه أحد من المسلمين إلى يومنا هذا.
نعم لكم أن تقولوا: بأن الأئمة الأربعة كانوا من فقهاء الإسلام ، ولذلك الظاهر بيبرس في عام 666 من الهجرة، أجبر المسلمين على متابعة أحدهم(16) وأعلن رسمية المذاهب الأربعة ومنع فقهاء المسلمين من استنباط الأحكام وإبداء آرائهم ، والتاريخ يصرح بأنه كان في الإسلام فقهاء وعلماء أعلم وأفقه من أولئك الأربعة.
والعجب أنكم تتركون الإمام علي (ع) وهو باب علم النبي (ص) والذي أمر رسول الله (ص) أمته بالأخذ منه ومتابعته في أمر الدين والشرع، بالنصوص الكثيرة والروايات المتواترة الواصلة عن طرقكم المعتبرة، وكذلك الآيات القرآنية التي نزلت في هذا الشأن كما فسرها كبار علمائكم الأعلام ومحدثيكم الكرام.
وأنتم مع ذلك تصمون أسماعكم، وتغمضون أبصاركم، وتتبعون الأئمة الأربعة، وتحصرون الحق في آرائهم وأقوالهم بغير دليل وبرهان، وأغلقتم باب الاجتهاد واستنباط الأحكام، وقد تركه النبي مفتوحا أمام الفقهاء والعلماء.
السيد عبد الحي: نحن نرى الحق في متابعة الأئمة الأربعة، كما أنكم ترون الحق في متابعة الأئمة الاثني عشر!!!
قلت: هذا قياس باطل لأنكم ترون الحق في متابعة أحد الأئمة الأربعة، بينما نحن نرى الحق في متابعة كل الأئمة الاثني عشر، فلا يجوز عندنا ترك أحدهم والإعراض عن أوامره.
ثم إن تعيين الأئمة الاثني عشر ما كان إلا من عند النبي (ص) وبأمره وحكمه، فهو (ص) عينهم وذكر أسماءهم واحدا بعد الآخر.
_________________
13- سورة الزمر، الآية 17 ـ 18.
14- سورة الشعراء، الآية 214.
15- قال المقريزي: فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولى بمصر أربعة قضاة: شافعي، ومالكي، وحنفي، وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة 665 هجرية حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة... وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه، ولم يول قاضي ولا قبلت شهادة أحد ولا قدم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاء الامصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها.
وسبقه إلى ذلك الخليفة العباسي في بغداد، وهو المستنصر، فقد أنشأ المدرسة المستنصرية سنة 625 هجرية وتم بناؤها سنة 631 هجرية فاحتفل بافتتاحها احتفالا عظيما حضره بنفسه وحضر معه نائب وزيره والولاة والحجاب والقضاة والمدرسون والفقهاء والقراء والوعاظ والشعراء وأعيان التجار والنقباء.
وحصر الخليفة التدريس في المستنصرية على المذاهب الأربعة، وجعل لها ستة عشر وقفا تجري عائداتها عليها، لكل مذهب ربع العوائد، وجعل ربع القبلة الأيمن للشافعي، وجعل ربع القبلة الأيسر للحنفي، والربع الذي على يمين الداخل للحنابلة، والربع الذي على يسار الداخل للمالكية. وسبقه إلى اختيار بعض المذاهب و إعلان رسميته، جده أبو جعفر المنصور الوانيقي حيث أمر الإمام مالك بوضع كتاب في الفقه يحمل الناس عليه بالقهر! فوضع الموطأ. / شرح الموطأ للزرقاني ج1 ص 8.
فأعلن المنصور أن مالكا أعلم الناس.
وقد أمر الرشيد عامله على المدينة بأن لا يقطع أمرا دون مالك، ومنادي السلطان كان ينادي أيام الحج: أن لا يفتي إلا مالك.
أما في بغداد فقد ولى الرشيد أبا يوسف منصب رآسة القضاة العامة و أبو يوسف هو تلميذ أبي حنيفة.
وكان الرشيد لا ينصب أحدا في بلاد العراق وخراسان والشام ومصر، بالولاية والقضاء إلا من أشار به القاضي أبو يوسف وذلك لمكانته في الدولة ومنزلته عند الرشيد.
فكان القاضي أبو يوسف أقوى عوامل انتشار المذهب الحنفي ورسميته في الدولة.
ومن أراد التفصيل في هذا الباب فليراجع كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج1 تأليف المحقق الشيخ أسد حيدر (قدس سره).