طباعة

أسباب نشوء الشعوبية

 

أسباب نشوء الشعوبية

تنقسم الأسباب إلى قسمين:

القسم الأوّل:

فعل، والثاني ردّ فعل، وهذا الأخير ـ أعني ردَّة الفعل ـ ملخّصه: أنّ العرب كانوا في الجاهلية ممزّقين لا تجمعهم جامعة، وكانت الدولة لغيرهم، فجاء الإسلام ووحّدهم وأوطأهم عروش كسرى وقيصر، فنظر العرب فجأة فإذا بهم اُمّة عظيمة بيدها أكثر من سلاح، تخافها الاُمم وينظر إليها الناس بإجلال، باعتبارها المبشّرة بالإسلام والحاملة لتعاليمه، فنفخ ذلك فيهم روح الغرور، وأخذوا يعاملون الشعوب التي افتتحوها معاملة فيها كثير من الغطرسة والصلف ولم يسوّوهم بهم، ومنعوا الموالي من الزواج بالعربية، وسمّوا من يولد من زواج كهذا هجيناً، وكانوا إذا نزل عربي بحيّ من أحيائهم فمن العار أن يباع عليه الطعام بيعاً، بل يقدَّم له بعكس الموالي .

يقول جرير الشاعر وقد نزل ببني العنبر فلم يضيّفوه وباعوه القِرى بيعاً:

يا مالك بن طريف إنّ بيعَكُمُ***رِفد القِرى مفسدٌ للدين والحسب

قالوا: نبيعُكُمُ بيعاً، فقلتُ لهم:***بيعوا المواليَ واستحيوا من العرب([1])

وذكر ابن عبد ربّه الأندلسي في العقد الفريد: أنّ العرب كانوا يقولون: لا  يقطع الصلاة إلاّ ثلاثة: حمار، أو كلب، أو مولى، وكانوا لا يكنّون المولى، ولا  يمشون معه في الصفّ، ولا يواكلونه، بل يقف على رؤوسهم، فإذا أشركوه بالطعام خصّصوا له مكاناً ليعرف أنّه مولى، وكانت الأمة لا تُخطب من أبيها وأخيها، وإنّما من مولاها، وكانوا في الحرب يركبون الخيل ويتركون الموالي مشاة([2]) .

ومن الحقّ أن يشار إلى أنّ فعل العرب هذا بالموالي هو ردّة فعل، لِما كان يعامَل به العرب من قبل الروم والفرس، وكان ما أشرنا إليه من معاملة للموالي هو على مستوى سائر الناس، أمّا ما كان على مستوى الحكّام، فكان لا يلتقي بحال من الأحوال مع الإنسانية، وخصوصاً ولاة الاُمويين، كالحجاج الذي لم يرفع الجزية عمّن أسلم من أهل الذمّة، والذي وسم أيدي الموالي وردّهم إلى القرى لمّا هاجروا للمدن([3])، كلّ ذلك دفع هؤلاء الموالي إلى تبنّي شعار الإسلام والدعوة للمساواة، فسُمُّوا أهل التسوية، ثم مرّت ظروف أدّت إلى رفع شأن الموالي، خصوصاً أيام عمر بن عبدالعزيز وما بعده، فتحفّزوا لإثبات وجودهم، وتطوّر الأمر بعد ذلك أن بدأت ردود الفعل تشتدّ فتصل إلى احتقار العرب وشتمهم .

أمّا القسم الثاني:

الذي هو فعل، فهو امتداد للعصور السالفة عندما كان العرب أيام الأكاسرة
والقياصرة ليس لهم شأن يذكر، وقد اختفت هذه النظرة للعرب لفترة طويلة بعد حكم الإسلام هذه الشعوب، ولكن عادت إلى الظهور بفضل عوامل كثيرة لا سبيل للإفاضة بها هنا، وساعد على هذا أنّ الموالي من اُمم ذات خلفيّة حضارية، فكان أن نبغَ مجموعة من الشعوبيين في مختلف الشؤون الإدارية والعلمية، فلعبوا دوراً كبيراً في أبعاد المجتمع المختلفة، يضاف لذلك أنّ الدولة العباسية اعتمدت على كثير منهم، لأمرين:

الأوّل: لحاجتها لتنظيم شؤون الدولة، والاستفادة من خبرات هذه الاُمم في التطبيق وما لهم من قدم وعراقة في ذلك، وتشبّهاً بهم في البذخ والترف .

والثاني: للاستعانة بهم في كسر شوكة العرب; لأنّهم خافوا من العرب، وخصوصاً عندما شاهدوا ميل العرب للعلويين، وقد لعب الفرس والترك دوراً شرساً في كسر شوكة العرب وتحقيق مآرب العباسيين في ذلك، ولكنّهم بعد ذلك قضوا على الخلافة العباسية وحتى على مظهرها العربي، وأحالوا بغداد إلى مؤسسة انمحت فيها آثار العروبة في تفصيل ليس محلّه هنا.

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] . الكامل للمبرد : 2 .

[2] . مظاهر الشعوبية لمحمّد نبيه حجاب : 51 .

[3] . تاريخ الطبري : 8/35 .