• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مناظرة المأمون مع علماء العامة

المناظرة الاربعون(مناظرة المأمون مع علماء العامة(1) )
عن اسحاق بن حماد بن زيد، قال: جمعنا يحيى بن أكثم القاضي، قال: أمرني المأمون بأحضار جماعة من أهل الحديث، وجماعة من أهل الكلام والنظر، فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلاً، ثم مضيت بهم فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لاعلمه بمكانهم ففعلوا، فأعلمته فأمرني بإدخالهم فدخلوا فسلّموا، فحدثهم ساعة وآنسهم.
ثم قال: إني أريد ان أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي هذا حجة، فمن كان حاقناً(2) ، أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته وانبسطوا وسلّوا خفافكم، وضعوا أرديتكم، ففعلوا ما أمروا به.
فقال: أيها القوم إنما استحضرتكم لاحتج بكم عند الله تعالى، فاتقوا الله وانظروا لانفسكم وإمامكم، ولا يمنعكم جلالتي ومكاني من قول الحق حيث كان، ورد الباطل على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من النار، وتقربوا إلى الله تعالى برضوانه وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلاّ سلّطه الله عليه.
فناظروني بجميع عقولكم إني رجل أزعم: أن علياً ـ عليه السلام ـ خير البشر بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي، وإن كنت مخطئاً فردّوا عليَّ، وهلّموا فإن شئتم سألتكم وإن شئتم سألتموني.
فقال له الذين يقولون بالحديث: بل نسألك.
فقال: هاتوا وقلّدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم، فإذا تكلم، فإن كان عند أحدكم زيادة فليزد، وإن أتى بخلل فسددوه.
فقـال قائل منهـم: إنمـا نحـن نزعـم أن خيّر النـاس بعـد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أبو بكر، من قبل أن الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنه قال: اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر(3) فلما أمر نبيّ الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنه لم يأمر بالاقتداء إلاّ بخير الناس.
فقال المأمون: الروايات كثيرة ولابد من أن تكون كلّها حقاً، أو كلّها باطلاً، أو بعضها حقاً وبعضها باطلاً، فلو كانت كلّها حقاً كانت كلّها باطلاً من قبل أن بعضها ينقض بعضاً، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدّين ودروس الشريعة، فلما بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار.
وهو أن بعضها حق وبعضها باطل، فإذا كان كذلك فلابد من دليل على ما يحق منها ليعتقد وينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً كان أولى ما أعتقده وأخذ به، وروايتك هذه من الاخبار الّتي أدلّتها باطلة في نفسها.
وذلك أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أحكم الحكماء، وأولى الخلق بالصدق، وأبعد الناس من الامر بالمحال، وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أن هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مختلفين ؟
فإن كانا متفقين من كلّ جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كلّ جهة.
وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، وهذا تكليف ما لا يطاق، لانك إذا اقتديت بواحد خالفت الاخر.
والدليل على اختلافهما: أن أبا بكر سبا أهل الردة، وردهم عمر أحـراراً(4) ، وأشـار عمـر إلى أبي بكر بعزل خالد وبقتله لمالك بن نويرة(5) ، فأبى أبو بكر عليه.
وحرم عمر المتعتين(6) ، ولم يفعل ذلك أبو بكر، ووضع عمر ديوان العطية(7) ، ولم يفعله أبو بكر، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر(8) ، ولهذا نظائر كثيرة.
فقال آخر من أصحاب الحديث: فإن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً(9) . فقال المأمون: هذا مستحيل من قِبَل أن رواياتكم أنه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ آخى بين أصحابه وآخى علياً، فقال له في ذلك، فقال: وما أخرتك إلاّ لنفسي(10) ، فأي الروايتين ثبتت بطلت الاخرى.
قال الاخر: إن علياً ـ عليه السلام ـ قال على المنبر: خير هذه الامة بعد نبيها أبو بكر وعمر(11) .
قال المأمون: هذا مستحيل من قبل أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لو علم أنهما أفضل ما ولّى عليهما مرة عمرو بن العاص(12) ، ومرة أسامة بن زيد(13) .
ومما يكذب هذه الرواية قول علي ـ عليه السلام ـ لما قبض النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: وأنا أولى بمجلسه وهو مني بقميصي، ولكني أشفقت أن يرجع الناس كفاراً(14) ، وقوله ـ عليه السلام ـ: أنى يكونان خيراً مني وقد عبدت الله تعالى قبلهما وعبدته بعدهما(15) .
قال آخر: فإن أبا بكر أغلق بابه، وقال: هل من مستقيل فأقيله ؟ فقال علي ـ عليه السلام ـ: قدمك رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فمن ذا يؤخرك(16) ؟
فقال المأمون: هذا باطل من قبل أن علياً ـ عليه السلام ـ قعد عن بيعة أبي بكر(17) ، ورويتم أنه قعد عنها حتى قُبضت فاطمة ـ عليها السلام ـ وأنها أوصت أن تدفن ليلاً لئلا يشهدا جنازتها(18) .
ووجه آخر وهو أنه ان كان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ استخلفه، فكيف كان له أن يستقيل وهو يقول للانصار: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر(19) .
قال آخر: إن عمرو بن العاص قال: يانبي الله من أحبُّ الناس إليك من النساء ؟ قال: عايشة، فقال: من الرجال ؟ فقال: أبوها(20) .
فقال المأمون: هذا باطل، من قِبَل أنكم رويتم: أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وُضِع بين يديه طائر مشوي، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك فكان علياً ـ عليه السلام ـ(21) ، فأيّ رواياتكم تقبل ؟
فقال آخر: فإن علياً ـ عليه السلام ـ قال: من فضّلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري(22) .
قال المأمون: كيف يجوز أن يقول علي ـ عليه السلام ـ: أجلد الحدّ على من لا يجب حدّ عليه ؟ فيكون متعدّياً لحدود الله عز وجل، عاملاً بخلاف أمره، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية.
وقد رويتم عن إمامكم أنه قال: وليتكم ولست بخيركم(23) ، فأيّ الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه، أو علي ـ عليه السلام ـ على أبي بكر مع تناقض الحديث في نفسه ؟ ولابد له في قوله من أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان صادقاً فأنّى عَرَفَ ذلك ؟
أبِوحي ؟ فالوحي منقطع، أو بالتظني ؟ فالمتظني متحير، أو بالنظر فالنظر مبحث، وإن كان غير صادق فمن المحال أن يلي أمر المسلمين ويقوم بأحكامهم، ويقيم حدودهم كذاب !
قال آخر: فقد جاء أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة(24) .
قال المأمون: هذا الحديث محال، لانه لا يكون في الجنة كهل، ويروى أن أشجعية كانت عند النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال: لا يدخل الجنة عجوز(25) فبكت، فقال لها ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: إن الله تعالى يقول: (إنا أنشأناهن إنشاءَ، فجعلناهن أبكاراً، عرباً أتراباً)(26) .
فإن زعمتم أن أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة، فقد رويتم أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال للحسن والحسين: إنهما سيدا شباب أهل الجنة من الاولين والاخرين وأبوهما خير منهما(27) .
قال آخر: فقد جاء أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: لو لم أكن أبعث فيكم لبُعث عمر(28) .
قال المأمون: هذا محال لان الله تعالى يقول: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)(29) ، وقال تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقَهُمْ ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم)(30) ، فهل يجوز أن يكون مَنْ لم يؤخذ منه ميثاقه على النبوة مبعوثاً ؟ ومن أخذ ميثاقاً على النبوة مؤخراً ؟
قال آخر: إن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم.
فقال: إن الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة(31) .
فقال المأمون: هذا مستحيل من قِبَل أن الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيكون عمر في الخاصة، والنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في العامة.
وليست هذه الروايات باعجب من روايتكم: أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال: دخلت الجنة فسمعت خفق نعلين، فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة(32) .
وإنما قالت الشيعة: علي ـ عليه السلام ـ خير من أبي بكر، فقلتم: عبد أبي بكر خير من الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لان السابق أفضل من المسبوق، وكما رويتم أن الشيطان يفر من ظل عمر(33) ، وألقى على لسان نبي الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وإنهن الغرانيق العلى(34) ، ففر من عمر وألقى على لسان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بزعمكم الكفار.
قال آخر: قد قال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: لو نزل العذاب ما نجا إلاّ عمر بن الخطاب(35) !!
قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضاً، لان الله تعالى يقول لنبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)(36) فجعلتم عمر مثل الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ.
قال آخر: فقد شهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة(37) .
فقال المأمون: لو كان هذا كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك بالله أمن المنافقين أنا ؟
فإن كان قد قال له النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: أنت من أهل الجنة ولم يصدّقه حتى زكّاه حذيفة فصدّق حذيفة ولم يصدق النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، فهذا على غير الاسلام.
وإن كان قد صدّق النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فلم سأل حذيفة ؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما ؟
قال الاخر: فقد قال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: وضعت في كفة الميزان ووضعت أمتي في كفة أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم، ثم عمر فرجح بهم، ثم رفع الميزان(38) .
فقال المأمون: هذا محال، من قِبَل أنه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما، فان كانت الاجسام فلا يخفى على ذي روح أنه محال، لانه لا يرجح أجسامهما بأجسام الامة، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد فكيف ترجح بما ليس، فأخبروني بما يتفاضل الناس ؟
فقال بعضهم: بالاعمال الصالحة.
قال: فأخبروني، فمن فضّل صاحبه على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ؟ ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أيُلحق به ؟
فإن قلتم: نعم، أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً و حجاً، وصوماً وصلاة وصدقة من أحدهم !
قالوا: صدقت لا يلحق فاضل دهرنا لفاضل عصر النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ.
قال المأمون: فانظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم اديانكم في فضائل علي ـ عليه السلام ـ، وقيسوا إليها ما رووا في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة، فإن كانت جزاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم، وإن كانوا قد رووا في فضائل علي ـ عليه السلام ـ أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تَعْدوه.
قال: فأطرق القوم جميعاً.
فقال المأمون: ما لكم سكتم ؟
قالوا: قد استقصينا.
قال المأمون: فإني أسألكم، خبروني أي الاعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ.
قالوا: السبق إلى الاسلام لان الله تعالى يقول: (والسابقون السابقون، أولئك المقربون)(39) .
قال: فهل علمتم أحداً أسبق من علي ـ عليه السلام ـ إلى الاسلام ؟
قالوا: إنه سبق حدثاً لم يجر عليه حكم، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم، وبين هاتين الحالتين فرق.
قال المأمون: فخبروني عن إسلام علي ـ عليه السلام ـ أبإلهام من قبل الله تعالى أم بدعاء النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ؟
فإن قلتم: بإلهام فقد فضلتموه على النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لان النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعياً ومعرّفاً.
فإن قلتم: بدعاء النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فهل دعاه من قِبَل نفسه أو بأمر الله تعالى ؟
فان قلتـم: مـن قِبَل نفسـه فهـذا خـلاف مـا وصـف الله تعالى به نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في قوله تعالى: (وما أنا من المتكلفين)(40) وفي قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)(41) .
وإن كان من قِبَل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بدعاء علي ـ عليه السلام ـ من بين صبيان الناس، وإيثاره عليهم فدعاه ثقةً به، وعلماً بتأييد الله تعالى، وخلّة أخرى، خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلف خلقه ما لايطيقون ؟
فإن قلتم: نعم، فقد كفرتم، وإن قلتم: لا، فكيـف يجـوز أن يـأمر نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصِغرِه وحداثة سنه وضعفه عن القبول ؟ !
وخلّة أخرى، هل رأيتم النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة علي ـ عليه السلام ـ ؟ فإن زعمتم أنه لم يدعُ غيره فهذه فضيلة لعلي ـ عليه السلام ـ على جميع صبيان الناس.
ثم قال: أيّ الاعمال بعد السبق إلى الايمان ؟
قالوا: الجهاد في سبيل الله.
قال: فهل تجدون لاحدٍ من العشرة في الجهاد ما لعلي في جميع مواقف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من الاثر ؟ هذه بدر قُتل من المشركين فيها نيف وستون رجلاً قَتل علي ـ عليه السلام ـ منهم نيفاً وعشرين(42) وأربعون لسائر الناس.
فقال قائل: كان أبو بكر مع النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في عريشة يدبرها.
فقال المأمون: لقد جئت بها عجيبة، أكان يدبر دون النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أو معه فيشركه، أو لحاجة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إلى رأي أبي بكر، أيّ الثلاث أحب إليك أن تقول ؟
فقال: أعوذ بالله من أن أزعم أنه يدبر دون النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أو يشركه، أو بافتقار من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إليه.
قال: فما الفضيلة في العريش ؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلفه عن الحرب، فيجب أن يكون كل متخلف فاضلاً أفضل من المجاهدين، والله عز وجل يقول: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر، والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاّ ً وعد الله الحسنى وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما)(43) الاية.
قال إسحق بن حماد بن زيد، ثم قال لي اقرأ: (هل أتى على الانسان حين من الدهر)(44) ، فقرأت حتى بلغت: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا)(45) ، إلى قوله: (وكان سعيكم مشكورا)(46) .
فقال: فيمن نزلت هذه الايات ؟
فقلت: في علي ـ عليه السلام ـ(47) .
قال: فهل بلغك أن علياً ـ عليه السلام ـ قال: حين أطعم المسكين واليتيم والاسير: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزءاً ولا شكوراً)(48) ، على ما وصف الله عز وجل في كتابه ؟
فقلت: لا.
قال فإن الله تعالى عرف سريرة علي ـ عليه السلام ـ ونيته فأظهر ذلك في كتابه تعريفاً لخلقه أمره، فهل علمت أن الله تعالى وصف في شيء مما وصف في الجنة ما في هذه السورة (قوارير من فضة)(49) .
قلت: لا.
قال: فهذه فضيلة أخرى، فكيف تكون القوارير من فضة ؟
فقلت: لا أدري.
قال: يريد كأنها من صفائها من فضة يُرى داخلها كما يُرى خارجها، وهذا مثل قوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: يا اسحاق رويداً شوقك بالقوارير(50) ، وعنى به نساءً كأنها القوارير رقة، وقوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحراً ـ أي كأنه بحر من كثرة جريه وعدوه ـ وكقول الله تعالى: (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ)(51) ـ أي كأنه يأتيه الموت ولو أتاه من مكان واحد مات ـ.
ثم قال: يا إسحاق ألست ممن يشهد أن العشرة في الجنة ؟
فقلت: بلى.
قال: أرأيت لو أن رجلاً قال: ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان عندك كافراً ؟
قلت: لا.
قال: أفرأيت لو قال ما أدري هذه السورة من القرآن أم لا أكان عندك كافراً ؟
قلت: بلى.
قال: أرى فضل الرجل يتأكد، خبروني يا إسحاق عن حديث الطائر المشوي(52) أصحيح عندك ؟
قلت: بلى.
قـال: بـانَ والله عنادك، لا يخلـو هـذا مـن أن يكـون كما دعاه النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أو يكون مردوداً أو عرف الله الفاضل من خلقه، وكان المفضول أحبّ إليه، أو تزعم أن الله لم يعرف الفاضل من المفضول، فأيّ الثلاث أحبّ إليك أن تقول به ؟
قال إسحاق: فأطرقت ساعة، ثم قلت: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول في أبي بكر: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لاتحزن إن الله معنا)(53) ، فنسبه الله عز وجل إلى صحبة نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ.
فقال المأمون: سبحان الله ما أقل علمك باللغة والكتاب ! أما يكون الكافر صاحباً للمؤمن ؟ فأيّ فضيلة في هذا، أما سمعت قول الله تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلاً)(54) ، فقد جعله الله له صاحباً، وقال الهذلي شعراً:

•    ولقد غدوت وصاحبي وحشيــة تحت الردأ بصيرة بالمشـرق
•    تحت الردأ بصيرة بالمشـرق تحت الردأ بصيرة بالمشـرق
وقال الازدي شعراً:

•    ولقد ذعرت الوحش فيه وصاحبي محض القوائم من هجان هيكل
•    محض القوائم من هجان هيكل محض القوائم من هجان هيكل
فصيّر فرسه صاحبه.
وأما قوله: إن الله معنا، فإن الله تبارك وتعالى مع البر والفاجر، أما سمعت قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلاّ هو رابعُهُم ولا خمسةٍ إلاّ هو سَادِسُهُم ولا أدنى مِن ذلِكَ ولا أكثَرَ إلاّ هُوَ معَهُم أينما كانُوا)(55) .
وأما قوله: (لا تحزن) فأخبرني من حزن أبي بكر، أكان طاعة أو معصية ؟ فإن زعمت أنه طاعة، فقد جعلت النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ينهى عن الطاعة وهذا خلاف صفة الحكيم، وإن زعمت أنه معصية فأيّ فضيلة للعاصي ؟
وخبرني عن قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه)(56) ، على مَن ؟
قال إسحاق: فقلت: على أبي بكر، لان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان مستغنياً عن صفة السكينة.
قال: فخبرني عن قوله عز وجل: (ويَومَ حُنينٍ إذ أعجبتكُم كثَرتُكم فَلم تُغن عَنكُم شَيئاً وضَاقَت عَليكُمُ الارضُ بَما رَحُبَت ثُمَّ وَلِّيتُم مُدبِرِينَ ثُمَّ أنزل اللهُ سَكِينَتَه على رَسُولِهِ وعَلَى المؤمِنِين)(57) ، أتدري من المؤمنون الّذين أراد الله تعالى في هذا الموضع ؟
قال: فقلت: لا.
فقال: إن الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إلاّ سبعة من بني هاشم علي ـ عليه السلام ـ يضرب بسيفه، والعباس(58) آخذ بلجام بغلة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، والخمسة يحدقون بالنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ خوفاً من أن يناله سلاح الكفار، حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الظفر، وعنى بالمؤمنين في هذا الموضع علياً ـ عليه السلام ـ(59) ومن حضر من بني هاشم.
فمَن كان أفضل، أمَنْ كان مع النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فنزلت السكينة على النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وعليه، أم من كان في الغار مع النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولم يكن أهلاً لنزولها عليه، يا إسحاق من أفضل ؟ من كان مع النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيالغار أو من نام على مهاده وفراشه ووقاه بنفسه حتى تم للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ما عزم عليه من الهجرة ؟
إن الله تبارك وتعالى أمر نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن يأمر علياً ـ عليه السلام ـ بالنوم على فراشه ووقايته بنفسه، فأمره بذلك، فقال علي ـ عليه السلام ـ: أتسلم يا نبي الله ؟
قال: سمعاً وطاعة، ثم أتى مضجعه وتسجّى بثوبه(60) ، وأحدق المشركون به لا يشكّون في أنه النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، وقد أجمعوا على أن يضربه من كل بطن من قريش رجل ضربة لئلا يطلب الهاشميون بدمه، وعلي ـ عليه السلام ـ يسمع بأمر القوم فيه من التدبير في تلف نفسه، فلم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع أبو بكر في الغار وهو مع النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وعلي ـ عليه السلام ـ وحده فلم يزل صابراً محتسباً فبعث الله تعالى ملائكته تمنعه من مشركي قريش فلما أصبح قام فنظر القوم إليه، فقالوا: أين محمد ؟
قال: وما علمي به.
قالوا: فأنت غررتنا، ثم لحق بالنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، فلم يزل علي ـ عليه السلام ـ أفضل لما بدا منه إلاّ ما يزيد خيراً حتى قبضه الله تعالى إليه وهو محمود مغفور له.
يا إسحاق أما تروي حديث الولاية(61) ؟
فقلت: نعم.
قال: اروه فرويته.
فقال: أما ترى أنه أوجب لعلي ـ عليه السلام ـ على أبي بكر وعمر من الحق ما لم يوجب لهما عليه ؟
قلت: إن الناس يقولون إن هذا قاله بسبب زيد بن حارثة.
فقال: وأين قال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ هذا ؟
قلت: بغدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع.
قال: فمتى قُتلَ زيد بن حارثة ؟
قلت: بمؤتة.
قال: أفليس قد كان قَتل زيد بن حارثة قبل غدير خم ؟
قلت: بلى.
قال: أخبرني لو رأيت ابنا لك أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي أيها الناس فاقبلوا، أكنت تكره له ذلك ؟
فقلت: بلى.
قال: أفتنزه ابنك عما لا يتنزه النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عنه ويحكم ! أجعلتم فقهاءكم أربابكم، إن الله تعالى يقول: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)(62) ، والله ما صاموا لهم ولا صلّوا لهم، ولكنهم امروا لهم فأُطيعوا.
ثم قال: أتروي قول النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لعلي ـ عليه السلام ـ: أنت مني بمنزلة هارون من موسى(63) .
قلت: نعم.
قال: أما تعلم أن هارون أخو موسى لابيه وأمه ؟
قلت: بلى.
قال: فعلي ـ عليه السلام ـ كذلك ؟
قلت: لا.
قال: وهارون نبي وليس علي كذلك، فما المنزلة الثالثة إلاّ الخلافة، وهذا كما قال المنافقون: إنه استخلفه استثقالا له، فأراد أن يطيّب نفسه.
وهذا كما حكى الله تعالى عن موسى ـ عليه السلام ـ حيث يقول لهارون: (اخلفُني فِي قَومي وأَصلِح، ولا تتَبَّع سَبِيلَ المُفسِدِينَ)(64) .
فقلت: إن موسى خلّف هارون في قومه وهو حي، ثم مضى إلى ميقات ربه تعالى، وإن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ خلّف علياً ـ عليه السلام ـ حين خرج إلى غزاته.
فقال: أخبرني عن موسى حين خلّف هارون، أكان معه حيث مضى إلى ميقات ربه عز وجل أحد من أصحابه ؟
فقلت: نعم.
قال: أو ليس قد استخلفه على جميعهم ؟
قلت: بلى.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page