• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

العفاف بين السلب والإيجاب


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي كل نعمة ومصدر كل رحمة وصلواته الطيبة المباركة على سيد بريته محمد والمصطفين من آله والمستخلصين من اصحابه.
رب اوزعني ان اشكر نعمتك التي انعمت علي وعلى والدي وان اعمل صالحاً ترضاه واصلح لي في ذريتي اني تبت اليك واني من المسلمين.
حديثي هذا

قارئي العزيز:
قلت لك في تقديم الطبعة الأولى لهذا الكتيب:
انت الذي سايرتني من مطلع الحديث الى ختامه، فشاركتني حلوه ومره وقائمه وحصيده، وانت الذي ستختزل ساعة من عمرك لتقرأه، فتبسم لي إذ أبسم وتأسى معي إذ آسي، ثم انت الذي ستنصب للحكومة بعد ذلك، فتقضي عليه بالصواب أو الخطأ وبالنجاح أو الاخفاق، فمن احق منك بأن يهدى اليه الحديث؟.
ولم اجد بعد اربع سنين مرت على طبعته تلك، وبعد الحوادث التي مر بها تأريخ الكتاب ما يحملني على ان اغير من قولي شيئاً فالكتاب لا يزال منك واليك.
وقارئتي المسلمة، هي الموضوع الذي من اجله سيق الحديث وصيغت حروفه وكان تأريخه فهي احق الناس جميعهم بأن تقرأه ثم تحاكمه وتحكم عليه، وحتى اولئك اللاتي كن يهتفن بسقوط الكاتب وبسقوط الكتاب في يوم من الأيام، أوقن انهن لم يقرأن الكتاب ولم يتبين قصد الكاتب، فماذا عليهن لو قرأن الكتاب جيداً واصدرن رايهن فيه عن علم؟.
و قلت لقارئي فيما قلت: حديثي هذا حديث تشتاقه قلوب وتمقته قلوب، ونصيحتي اليك ان تنفرد لقرائته أولا، ثم تختار بعد اتمام قراءته ما شئت، فليس اخطر على حكم الحاكم من ان ينبري للمشكلة وهو مائل احدى الكفتين.
وازيد هاهنا ان الخروج على احكام العاطفة والتخلص من تبعات الهوى يفتقران الى مزيد من التوقي ومزيد من التجرد، والى بعد في النظر ودقة في الملاحظة، وكل اولئك امور لا بد منها لمن يتحرى النظر الصحيح ويصدر الحكم الصحيح.
ووصفت له حديثي هذا بأنه وقفة على حكم الاسلام في الحجاب، وايماءة الى الأدواء التي حتمت عليه وصف هذا العلاج، ومطارحة مع فريق يرغبون ان يخضعوا دين الله لما يشتهون ليتسنى لهم  القصد الذي يطلبون.
وحين رددت النظرة فيه لأقدمه للقارئ في طبعته الثانية لم أر له وصفاً يخالف هذا الوصف، فالمدد الذي اتصل بفصوله والشرح الذي امتزج بأصوله لم يغيرا من هذه الملامح ولم يعدلا من هذه السمات.
والعجلة التي اعتذرت الى القارئ منها في تقديم الكتاب اول مرة هي العجلة التي تعاودني عند تقديمه هذه المرة، فان الظروف التي عدت فيها للحديث تشبه اختها التي بداته فيها، وهي في كلتا الحالين ظروف مرتبكة، فرضت علي ان اعجل وفرضت علي ان اختصر، وللعجلة والاختصار اعراض لا تفارقهما في الغالب، وقد عودني قارئي علي قبول العذر في ذلك.
وبعد فحسبي ان اكون قدمت قولة الاسلام لبنيه وبناته صريحة لا غموض فيها ولا ميل، والله سبحانه ولي التوفيق وبعونه بلوغ الغاية، وتحقيق الأمل.
النجف الأشرف                     محمد امين زين الدين


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي كل نعمة ومصدر كل رحمة وصلواته الطيبة المباركة على سيد بريته محمد والمصطفين من آله والمستخلصين من اصحابه.
رب اوزعني ان اشكر نعمتك التي انعمت علي وعلى والدي وان اعمل صالحاً ترضاه واصلح لي في ذريتي اني تبت اليك واني من المسلمين.
حديثي هذا

قارئي العزيز:
قلت لك في تقديم الطبعة الأولى لهذا الكتيب:
انت الذي سايرتني من مطلع الحديث الى ختامه، فشاركتني حلوه ومره وقائمه وحصيده، وانت الذي ستختزل ساعة من عمرك لتقرأه، فتبسم لي إذ أبسم وتأسى معي إذ آسي، ثم انت الذي ستنصب للحكومة بعد ذلك، فتقضي عليه بالصواب أو الخطأ وبالنجاح أو الاخفاق، فمن احق منك بأن يهدى اليه الحديث؟.
ولم اجد بعد اربع سنين مرت على طبعته تلك، وبعد الحوادث التي مر بها تأريخ الكتاب ما يحملني على ان اغير من قولي شيئاً فالكتاب لا يزال منك واليك.
وقارئتي المسلمة، هي الموضوع الذي من اجله سيق الحديث وصيغت حروفه وكان تأريخه فهي احق الناس جميعهم بأن تقرأه ثم تحاكمه وتحكم عليه، وحتى اولئك اللاتي كن يهتفن بسقوط الكاتب وبسقوط الكتاب في يوم من الأيام، أوقن انهن لم يقرأن الكتاب ولم يتبين قصد الكاتب، فماذا عليهن لو قرأن الكتاب جيداً واصدرن رايهن فيه عن علم؟.
و قلت لقارئي فيما قلت: حديثي هذا حديث تشتاقه قلوب وتمقته قلوب، ونصيحتي اليك ان تنفرد لقرائته أولا، ثم تختار بعد اتمام قراءته ما شئت، فليس اخطر على حكم الحاكم من ان ينبري للمشكلة وهو مائل احدى الكفتين.
وازيد هاهنا ان الخروج على احكام العاطفة والتخلص من تبعات الهوى يفتقران الى مزيد من التوقي ومزيد من التجرد، والى بعد في النظر ودقة في الملاحظة، وكل اولئك امور لا بد منها لمن يتحرى النظر الصحيح ويصدر الحكم الصحيح.
ووصفت له حديثي هذا بأنه وقفة على حكم الاسلام في الحجاب، وايماءة الى الأدواء التي حتمت عليه وصف هذا العلاج، ومطارحة مع فريق يرغبون ان يخضعوا دين الله لما يشتهون ليتسنى لهم  القصد الذي يطلبون.
وحين رددت النظرة فيه لأقدمه للقارئ في طبعته الثانية لم أر له وصفاً يخالف هذا الوصف، فالمدد الذي اتصل بفصوله والشرح الذي امتزج بأصوله لم يغيرا من هذه الملامح ولم يعدلا من هذه السمات.
والعجلة التي اعتذرت الى القارئ منها في تقديم الكتاب اول مرة هي العجلة التي تعاودني عند تقديمه هذه المرة، فان الظروف التي عدت فيها للحديث تشبه اختها التي بداته فيها، وهي في كلتا الحالين ظروف مرتبكة، فرضت علي ان اعجل وفرضت علي ان اختصر، وللعجلة والاختصار اعراض لا تفارقهما في الغالب، وقد عودني قارئي علي قبول العذر في ذلك.
وبعد فحسبي ان اكون قدمت قولة الاسلام لبنيه وبناته صريحة لا غموض فيها ولا ميل، والله سبحانه ولي التوفيق وبعونه بلوغ الغاية، وتحقيق الأمل.
النجف الأشرف                     محمد امين زين الدين

قصة

قصة
قال لي احد اساتذتي الذين اعتز بهم[1]: أقرأت ما نشرته صحيفة … حول حجاب المرأة؟.
فقلت: لا.
فقال: هل لك ان تقرأه؟ ثم هل لك ان تجيب عنه اذا قرأته؟.
فقلت: اما قراءة ما نشرته الصحيفة فسأقرأه، واما الجواب فقد يكون لي من اعمالي ما يمنعني عنه.
فسكت رويداًِ، ثم قال: وقلت هل لك ان تجيب عما نشرته الصحيفة اذا قرأته لا لاهتمام في المنشور ذاته، فليس فيه رأي يستحق المناقشة، بل لما قد يجر وراءه من عقابيل واحابيل، ولاسيما ان المقال ينطوي على تحريف شائن لنظرة الاسلام في الحجاب وقولة القرآن فيه.
وقرأت المقال صباح تلك العشية، وقرأت العدد الذي يلي ذلك العدد من الصحيفة فقد كان يحتوي على صلة للموضوع، ثم فكرت في قول ذلك المرجع الديني الكبير: هل لك ان تجيب؟.
نعم ليس في ما قالته الصحيفة ما يستحق الرد، كما قال ذلك المرجع الدين في آخر حديثه، بل وليس فيه ما لم يسمع ولم يتكرر قوله وسماعه ولم يتكرر معه نقده ورده.
كل ذلك حق لا ريب فيه، ولكن اليس من الحق كذلك ان تعلن كلمة الله عالية صافية كلما اراد المغرضون إخفاءها أو ارادوا تحريفها وفقاً لما يرغبون؟!
فلأكتب إذن حول حكم الاسلام في الحجاب وحكمته فيه، وحول الدوافع التي حتمت عليه ان يحكم بوجوبه، ليسمع قولة الاسلام في ذلك من يريد ان يسمع، وليس في المسلمين من لم يسمع، ليسمعها نقية من كل شوب، بعيدة عن أي تحريف.
وبعد ايام وضعت أولى نسخة من هذا الحديث بيد اول قارئ، وابتدأ تأريخه الذي اشرت اليه واجملت ذكره، وقد كان للسلطة القائمة في تلك البرهة موقف من الكتاب لا يحمده الاسلام، ولا ينساه المسلمون في النجف، والله وحده هو الرقيب الحسيب.
نعم، وقد علم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، « وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا ييستهزؤن »[2].
وقد قلت لصديق لقيني متحمساً في تلك المناسبة: حسب الكتاب نجاحاً ـ والحمد لله ـ انه اشعر المسلمين الغافلين هاهنا بأن دينهم تحاك له الاحابيل.
نعم، حسب الكتاب نجاحاً انه ادى للمسلمين هذه الرسالة كاملة غير منقوصة، وواضحة غير خفية، ليعرفوا موقفهم ويقوموا بواجبهم، ولعل الكتاب لا ينال بعض هذا الفوز لو مكنت له الظروف فانتشر دون منع وقرئ دون حرج.
ولقد عجبت كثيراً وعجب اصدقائي الذين قرؤا الكتاب، وسيعجب الآخرون الذين سيقرؤنه بعد هذا، لماذا كان ذلك المنع، ولماذا كان الاصرار عليه والمبالغة فيه؟!.
تمنع كلمة الاسلام ان يجهر بها في بلاد الاسلام، وبين ابنائه، وفي حكومة يعلن دستورها المؤقت والدائم ان دينها الذي لا تستبدل به ديناً سواه هو الاسلام؟!.
تمنع كلمة الاسلام ان تقال في هذه البلاد وتحت ظل هذه الحكومة، ثم لا تمنع كلمات واقوال وكتب ونشرات تنابذ الاسلام، بل وتنال من قدسه؟!
ولست اقصد من قولي هذا ان تمنع هذه الدعوات والادعاءآت، فان الاسلام لا يخشى منها ابداً ولا يهوله امرها، ولا يجد فيها ما يصلح ان يعد منافساً، ولكن المقصود من ذلك القول ان يفسح المجال لكلمة الاسلام كما يفسح لغيرها سواء بسواء، فتنشر دعوته دون تحريف، وتعلن حجته دون منع، وتبين حكمته دون ميل، ان يصنع كذلك ليتخذ العقل الواعي سبيله في البحث الحر والموازنة الكاملة والاستنتاج الصحيح.
اما ان تخنق وتوأد هي وحدها دون ما سواها فهذا ما لم يدر في حسبان !!
وبعد الاستنكار الشديد من الطبقات المؤمنة في النجف، وبعد الاحتجاج البالغ من المراجع العليا في الدين، عادت النسخة المخطوطة الوحيدة المصادرة من الكتاب وعلى كل صفحة منها ختم للمنع، وتحت كل سطر منها خط احمر، حتى تحت الآيات القرآنية التي ذكرت في طوايا الكتاب، وحتى تحت الشواهد التي اقتبست فيه من صحف مشهورة، ومن كتب منشورة، ومن تقارير رسمية كتبت بعد الاحصاء واعلنت بعد التثبت، وقدمت الى المراجع المختصة ليتخذ لها إجراء !!
عادت النسخة الوحيدة المصادرة، وكأن الاستنكار والاحتجاج انما وقع لتعود النسخة ملطخة بالمداد الأحمر.
اما كيف استطاع الكتاب ان يفلت من هذا الحصار وان يتخلص من هذه القيود لينتشر في ايران، ثم ليصل النجف مطبوعاً منشوراً وان لم تصل منه غير نسخ معدودة، فهذا ما يعود الفضل فيه الى جهد الأديب الفاضل الشيخ هادي الأميني حفظه الله ووفقه.
وبعد كل ما حدث فقد علمت من تساؤل القراء عن الكتاب وتبادلهم نسخه القليلة، والحاح الكثير منهم على اعادة طبعه، ومن الحوادث التي لا تزال تجد حول موضوع الحجاب، والتجارب المستمرة التي تؤكد حكم الاسلام بوجوبه، علمت من كل اولئك ان الكتاب بحاجة الى طبعه مرة ثانية، لعله يرفع غفلة، او لعله يقيم حجة، او لعله يؤدي امانة مفروضة على ادنى التقادير.

ـ 1 ـ الحجاب بين السلب والايجاب.

ـ 1 ـ الحجاب بين السلب والايجاب.
هكذا يقترح صديق حميم ان يكون عنوان الكتاب في طبعته المقبلة ان شاء الله، وكأنه يجد في العنوان السابق الذي عرف به الكتاب شيئاً من الحدة فهو يروم التلطيف منها بهذا التحوير، وهو يشفع رأيه هذا بأن في العنوان الجديد صناعة لفظية ترقق من جرسه، وهي صناعات يحبها بل ويغرم بها فريق من الأدباء الذين ينزعون الى القديم.
وانا اكبر لصديقي رأيه واعجب بملاحظته للفظ والمعنى، واستميحه المعذرة لأقول: سيرى القارئ في مطاوي البحث ومن مساق الاحتجاج فيه ان منابع الخلاف في هذه المسألة بين الاسلام وخصومه، وان البواعث التي حتمت على الاسلام ان يقول قولته في الحجاب انما هي امور تحوم حول العفاف ذاته، ورأي الاسلام الصريح ان الحجاب انما هو ضمان قانوني للعفة، يصونها عن الانزلاقات العاطفية التي توجبها فتنة العري، وعن الاعتداء الاثيم التي تمكن له مظاهر التبرج والخلاعة.
ليس عفاف المرأة وحدها، ولا عفاف الرجل وحده، بل عفاف المجتمع كله من الفه الى يائه، ولذلك فالعفاف في راي الاسلام والذي يأمر به ويسعى لتكوينه وتنميته ويحرص على الحفاظ عليه حق اجتماعي عام لا يختص بالفرد ولا ينتهي مع حدوده وليس من حقوقه لتكون له الخيرة في اسقاطه والتسامح فيه اذا شاء، والحجاب يتبع العفة في كل ذلك.
ولأعجل بالقارئ فأتلو عليه هاهنا بعض أيات الحجاب ليتضح له من دلالتها هذا الذي قلناه.
يقول سبحانه في الآية ـ 59 ـ من سورة الأحزاب « يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك ادنى ان يعرفن فلا يؤذين، وكان الله غفوراً رحيما ».
ما معنى ايذاء المؤمنات الذي ذكرته الآية الكريمة وفرضت للوقاية منه فريضة الحجاب؟ ما معنى ايذاء المؤمنات غير ان يعترض الطامعون سبيلهن فيسمعن او يرين من اقوالهم وحركاتهم ما يريب؟ ما معناه غير هذا التعرض للعفاف الاسلامي الذي يريده الله للمرأة المسلمة وللمجتمع المسلم؟ وسيأتي في بحوث الكتاب ما يوضح ذلك ويجلوه.
ويقول في الآية ـ 30 ـ وما بعدها من سورة النور: « قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك ازكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن … ».
ذلك ازكى لهم واطهر، ازكى لهم جميعاً … لأفرادهم ومجتمعهم، وهذه الزكاة العامة الشاملة التي يجب ان تشمل المجتمع من اقصاه الى اقصاه امر الله المؤمنين ان يغضوا ابصارهم ويحفظوا فروجهم، وامر المؤمنات ان يغضضن من ابصارهن، ويحفظن فروجهن، ثم امرهن بالحجاب الواقي: بأن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن وإلا لمن تنتفي معه الريبة وتؤمن عنده الفتنة من النساء والأرحام القريبة والأصهار الدانية، والتابع غير اولي الاربة، والطفل الذي لم يظهر على عورة، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن فيستهوى ضعيف ويشرئب طامع ويترصد حالات الغفلة، ويستخدم فنون الاغراء.
وحتى الآيات الخاصة التي فرضت الحجاب على ازواج الرسول (ص) فانها تتصل بذلك وتؤكده، فلهذا العفاف الاسلامي الذي يجب ان ينبع من مهد الرسالة ومن منزل الرسول ومن هدي ازواجه وبناته الطاهرات المطهرات ثم يشع علي أفاق المجتمع الاسلامي واقطاره، اقول: لتنشئة هذا العفاف وتنميته ولصيانته عما يخل ويخدش يقول الله سبحانه لمخدرات الرسول (ص) في الآية ـ 32 ـ وما بعدها من سورة الأحزاب: « يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى … ».
لا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وبماذا يطمع هذا الذي في قلبه مرض؟ ان طبيعته المريضة الملتاثة توهمه ان وراء اللين بالقول ليناً بالطباع فيتطلع ويطمع، ويحاول ويتعرض.
وإذن فالآية تتضمن حصراً لدائرة المرض وحسما لعدواه ووقاية من اعراضه وآثاره.
ومن اللفتات القرآنية الرائعة التي تسترعي الانتباه انه يسمي اللين بالحديث هاهنا خضوعاً فلا تخضعن بالقول، نعم فاللين بالقول خضوع يجب ان تتسامى عنه المرأة الكريمة، خصوصاً اذا كانت ليست كأحد من النساء.
ولتنشئة هذا العفاف وتنميته وصيانة حدوده عما يخل ويخدش يقول للمؤمنين في الآية ـ 53 ـ من السورة نفسها:  يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا ان يؤذن لكم الى طعام غير ناظرين … واذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم اطهر لقلوبكم وقلوبهن ».
الحجاب ضمان قانوني للعفة يقيها من ان تتردى او تضعف في نفس الفرد، ومن ان تزيغ او تهن في طباع الأمة، ودعاة التبرج، انما يدعون الى هذه السوأى وان كانوا ينكرون، وهذا الكتاب يلمح الى نتائج ذلك ويؤمي الى اسبابه.
وبعد فلست ارى في العنوان حدة بعد ان كان يحدد الموضوع الذي من اجله وقع الخلاف، ومن اجل البقيا عليه وضع الاسلام هذا العلاج، وما اصنع انا للموضوع ذاته اذا كان بطبعه يملي نوعاً من الحدة؟!.
اما الجرس الموسيقي الذي يشفع صديقي الأديب رأيه فيه فلا يكفى وحده سبباً للتحرير.

ـ 2 ـ حديث الحجاب

ـ 2 ـ حديث الحجاب حديث مكرر، وقد اوشك اللسان بل واوشك القلم ان يمله لطول تكراره، وحكم العقل اليقظ الواعي فيه بين صريح لا لجلجة فيه ولا لبس ولا خفاء، وحكم الله باديء العقل وخالق الانسان ومدبر اموره وعالم طواياه ومصالحه ابين واصرح، ووطائد الحكم فيه جلية قوية، وروافده ومؤكداته اوفر واوضح، وما كان الانسان بعد هذا كله ليقف او ليتردد، وما كان له ان يتلفت او يتساءل.
ما كان له ان يأتي شيئاً من ذلك لولا هذه الوقدة التي تضطرم بها اعصابه يوم يراهق، ثم تبقى تتقد وتستعر، وتكبر وقدتها وينعقد امرها وتتكثر مطاليبها وتستمر مع الانسان طوال حياته اذا بقي معه عقل المراهقة، فلم يقو ان يضع للسعار حداً ولم يطق ان يجعل للمعضلة حلا.
[1] كان هذا الحديث بعد منتصف الشهر التاسع سنة 1958، وبعد مضي شهرين تقريباً من ثورة 14 تموز.
[2] الزمر : 48
وغرائز هذا الكائن البشري نهمة جداً حين يلقى لها الحبل على الغارب، ومن خصائصها انها تشتد وتضرى ويعظم اشتدادها وضراوتها كلما تكررت الاستجابة اليها كالنار يقوى ضرامها كلما كثر وقودها.
ومن طبعها كذلك انها تستسلم للقائد البارع اذا اخذ قيادها برفق واوقفها عند حدها بحزم، كالنار إذ تمد بالوقود المعتدل وإذ توجه للغايات النافعة المجدية.
ما كان الانسان ليرد حكم الله وحكم العقل في مسألة الحجاب ثم يختط له خطوطاً لا تبتنى على القواعد الثابتة المتينة التي يجب ان تناط بها الاحكام وتقوم عليها الآراء، وخصوصاً في امثال هذه المعضلات التي تقلق مصير الانسان وتهدد سلامة المجتمع وتضعضع اركانه.
ما كان الانسان ليرتكب شيئاً من ذلك لولا هذه اللهفة الشديدة العنيدة التي تعصف به وتقلق مضجعه وتستعمل لبلوغ غاياتها ضروب الحيل وتستخدم شتى الأساليب، حتى اذا ملكت زمام المرء واحتكمت في امرء واستعبدت ارادته، استحالت جوعة دائمة لا تشبع وغفلة شديدة لا تنقع.
فما هذه اللوثة التي يسومون العقل ان يركبها في مسألة الحجاب، وما هذه السوأى التي يتطلبونها للمرأة باسم الحرية، وما هذه الهناة التي يرددونها ويكثرون من تردادها باسم المحاماة عن المرأة والدفاع عن حقوقها، ما هذا جميعه إلا بعض الوسائل التي يتخذها المسعور ذريعة لغايته، وإلا بعض الأساليب التي يحتال بها لطلبته.
انه ينادي باسم المرأة ليقترب منها، ويتظلم لها ليجتلب رضاها.
يصنع ذلك لتعجب المرأة به، وتطمئن اليه. وتقف الى جنبه.
والنساء جنس رقيق المشاعر مشبوب العاطفة ملتهب الاحساس (يغرهن الثناء) كما يصفهن الاستاذ احمد شوقي، ويخدعهن  التظلم، ويفتنهن الانتصار.
يغرهن الثناء عليهن وان يكن المثني كاذبا، ويخدعهن المتظلم من اجلهن وان يكن المتظلم مداجياً، ويفتنهن الانتصار وان يكن المنتصر ظالماً.
بلى وانه لظلم … لظلم عظيم.
لظلم للمرأة، وظلم للحق، واتهام للعقل، واتهام لحكمة الله سبحانه، وافتراء على تشريعه، وتعد عن حدوده ان يقول قائل من الناس: المرأة مظلومة بفريضة الحجاب. ان يقولوا هذا القول ليوقعوا المرأة في الشبك الذي نصبوا، وفي الحفيرة التي حفروا؟!
لتقع المسكينة في ايديهم وبين انيابهم واظفارهم فريسة شهية الطعم ميسرة الاصطياد، انى اتجهوا وانى كانوا، في الشارع وفي السوق وفي المقهى والمطعم، وفي أي مكان ولجوا او ارادوا.
خاص او عام !!.
لتتحقق لهم هاهنا في بلاد الشرق وفي بلاد الاسلام اباحية وجدوها او حدثوا عنها في بلاد الغرب او في الدنيا الجديدة.
ان الشرق لن يخادع بعد بالاحلام والأوهام. وان المسلمين لن يغروا عن دينهم بعد ان علموا حق العلم ان دينهم هو مصدر قوتهم وموحد كلمتهم. ولن يحققوا اماني المستعمرين في بيوتهم. ولن يحتفظوا ببذور الاستعمار وجذوره في نفوسهم وقلوبهم وفي طباع فتياتهم وفتيانهم. انهم لن يفعلوا ذلك ابداً. وحسبهم تجارب اليمة قاسية عرفوها لحقائق الغرب فكيف بأباطيله !!.

ـ 3 ـ قد تخادع الفتاة عن امرها

ـ 3 ـ قد تخادع الفتاة عن امرها فتبرز كما يشتهي الهاوون الغاوون (كاسية عارية)، ويقضي الشياطين منها لباناتهم بالمغازلة والمعايشة. وبالنظرات الخائنة المسعورة … الى آخر ما وضع للانطلاق من حدود. ان كانت للانطلاق حدود. وكانت لهذه الحدود نهاية.
ولكن الشاب لن يخادع عن امره ولن يختار فتاة كهذه لشركة حياته.
لن يختارها ابداً لشركة حياته وان افتنت له بضروب الاغراء … واذا اختارها لوجود حالات او اسباب تفرض عليه هذا الاختيار فانها لن تحتل من قلبه منزلة الزوجة الكريمة التي يجد السعادة بالسكون اليها.
انه يجد هذه الفتاة لقمة مبتذلة. والابتذال يسلب الكرامة وقد يزلزل الثقة.
انه يجدها لقمة مبتذلة له ولغيره على سواء. وهذا ما لا يرضاه في قرارة نفسه لفتاة يود ان تكون خالصة له دون من سواه كما تود هي ان يكون خالصاً لها دون من سواها … انه لن يرضى ذلك في قرارة نفسه ابداً، ولن يعد الاقتران بمثل هذه الفتاة زواجاً سعيداً يسكن معه الحنين الطبيعي الى الزوج، ذلك السر العميق الذي اودعته القدرة الخالقة في طبيعة كل كائن من كل نوع، والذي بسببه تأتلف الأزواج وتتفاعل العناصر من جميع الأشياء.
انه لن يرضى ذلك في قرارة نفسه ابداً، وما تزال القيم الخلقية تعمل عملها في صدور الناس اجمعين.
قد تخدع الفتاة ويلبس عليها الأمر باسم الحرية واسم التمدين واسم الفن واسم الفن واسم الثقافة واسم العلم، واسم التقدم، ولا يضيق على الماكرين ان يدرجوا في القائمة اسماءاً كثيرة اخرى يطيلون بها العدد ويخدرون بها الفريسة.
قد تخدع الفتاة بهذه الأسماء وبما سواها من المغريات فتهتك الحجاب وتبرز الى الميدان … الى الميدان الذي اراده لها الرجل، وقال لها عنه انه ميدان الحياة، وما هو إلا ميدان الشهوات، وإلا فأية خاصة من الحياة الرتيبة السعيدة كانت تنقصها وهي في حجاب العفة الذي ضربه عليها الاسلام اذا وفيت لها الحقوق العادلة التي قررها لها الاسلام.
ويسير ان تصنع الفتاة ذلك ما دام الرجل يرغب فيه ويصر عليه ان يكون، فان الرغبة الأثيرة في نفس الأنثى هي ان تغري الرجل وان تثير اعجابه وتحقق رغائبه، على ان الفتاة وقدة كوقدة الفتى، لن تفترق عنه في شيء إلا في شدة الحياء، هذا الحجاب الخلقي الستير.
يسير ان يلبس الأمر على الفتاة، وان تغر بشيء من هذه السبل فهي محببة اليها … ولكن ماذا بعد ذلك؟
بعد ذلك ان يستغويها الغاوي، ثم ينفر بعيداً منها كما ينفر الوحش، أو «كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر. فلما كفر قال اني برئ منك اني اخاف الله رب العالمين[1]».
نعم ولا تزال المجتمعات ظالمة في بعض عاداتها فهي تدين الاناث بما لا تدين به الذكران.
ذلك هو منطق الغريزة المسعورة، والغريزة لا ضمير لها ولا وفاء، ولا ثبات لحكمها ولا دوام، وذلك هو حكم ازدواج الشخصية، فان المرء المستسلم لغريزته لا بد وان يتقمص في ذاته شخصيتين متباينتين:
حيوانية تؤثر الانطلاق، وهذه التي تبتدئ الشوط بخداع الفريسة لاخراجها الى الميدان.
و(ايديولوجية) تقدس القيم، وهذه تجيء في نهاية الشوط، وعلى يدها يتم نحر الفتاة.
الا ترى انصراف الشبان عن الزواج الشرعي هذا الانصراف الكبير؟ ان ما ذكرنا، يفسر لنا جانباً كبيراً منه.
لا يتزوج الشاب المتعلم لأن المجبة من الفتيات غير متعلمة في الغالب، فهو لا يرتضي الاقتران بها لجهلها، والسافرة منهن مبتذلة، فهو لا يترضي الاقتران بها كذلك لابتذالها، لا يتزوج الشاب لأنه لا يجد الفتاة التي يرتضي ثقافتها ويرضى سلوكها، وهو يصرف طاقته من طريقها المحرم اذا كان يستبيح ذلك … وإلا فهو الكبت، والعقد النفسية، والعصاب المضني المهلك، او الزواج غير المرضي وغير المنسجم، وهي الاضطرابات النفسية التي ستنتقل الى الاطفال فيما ينتقل اليهم من ميراث، وهي الجناية الكبرى المختارة أو غير المختارة على جيل محبب برئ؟؟

ـ 4 ـ والفتى؟

ـ 4 ـ والفتى؟ هذا الذي كان له في فصول الرواية دور البطل الجبار المخادع، اتراه يمر هكذا سالماً من اخطار هذه التجربة؟
ان الوقدة الملتهبة المضطرمة في اعصابه هي التي الجأته الى اتخاذ الموقف لما ارخى لها العنان، وهي التي صورت له المجون تحرراً، واثبتت له التحلل رشداً، وهي التي اوحت اليه ان يقول كل الذي قال، وان يفعل كل الذي فعل، بلى، وهي التي وضعت له المقاييس الملتوية الملتاثة عن المرأة وعن حقوقها فدافع وناضل وكتب وخطب، واشتد وتحمس.
وما كانت لتبلغ به هذا المبلغ كله لولا التحريض الدائم المتكرر الذي يتلقاه من الأنوثة الخليعة العارية في كل سبيل يمر به وفي كل مكان يدخله، وجوعة الطعام يزيد في سعارها منظر الأكل اللذيذ، وما كانت لبتلغ به هذا المبلغ لو انه كان صارم الارادة قوي الشكيمة، سديد التفكير، لو انه كان كذلك فملك الزمام، واحسن القيادة، واخلص في التوجيه، وما كانت لتبلغ به هذا المبلغ لو انه اسلم قياده لدين الله فاتبع هداه والتزم مناهجه ووقف عند حدوده.
ولكنه انطلق … ولكنه جمح … ولكنه اسلم قياد نفسه وعقله وكل مواهبه لغريزته المتوقدة المشبوبة.
والتحريض الذي يتلقاه في كل نظرة، والتشجيع الذي يناله في كل مغازله … فماذا ينتظر منه بعد كل ذلك؟.
ماذا ينتظر منه بعد ذلك غير ان تثور الغريزة فيه الى اقصى حدودها، وان تلتهب الى اشد وقدتها. وان تلتهم كل طاقاته وتستعبد جميع مواهبه ومشاعره، وان يغلب الجانب العاطفي منه على جانب التفكير فلا يعود صالحاً لبناء مجد. ولا لاقامة سؤدد ولا لاعلاء نفس. ولا لاسعاد أمة.
ميوعة وتحلل، وازدواج في الشخصية، وترهل في الخلق وضعف في الارادة، وخور عن احتمال العظائم من الأمور، ومسخ في معالم الرجولة.
هذه مواريث الاختلاط والانطلاق مع الشهوات والقاء الحبل على الغارب فيها، فهل يرغب الشاب منا ان يهبط الى هذا الدرك وان يحتم على مستقبله بهذا الخسار؟.
ودع عنك العقبى التي يتحدث عنها الدين وينذر بها الناس اجمعين، عقبى الجرأة على الله سبحانه بانتهاك حدوده وارتكاب محرماته.
ولقد رأينا بأبصارنا ما يصدق هذا القول في الغرب نفسه، في الغرب الذي ابتدع هذه البدع واختط هذه الخطط، ثم سار عليها وسار على اثره المولعون منا ومن غيرنا بالتقليد.
رأينا ما يصدق ذلك في فرنسا نموذج الغربيين في الخلاعة وقدوتهم في الانطلاق، حين ادركتها الحرب العالمية الثانية ولم تبق فيها الخلاعة من سمات البطولة والرجولة شيئاً يستحق التقدير، نعم رأينا هذه الدولة حين ادركتها هذه الحرب كيف طأطأت رأسها لأول لطمة ورفعت يديها عند اول هجمة، كيف رفعت يديها كلتيهما لتتقي وتستسلم في آن واحد، شيمة الخاشع الضارع الذي لا يقوى دفعاً ولا يملك نفعاً؟؟.
وما ظن القارئ بأمة اضطرت الى ان تعفي خمسة وسبعين الفاً من جنودها عن الخدمة، وهي في اشد المآرق وفي امس الحاجة، في السنتين الاولتين من سني الحرب الأولى، اضطرت الى ان تعفي هذا العدد الضخم من الجنود وتبعث بهم الى المستشفيات لأنهم اصيبوا بمرض الزهري؟ وما ظن القارئ بأمة يبتلي منها بهذا المرض وحده مأتان واثنتان واربعون جندياً في آن واحد في ثكنة متوسطة. ويموت منها ثلاثون الف نسمة بهذا المرض وتوابعه في كل عام؟ وما ظن القارئ بأمة بلغ تمكن الشهوات فيها مبلغه المفرط حتى اوهن الأعصاب منها وخلخل الأركان، وكان ان يأتي على القوى في الأجساد، وحتى اضطر حكام الجيش فيها ان يخفضوا من مستوى القوة والصحة التي تفرضه الأنظمة في متطوعة الجيش.
اضطروا ان يخفضوا من المستوى الصحي للمتطوعة في كل بضع سنين لأن الأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط المقررة يقلون عليممر السنين، وهي لا تزال علي هذه الضرورة المتزايدة وهذا التدرج في الضعف منذ اوائل القرن العشرين.
ما ظن القارئ بأمة هذا رصيدها الصحي للجيش الذي تريد منه حماية البلاد ودفع العدوان؟!
اما الحياة العامة فيها فيقول عنها (بول بيورو) العالم الاجتماعي الفرنسي المعروف:
«ان من اراد من الباحثين ان يطالع حياتنا المدنية من خلال هذه النماذج للحياة التي لا يزال يعرضها كتاب مسرحياتنا منذ ثلاثين أو اربعين عاماً فلا جرم انه يستنتج ان جميع الأزواج المتزوجة في مجتمعنا قوم خونة متجردون من الوفاء اللازم للعشرة الزوجية فيكون كل زوج اما بليداً غافلا أو يكون لزوجته بلاءاً ونكبة، واما الزوجة فأحسن خصالها ان تكون في كل حين متبرمة من زوجها وتكاد تميل بهواها عنه الى غيره»[2].
نعم وهكذا تفعل الميوعة وهكذا يصنع التحلل وهمود النخوة وخمود الجذوة.
طأطأت للذل والاستكانة دولة كانت تزعم انها ثانية دول الدنيا في القوة واولاها في التمدين، ولم تعدل من موقفها جيوش جرارة من حلفائها تخف لنصرها وادوات جبارة تقف في ظهرها، فهل نطمع في تجربة اكبر من هذه التجربة؟ وستكشف الليالي عن تجارب وتجارب تذكر للعبرة وتسجل للتأريخ.
ستكشف الأيام ذلك ولا محيد، وسيراه الراؤون، فان غاية الشيء لا تنقطع عنه، ولا بد من ظهورها في اعقابه متى تمهدت لها الفرصة وصحت لها المناسبة.
وليست الكارثة كارثة فرد أو افراد، ولو كانت كارثة فرد لأمكن الاستغناء عنه، بل ولوجب ان يستغنى عنه كما يجب قطع العضو الموبوء عنا لجسد السليم.
انها ليست كارثة افراد ولكنها كارثة امة، وكارثة الأمة ماحقة ساحقة لا يمكن التغاضي عنها ولا يسوغ التساهل فيها.

ـ 5 ـ والأسرة؟

ـ 5 ـ والأسرة؟
لقد عرفنا العقابيل التي تنالها من هذا الداء الوبيل.
عرفنا انها ستكون قلقة النشوء قلقة الاستقامة.
فالشاب لا يرغب في ان يبتني اسرة، لأنه لا يجد الصفات التي يعتبرها في الزوجة الصالحة والتي يعدها في قرارة نفسه شروطاً للتزويج السعيد.
لا يتزوج الشاب لأنه لا يجد الفتاة التي يبتغيها ويرتضي ثقافتها ويرتضي سلوكها.
نعم ففتاة احلامه غير فتاة شهواته.
هذه للمتعة العابرة وللسلوة الحاضرة وللتلهي القصير الموقوت، اما تلك فللمجد يورث وللذكر يبقى، وللحياة تهنأ، وللسعادة تكمل وتدوم، وللخلق العالي والسمات الكريمة تكتسب وتعطي وتتفاعل وتنسجم، وللسكن الروحي الدائم، وللحب المكين السعيد، وللذرية الطيبة تنبت في المغرس الطيب، وتغتذي من الصفات الطيبة، وتربو وتتربى في الحجور الطيبة المهذبة.
لا يجد الشاب هذه الفتاة الصالحة فيمن يعرف من النساء، ولذلك فهو يفر من التزويج، لأنه يجده وثاقاً يقرنه بمن لا يرتضي، يفر من التزويج، لأنه يجده وثاقاً يقرنه بمن لا يرتضي، يفر من التزويج بعيداً بعيداً ويعتذر لمن يسأله عن سبب فراره بسني التعليم وسني التجربة في المهنة وسني جمع الذخيرة لهذه الشركة الدائمة، يعتذر بهذا وبأمثاله لمن يسأله، وانه ليعلم حق العلم ان فراره من التزويج لأمر آخر لا يتصل بشيء مما يقول، ولو انه وجد فتاة احلامه لما وجد مساغاً لكل ذلك او لما وجد مساغاً لبعضه على ادنى التقارير.
[1] الحشر : 16.
[2] يراجع فيما يتعلق بهذا الفصل ص 105 ـ 113 من كتاب الحجاب للاستاذ ابي الأعلى المودودي.
وقد تضطره الحال، وقد تضطره التقاليد، وقد يضطره الاغراء فيختار لنفسه زوجة ويبتني له اسرة، ولكنه يفعل ذلك ليخلق لنفسه ولزوجته المسكينة ولأطفاله الأبرياء الأطهار مشكلة عصية الحل بالغة الآثار عميقة الجذور.
نعم فستخمد الثورة، ويزول الاغراء وتخف المجاملة، وسيحاول جاداً ان يوقف زوجته عند الحدود التي يراها ويفهمها والقيم الحقيقية التي يقدسها، وسترى الزوجة ان ذلك منه يحد لحريتها، فانها لم تعتد هذا النوع الذي يؤمي اليه من السلوك، ولم تألف هذا الضرب الذي يفرضه من القيود، وستغرس النبتة عند اولى محاولة منه واولى مخالفة منها، وستنمو النبتة وتربو وتكبر وتثمر، وتجتني الأسرة ثمرها مراً كالصاب، لاذعاً كالنار، فاتكا كالسم، وسيزداد الأمر تعقداً كلما طال المدى فازداد هو في الاصرار وازدادت هي في العناد.
والأطفال الابرياء؟
انهم سينشأون في منزل لا طمأنينة فيه ولا قرار، وفي اسرة لا سكون لها ولا انسجام، وبين قلوب لا تعادل بينها ولا وئام، بل وسيرثون القلق والعقد والعصاب النفسي من (الجينات) التي تتمازج بالتلقيح، وسيتلقونها دروساً عملية مكررة من نظرات الشزر بين الأبوين ومن الآهات الخفية والحركات القلقة عند اجتماعها، ومن كلمات الشجار، وابتسامات الهزؤ في احاديثهما اذا هما لم يتجاوزا هذه الحدود.
سيكون هذا ميراث الأطفال الابرياء من جرثومة التلقيح، وسيكون هذا غذاءهم مع الرضاع ومع الطعام، وقبل الرضاع والطعام، وستكون على هذا تنشئتهم مع الايحاء والتلقين، فماذا ينتظر من مستقبلهم؟
ما هذا؟.
لقد ذهب الابتذال بمناعة الفرد وبمناعة الأسرة، وخلخل الضوابط والروابط حتى لا قاعدة ولا مرسى !.
ويهون الأمر ويخف وقعه لو ان جميع نوازع الانسان وجميع هواجسه ومشاعره اصطلحت على ذلك كالحيوانات الطليقة مع الهوى المرسلة مع الغرائز، اذن لأصبح الانطلاق الى حد أو لا حد امراً طبيعياً لابن آدم، ولاستراح بذلك من التناقض والانحلال والقلق والآلام والعقد المضنية المهلكة … ولكن:
هيهات ان يعود هذا المخلوق حيواناً بعد ان خلق انساناً يفكر ويتدبر، ويزن ويقارن، ويستقرئ ويجرب، ويتحدى الطبيعة ويبتكر الأعاجيب ويكتشف الغوامض ويستنطق الصوامت، وهيهات ان تصطلح ركائزه كلها على الانطلاق فقد اودعت في نفس هذا الكائن ركائز عديدة متنوعة الاتجاه متخالفة الهوى، ولن يوفق ما بينها سوى الاعتدال.
سلوا الطب عن عوارض التبذل، وسلوا علم النفس عن اخطار المراهقة، سلوه عن العقد التي يوجبها التحلل، وسلوه عن اوباء الاندفاع مع الهوى وعن مخالفاتها في نفسية المجتمع وفي صلات افراده، وسلوا علم الاخلاق عن قيمة الاعتدال وقيمة الحفاظ وضبط النفس، ودعوا الذين لمن يطيب له ان يسأل الدين.

ـ 6 ـ وفي الرجال مخدوعون مغرورون

ـ 6 ـ وفي الرجال مخدوعون مغرورون ايضاً كما تخدع الفتاة عن سترها وكما تغر.
هؤلاء هم الآباء المساكين يخادعون عن بناتهم ونسائهم واعراضهم فيدفعون بها الى التيار مخلصين راغبين !.
وبدهي ان باعث هؤلاء الى صنيعهم هذا، شيء غير النهم الجنسي الذي تحدثنا عنه من قبل. ان هؤلاء مخدوعون باسم العلم وباسم التقدم والحضارة. بهذه الأسماء الضخمة الفخمة التي يكررها انصار الخلاعة ومقلدة الغرب، وليس من الصعب على احد ان يستخدم العناوين الهائلة أو المحببة وفوق ما يريد.
طلاء من اللفظ يزوقونه ويرددونه، ويمنعون في تزويقه ويكثرون من ترداده لأنه ذريعتهم الوحيدة الى ما يبتغون، كأن اللفظ وحده دليل صواب الفكرة وان خوى من المعنى، وكأن الدعوى بمجردها هي برهان ثبوت نفسها وان خلت من الصدق !!.
ما هذا العلم الذي يفرض على الفتاة ان تتعرى وان تتبذل؟! وما هذه الحضارة وهذا التقدم اللذان يحتمان على الآباء انيجردوا بناتهم، ثم يخرجوهن الى الشارع. الى النظار … الى المتفرجين المتفرنجين؟!.
ما هذا؟ وما حقيقته؟.
انه شيء لا يفهمه حتى العلم ولا تفقهه حتى الحضارة ولا يعرفه حتى التقدم !!.
العلم فريضة دينية، وفريضة اجتماعية، وفريضة نفسية، وفرضها على الرجل والمرأة وعلى الفتى والفتاة سواء بسواء، كل على قدر طاقته، وكل حسب استعداد مواهبه، والاسلام احرص الأديان على ذلك واكثرها اصراراً عليه وحثاً على تحصيله، ونصوصه على ذلك مشهورة مأثورة، وقد جرى اكثرها لشهرته مجرى الأمثال، وليس هذا موضع جدل ولا مساغاً لشك.
ولكن: ايجب ايضاً ان تتحد معاهد التعليم وتختلط، ليجب خلع الستار والعذار؟!.
لم لا تؤسس لفتياتنا معاهد صحيحة تعلمها العلم وتصون لها الحياء والكرامة في وقت واحد؟.
ولم نفرض عليها الاختلاط في المعهد لنسأل، محقة، عن الفرق بينه وبين الاختلاط في الشارع وفي المجمع؟!.
ولعل الاختلاط في المعهد انكى ضراراً وامضى اثراً من الاختلاط العام، ذلك ان معهد التعليم يضم الصفوة من رجال الغد وهم معقد الأمل ومناط العمل، فانتشار الداء فيهم شلل للاعضاء العاملة في المجتمع وابادة للطاقة القوية في الأمة.
والتقدم والحضارة، هل معناهما التقليد البليد لعادات الغرب والاتباع الأعمى لخطواته والرجع المردد لنغمائه، على غير تمييز بين النافع منها والضار، وبين المعوج والمستقيم؟
من القبيح بالأمة ان لا تكون مستقلة بذاتها حتى في هذه البداءة، وحتى لا تفكر إلا بعقول غيرها ولا تشعر إلا بشعوره ولا تنظر في مصالحها وصوالحها إلا بمناظره !!.
من القبيح بالأمة ان تكون امعة الى هذه الحدود ! والذي لا يستطيع ان يفكر لنفسه ولا يستطيع ان ينتزع عوائده من صميم حياته ومن ملابسات مجتمه كيف يؤمل به ان يسمو الى ذروة او ينهض باعباء؟!.
والتقليد معرة كبيرة شديدة، فمعناه الصريح هو الجهل، ومرده الواضح هو الضعف وفلسفته الغريبة هي الصغار وعدم الاستقلال، وهو في المجتمع اشد نكاية منه في الفرد.
وقد لا تلام الأمة عليه اذا كان تقليداً فيما ينفع، فان من العقل ان يفيد الانسان من تجارب غيره، ولكنها تمتهن وتحتقر ويسخر منها ومن سلوكها اذا كان تقليداً في ما يضر، وتكون اكثر استيجابا للمهانة والزراية.
والسخرية اذا كانت تعتقد مع ذلك ان هذا التقليد ضروري لها ولحياتها، لأنه جهل مكرر، وضعف متمكن، وصغار ذاتي قاتل، وهذه هي الادواء الأولى التي تفتك بالامم وتقتل معنوياتها وتحكم عليها بالدمار وعلى امجادها بالاندثار.
والتبرج خدعة من خدع المستعمر الظالم ينشد منها اقصاء المسلمين عن دينهم وزلزلتهم في عقيدتهم، وتنكرهم لشريعتهم، ودين الاسلام هو الحرب الأول على الاستعمار، وهو القوة الكبرى التي لا طاقة له بها وهو الرباط الوثيق الذي يجمع قلوب اتباعه علي الأخوة ويؤلف بينهم على العقيدة، ويكفل لهم بالنصرة، ولقد جرب المستعمر ذلك بنفسه حين اعد جميع قواه واستحث جميع اعوانه وشن على الاسلام حروبه الصليبية التي استمرت مائة عام.
اجل ان دين الاسلام يأبى الاستعمار بشتى الوانه، ويحاربه بشتى طرائقه ويعمل جهده لاقتلاع جذوره وابادة بذوره، ويعد له ما استطاع من قوة، ويجهز ما امكن من عدة، ويجند الضمائر والعقول والنفوس الكفاحه قبل ان يجند الاجسام والقوى، فلا بد للمستعمر من حربه في نفوس اتباعه وعقولهم، ولا بد له من كفكفة سلطانه على قلوبهم وضمائرهم اذا كان جاداً في استعمارهم.
والتمادي في الشهوة امر محبب للكثير من الناس، والحد منها عملية لا تروق للكثرة من هذا الكثير، ومن خصائص الدين مطلقاً ـ ودين الاسلام على الخصوص ـ انه يربأ بالانسان ان تستبده الشهوة وان تستنفذ كل طاقاته وتستغل جميع نشاطه، وانه يضع للمسألة حلا عادلا فاصلا ينصف فيه هذه الغريزة من الانسان ولا يحيف فيه على ما سواها من الغرائز والركائز التي ركبت فيه.
وبذلك سنحت للمستعمر الفرصة التي ينتظر، وتهيأ له المجال الذي يطلب، فمهد للخلاعة في الأوساط المسلمة، ومكن للشهوات فيها ان تنطلق، وجعل الاختلاط حتى في معاهد العلم واشاع انها الحرية وانه التحضر والتقدم.
صنع ذلك لأنه يدري حق الدراية ان الشهوة متى استمكنت في النفوس ثقل عليها ظل الدين، وتمنت زواله، ورغبت في كفكفة سلطانه، ولقد اشرف على الغاية وأوشك ان يحصل على الثمرة، لولا ضربة الله … لولا ضربة الله التي سينالها كل من يتنكر لدينه، ولولا قدرة الله التي تعهدت بحفظ كتابه.
الحضارة والتقدم تطور في الثقافة وتمكن في العلم وارتقاء في الصناعة وارتفاع في الانتاج والعمران، والحضارة والتقدم علو في الأخلاق واستقامة في السلوك وصدق في المعاملة وقوة في الحفاظ واعتصام بالكرامة، والحضارة والتقدم التفاف من الامة حول مبادئها القويمة واستمساك منها بدينها الحق وقيمها العالية وجميعها لأسباب القوة وتوكيدها لوشائج الأخوة وتعزيزها لمظاهر التضامن.
وليس من الحضارة ابداً ولا من التقدم ولا من العلم ولا من المدنية، الا تضاع بالموازين والهبوط في القيم والترهل في السلوك والتملق للشهوة.
ليست هذه الاشياء من الحضارة ولا من التقدم ولا من العلم ولا من المدنية في شيء ابداً وان اتخذت اسماءاً أخر وتحلت بسمات اخرى فان الواقع لا تغيره الأسماء ولا السمات.

ـ 7 ـ ومن عجيب حال بعض المسلمين

ـ 7 ـ ومن عجيب حال بعض المسلمين اليوم انهم اصبحوا ينظرون الى التبرج على انه ضرورة يقتضيها تطور الحياة وينظرون ـ تبعاً لذلك ـ في حكم الاسلام بوجوب الحجاب على المرأة على انه موطن ضعف في التشريع الاسلامي ولذلك فانهم يرون وجوب تغيير هذا الحكم تبعاً للتطور.
ومن اجل ذك فبعض الكتاب المسلمين يقف من هذا الحكم موقف المدافع المعتذر المتوجس من لصوق تهمة، المحاذر من عروض وصمة، فهو يتاول النصوص ويتجوز في الحقائق ويتنكر للتفسير ويتمحل في التاريخ، ويأتي في ذلك بما يمكن وما لا يمكن ليقولها صريحة فصيحة لا غمغمة فيها ولا خفاءة: ان الاسلام لم يأمر بحجاب وان التاريخ العربي والاسلامي لم يكن يعرف الحجاب.
ومن اجل ذلك فبعض المتسلطين من المسلمين يحاولون ان يخمدوا صوت الاسلام بوجوب الحجاب حتى انهم لو استطاعوا لحذفوا آيات القرآن التي تدل عليه !.
ولنتساءل جادين:
هل نظر هؤلاء كمسلمين أو غير مسلمين في آيات الكتاب الكريم ونصوص السنة المطهرة في الحجاب فوجدوها غير دالة ولا مشيرة؟.
هل درسوا ركائز حكم الاسلام بوجوب الحجاب فايقنوا ان هذا الحكم خلو من المصلحة بعيد عن الحكمة؟.
هل قارنوا بين حكم الاسلام وحكم غيره في هذه المشكلة فرأوا ان حكم غير الاسلام احرى بالقبول واحق بالترجيع؟.
لا. لا. انهم لم يتكلفوا شيئاً من ذلك ابداً ولكنه الضعف النفسي امام المغريات، وامام إدعاءآت الغرب ودعاياته ثم الاستسلاف لمقاييسه التي وضعها في المرأة ونظرته الخاصة لعلاقة الرجل بها وعلاقتها بالرجل.
نعم انه الضعف النفسي امام مغريات الغرب وامام ازيائه الحديثة المثيرة ودعاياته المشوقة واساليبه في الاستهواء والاستدراج، وامام قوته الهائلة وقد توهم الضعفاء ان للتبرج دخلا كبيراً فيها، وامام تقدمه في ميادين العلوم، وقد ظن الجاهلون ان للخلاعة اثراً عظيما فيه.
انه الضعف النفسي وكثيراً ما يكون الضعف النفسي وحده هو الدافع الأصيل لانسان الى اعتناق مذهب من المذاهب أو اختيار رأي من الآراء ثم يطفق بعد ذلك يلفق الحجج ويتكلف الشواهد على صحة اختياره يستر بها ضعفه، ويقنع أو يغالط بها عقله.
وإلا فأية حجة تستحق الاحترام اقاموها وهم يوجبون التبرج، واي نقد يستحق التقدير اوردوه وهم يمنعون الحجاب؟ اية حجة قوية واي نقد صحيح تمسكوا به وهم يرون هذا الرأي، ويمنعون فيه الى حد الافراط غير ترديد اقوال الغرب المبتنية على مقاييسه في المرأة وعلى نظرته للعلاقة بها، وكان عليهم ان ينظروا في هذه المقاييس وفي هذه العلاقة بما هم مسلمون او بما هم مجردون متحررون.
اما ان يأخذوا المقاييس والنظرات والدعاوى كما هي دون تحقيق ولا تمحيص ثم يحملوها كذلك على الاسلام أو يحملوا الاسلام عليها وان ابت نصوصه وانكرت قواعده واحتج تأريخه فهذا هو موضع الغرابة وهذا هو برهان الضعف.
ولنقف علي مجمل من هذه المقاييس لنعرف مبلغها من الصحة وقوتها على اثبات هذه النتائج الضخمة.

ـ 8 ـ الحرية:

ـ 8 ـ الحرية:
وهذه هي النقطة الأولى التي يرتكز عليها البحث ويبدأ منها الانطلاق في الحديث.
والحرية هي المعنى الذي اطنب في وصفه وفي الدعوة اليه كتاب القرن التاسع عشر والقرن العشرين في الغرب، واسهب في تمجيده ادباؤهم وخطباؤهم، وهي المبدأ الذي ادعى علي مشرع بعد ثورة فرنسا انه يدين به ويسعى لتحقيقه.
ولنتساءل مقدماً لنعين موضوع الحديث:
ألهذه الحرية المطلوبة حد تنتهي عنده ولا تتجاوزه، أم هي الانطلاق الكامل لا إلى حد ولا الى نهاية كما يقصد دعاة الحرية من غربين ومستغربين وكما يحملوه عليها من نتائج ويذكرون لها من آثار؟.
ان الحرية الفردية بهذا المعنى الواسع الشامل تعني الفوضى المطلقة التي تمزق المجتمع شر ممزق وتكتب عليه الدمار والبوار، بل وتمزق الفرد ذاته وتأتي على سعادته وعلى حريته هذه التي اريد لها الانطلاق فلا يمكن ابداً أن تكون ركيزة لقانون، ولا يمكن ابداً ان يشرع للحفاظ عليها قانون.
فاذا تعارضت الحريات الفردية ـ ولا بد لها من ان تتعارض، ولا بد لها من ان تتصادم اذا فرضنا لكل واحدة منها هذه السعة وهذا الشمول ـ فما هوموقف القانون ازاء هذه المعارضة؟ وكيف يستطيع مشرع القانون ان يضمن للحريات المتعارضة اطلاقها دون ان يضطر الى تقييد؟ واذا اعتدى احد الشخصين على حرية الآخر في هذا المجال فما دخالة القانون ازاء هذا الاعتداء؟ وهل يعد ذلك منه اعتداءاً يستوجب عليه الجزاء لأنه حيف على نصيب من الحرية، ام هو عدل لأنه اخذ بحقه المشروع منه؟.
واذا اضرت حرية الفرد او الأفراد بحق الجماعة فما هو الحل الصالح في ذلك وكيف السبيل؟!.
واذن فلا بد من تقييد الحرية التي يعترف بها القانون ويحترمها بأن لا تتصادم مع حقوق الجماعة ولا مع حقوق الأفراد الآخرين.
وبمقتضى هذه النظرة الأصيلة الفطرية فلكل فرد من الأفراد حرية تعترف بها الفطرة ويعترف بها العقل ويجب كذلك ان يعترف بها القانون، وهذه الحرية تستتبع حوققا يجب الحفاظ عليها والعمل لصيانتها في حدود ان لا تزاحم حريات الأفراد الآخرين ولا تهدر حقوقهم، ولا تزاجم كذلك مصلحة الجماعة ولا تهدر حقوقها، وللجماعة بازاء ذلك حقوق
ومصالح تعترف بها الفطرة ويعترف بها العقل، ويجب كذلك على القانون ان يعترف بها وان يعمل لصيانتها في حدود ان لا تهدر حقوق الفرد المشروعة وان لا تمحق شخصيته، وهذه هي النظرة الجامعة العادلة التي يجب ان يؤسس عليها القانون الجامع العادل.
اما اعطاء الفرد حريته التامة المطلقة، والاعتراف بتبع ذلك بأن له حقاً مطلقاً في نيل حريته هذه في جميع المجالات، وان اضرت بمصلحة الجماعة واوجبت حيفاً على حفوقها كما يقرره المبدأ الرأسمالي على علم بنتائجه هذه التي يستتبعها أو على غير علم، واما اعطاء الأمة الحق المطلق في شتى الاتجاهات والمجالات، وان اضر بحقوق الفرد وكبل حريته ومحق شخصيته، كما يقرره المبدأ الاشتراكي على علم بهذه النتائج التي تتبعه أو على غير علم.
اما النظرة الى احد الجانبين وحده واعطاؤه الحق الكامل والحرية الواسعة الشاملة، وان اضرت بالطرف الآخر وهدرت حقوقه، فهو حيف لا يمكن ان يتركز عليه قانون عادل.
وللاسلام نظرة ادق من كل اولئك واوفى بتحقيق العدل ونشر السعادة والسلام والوئام.
ذلك ان للحرية الفردية مجالات كثيرة، فكل غريزة من غرائز الانسان وكل نزعة من نزعاته، وكل رغبة من رغائبه تطلب انطلاقا وتطلب حرية بعيدة المدى، والنشاط الحيوي الذي يمد هذه الغرائز والنزعات والرغائب في الانسان محدود موقوت، وليس من العدل مطلقاً ان يعترف النظام لبعض هذه الغرائز او لبعض هذه النزعات بالحرية المطلقة في استغلال هذا النشاط وان اضر بالحريات الأخرى للفرد نفسه وبحقوق سائر الغرائز والرغائب فيه.
والنظرة الجامعة العادلة ان يعترف لكل غريزة في الانسان ولكل نزعة صحيحة فيه بحقها من النشاط ومن الاستجابة في حدود ان لا تحيف على حق غريزة اخرى، ولا على حقوق الجسد العامة، والرجل والمرأة في هذه النظرة الاسلامية الدقيقة سواء بسواء، فلكل فرد من الجنسين ان يتمتع بحريته، ما لم يزاحم حقاً او مصلحة اخرى للفرد ذاته، ورخص الشريعة الاسلامية وتشريعاتها في هذه المجالات هي الكاشفة عن التحديد الموضحة لمعالمه.
وبعد فان من اشد الامور غرابة ان يؤخذ مبدأ الحرية بمعناها الواسع الشامل مقياساً لتشريع الاحكام ثم لتشريع الأحكام في شؤون المراة وفي امر حجابها على الخصوص، ثم يريدون من الاسلام ان يجري معهم في هذا المدى وان يقرهم على هذه المقاييس وعلى هذه النتائج!!.
ومن هذا المبدأ بمعناه الواسع الشامل اشتقوا كلمة تحرير المرأة، وجعلوها علماً على جميعات ومنظمات تقام هنا وهناك.
وما احرى هذه المؤسسات بالانتشار، وما احقها بالتأييد، وما اجدرها بعطف الاسلام وحدبه وتأييده ودعوته، وما احراها بكل اولئك لو كان معناها تحرير المرأة من الجهل وتحريرها من الأوهام والخرافة، والتقاليد الباطلة، والعادات الجاهلة، وتحريرها من العبودية والتحكمات التي ضربت عليها في كثير من المجتمعات، وفي طويل من القرون، وتحريرها من النظريات الجائرة الوضيعة التي كانت لا تزال تنظرها بعض المجتمعات في الغرب والشرق وفي القديم والحديث.
ما احرى هذه المؤسسات بالانتشار وبالتأييد وبعطف الاسلام وحدبه عليها ودعوته اليها لو كانت ترمي الى هذه المعاني الصحيحة وما يتصل بها، ولكنهم انطلقوا بمعنى الحرية هذه التي اشتقوا منها كلمة التحرر الى ما تنكره الفطرة وينكره العقل وينكره الدين، فماذا ينتظرون من الاسلام بعد ذلك ومن الدعاة الناطقين باسم الاسلام؟!.

ـ 9 ـ مساواة الرجل والمرأة.

ـ 9 ـ مساواة الرجل والمرأة.
وهذه هي الركيزة الثانية التي هتف بها الغربيون، وبالغوا في الهتاف بها والدعوة اليها، واقاموا عليها حكمهم في شأن المرأة، وفي تعيين منزلتها من الرجل ومنزلتها من المجتمع.
الغربيون مثوى، والغربيون هوى.
هتف بها اولئك وصفق لهم هؤلاء.
المساواة التامة بين الرجل والمرأة.
ولنتبين جيداً ما تعني هذه المساواة التي يهتف بها الهاتفون.
المساواة التامة في حقوق الحياة؟ والمساواة التامة في حقوق الانسانية، والمساواة التامة امام محاكم العدل وسلطات التنفيذ، والمساواة التامة بين الرجل المسلم والمرأة المسلمة في حقوق الاسلام؟.
نعم، وكل اولئك قد كان، وقد قرره الاسلام وثبت قواعده واقام دعائمه وشيد بناءه قبل هتاف الهاتفين بعديد من القرون، فماذا يريدون غير ذلك؟.
مساواة المرأة للرجل في كل مجال وفي كل وجهة وفي كل نشاط؟.
فهل هذا من العدل؟ وهل هو مما تقره الفطرة؟.
فطرة الانسان السوي المستقيم الذي لا يلتوي ولا يخادع.
فاذا قسمت الطبيعة اعباء الحياة واثقالها الى قسمين متكافئين:
متكافئين في القدر، ومتكافئين في الاهمية، ومتكافئين في التضحية، ومتكافئين في التأثير، بحيث لا تستقيم الحياة ولا تنسجم ولا تسعد ولا ترقى ولا تدوم إلا بهما مجتمعين.
قلت: فاذا قسمت الطبيعة اعباء هذه الحياة الى شطرين متكافئين، ثم عهدت الى الانسان الذكر باحد هذين القسمين، والى الانسانة الانثى بالقسم الثاني، واعدت كل واحد من الجنسين لوظيفته المعينة بتكوينه وتركيبه، وبجميع اجزائه وابعاضه، فهل يسوغ لنا نحن ان نتجاهل هذا التوجيه الطبيعي الحكيم ثم نطلب من الأنثى ان تنهض باعباء الحياة جميعاً، بحصة الاناث منها وحصة الذكور؟!
إن القدرة الخالقة المديرة اعدت الأنثى بتكوينها وبجميع اجزائها لوظيفة في الحياة لن يستطيع ان يقوم بها اقوى الرجال واشدهم شكيمة وابرعهم حيلة، ومن الظلم والعسف ان نكلفها باعباء الرجل ايضاً.
اما ان المرأة اعدت بجميع اجزائها وبجميع خلايا جمسها اعداداً خاصاً يخالف اعداد الرجل في اجزائه وخلايا جسمه، فقد اصبح هذا من بدهيات العلم التي فرغ من تقريرها واثباتها ولم تعد مجالا للشك، وانظر أي كتاب شئت من الكتب التي يفصل فيها كيف يتكون الجنين، وكيف تتركب خليته الأولى الملقحة التي منها ينشأ، وكيف تتكاثر خلاياه وتتوالد، تجد الحقيقة التي لا مراء فيها ولا ريب.
تجد النظرية الثابتة التي لا خلاف فيها من احد ان الخلية الأولى الملقحة التي يتكون منها جسم الأنثى تتألف كروموسوماتها من (x،x) ثم تنشطر الخلية وتتكاثر بطريقة الانقسام. وكل خلية جديدة تتولد. هي من هذا النوع الخاص ايضاً. ثم تتصف الخلايا. ويتوجه كل صنف منها الى بناء جانب معين من الجسم او الى اقامة جهاز خاص من اجهزته.
ويتم بناء الجسم كله وتكوين اجهزته وغدده من هذا النوع الخاص من الخلايا. وتفرز الغدد وتتحرك الاجهزة وتعمل القوى داخل الجسم، وجميع امدادها من هذا النوع، وجميع انتاجها لاقامة هذا النوع.
وان الخلية الأولى الملقحة التي يتألف منها جسم الذكر تتألف كروموسوماتها من ( و) فاذا انشطرت الخلية وتكاثرت كانت الخلايا المتولدة عنها كلها من هذا النوع واستقام بناء الجسد وتم تكوين اجهزته من هذه المادة، ثم كان النشاط الحيوي في جسم الذكر كله متميزاً بهذا الطابع منطبعاً بخاصته.
اما الاجهزة الخاصة التي تختص بالأنثى والتي تختص بالذكر وتميز احد الجنسين عن الآخر، واثر هذه الأجهزة في توجيه النشاط وتوجيه الجسم وتوجيه السلوك، اما هذا وتوابعه فهو غني عن البيان.
انظر أي كتاب شئت من كتب علم الأجنة تجد فيها هذه الحقائق مشروحة مبسطة، فما معنى ذلك !.
ليس معناه ان القدرة الحكيمة الخالقة تعد الانثى بتكوينها لوظائف خاصة في الحياة تخالف وظائف الذكر، وتحملها اعباءاً معينة تشاطر اعباءه !.
واذن فهما متقابلان في مهمات الحياة، متقاسمان لأثقالها، متآزران على القيام بها، والعدل الكامل في التشريع ان يقدر هذا الاعداد الطبيعي فتوكل الى كل من الجنسين مهمته المعينة التي توجه اليها بتكوينه، وان يكمل اعداده لها بتربيته وتعليمه، وان يزود لها بتجارب المجربين والمجربات من اسلافه.
وعلى ذلك تركزت نظرة الاسلام في توزيع الوظيفة، وعليه أسس الأحكام والحقوق التي تخص المرأة والأخرى التي تخص الرجل، واقام العدل فيهما كلا بمقدار ما يحتمل وكلا بحسب ما اعد.
وبعد فصلة مسألة الحجاب بحديث مساواة الرجل والمرأة فيما يعتقدون: انه اذا وجبت المساواة التامة بين الذكر والأنثى كان من حق الأنثى ان تبرز الى ميادين الحياة، وان تزاول انواع النشاط فيها كما يبدو الذكر وكما يزاول سواء بسواء، فما حجاب وما نقاب؟.
اما وجوب ان تقيد الحرية الفردية بأن لا تزاحم حريات الافراد الآخرين وان لا تزاحم الحقوق العامة للمجتمع، وان لا تزاحم الحريات الأخرى لذلك الفرد نفسه، واما وجوب ان يراعى في مساواة الرجل والمرأة التوجيه الطبيعي الذي اودعه الخالق في تكوين كل واحد من الجنسين، اما هذا وذاك فلا يستوجب الاهتمام عندهم، لأنه يؤدي الى خلاف ما يشتهون! وما دين الله فانه يقول قولته واضحة المعالم راسخة الدعائم رضي بها من رضي واباها من ابى، (فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه، ومن ضل فانما يضل عليها وما انا عليكم بوكيل)[1].

ـ 10 ـ والنظرة المادية الخالصة التي دان بها الغرب

ـ 10 ـ والنظرة المادية الخالصة التي دان بها الغرب وفسر بها كل ما في الكون، فالمادة كل شيء فيه، وليس ثمة شيء سواها.
هي المبدأ الأول للكون والحياة والانسان، وهي الغاية الاخيرة لها جميعاً.
اليهاترد كل علة وتؤول كل نتيجة، وبها يتقوم كل مقياس، فلا علة ولا مبدأ ولا غاية ولا مقياس غير المادة.
ونتيجة معلومة محتومة لذلك فلا إله ولا رب، ولا دين، ولا خلق، غير لمادة وتوابعها، ومقتضياتها، وغير طرق توفيرها، ووسائل الحصول عليها والانتفاع بها.
وقد اصبحت هذه النظرة عقيدة متأصلة لدى الغربيين، درجوا عليها في سلوكهم، وفي تفسيرهم للاشياء وتقييمهم لها، وفي صلاتهم بالأشياء وبالناس وصلات الناس بهم، ولتمحيص هذه النظرة وابطالها وتبيين مواضع الزيف فيها كتب خاصة كثيرة اوضحت منها ما التبس، وفي الحلقة الأولى من كتابي (الاسلام) وفي مقدمة الحلقة الثانية منه (التوحيد في القرآن) بحوث لا يستغنى عنها في هذا السبيل.
النظرة المادية الخالصة التي نسفت هناك كل عقيدة بآله ودين، وقطعت كل صلة بخلق وشريعة، وابطلت كل تقدير لقيمة او تقليد، اقول: هذه النظرة المادية المجحفة هي المبدأ الأول لكل ذلك.
واذا كانت المادة هي كل شيء في هذه الحياة واليها ترد جميع العلل والمقاييس فيها فلماذا لا تزاحم المرأة الرجل في ميادين الكفاح من اجل المادة وفي سبل الحصول عليها، وهي مثيلة الرجل في التكوين ونظيرته في القدرة وعديلته في كل ما يؤهل لذلك؟
واذا لم يكن إله ولم تكن شريعة ولم تكن أسس ثابتة للخلق والقيم الرفيعة وللآداب العالية فلماذا تبقى المرأة تحت نفوذ الرجل وتحت سيطرته يتحكم في امرها كما يريد ويشرع فيها الاحكام والقوانين كما يشاء؟ لماذا لا يكون ذلك؟ ولماذا تبقى في كفالته وقيمومته ورعايته لا حول لها ولا طول، إلا حيث يفسح الرجل لها المجال ويطلق لها التصرف حسب شهواته وتحكماته؟ والحجاب هو مظهر ذلك.
والنظرة على ما يبدو وليدة غلو وحقد معاً.
هي وليدة مغالاة مفرطة في تقدير طريقة العلم التي التزم بها في اثبات النظريات واستنتاج النتائج.
فقد اخذ العلم على نفسه ان لا يؤمن بنظريته ولا يقر بنتيجة ولا يعطيها صفة الثبوت والقرار ما لم تثبتها التجربة وتشهد بصحتها الملاحظة، وانما التزم هذه الطريقة مفاداة عن مخادعة الحس ومغالطة الوهم.
وضروري ان المجال الممكن لشهادة الحس وشهادة التجربة وشهادة الملاحظة انما هي الأمور المادية وحدها، وما وراء المادة لا يمكن ان ينال بشيء من هذه الوسائل فهي خارجة عن نطاق العلم التجريبي.
وخروجها عن مجال العلم التجريبي وامتناعها ان تدرك بوسائله المحدودة لا يعني ابداً ان العلم ينكرها أو يتنكر لها.
إنها ليست من مجالاته الخاصة ليبحث فيها، فليتركها للفكر المجرد، والفلسفة التي تهمها هذه النواحي وتملك وسائل الاثبات فيها، وليتركها للدين الذي انزل لتصحيح هذه الناحية من التفكير الانساني، وزوده بما يسعف من البينات، وارشده الى ما يثبت، من ركائز الفطرة وضروريات العقل وموحيات الطبيعة.
هذا هو سبيل الانصاف الذي لم يعده العلم، ولم يفارقه رعيل كبير من العلماء، من العلماء التجريبيين، بل ومن اقطاب الحركة فيه، فهم يؤمنون بالله ايماناً لا ريبة فيه، ومنهم من يؤمن بالدين وبالخلق ايماناً لا مداجاة معه، وهم يعتزون بايمانهم ويجهرون به ويذكرون مثبتاته، واعترافاتهم بذلك مشهورة مذكورة.
اخذ العلم نفسه بهذه الطريقة في اثبات النتائج فتقدم تقدمه المطرد، وانتج نتائجه المدهشة، وفاز فوزه العظيم.
وافرط بعض الناس فاستمسكوا بهذه الطريقة ذاتها لاثبات كل شيء، فانكروا وجود ما لم يدركه الحس ولم تنله التجربة ولم تبلغه الملاحظة.
انكروا وجود شيء وراء المادة، لأن الآلات والملاحظات والتجارب لا تصل اليه. وما لم يصل اليه الحس والآلات والتجارب فهومعدوم واذن فما وراء المادة كله وهم وخداع. واذن فالله والدين والخلق وما يتبع ذلك وما ينتظم بسلكه كله وهم وخداع. هكذا اوصلهم الاستنتاج.
وهي بعد وليدة حقد مكين دفين.
حقد مكين على الكنيسة. وعلى رجال الدين الذي ارتكبوا الشطط في العصور الوسطى. وانتهجوا العسف، وتحكموا في رقاب الناس وفي دمائهم وفي اموالهم. وفي علومهم ومعارفهم. وحموا الاقطاع. ومكنوا لاستبعاد الضعفاء. وحاربوا العلم وشلوا المواهب. ونكلوا بأولي النبوغ من العلماء المفكرين. وفتكوا بأحرارهم. والتأريخ مليء بسوءآت هذه الفترة الظالمة المظلمة.
وكان من رد الفعل على هذه الاجراءات القاسية ان ينبذ الناس قول الكنيسة وإلهها ودينها ومعارفها. وكلما تدعو اليه وتؤمن به وتكدح في سبيله. ان يحاربوا الكنيسة في كل ما تعتقد وتقول به وترمي اليه.
وساعد هذا الحقد على الثورة. ومكن لتأثيره وانتشاره ما تحتويه معارف الكنيسة من التهافت. وما يتضمنه تشريعها من العسف. كانت الثورة الكبرى في القرن الثامن عشر. ثم كان من توابع ذلك ان رفض الناس هناك كل دين وكل ما يمت الى الدين.
والنظرة المادية للكون وليدة ذلك الغلو المفرط وهذا الحقد الثائر فلا ينتظر منها انصاف ولا اعتدال.
[1] يونس: 108.
وليس موضع الغرابة ان يستمسك بها غربي شهد ذلك العسف وقاسى آلامه ولمس آثاره، ولكن موضع الغرابة ان يستمسك بها ويدعو اليها مسلم ايقن بنبوة محمد (ص) وصدق بكتابه وآمن بشريعته، فكيف التوافق بين ذلك وكيف الانسجام؟!.
انها نظرة ملحدة، والقائلون بها من الغرب لا ينكرون منها هذه الصفة، بل ويجهرون بها عند نقد الأديان والأخلاق.
اما اصحابنا المسلمون الذين يرددون اصداء الهاتفين بها من سواهم فاكر المحامل رفقاً بهم انهم يجهلون.

ـ 11 ـ وتبعاً للنظرة المادية الآنف ذكرها

ـ 11 ـ وتبعاً للنظرة المادية الآنف ذكرها، التي طغت على الغرب وفسر بها الحياة وارجع اليها عللها وغاياتها، واقام العلاقات الاجتماعية عليها فماذا ينتظر لعلاقة الرجل بالمرأة اكثر من ان تكون علاقة ذكروة وانوثة يجتمعان لحاجة يفترقان عند انقضائها؟ ما ينتظر لها ان تكون اكثر من علاقة حيوان بحيوانة، لا ينشدان وراء المتعة الموقتة شيئاً، ولا ينظر احدهما الى الآخر إلا انه موضع الاستجابة لفاقته الجنسية.
واذا استظلا معاً تحت سقف واحد او استكنا بين جدران منزل واحد فانما يقصدان بذلك ان يمهدا مكاناً معيناً لقضاء تلك اللبانة.
وما علاقة امرأة ورجل لا تفتقر اليه إلا في هذه الناحية، وما علاقة رجل بامرأة لا يضطر اليها إلا في قضاء هذه المتعة؟
إن الرجل يجد مئات او الوفاً من النساء يفين له بهذه الضرورة اذا شاء، وان المرأة تجد كذلك مئات او الوفاً من الرجال يقومون لها بسداد هذه الفاقة اذا شاءت، فلماذا يتقيدان بشخص معين ويرتبطان بصلة معينة؟.
وان الانطلاق يوفر لهما اللذاذة ويضاعف لهما المتعة، ويعفيهما من التبعات.
اما عبء المعيشة فقد استقل كل واحد منهما عن صاحبه بالعمل وبالانتاج وبالنفقة، ولم يعد محتاجا اليه بشيء من ذلك، واما بناء الأسرة فما الحاجة اليه بعد ان امكن قيام المجتمع من آحاد متفرقة، فالكل للأمة والكل للدولة، والكل للوطن الجامع العام، واما غريزة الأمومة وغريزة الأبوة فما قيمتها بعد ان تغيرت الموازين وانقلبت المقاييس، وموانع الحمل ومسقطات الأجنة هي المفزع الذي يريح من كل اولئك.
واذا الحت غريزة الأمومة وغريزة الأبوة إلحاحهما الشديد، وضايقتا الأبوين مضايقتهما العنيدة فلا حرج في ان تحمل الأنثى ثم تعهد بالطفل بعد وضعه الى المحاضن والمراضع.
اما الامور والآثار الأخرى التي يتحدث عنها المثاليون من اهل العواطف، فقد تبدلت جميعاً بتبدل القيم وزالت بزوال التقاليد، وذهبت بذهاب الدين والشرائع والأخلاق.
ماذا ينتظر لعلاقة الرجل والمرأة تحت ظل تلك النظرة ان تكون اكثر من ذلك؟.
وماذا ينتظر للمرأة نفسها تحت ظل تلك النظرة وتحت ظل تلك العلاقة غير ان تندفع الى الميادين التي يندفع اليها الرجل هناك؟.
الى الميادين كافة كافة، ما يجمل ذكره وما لا يجمل.
والنتائج التي تترتب على هذا الاندفاع كلها لا ضير فيها ولا غضاضة، ما دامت تثمر المادة أو تثمر اللذاذة او تثمرهما معاً وما دامت المساواة بين المرأة والرجل يجب ان تكون تامة من كل وجه، وما دامت الحرية يجب ان تكون مطلقة في كل سبيل !!.
وفي وصف هذه الظاهرة، وفي بيان مدى تغلغلها في نفوس الغربيين يقول الاستاذ ابو الأعلى المودودي في كتابه الحجاب ص 155:
«سبعة او ثمانية في الألف هو معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا اليوم، ولك ان تقدر من هذا المعدل المنخفض كثرة النفوس التي لا تتزوج من اهاليها، ثم هذا النزر القليل من الذين يعقدون الزواج قل فيهم من ينوون به التحصن والتزام المعيشة البرة الصالحة، بل هم يقصدون به كل غرض سوى هذا الغرض، حتى انه كثيراً ما يكون من مقاصد زواجهم ان يحللوا به الولد النغل الذي قد ولدته المرأة قبل النكاح ويتخذوه لهم ولداً شرعياً»، ثم نقل عن العالم الاجتماعي الفرنسي (بول بيورو) ان ذلك قد اصبح من العادات الجارية في طبقة العاملين في فرنسا.
وفي ص 94 من كتاب الحجاب ايضاً يحدثنا عن العالم الفرنسي الآنف الذكر انه: «قد عاد من الهين المعتاد في (برغندي) و(بون) وغيرهما من الأقاليم ان تكون الفتاة قد عاشرت عدة من الأخدان قبل زفافها، ثم لا تجد في نفسها حرجاً من حكاية قصة حياتها الماضية لخاطبها عند الزواج، وكل هذا الفجور منها لا يثير سخطاً او كراهية حتى في اقاربها الأدنين، بل هم يخوضون في احاديث غرامها بانبساط، كأني بهم يتحدثون عن لعبة رياضية او شغل تجاري، واذا كان موعد النكاح ودخل الزوج الذي يكون عارفا لا بحياة عروسه السابقة فحسب، بل بأخدانها الذين قد بقوا يتمتعون بجسدها الى تلك الآونة ايضاً، فانه يحاول جهده، الا يبدو منه ما يوهم الناس ان بنفسه كدراً في شيء مما يعلم من مشاغل عروسه الماضية».
ويقول عنه ايضاً في ص 117: «ان زنا المحصنات والمحصنين لا يعد من العيب او اللوم في فرنسا، فاذا كان احد من المحصنين متخذاً خليلة دون زوجته، فلا يرى لاخفاء الأمر من لزوم، وبعد المجتمع فعله ذلك شيئاً عادياً طبيعياً في الرجال».
وعن كتاب تاريخ الفحشاء للكاتب الانجليزي (جورج رائيلي اسكات): «ولا تزال تكثر النساء اللاتي يزاولن العلاقات الجنسية قبل الزواج من غير ما تحرج، وفي حكم النادر والشاذ وجود الابكار اللاتي يكن في الحقيقة والواقع ابكاراً عندما يعقدون النكاح عقد الوفاء الأبدي امام منبر الكنيسة».
ويذكر الكاتب الأسباب التي افضت بأحوال المجتمع الى هذا الحد، فيعد من هذه الاسباب الولوع الفاحش بالتبرج الذي قد بعث في نفس كل فتاة اشد الحرص على الازياء الفاتنة من احدث الطرز، ثم حرية النساء المطلقة، فقد بلغ من ضعف رعاية الآباء ورقابتهم لبناتهم ان قد تهيأ لهن من الحرية والانطلاق ما لم يكن ميسوراً حتى للابناء قبل ثلاثين او اربعين عاماً، ثم تهافت النساء على الأشغال التجارية ووظائف المكاتب والحرف المختلفة حيث يختلطن بالرجال صباح مساء. ويقول بعد ذلك: «وقد حط ذك من المستوى الخلقي في الرجال والنساء. وقلل جداً من قوة المدافعة في النساء لاعتداءات الرجال على عفتهن. ثم اطلق العلاقة الشهوانية بين الجنسين منكل القيود الخلقية. فالآن اصبحت الفتيات لا يخطر ببالهن الزواج او الحياة العفيفة الكريمة. حتى صار اللهو والمجون الذي كان يطلبه في الزمان الغابر اوغاد الناس تطلبه كل فتاة اليوم».[1]
ثم ماذا؟.
ثم يريد القارئ مني ان انقل له كل ما ترجم عن الكتاب الغربيين في هذا السبيل؟ وقد سقت له هذه الشواهد ليعرف ان علاقة المرأة بالرجل هناك لم تعد اكثر مما وصفتها له في اول الحديث.
ومنع الحمل ووأد النسل المتشران انتشاراً عظيما في تلك الربوع، اليسا شاهدين على صدق تلك الدعوى؟ على ان علاقة الرجل بالمرأة علاقة شهوة مجردة، فهما يطلبان التخلص من نتائجها، ويلتمسان له الاسباب، ويبتغيان الحيل، ويفزعان الى الطب والى عقاقيره ومستحضراته وآلاته، وهي لديهم ميسورة موفورة، تباع في كل بلدة وفي كل قرية دون أي حذر ودون أي مراقبة.
فهل علمت ان ستماءة الف نسمة ـ على الأقل ـ يمنع توليدها في فرنسا في كل سنة على ما يقدر الاخصائيون من جراء هذه العادة المتشرة في البلاد، وان اربعمائة الف جنين اخرى تسقط من بطون امهاتها[2].
وان في امريكا يسقط مليون ونصف مليون حمل على اقل التقدير في كل سنة، يقتل آلاف من الاطفال من فور ولادتهم، على ما يقول القاضي الاميركي (بن لندسي) رئيس محكمة جنايات الصبيان بدنور[3].
وان 95 في المائة من العلاقات الجنسية الحاصلة اليوم بين الرجال والنساء يحولون بينها وبين نتائجها الفطرية بتدابير منع الحمل[4] ثم لا يعد هذا العمل لديهم اجراماً يعاقب عليه القانون.
هذه علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة المرأة بالرجل في ظل تلك النظرة المادية، فهل نطمع بشواهد اكثر ونتائج اكبر؟! وهل في هذا السلوك وفي هذه النتائج ما يشرف المرأة ويرفع من قدرها بل وما يشرف الرجل والمجتمع ويرفع من قدرهما؟!.

ـ 12 ـ «ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجاً لتسكنوا اليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون»[5].

ـ 12 ـ «ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجاً لتسكنوا اليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون»[5].
في هذه الآية الكريمة يذكر الله سبحانه بعض خصائص الزوجية في ظل الاسلام، وبعض اللوازم التي لا تبارحها.
سكن نفسي وطمأنينة، ثم مودة ورحمة.
سكن نفسي، واذن ففي طبيعة كل من الزوجين حنين دائب وشوق ملح واضطراب لن يقر ولن يهدأ إلا بالانضمام الى زوجة، وهذا بذاته هو منطق الفطرة ليس فيه خفاء، وليس عنه معدى، واذن فهما شطران لا تنظر لهما الحياة ولا تسعد إلا بانضمامهما وانسجامهما.
ومن ادب القرآن الغالي انه نسب السكون الى الرجال خاصة كأن القلق والذبذبة والشوق الملح الى الزوج والفاقة الشديدة الى السكن في ظله مما يختص بالرجال وحدهم، ان خفر المرأة وشدة حيائها يقتضيان ان تبعد عن هذه النسبة في الكلام المهذب البليغ، وبعد ففي هذا التعبير القرآني تلميح الى ايجابية المرأة وسلبية الرجل في هذا السبيل !.
من آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجاً، من انفسكم ليس من معدن آخر وليس من مقومات اخرى ولا من طباع وغرائز اخرى، من انفسكم، تشعر بشعوركم وتحس بأحاسيسكم، من انفسكم دون فارق في صفات الانسانية وخصائصها عدى ما تتقوم به انوثة الأنثى وذكورة الذكر ويميز احداهما عن الأخرى.
والآية الباهرة ان تخلق من ذات معدن الرجل وبذات مقوماته الانسانية وبنفس طباعه وغرائزه وركائزه انسانة انثى لها مقومات الانوثة واستعداداتها تناسب الانسان الذكر وتسعد بسعادته ويجد كل واحد منهما الراحة والطمأنينة والاستقرار النفسي الدائم في ظل صاحبهما.
والمودة والرحمة ثمرتان محتومتان للانسجام في الطباع والانسجام في الأخلاق.
وهذا السكن النفسي الدائم، وهذه المودة والرحمة هو المهاد الذي تنشأ فيه الأسرة ثم تنشأ وتترعرع وتنمو وتشب فيه الأطفال، من هذه الصدور العامرة بالرحمة تغتذي، ومن هذه القلوب الفعمة بالحب تنهل وترتوي، وفي هذه المحاضن الآهلة بالعطف والحنان تتربى، ومن هذه النفوس المليئة بالطهر وبالطمأنينة النفسية تقتبس، ومن هذه الطباع والخلال والأخلاق المهذبة ترث.
هذه خصائص علاقة الزوجين في ظل الاسلام، وهذا هو نتاجها المرتقب وثمراتها المرجوة في تنشئة الجيل.
واذن فصلة الزوجين في ظل الاسلام صلة وثيقة مقدسة، لها ركائزها من الفطرة، ولها روافدها من المودة والرحمة، ولها قوامها من انشاء الاسلام وصنعه، ولها قوتها ومتانتها من مدد العواطف النبيلة المهذبة وقوتها، ومن نظرة الاسلام الدائمة ورعايته المتصلة، ومن طبع الصلات ذاتها حين تكون لها هذه الوطائد والروافد.
وضروري للفتى والفتاة اللذين ينشآن في ظل الاسلام ويؤمنان برسالته ويخضعان لنظامه ويتمثلان تعاليمه ان يعدا نفسيهما لهذه الصلة، وان ينظر كل منهما في امر صاحبه قبل الدخول فيها، فللنفوس رغباتها، وللحياة ملابساتها، وللمجتمعات اوضاعها وتقاليدها، ولدين الاسلام مقاييسه وموازينه، والحجاب في المرأة والعفاف في الفتى والفتاة من ابرز تلك الموازين، ومن اغلا ما يحافظ عليه الاسلام في هذا الشأن.

ـ 13 ـ لا يتم تكوين ابن آدم

ـ 13 ـ لا يتم تكوين ابن آدم حتى تتحد خليتان وتتفاعل مادتان: [خلية الذكورة وخلية الأنوثة]، وحتى تستقر الخلية الموحدة المركبة منهما في قرارها المكين شهوراً، وحتى تبذل في تنشئتها وتطورها وصيانتها جهود كثيرة متنوعة، جهود حيوية، وجهود مادية، وجهود معنوية.
حتى تنال من الأغذية ما يؤهلها للتطور، ومن المواد الكيماوية ما يصونها عن التعفن ويحفظها عن التلف، وحتى تتناصر على تقليبها قوى، وتتعاهد على امدادها وحراستها طاقات.
وللانثى وحدها كل هذه الجهود، ومنها وحدها كل هذا البذل، ما عدى خلية واحدة تحمل دون ثقل وتوضع دون ازعاج.
ولن يسعد هذا الجنين حتى تشقى هي بولادته، ولن يعيش حتى تجهد هي بتغذيته، ولن يدب حتى تسهر هي على تربيته، ولن يترعرع حتى تحدب هي على تدليله، ولن يستقيم اوده، ولن يشتد عوده، ولن تنشط مواهبه، ولن تتزن طباعه، حتى ينهل من اخلاقها، ويرتوي من حنانها، ويفيد من عرفانها، وحتى يكتسب منها بالميراث، ويكتسب منها بالرضاع، ويكتسب بالحدب ويكتسب بالتلقين، ويكتسب بالاشارة، ويكتسب بالايحاء. ويكتسب بالاقتداء.
فالمرأة نصف المجتمع في التعداد.
والمرأة ثلاثة ارباع المجتمع في الانتاج.
والمرة كل المجتمع في التقويم والتوجيه.
ومعنى كل هذا الذي قدمناه ان الطبيعة قد حملت الأنثى وحدها خدمة بقاء النوع. ولم تحمل على الرجل من هذه الوظيفة شيئاً ولم تكلفه بجهد.
هذه وظيفة المرأة التي جعلها الله لها في الحياة. وهذه هي مهمة المرأة التي اعدها لها في التكوين. في مشاعرها الرقيقة السريعة الانفعال. وفي عاطفتها المتوثبة المرهقة الاحساس. وفي مزاجها العصبي البالغ التحمل. وفي طبيعتها الغيرية التي تسعد باشقاء نفسها لاسعاد غيرها. وفي بناء جسمها وتركيب اعضائها واعداد اجهزتها وتكوين غددها واعصابها. وفي [تكوين الانسجة ذاتها وتلقيح الجسم كله بمواد كيماوية محددة يفرزها المبيض] كما يقول الدكتور الكسيس كاريل في كتابه: «الانسان ذلك المجهول» ص 114.
وبعد فهل هذه وحدها هي الجهود التي تنفقها المرأة في هذا السبيل. في سبيل بقاء النوع وتسلسل الحياة. هل هذه وحدها هي الجهود التي تنفقها المرأة وتترك في جسدها بالغ الضعف عن احتمال سائر الأعباء؟.
والجهود البدنية والنفسية التي تؤديها في فترات الحيض. وفي مدة الحمل. وفي زمان الرضاع. والأعراض الشديدة التي تنتابها. بل ولا تكاد تفارقها في هذه الأوقات. وقد احصى العلماء والاطباء المختصون من هذه الأعراض المؤثرة الشيء الكثيرة. واقوالهم واحصاءاتهم في ذلك مشهورة منشورة.
هذه هي وظيفة المرأة التي جعلها الله لها في الحياة. وهذه هي الجهود التي تنفقها في هذا السبيل. والاسلام يقدر لها منزلتها الكريمة ويشكر لها جهدها المضاعف. ويجعل لها المقام الذي احلتها الطبيعة. ويشرع لها من الحقوق والواجبات والاحكام ما يوائم مركزها وما يواكب حياتها. وفي كتاب [من اشعة القرآن] احاديث مبسطة في ذلك فليراجعها من يطلب
[1] الحجاب: للمودودي ص 141 ـ 143.
[2] الحجاب: ص 199.
[3] الحجاب: ص 40.
[4] الحجاب: ص 139.
[5] الروم: 21.
المزيد. وقد تقدم في بعض فصول هذا الكتاب ما يزيد الامر جلاءاً ووضوحاً. وقد قلت هناك واقول هنا مجدداً ومؤكداً:
ان الاسلام لم يمنع المرأة حقاً من حقوق الحياة، ولم يمنعها حقاً من حقوق الانسانية، ولم يمنع المرأة المسلمة حقاً من حقوق الاسلام، ويأفك من ينسب غير ذلك الى الاسلام ويجتزم في حق الدين العظيم وفي حق المرأة ويرتكب إثماً كبيراً.
بلى قد تقصر بالمرأة طبيعتها الانثوية في بعض المجالات أو في بعض الحالات، ولا منتدح لدين الله من ان يلاحظ الامر الواقع، لأنه انما يبني تشريعه على الضعيف ذات العبء الذي تحمله على القوي الابد، ومحال على الشريعة الجادة ان تكلف احداً ما تقتضيه طبيعة سواء.

ـ 14 ـومن دعاة التبرج والاختلاط من يتخذ الهزل حجة على ما يريد.

ـ 14 ـومن دعاة التبرج والاختلاط من يتخذ الهزل حجة على ما يريد.
يزعم هذا الفريق من الدعاة: ان الاختلاط بين الجنسين: الذكران والاناث، ورفع الحجاب والحواجز بينهما يوجب لهما التصريف النظيف !! وان الذكر والأنثى معاً يأمنان بذلك من الانزلاق !!.
هذه احدى حججهم لما يقولون، افتستطيع تكذيبها؟؟.
أحضر امام جائع منهوم مائدة شهية المآكل متنوعة الألوان، ودعه يتمتع برؤيتها ساعة او اكثر من ساعة لتستيقن صدق هذه الحجة التي يقيمون.
دعه يتملى بالنظر الى صحافها واحدة واحدة. ويستنشيء روائحها عرفاً عرفاً، ويتقصى الوانها لوناً لوناً، ويعدد فواكهها فاكهة فاكهة، ويعيد النظر ويستانف التعديد والاستقصاء.
دعه يمتع بصره وحواسه كذلك ساعة أو ساعتين ثم سله ألا يزال جائعاً بعد؟ الم يملأ عينيه بالنظر وانفه بالعطر، وذهنه بالتعداد وبالتصور ونفسه بالمتعة، فكيف تبقى جوعته بحالها؟.
ان متعة العين بالنظر الشهي ومتعة السمع بالحديث الملذ ومتعة الحواس الأخرى بالمدركات الجميلة المحببة لن تسد نهمة الجنس ولا جوعة المعدة يا اساتذة، ومن يدعي غير هذا فانما يكذب نفسه وتكذبه البداهة من كل عقل.
وانا اعلم ان المتعة الجنسية متعددة الطرق متنوعة الاساليب، وان الاجتماع بالانثى ونظرة الغزل اليها والانصات الممتع الى حديثها بعض هذه الطرق التي تنطل بها الغريزة، اعلم ذلك جيداً، ولكنني اعلم جيداً كذلك ويعلم القراء معي ان الهدف الاكبر للغريزة امر وراء هذه الصغريات، ونعلم جيداً ايضاً ان الهدف الاقصى للغريزة اذا لم يتحقق فكل هدف دونه عندها هباء.
ونعلم اخيراً ان هذه الاهداف الصغيرة محرضات ومغريات، فكلما تكرر الاجتماع وتنوع الغزل تمردت الغريزة، وعظم خطبها وازداد سعارها. وطلبت المدد وطلبت المزيد.
واذن فمتى يكون التصريف النظيف؟.
ومتى يتحقق الامن من الانزلاق؟.
لعل هؤلاء يتوهمون انها شحنة من الطاقة محدودة القدر محدودة المدد. فاذا صرفت بالحديث وبالغزل قل ضغطها وتقاصر الحاحها وتناهى امرها. غير ان الواقع شيء وراء هذا الذي يتوهمون.
ان الغريزة تلح دون فترة. وان الغدد الجنسية تفرز دون انقطاع. ولا سكون لها إلا بالاستجابة الكاملة. واذا سكنت فالى عودة قريبة. نم والى نشاط اكبر والى دعوة اقوى، فقد مرنت الغريزة. ومرنت الاعصاب. ومرنت الارادة. وقوي الدافع وضعف الوازع.
هذا هو الواقع الذي لا يجهلون.
وهذه الكلمة قالها الغربيون اول مرة. وهم يريدون من التصريف النظيف ان تعبر الغريزة الجنسية عن ذاتها تعبيراً صريحاً كاملا، دون مواربة ودون كبت ودون خفاء. وقد صرح بهذا احد الاساتذة في الجامعات الغربية لتلميذ من اهل الشرق سأله عن الاختلاط العجيب الذي وجده في الجامعة. [وكان التلميذ: (الدكتور) شرقياً متزمتاً على ما يقول] قال له ذلك الاستاذ:
«اننا اذا منعنا طلابنا وطالباتنا عن الاختلاط المكشوف لجأوا الى الاختلاط المستور بعيداً عنا، في جو ملؤه الريبة والاغراء».
«اننا إذ نعترف بما في الطبيعة البشرية من قوى ونهيئ لها ما ينفس عنها في جو من البراءة والطمأنينة نكون بذلك قد وقينا الانسان من مزالق الشطط ومغريات الخفاء».
هذا هو ما اراده الغربيون من معنى التصريف النظيف: التصريف الصريح الذي لا حذر فيه ولا اختفاء ولا كبت، واذا لم يكن بد من السفور، واذا لم يكن وجود حقيقي للاله وللدين وللاخلاق، كان ما يقولونه منطقياً لا معدى عنه.
اما الشرقيون فاخذوا الكلمة وابدلوا معناها، فقالوا ـ وحديثهم مع الشرقيين ـ ومع المسلمين: الاختلاط يوجب التصريف النظيف، ويؤمن الذكر والأنثى من الانزلاق، والشرقيون والمسلمون يفهمون من النظافة معنى الطهر والنزاهة، ويعرفون من الانزلاق التعدي عن الحد المشروع، اخذوا الكلمة وارادوا منها هذا المعنى فوقعوا في التناقض من حيث لا يشعرون.
ان القيم لدى صنف من الناس حصيلة ما تعارف عليه المجتمع في دور من حياته، او في ادوار منها، مما شاع فيه من عادات او فشى فيه من صفات، ولذلك فالقيم عندهم مجموعة من التقاليد الاجتماعية. وبدهي ان التقاليد الاجتماعية لا شمول لها ولا دوام.
فاذا تغيرت مجاري الحياة، واهم مجاري الحياة، بالطبع، هي اساليب الشهوة في عرف هؤلاء السادة، اذا تغيرت هذه وجب ان تتغير القيم وان تستبدل مكانها ما هو اكثر مواءمة واشد انطباقا.
وهذا رأي ادنى ما فيه انه خلط شائن بين القيم والتقاليد. القيم صفات مهذبة تقررها موازين الاخلاق، ثم ترتفع بشانها حتى تكاد تكسبها صبغة اليقين، فهي ـ من اجل ذلك ـ امور ثابتة لا تتغير، او هي كالثابة في بطوء الزوال.
وموازين الخلق وان اختلفت فيها آراء علماء الأخلاق، إلا انها لا تتخالف ما بينها في النتائج مخالفة النقيض للنقيض او الضد للضد، وخصوصاً في الصفات الرفيعة التي اوشكت ان ترتفع الى ذروة اليقين.
اما التقاليد فانها عمال او مظاهر او صفات تفشوا في المجتمع وتتغلغل بين افراده حتى تنال فيه صبغة العموم، وحتى يعود المحيط الاجتماعي حارساً لها ورقيباً على تنفيذها.
ومنشأ التقاليد قد يكون وهماً سخيفا من الأوهام، وقد يكون رأياً سديداً من الآراء، كما قد يكون قيمة رفيعة من القيم او ديناً حقاً من الاديان، او مزيجاً من حق وباطل ومن رشد وغي.
وعلي اية حال فليس الكذب ـ مثلا ـ في عداد القيم، ولن يطمع احد ان يجعله منها في يوم من الايام، وان شاع في المجتمع وارتفع عنه الحرج وكثر التندر به والاصرار عليه، بل وان فشت بين افراد المجتمع قولة ذلك الكاذب: الالتزام بالصدق في القول ينشا من ضعف النفس في الانسان.

وليس الانطلاق مع الشهوات من القيم كذلك، ولن يدخل في عدادها البتة، وان تغلغل في المجتمع وضربت جذوره وتوفرت سبله، وان حاول دعاة الانطلاق ان يستخدموا له الفكر وان يستبيحوه باسم العلم.
وليست الميوعة ولا التفكك الخلقي من القيم ابداً، وان تغنى به مائعون وصفق له متفككون، وان ذكروا التحضر والتحرر في اسانيده وزوقوا العبارات في تأييده.
اما ان الاختلاط بين الجنسين يوجب لهما التصريف النظيف، وان الذكر والانثى يأمنان بذلك عن الانزلاق، اما هذه الدعوى فبرهان الصدق عليها ما نقلناه للقارئ قبل صفحات عن مآسي الاختلاط في الغرب والدنيا الجديدة ! وما سننقله له فيما يأتي من احصاءات واعترافات ! وكل اولئك حقائق واقعة ثابتة، دونها كتاب وعلماء غربيون مشهورون، لا يرسلون القول جزافاً ولا يحكمون بغير علم، وقد كتبوا ذلك للتأريخ وكتبوه للاحصاء وكتبوه للنقد وابتغاء العلاج.

ـ 15 ـ حجاب المرأة

ـ 15 ـ ويقولون: حجاب المرأة وحجرها عن الرجال تنشأ منه عادة الانحراف الجنسي في الرجل والمرأة معاً، [فقد دلت القرائن على ان المجتمع الذي يشتد فيه حجاب المراة يكثر فيه في نفس الوقت الانحراف الجنسي من لواط وسحاق وما اشبه]، ويدللون على قولهم هذا بأن الرجل ميال بطبيعته نحو المرأة، والمرأة كذلك ميالة نحو الرجل، فاذا منعنا هذه الطبيعة من الوصول الى هدفها بالطريق المستقيم لجأت اضطراراً الى السعي نحوه في طريق منحرف.
انظر، انظر، ثم احكم ان شئت غير متهم:
اهذه دعوة الى السفور فحسب: الى السفور المحتشم الذي يزعمون، ام الى الانطلاق الكامل في الغريزة الجنسية والى رفع كل قيد لها وكل حجاب عنها؟! وهو احتجاج على حجاب المرأة ام لوجوب بذلها للرجل في كل منحى وفي كل اتجاه؟!.
ان لجوء الطبيعة الى الطريق المنحرف اضطراراً انما يكون اذا اوصد الباب مطلقاً دون الطريق المستقيم، اذا اوصد الباب مطلقاً في وجه الرجل فلم يستطع ان يصل الى المرأة ابداً بطريق معين مشروع، واوصد الباب كذلك في وجه المرأة فلم تستطع ان تصل الى الرجل بوجه ولا بسبيل.
ان الطبيعة القوية المتدفعة فيهما تروم التنفيس، والتيار اذا سدت دونه المجاري طغى على المرتفعات.
اذا اعترفت الشريعة لهما بهذه الضرورة، وقررت لهما الحق في الاستجابة لها، بل واوجبت ذلك عليهما في بعض الاحوال، وعينت لهما الوجه الذي يقضيان به هذا الحق، وحددت السبيل الذي يستجيبان فيه لهذه الطبيعة، فما وجه الشذوذ الجنسي بعد ذلك، وما سبب الاضطرار الى الطريق المنحرف؟!.
ما وجه ذلك وما سببه غير ان يراد لهما الانطلاق الكامل في الشهوة ورفع كل قيد عنها وكل حجاب؟ واحاديث الشهوة المنطلقة لا ينتظر ان يؤيدها علم ولا ان يعترف بها عقل ولا ان يقرها دين.
ومنطق الحجة التي يذكرها هذا القائل انه لا بد من الانطلاق لا الى حد في طبيعة الانسان، فاذا لم يتهيأ لها ذلك بالطريق المستقيم لجأت اضطراراً الى الانحراف له وإلا فما وجه الانحراف اذا حددت للجنسين سبل شرعية خاصة للتصريف النظيف؟ وما وجه الاضطرار الى ان تلقي المرأة حجابها وتختلط اختلاطاً كاملا بالرجال؟.
وواضح ان هذا المنطق المشوة لا يعرتف به علم، وان ذكر هذا القائل ان ذلك طبيعة اجتماعية، وكأنه يؤمي الى انه من مقررات علم الاجتماع.
قد يقرر علم الاجتماع، وقد يقرر علم النفس ان منع أي غريزة في الانسان واي طبيعة اصيلة فيه عن الوصول الى هدفها بالطريق المستقيم يلجئها الى السعي نحوه بطريق منحرف، ولكنه لن يقول مطلقا ان الانحراف طبيعة اجتماعية لا بد من ظهورها في كل بلد تحجب فيه النساء عن الرجال، على ان يراد هذا النوع من الحجاب الذي يقرره الاسلام.
اما اذا تطرقت بعض المجتمعات وتجاوزت الحد الذي وضعه الاسلام في هذا الشأن، فمنعت المرأة ان تقترب من الرجل مطلقاً ومنعت الرجل ان يقترب من المرأة كذلك، وكتبت على اهلها الرهبانية العامة فلا زواج ولا اقتران، او شددت امر النكاح بغلاء المهور مثلا حتى عز على الكثرة الغالبة من الناس، فلا بد من ظهور هذه النتائج وامثالها من الموبقات.
وعلى أي حال فالدليل المتقدم لا يقوم حجة لمنع الحجاب.

ـ 16 ـ ان الاختلاط بين الجنسين ورفع الحواجز

ـ 16 ـ ويقولون: ان الاختلاط بين الجنسين ورفع الحواجز والموانع بينهما يرفع عنهما الكبت والعقد النفسية الكثيرة التي تحدث بسببه.
والاختلاط الذي يذكرونه وينعتونه بهذه النعوت قد يعنون به ما يلازم الانطلاق وراء الشهوة دون قيد ولا مانع، وهو بهذا المعنى مما يزيل الكبت بلا ريب، واي مبتغى للغريزة اكثر من ان تلفي مطاليبها موفرة في كل مكان ميسرة في كل سبيل دون حوج ولا حذر، وما وجه الكبت اذا تهيا لها جميع ذلك؟.
ولكن لنتسائل جادين: ما شأن المجتمع الذي تشيع فيه هذه الموبقات في بناء المعالي؟ وما منزلته بين المجتمعات التي تتسابق الى المجد؟ ولنترك مسألة الاسلام عن رأيه فيه، فان رأي الاسلام في امثال هذا المجتمع مشهور معلوم.
وقد يريدون الاختلاط الذي يستمك المختلطون فيه بأهداب العفة، اذا صح هذا الفرض وامكن لهم تجريد الاختلاط عن نتائجه الطبيعية المحتومة، اقول: قد يريدون من الاختلاط ان يجتمع الفتى بالفتاة يتبادلان النظر والحديث، ويتزاملان في الدرس والعمل، ويترافقان في الشارع والمنتزه، ثم لا يتجاوزان هذه الحدود، ولا ينحرفان بهذه الغايات، والمسألة التي يجب التفكير فيها ـ اذا صح مثل هذا الفرض ـ ثم يجب الجواب عنها هي انه: كيف يكون هذا الاختلاط مانعاً للكبت؟.
ان الغريزة صريحة في ابتغاء هدفها دون خفاء ودون التواء. واذا التوت فهي انما تنشد بالتوائها سبيلا جديداً يفضي بها الى غايتها الأصيلة. ومتى منعت من هدفها الاقصى ومتى حيل بينها وبين التعبير الصريح عنه. ومتى اكتملت سائر المؤثرات الأخرى التي يشترطها علماء النفس كان الكبت الذي يحذرونه وكانت العقد النفسية التي تتبعه. والأعراض الشديدة التي تحدث بسببه.
والاختلاط حتى في حدوده تلك لن يخلو من دعوة وتحريض. ولن يخلو من فتنة واثارة ما دامت غريزة ابن آدم هي غريزته. اما التصريف النظيف فقد علمنا مبلغه من الصحة.
وبعد: فلنقل كما يقولون: الاختلاط بين الجنسين يرفع عنهما الكبت. فما يعني هذا القول وما ينتج؟
هل يعني ان الحجاب يورث الكبت لنقول بمنعه من هذا الطريق؟.
الكبت؟.
ومتى حرم الاسلام على الغريزة ان تعبر عن ذاتها ليحدث هذا الكبت؟.
ومتى حتم على نفس الانسان ان لا تشعر بهذا الشعور وان تستقذره في باطنها ليرتد ذلك عقدة نفسية في منطقة [اللاشعور]؟ اليس هذا هو الشرط الأساس لحدوث الكبت كما يقول العلماء النفسانيون؟.
وما صنعه الاسلام انما هو تعيين السبيل الذي يجوز ان تنطلق فيه الغريزة وتحديد الوجه الذي يصح ان تصرف فيه الطاقة.
انما هو التنظيم لأعمال الغريزة والتحديد لحركاتها وتمرين النفس على ضبط اهوائها. وفرض سيطرتها وسلطانها. والفارق كبير جداً بين كبت الغريزة ومنعها من حقها الفطري المشروع وبين تعيين السبيل لانطلاقها وتحديد المنهج لأعمالها.

ـ 17 ـ رفع الحجاب عن المرأة وخروجها مع الرجل

ـ 17 ـ ويقولون: رفع الحجاب عن المرأة وخروجها مع الرجل الى ساحات العمل يوجب مضاعفة الايدي العاملة والاذهان المنتجة. وذلك يوجب مضاعفة اسباب المعيشة ومعطيات الثروة. ويتضاعف من اجل ذلك الرصيد الاقتصادي في المجتمع. ويتهيأ للأمة من موجبات العمران والتقدم في ميادين الحضارة. ويتسنى لها من اسباب القوة والتمدن ضعف ما كان يتيسر لها قبل رفع الحجاب وقبل اشراك المرأة مع الرجل في ميادين العمل.
اما الحجاب فانه يعطل نصف الأمة عن العمل والانتاج ويئد نصف مواهبها.
وهذه الحجة مقتطعة عن النظرة المادية التي اسلفنا الحديث عنها في فصل تسلسل (10). عن النظرة المادية في الكون التي دان لها الغرب. واندفع معها في كل سلوكه ومعتقداته ونظمه واعماله وصلاته. وقد تبينا هناك مواضع الضعف فيها فليرجع القارئ الى ذلك البحث اذا شاء.
وهذه الحجة مبتنية كذلك على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في كل مجال، وقد تقدم البحث عن هذه الفكرة في فصل تسلسل (9) ولا موجب للتكرار.
وبعد فالانسان في نظر الفطرة وفي نظر العقل وفي نظر الاسلام دين الفطرة والعقل متعدد الجوانب متكثر النواحي، والمادة احدى الجوانب الكثيرة التي يتقوم منها كيانه وتقوم بها حياته  والاقتصاد احدى النواحي الخطيرة التي يتوقف عليها بقاؤه ويتكيف ويتطور بتأثيرها اجتماعه.
ولكن في الانسان جوانب اخرى لا يسوغ ان تغفل، وتأثيرها في الحياة وتأثيرها في بناء المجتمع وفي تكييفه وتطويره لا يقل عن تأثير الاقتصاد، والعفة والاتزان في الغريزة الجنسية والاعتدال في مطاليبها وتحديد طرق الاستجابة لها من اهم هذه النواحي المؤثرة في الحياة، وفي بناء المجتمع وتطويره، فلا بد من النظر فيها، ولا بد من ايتائها ما تستحقه من العناية والتقدير، ولا بد من وضع الضمانات القانونية لصيانتها في المجتمع وتثبيتها بين طبقاته وفي نفوس افراده، والحجاب من اوثق ما تضمن به هذه الفضيلة وتصان به حدودها.
ومشاطرة المرأة للرجل في بناء الكيان الاجتماعي للامة، وفي مضاعفة الايدي والطاقات والاذهان العاملة، وفي توفير اسباب المعيشة الرضية، وفي تهيئة موجبات العمران والتقدم في ميادين الحضارة، وتوفير اسباب القوة والتمدن، اقول: ومشاطرة المرأة للرجل في كل اولئك لا تتوقف على رفع الحجاب ولا على الاختلاط بالرجال وعلى اخراجها الى ساحات العمل.
وقد اعدتها القدرة الخالقة المدبرة للشطر الذي تختص به من الاعباء واعدت له مواهبها، وقد فصلت هذا فيما تقدم، وعلى المجتمع وعلى الحكومة التي ترأس الأمة ان تكمل اعداد المرأة لذلك بالثقافة الصحيحة وبالعلم المجدي، لتقوم بوظيفتها افضل قيام وتستثمر مواهبها خير استثمار.
وعلى أي حال فان الحجاب الذي فرضه الاسلام لم يعطل نصف الأمة عن الانتاج كما قالوا: ولم يئد نصف مواهبها. فقد وجه الاسلام هذا النصف من الأمة وجهته الطبيعية الصحيحة. ولكن ماذا يصنع الاسلام لاتباعه اذا هم لم يحسنوا استثمار هذا التوجيه ولم يفيدوا من هذا الاعداد؟.
واذا رغبت المرأة في ان تعمل، واذا احبت ان تساند زوجها في حقل الاقتصاد وتشاركه في احتمال اعباء المعيشة، فاي مانع لها من ذلك ما لم تصادم بعملها ذلك حقاً من حقوق الناس، ولم تتعد حداً من حدود الله، ولم تخالف حكما من احكامه؟.

ـ 18 ـ معنى فرض الحجاب على المرأة انها متهمة في سيرتها

ـ 18 ـويقولون: معنى فرض الحجاب على المرأة انها متهمة في سيرتها بما يخدش ويشين، وان سلوكها مما تحوم حوله الظنون، ومن اجل هذه التهمة حبست في هذا المضيق، وفرضت عليها هذه الحدود:
نعم هذا بعض ما يقولون !.
افرأيت كيف يكون الانحراف عن القصد؟!.
انها اساليب يراد منها اثارة الحفائظ، وهي بعض ذرائعهم الى ما يريدون.
لا. ان الاسلام لا يتهم المرأة ولا يتهم الرجل بما هما بريئان منه، ورسول الاسلام انزه الناس جميعاً عن هذه الخلال، وكتاب الاسلام ارفع الكتب كافة عنها، ودين الاسلام اشد الاديان واعظم القوانين حرصاً على تنزيه مجتمعه عن التهم وتجنب اتباعه مواردها.
ولكنه لا يتجاهل الواقع ولا يتغافل عنه، ويعمل العمل الذي يتطلبه ويصف العلاج الذي يقتضيه.
والضمانات والوثائق والوسائل التي وضعتها القوانين لحفظ حقوق الناس ودمائهم واموالهم، والأخرى التي تعارف عليها الناس فيما بينهم لهذه الغايات ضمانات ووثائق ووسائل عادلة مشروعة، وقد درجت عليها القوانين ودرج عليها الناس والحكام وايقنوا بعدالتها ومشروعيتها، ولم يدخل في تفسيرها انهم بهذه الضمانات يخونون الناس ويتهمونهم بأنهم جناة وسراق، ولم يدر في وهم احد من الناس ان ينقدها بهذا النقد.
انما هي احتياطات يقصد منها بالنظرة القريبة قطع الطمع فيما لو صح وجود طامع، وسد الذريعة فيما لو فرض وجود متذرع، ويراد منها بالنظرة البعيدة تنشئة المجتمع على خلق الامانة وطبعها في نفوس افراده، وتمرينهم عليها في معاملاتهم واعمالهم، وهذه بذاتها هي النظرة التي وجهها الاسلام الى العفة والى الحجاب.

ـ 19 ـ رفع الحجاب عن المرأة واشراكها مع الرجل

ـ 19 ـويقولون ايضاً: رفع الحجاب عن المرأة واشراكها مع الرجل في مهمات الامور وفي مختلف الميادين، واعدادها لذلك بالتعليم العالي والثقافة الكاملة الراقية، كل هذه قد اصبحت من متطلبات الامم التي تطمع ان تساير ركب الحياة الصاعد، ولا يمكن ان تقف دونها شريعة الاسلام السمحة السهلة المرنة، التي تماشي الحياة وتواكب الازمان.
ونحن قد نظرنا فيما تقدم من الابحاث في هذه الامور التي قالوا عنها انها من مقتضيات التقدم ومن متطلبات الامم التي تطمع ان تساير الكرب الصاعد، نظرنا فيها النظرة الجادة المستقصية، واستفتينا الفطرة واستفتينا العقل واستفتينا طبيعة المرأة واقوال علماء الأجنة وعلماء الاحياء وعلماء وظائف الاعضاء، فرأينا المرأة قد اعدت بتركيب جسدها وبتركيب خلاياها وبجميع ركائزها لوظائف خاصة معينة من وظائف النوع، ليست الوظائف الأخرى التي يقوم بها الرجال بأوفر منها في الجهد، ولا باكثر منها في التضحية، ولا بأسمى منها في المنزلة. ولا بأجدى منها للانسانية. ولا بأعود منها على الحضارة والتقدم والعمران. ولا باكثر حاجة منها الى التعليم العالي والتثقيف الرفيع.
وعلمنا ان نظرة العدل تقتضي مراعاة هذا التوجيه الطبيعي في الجنسين. فيخصص كل واحد منهما بالوظائف التي اعد لها بتكوينه. ويزود بالثقافة العالية التي تمكنه من البروز فيها والارتقاء بها. وتستغل مواهبه وطاقاته في الأعمال التي تتصل بتلك الوظائف الخاصة. وعلمنا ان هذا هو النهج القويم للارتقاء بالحياة. والمسلك المأمون المضمون الذي يجب ان يسلكه الركب الصاعد.
هكذا نظرنا، وهكذا اوصلتنا النظرة في الاستنتاج، فماذا غير ذلك؟.
غير ذلك ان تقلب الموازين وتكذب الفطرة ويكذب العقل وتكذب الطبيعة وتكذب حقائق العلم ومقرراته، وتحمل الأنثى ما لم تعد لحمله، ثم يقال هذه متطلبات ركب الحياة، ويراد من شريعة الاسلام ان تقر هذا الوضع، وتنحدر مع الركب المنحدر لأنهم يسمونه الركب الصاعد !!.
ومرونة الاسلام ليست موضعاً للشك، ومواكبة شريعته للحياة والازمان ليست محلا للريبة، ولكن ليس من معاني كلمة المرونة التي يتصف بها الاسلام ان يقر الفاسد على فساده.

ـ 20 ـنشرت مجلة (مكولنر)

ـ 20 ـنشرت مجلة (مكولنر) الامريكية مقتطفات من تقرير عن الحمل والولادة والاجهاض في امريكا، وقد جاء فيه:
ان واحدة من كل عشر سيدات امريكيات تحمل قبل الزواج، وان حالات الحمل هذه ما لم تؤد الى زواج سريع تنتهي الى الاجهاض الصناعي بنسبة 89 في المائة، والى الولادة غير الشرعية بنسبة 6 في المائة، والى الاجهاض الطبيعي بنسبة 5 في المائة.
واضاف التقرير ان من بين جميع النساء الامريكيات اللاتي على قيد الحياة الأن وتقع اعمارهن في الفترة الصالحة للحمل، من بين هؤلاء جميعاً واحدة في كل سبع تعرضت او ستتعرض لاجهاض صناعي قبل الزواج، وان معظم السيدات غير المتزوجات اللاتي يعرضن للاجهاض يباشرن العلاقات الجنسية بعد ذلك، ولا يتوقف منهن عن ممارستها سوى 3 في المائة، وان 19 في المائة فقط من السيدات اللاتي يحملن قبل الزواج يتزوجن اثناء الحمل، ولكن نصف هذه الزيجات يمنى بالفشل، وانه كلما كانت المرأة متدينة كلما كانت اقل تعرضاً للحمل قبل الزواج.
قرأت هذا الاحصاء الخطر المفزع في العدد السابع من السنة الثامنة من مجلة (المسلم) المصرية، وقرأته كذلك في العدد الرابع من السنة العاشرة من مجلة (رسالة الاسلام)، وقرأت في المصدر الأول.
اذاعت وكالة رويتر هذه البرقية: حاول طلبة جامعة جورجيا الامريكية اقتحام عنابر النوم الخاصة بالطالبات للمرة الثانية، وقد اعترض البوليس طريقهم، فثاروا وقاموا بمظاهرة. نعم وفي المجلة ذاتها وفي العدد نفسه نبأ ثالث لا استحب ذكره، لأنه امض الماً وانكى جرحاً !.
وفي العدد السادس من سنتها المذكورة: تبين الاحصاءات الامريكية الرسمية ان عدد الجرائم الخلقية اليومية لا تقل عن (7662) جريمة يومياً (طبعاً نتيجة للاختلاط) وهذه الكلمة هي تعليق المجلة على الاحصاء المذكور.
وفي جريدة الشعب المصرية في عددها الصادر في 26/9/1958 تحت عنوان (نقطة بوليس لكل مدرسة في نيويورك): زادت موجة الانحلال في امريكا بصورة مفزعة.. اصبحت المدارس والمعاهد مرتعاً خصيباً للشذوذ الجنسي. تحول التلاميذ والتلميذات الى مدمني خمر وسفاكي دماء !! المسدسات والمدي والسكاكين في جيوب الطلبة، وعلب السجاير واقراص منع الحمل في حقائب الطالبات. ولم يعد الأمر يحتمل السكوت. ولذلك قامت احدى الهيئات القضائية ببحث جرائم طلاب المدارس في نيويورك واوصت بتعيين رجل من رجال البوليس في كل مدرسة بصفة مستديمة للحد من نشاط عصابات الطلبة المتشرة في المدارس. وقد ابدى بعض رجال القضاء مخاوفهم من احتمال انسياق رجل البوليس مع الطلاب والطالبات في صخبهم الذي لا يعترف بالحدود.
وقرأت في كتاب الحجاب للاستاذ ابي الأعلى المودودي ص 125.
جاء في تقرير طبيب من مدينة (بالتي مور): انه قد رفع الى المحاكم في تلك المدينة اكثر من الف مرافعة في سنة واحدة، كلها في ارتكاب الفاحشة مع صبايا دون الثانية عشرة من العمر.
وفي كتاب الحجاب صفحة 128: ومما يخمنه القاضي (لندسي) الاميركي ان خمساً واربعين في الماءة من فتيات المدارس بدنسن اعراضهن قبل خروجهن منها، وترتفع هذه النسبة كثيراً في مراحل التعليم التالية، فيكتب ـ يعني القاضي بن لندسي ـ: «ان طالباً في مدرسة ثانوية تكون عواطفه دون عواطف الطالبة شدة والتهابا، فالصبية هي التي تقدم ابداً وتأمر. وما يفعل الصبي إلا ان يتبع ويأتمر».
وفي المصدر ذاته ص 132: ويقول كاتب اصلاحي شهير: «ان ثلث الطبقة المتزوجة في نيويورك لا يلتزمون الوفاء في تبعاتهم الزوجية مما يتعلق بأخلاقهم واجسادهم، ولا تختلف حال نيويورك في هذا الباب عن المدن الأخرى».
وفي ص 133 من الكتاب نفسه: ويعلم من دائرة المعارف البريطانية انه يعالج في المستشفيات الرسمية هناك (القطر الاميركي) مائتا الف مريض بالزهري، ومائة وستون الف مصاب بالسيلان البني في كل سنة، بالمعدل، وقد اختص بهذه الأمراض الجنسية وحدها ستمائة وخمسون مستشفى على انه يفوق هذه المستشفيات الرسمية نتاج الاطباء غير الرسميين الذين يراجعهم 61 في المائة من مرضى الزهري و89 في المائة من مرضى السيلان[1].
وفي صفحة 101 من كتاب (علم النفس الجنسي) تأليف الاستاذ (اوسفلد شفارتس) العالم النمساوي الشهير، وتعريب شعبان بركات، عن مقال نشرته مجلة (لانست): يبلغ عدد النساء اللواتي حملن (بين عامي 1938 ـ 1943) من علاقة عدا علاقة الزواج (80000) امرأة بمعدل الثلث في اول حمل، ويمكننا ان نقول: ان لامرأة من كل عشرة نساء علاقة جنسية خارج الزواج، ولقد كانت في عام 1938 (40 في المائة) من الفتيات اللواتي تزوجن قبل سن العشرين حاملات، و30 في المائة من اللواتي تزوجن في سن الواحدة والعشرين، ولا تمثل هذه الأرقام التي تتعلق بسنتين من سنوات قبل الحرب إلا عدد العلاقات التي تؤدي الى الحمل، وهي نسبة صغيرة بالنسبة للعلاقات القائمة فعلياً، ولا شك انه كان بامكان التربية الجنسية الصحيحة ان تحول دون ولادة عدد صخم من الـ 480000 طفل الذين ولدوا بالرغم من ارادة آبائهم.
وفي جريدة الشعب المصرية في عددها الصادر في 29/6/1958: وقت الغروب في شارع سبورتج في لندن ترى الفتى والفتاة يسيران جنباً الى جنب، وقد تشابكت الأيدي … ولكن مارلين الفتاة الحسناء التي لم يبلغ عمرها خمسة عشر عاماً، وهي طالبة بمدرسة لاسان الثانوية، شوهدت مع تشارلز الذي لم يبلغ من عمره سبعة عشر عاماً في وضع فاضح … اقتيد الفتى والفتاة الى مركز البوليس ثم الى محكمة الاحداث.
قالت الفتاة للقاضي: انها لم تفعل شيئاً غريباً، ولكنها فقط ارادت ان تقض- وقتاً ممتعاً، وهي لم تأت بجديد. لقد سبق لها وزميلاتها في المدرسة المختلطة ان مررن بمثل هذه المغامرات فهي بالنسبة لهن شيء عادي. وقد سبق لها عدة اتصالات جنسية مع زملائها الطلبة وغير زملائها في اماكن مختلفة … ولم يتعجب القاضي لاعترافات الفتاة، وذلك انها لم تكن الحادثة الأولى من نوعها، بل انه ينظر في عشرات الجرائم من هذا النوع يومياً.
وقال القاضي ان هذه ظاهرة خطيرة تهدد كيان المجتمع الانجليزي. وقال: لق انتشر الانحلال والاجرام وسوء السلوك بين اوساط الطلبة والطالبات. وقدم القاضي تقريراً الى المسؤولين لكي يكونوا حذرين من نتائج هذه الجرائم، وطالبهم بالعلاج السريع، كما قدم تقريراً للمدرسة واخبرها فيه ان معظم الطالبات في المدرسة قد فقدن اعز ما تملك الفتاة.
وقرات في كتاب الاستاذ محمد الغزالي (نظرات في القرآن) في ص 193 فما بعدها (مأساة الأخلاق في السويد)، قرأت هذه الأنباء المزعة المحزنة المهددة للكيان البشري، وقرأت اضعافها في مصادر اخرى، وفي امكنة اخرى من بعض هذه المصادر، ولعل القارئ اطلع على عدد وافر منها.
تلوت هذه الأنباء ثم وقفت اتساءل:
اهذا هو ما يبتغيه لنا دعاة التبرج والاختلاط من اصحابنا؟!.
او لهذه النتائج المؤسفة يدعون ويحبذون، ويفرطون في دعوتهم ويفرطون في تجبيذهم؟!.
اما لنا في هذه التجارب التي مر بها سوانا عبرة؟! اوليس فيها ما يحملنا على ان نتأمل في الأمر قبل ان تنطلق؟! ثم تساءلت وسألت من معي:
لماذا كل هذه الاحصاءات الدقيقة وكل هذه التقارير المتنوعة وكل هذا الاهتمام البالغ من الحكومات الرسمية في بلاد الغرب وفي بلاد امريكا، ومن المعاهد المؤسسة هناك لضبط هذه النواحي، ومن المحاكم المعدة للحد من هذه الجرائم؟ بل ولماذا يدعونها جرائم ومشاكل ويرومون لها حدوداً ويطلبون لها حلولا، ويؤسسون لذلك المؤسسات ويقيمون له المحاكم؟!.
لماذا يقع كل هذا في بلاد الغرب وفي بلاد امريكا اذا كانت القيم والمعنويات تعد من الامور التافهة في تلك البلاد كما يقول دعاة التحرر عندنا؟! ثم لماذا تحدث هذه الجرائم الخلقية هناك، ويكون صدورها بهذه الكثرة وهذا الانتشار اذا كان الاختلاط يوجب التصريف النظيف كما يزعم دعاة الاختلاط؟!.
لعل اصحابنا رقود وهم يدعون الى هذه الفضائح !.
ولعل فتياتنا غافلات عما يراد بهن وهن يصغين الى هذا الداء !.
ولعل بعضهن مخدوعات وهن يهتفن بذلك مع الهاتفين ويرجفن مع المرجفين !.
رحماك اللهم رحماك ماذا يريدون بالمرأة المسكينة؟!.
انهم يخادعونها عن اكرم خلة فيها واعز شيء عليها !.
انهم يخادعونها عن حيائها وعن دينها، وعن.... عفافها !.

ـ 12 ـ وقدة شديدة لا تخمد، ولا تعرف بذاتها الاعتدال.

ـ 12 ـ وقدة شديدة لا تخمد، ولا تعرف بذاتها الاعتدال.
في الفتى وفي الفتاة معاً، دون فارق إلا في شدة الحياء.
وعقل مراهقة لم ينضج بعد ولم يشتد ازره، ولم يصقل حداً ولم يفد تجربة.
يلتقيان، ويختلطان، ويسيران على انفراد. واحب الأحوال اليهما الانفراد ـ ويتبادلان النظر، ويتشامان العرف، ويتجاذبان الحديث. وعند كل منهما ما ينشده الآخر.
والحياء؟.
وما قدر ما يبقى الحياء؟ ان اللقاء العاشر او العشرين كفيل بأن يعفي آخر اثر من آثاره، فما مصيرهما؟.
اما الاستجابة فالانطلاق والتردي، واول ضحية من ضحاياها العفاف.
واما الكبت فالعقد والعصاب، ومن ضحاياها الفتى، اما الفتاة فهي ضحية على أي حال.
ودين الله ما موقفه من ذلك؟ وما هو صانع لهما وهو الزعيم الجدير باصلاحهما؟.
افيتركهما سدى هكذا، دون ان يزودهما بطاقة، او ينظر في امرهما بحزم، حتى اذا احس بداءة المأساة اغدق عليهما بالوصايا المحذرة ان لا ينطلقا وان لا ينزلقا؟!.
إن هذا النوع من العلاج سقيم عقيم يضخم المأساة ويضاعف آثارها، ويضم الى شعبها الكثيرة شعوراً بالخطيئة واستقذاراً للنفس، وتبرماً بالحياة.
وبعد فما جدوى وصية تتآزر قوى النفس على خلافها والشباب هو الأساس المكين للرجولة الناضجة وللانوثة الصالحة المثالية، فلا بد وان ينظر في امره بجد وحزم، ولا بد وان يعمل لصلاحه بنشاط واهتمام بالغ.
ما موقف دين الله من ذلك، وما هو صانع لهما وللمجتمع من ورائهما؟ والاسلام يوقن حق اليقين ويثبت ذلك لمن يشاء ان مأساتهما هذه مأساة المجتمع كله لا تقف تبعاتها وآثارها عند حدودهما.
افليس من الحق ان يأخذ بالحيطة للامر، وان يعالج المعضلة في المنبع قبل المصب؟.
اليس من الحكمة ان يأمر الفتاة بأن تدني عليها من جلبابها لتعرف فلا تؤذي، ولا تمس كرامتها بسوء ولا تمد الى عفافها يمين ولا يسار، وان يزود الفتى والفتاة بطاقة كبيرة من العقيدة وحصانة منيعة من الايمان، ثم يأمرهما بغض البصر عما لا يحل، وبحفظ الفرج عما لا يجوز، ويحدد لهما سبلا نظيفة لسد هذه الضرورة، ويضع لهما منهجاً سوياً لتهذيب الغريزة؟.
اليس هذا هو الطريق المجدي في العلاج؟.
الطريق الذي يبتعد بالفتاة وبالفتى عن الكبت، ويؤمنهما من الانزلاق؟ ويضمن لهما وللمجتمع من ورائهما الحياة الهائنة والمعيشة الراضية.
ومن مميزات دين الاسلام انه يستبطن النفس ويتغلغل في اعماقهما، ليقتلع الداء من جذوره ويستخلص الحكم من منابعه، الأصيلة في كل طبع، الثابتة لكل انسان، حتى اذا انتزع حقائقه من هذه الأصول واقامها على هذه الاسس لم تختلف في بيئة ابداً ولم تتغير في زمان.
وهذه خاصة الاسلام التي تحدى بها قوانين الدنيا كافة فلم تستطع ان تقف امامه على قدم، ولم تملك إلا ان تلوى اعناقها له بالخضوع.

ـ 23 ـ والانسان ـ على ما يقول العلم التجريبي الحديث

ـ 23 ـ والانسان ـ على ما يقول العلم التجريبي الحديث ـ مجموعة ضخمة من الاجهزة والانسجة، والطباع والقوى والغرائز والمشاعر والاحاسيس والاشواق والعواطف والانفعالات، وغير ذلك مما يطول به العد ويدهش له الفكر.
وهو لهذه المجموعة الضخمة من العوامل مظهر لحركة حيوية دائبة ونشاط عملي مستمر، بحيث لن تقر له ـ ما دامت الحياة فيه ـ حركة، ولا يفتر له نشاط حتى في اوقات نومه وفي ساعات هدوئه واستجمامه.
انه يبدو للرائي في تلك الساعات ساكن الجسم هادئ الحركة، ولكن خلايا جسمه ودقائق عناصره ونشاط اجهزته، وافرازات غدده في حركة دائبة وفي جد متواصل.
فاجهزة تكوين الخلايا في جسمه تنشيء وتجدد، وقوى البناء في انسجته تؤلف وتبني، واجهزة النشاط الحيوي فيه تستهلك وتفني وقوى التطهير فيه تدفع الخلايا المحترقة وتبعد المواد الضارة.
وقد اثبت العلم ان أي عمل يقوم به الانسان. ولو كان عملا صغيراً طفيفاً. يستوجب استهلاك عدد كبير من الخلايا المتنوعة، وان عودة الجسم الى حالته الطبيعية الأولى تتوقف على ان يتجدد له مثل ما استهلك في عمله من الخلايا.
ومن المقرر الثابت كذلك، والذي لا يرتاب فيه العلماء التجريبيون ان الانسان متى اغرق في ناحية خاصة من نواحي نشاطه بحيث تجاوز حد الاعتدال فيها، فلا بد وان يبدو النقص عليه في ناحية او نواح اخرى منه.
ذلك ان اجهزة تكوين الخلايا في الانسان انما تنشيء منها بقدر.
بقدر ضرورة الانسان، وبقدر ما يستدعيه بقاؤه واستواؤه. فاذا استهلكت ناحية منه اكثر مما تستوجب، فلا محيد من ان تكون هذه الزيادة فيها على حساب نواحيه الأخرى، ولا محيد من ان يظهر النقص على هذه النواحي.
ومن المقرر الذي لا يرتابون في ثبوته ايضاً ان الافراط في الناحية الجنسية له تأثير مباشر كبير في عرقلة النشاط العقلي على الخصوص. وقد قالوا: «ان العقل يحتاج الى وجود غدد جنسية حسنة النمو، وكبت مؤقت للشهوة الجنسية حتى يستطيع ان يبلغ منتهى قوته» انظر ص 174 من كتاب [الانسان ذلك المجهول] تاليف الدكتور الكسيس كاريل العالم الفرنسي المعروف، وتعريب شفيق اسعد فريد.
كل هذا ثابت، وقد قرره العلم ولم يبق فيه مجال لريبة ولا موضع لجدل، فكان من حق الاسلام ان ينظم نشاط هذه الغريزة وان يحدد من جماحها حفظاً للتوازن في الانسان ومعادلة بين طاقاته وضروراته؟.
وكان من حق الاسلام ان يتدخل في امر الغريزة انقاذاً للقوة العقلية من الضعف، وصوناً للنشاط العقلي من التردي والانهيار؟.
كان من حقه ان يضع لهذه الغريزة الجامحة نظاماً كاملا عادلا يقيها من الكبت ويصونها عن الانطلاق، ويحفظها عن التأرجح، ليفي للمرء بجميع ضروراته ويوازن بين جميع غرائزه، وليتجه به متوازن القوى مستقيم الطباع معتدل الأخلاق والأعمال والملكات، ليتجه به كذلك وحدة متزنة مستقيمة الى كماله الأعلى في داره الأولى وفي حياته الأخرى؟ ومن احق من دين الله بهذه النظرة العادلة المستوعبة وبهذا التشريع القيم الحكيم؟.
وضروري لدين الحياة ان يقوم بهذا الاصلاح للانسان، فيؤسس احكامه على العدل، ويضبط حركاته وسكناته على التوازن، وينشئ غرائزه وجميع قواه ومشاعره على الاستقامة، فلا يؤتي ناحية من نواحيه الكثيرة ازيد مما تستحق، ولا ينقصها شيئاً مما تستوجب، ولا يدعها هملا تتخبط في امرها كما تبتغي الأهواء.
ضروري لدين الله الذي شرعه للابد ان يقوم بهذا الاصلاح الشامل، ولا بد وان تكون هذه ركائزه وهذه مميزاته.
هكذا يجب ان تكون صفة دين الله، نعم وهكذا كان، وهكذا شمل وعمم، فليس الرجل اكثر اختصاصاً به من المرأة، ولا الشيخ احق به من الشاب، ولا الفرد اولى برعايته من الأمة.
انه ضرورة ماسة للانسان تقتضيها كل جهاته وكل احواله وكل روابطه وعلائقه، فلا بد منه، ولا بد من شمول نظرته وشمول اصلاحه.
[1] نقل هذا عن ص 45 من الجزء الثالث والعشرين من دائرة المعارف.
والعدل التام في جميع انحاء الانسان وبين جميع آحاده، والموازنة الدقيقة بين ما يجب له من شيء وما يجب عليه من حق، هذا العدل المتكامل هو الغاية العظمى التي وضع الله من اجلها الدين ورسم خطوطه وشرع مناهجه [وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم][1] نعم وتلك هي التربية الحكيمة التي ارادها الله رب العالمين، وذلك هو قانون الله واضع قوانين هذا الكون وراسم انظمة هذه الحياة، وتلك هي سنته الثابتة في كل شيء مما خلق وفي كل قانون مما جعل، ولن تجد لسنة الله تبديلا[2].
وقد يفر فار من الدين، وقد يتنكر متنكر لهداياته وتعاليمه، وقد يرتاب مرتاب في امرء، ومبعث هذا التنكر وهذه الريبة جهل مطبق بمعنى الدين وضآلة علم بحقائقه، وغفلة سادرة عن مصالح يبتغيها الدين له، ومفاسد كبيرة يقيه الدين اياها.
نعم مبعث ذلك جهل وضآلة علم وركوب رأس وعبادة اهواء، وإلا فماذا غير ذلك؟.
ولو ان العاقل الحصيف فكر قليلا في شؤون نفسه وشؤون مجتمعه، ولو انه ارتفع قليلا في تفكيره عن المادة وملابساتها، وبعد بنظرته عما بين يديه من شواغل وصوارف، اقول: لو انه صنع كذلك ففكر ووازن وانصف في تفكيره وموازنته لعلم حق العلم ان الدين ـ والاسلام من بين الاديان على الخصوص ـ هو النظام الوحيد الذي يصلح له جميع ذلك، ولن يصلحه ابداً أي نظام سواه، وللموضوع مؤلفات اخري تعنى بتوضيحه وشرحه.
وظاهرة الحياء: الخاصة التي طبع عليها ابن آدم وانساق نحوها بجبلته، وكان لها الاثر البالغ العميق في بناء اخلاقه وفي تكييف سيرته وتلوين سلوكه، وكانت احدى خصائصه التي امتاز بها على سائر انواع الحيوان.
هذه الخاصة الفطرية التي زود بها الانسان، وكان نصيب الأنثى منها اوفر واقوى من نصيب الذكر، اليست من ركائز الانسان ودعائم سلوكه التي يجب ان تلاحظ في بناء التشريع  وان تعين لها الحدود الصحيحة في تخطيط الاخلاق، وان تحدد آثارها المحمودة والمذمومة في مجال السلوك؟.
ليكن الحياء غريزة من غرائز الانسان كما يقول بعضهم: او انفعالا نفسياً من انفعالاته كما يرى آخرون. او اي شيء آخر يتعلق بنفس الانسان، فانه على أي حال شعور فطري اصيل، وله آثاره العميقة، ولا بد من ملاحظته والعناية بأمره، ولا بد من تعيين حدوده، ولا مساغ لاهماله.
اما ان الحياء ظاهرة فطرية اصيلة فهذا امر بمنتهى الجلاء، ولم يتردد فيه حتى انسان الغابات ابعد الناس اجمعين عن المدنيات وعن التأثر بها، لم يتردد حتى هذا الانسان الوحشي في معرفة الحياء وفي الاستجابة له ولو الى حد ما، وان اختلفت الاشياء والمظاهر التي تجلب له الحياء، واختلفت كذلك المواضع والمقادير التي يسترها من بدنه، والحركات والاعمال التي يستخفي بها من حركاته واعماله، والحركات والمظاهر التي يعبر بها عن حيائه.
ولو كان الحياء مما يختص به النساء وحدهن لأمكن لدعاة التبرج ـ من اجل ذلك ـ ان ينكروا انه فطرة، ولقالوا انه من التحكمات التي فرضها الرجال على النساء والزموها طبيعته على ممر العصور، ولكن الفطرة قد جعلت للرجل منه قسطاً وافراً وان يك قسط المرأة اوفر واقوى تأثيراً كما قلنا فيما تقدم.
وطبيعة العمل الذي اعد له الرجل والمهمة التي اسندت اليه في الحياة هي التي اقتضت له ان يكون نصيبه من هذه الظاهرة اقل من نصيب المرأة.
ولقد غلا بعضهم كذلك فانكر ان الحياء غريزة وانكر انه فطرة او من املاء الفطرة، وقال انه شعور مكتسب عرفه الانسان لما اعتاد التستر باللباس، وانه انما اعتاد التستر لأسباب اخرى ليس الحجاب واحداً منها.
نعم وتأثروا هذه القولة وساروا وراءها شوطاً آخر ابعد من ذلك، فقالوا ان اللباس من محركات غرزيزة الشهوة في الانسان، قال هذا بعض الكتاب من الغربيين، ولم يبعد عن الصواب، فان اللباس بعض انواع الزينة واثره في الاغراء وتحريك الغريزة محسوس ملموس.
وسمع كلمتهم هذه بعض كتابنا نحن، فراق لهم ان ينقلوها بحروفها الى الحجاب !.
الى الجلباب الذي ترتديه المسلمة المؤمنة فيسترها عن النظر المحرم.
الى الضمان القانوني الذي وضعه الاسلام للعفة !.
قال هؤلاء بدورهم: ان الحجاب من محركات الشهوة ومحرضاتها، وهو يغري الرجال بالمرأة المحجبة ويولعهم باتباع خطواتها، افرأيت اعجب من هذا التفكير؟!
وتلك هي النتائج الطبيعية والمنتظرة لحيوانية الانسان التي قال بها الغرب، ولنكران الخلق والدين اللذين دان بهما فلاسفته وهتف بهما كتابه.
ولكن ما بال الآخرين الذين لا يحاولون قطع صلتهم بالاسلام، ويزعمون انهم مؤمنون برسالته خاضعون لتعاليمه، ما بالهم يركبون الاهواء ويأتون بالغرائب؟!.

ـ 24 ـ«قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم

ـ 24 ـ«قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك ازكى لهم، ان الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن او آبائهن او آباء بعولتهن، او ابنائهن او ابناء بعولتهن او اخوانهن او بني اخوانهن او بني اخواتهن او نسائهن او ما ملكت ايمانهن، او التابعين غير اولي الاربة من الرجال او الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، وتوبوا الى الله جميعاً ايها المؤمنون لعلكم تفلحون»[3].
هذا هو النص القرآني الصريح في وجوب الحجاب، وهذا امر الله الذي لن يتردد مسلم ولا مسلمة في وجوب الخضوع له ووجوب الاستمساك به، وهذا هو ضمان الله للمؤمنين بان ذلك ازكى لنفوسهم واطهر لمجتمعهم وانقى لعلاقاتهم، ضمان الله لهم بذلك، فلا يختلف في وقت ولا يتغير في حال.
بلى، وهذه بعض اوصاف المجتمع الراقي العادل الذي اراده الله سبحانه للبشرية يوم اهلها للخلافة في ارضه، واختصها بالكرامة من بين مخلوقاته، فشرع لها الدين، وميزها بالعقل، وحباها بالمعرفة، وكرمها بالعلم.
هذه بعض اوصاف المجتمع الذين اراده الله للبشرية منذ يومها الأقدم، وقبل يومها ذلك
المجتمع الذي تؤسس قواعده على العدل، وتعقد روابطه على الأخوة، وترتكز على المساواة الكاملة الشاملة في الحقوق، والمجتمع الذي يطمح كل ما فيه الى الكمال، ويتناصر كل من فيه على اقامة الحق، ويتواصى كل اهله باعمال البر، والمجتمع الذي لن تسمع في اجوائه تأمة لظلم ولا صدى لاستغاثة، ولا شكوى لمحروم، والمجتمع الذي يشغل كل اهله بالجد عن الهزل، وبالحقائق عن الأوهام، وبمعالي الامور عن سفسافها؟!.
المجتمع الاسلامي الزكي الطهور، لا تلتقي فيه خائنات الأعين، ولا تتعدى فيه بواعث الفتنة، ولا تتنزى فيه كوامن الشهوة، وما هذا النص القرآني الكريم والنصوص الاسلامية الأخرى التي تقترب منه في المعنى وتتحد معه في المغزى إلا احتياطات واقية تحرس من هذا المجتمع حدوده وتصون له سلامته وتضمن له طهارته.
إن الاسلام يربأ بالمسلم والمسلمة ان تكون العلاقة بينهما علاقة حيوان بحيوانة، ويأنف لهما ان تهبط بهما المجموعة الجنسية الى دركها الاسفل الارذل، ويسمو فيها ان تعلق هذه الخاطرة بروعهما.
والمرأة نصف المجتمع البشري على ادنى التقادير، والويل والحرب للمجتمع اذا كانت الصلة ما بين نصفيه هذه الصلة المنحطة لمخزية، والويل والحرب للمجتمع اذا سيطرت الشهوة على آحاده واتغلغت في ابعاده، فزاغت بالناس عما يجب وقادتهم الى ما لا يحسن، والويل والحرب للمجتمع اذا انفلتت فيه ازمة الأعصاب، ووهنت فيه قوة الارادة واضطربت كفة التوازن.
والنظرة الخائنة الجائعة اول انبعاث للشهوة واول موقظ للفتنة، وهي الرائد الذي يجوس الديار ويمهد السبيل، فلا معدى للاسلام من ان يأخذ الحيطة لها اذا كان جاداً في بلوغ غايته، لا معدل له عن ذلك لأنه الطريق الوحيد اليها، ومحال عليه ان يوصد باب الفتنة وهو لا يحسب لهذه النظرات حسابها.
وهكذا صنع … وهكذا قال:
قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم … وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن.
يأمر الرجال والنساء من المؤمنين بسد هذه الذريعة واغلاق هذه النافذة، ويبدأ بأقوى الجنسين اندفاعاً واسرعهما انفعالا واصرحهما تعبيراً.
ان خفر المرأة وفرط حيائها يصونها من ان تكون هي المبتدئة في هذا المجال، وان الرجل اذا غض بصره وملك امره وابدى اتزانه فقد انهار اكبر الدواعي لتبرج المرأة، فانها لن تتبرج ولن تبدي زينتها ولن تعرض فتنتها واغراءها إلا لتلفت نظرة الرجل وتنتزع اعجابه.
ينذر الرجال اولا بأن يغضوا ابصارهم عن النظر المحرم، ثم يعطف على النساء كذلك بانذار مستأنف جديد، ولو انه جمع الفريقين معاً بقول واحد لأوفى على الغاية شأنه في غالب الاحكام التي تشترك فيها النساء والرجال، غير ان الامر هاهنا امر صيانة وحفاظ، وتطهير لعلاقات مهمة قوية تنعقد بين القلوب، وترتسم ظلالها على الأعمال، وتبقى آثارها في الأجيال، فهو لذلك مفتقر الى مزيد من الصراحة والى مزيد من التأكيد.
الى صراحة تبعد بالحديث عن التأويل، والى تاكيد يمنع به الامر عن التساهل، ينذر الفريقين على انفراد، وينذرهما على اجتماع، ويسوق لهما ضروب التحذير وضروب التبشير.
هذا هو الاحتياط الأول الذي اتخذه التشريع الاسلامي للأمر.
ثم لنفرض ان رجال المؤمنين ونساءهم امتثلوا جميعاً هذا الامر. فغض الرجال المؤمنون من ابصارهم. وغضت النساء المؤمنات من ابصارهن. فهل يفي هذا وحده بسد الذرائع جميعاً؟.
بسد الذرائع التي تنتهي بالمرء وبالمرأة الى هذه المباءة؟.
والنظرات الطائشة التي تلقى دون قصد فتقع على ما يثير؟ وعمل هذه النظرات غير المقصودة في التمهيد لما يعقبها من نظر، والتمكين لما يتبعها من خطر؟.
ان هذا باب لا يوصده التشريع الأول، ولا بداء الزينة وعرض المفاتن عمل كبير في اغتصاب النظرة وتنبيه الغريزة وتحريك الفتنة، وطباع ابن آدم تفتن في التردي كما تفتن في الاعتلاء، وتعفي بطرائق الاغواء كما تعني بطرائق الهداية.
فماذا يجدي ازاء ذلك كله غير فرض الحجاب؟.
فرض ان لا تتبرج المرأة المسلمة ولا تبدي زينتها إلا ما ظهر منها.
وما هذا الذي يظهر من الزينة بعد الحجاب؟.
خضاب في الكف، او خاتم في الأنامل، او ما يشبه هذين من زينة ظاهرة وغير فاتنة، اما اذا اوجب الفتنة فهو وغيره في التحريم سواء بسواء.
ثم ماذا؟.
ثم ليضربن بخمرهن على جيوبهن. والخمار هو القناع الذي تغطي به المرأة رأسها، والجيب فتحة الثوب التي تلي صدرها، ليضربن بخمرهن على جيوبهن فلا يبين من رأس المرأة ولا من نحرها ولا من صدرها شيء للرائي ولا شبح للمتامل.
وحتى الهمسات الخفية والايماءات البعيدة لا بد من ان تقتلع جذورها ولا بد من ان تستأصل، ما دامت مظنة للاثارة او منفذاً للريب، فلا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن.
انها كوة صغيرة جداً، ولكنها تتسع وتنداح وتكبر دائرتها اذا لم يتخذ لها اجراء.
نعم سيعظم امرها وتتسع دائرتها، فمن ورائها غريزة هذا الكائن العجيبة التي تغذي الوهم وتستثمر الخيال.
اعلمت أي مبلغ بلغه الاسلام وكتاب الاسلام في هذا المجال؟.
انها ميادين فتنة فلا مساغ فيها لهدنة.
بلى هي ميادين فتنة، ومن اجل ذلك حرص الاسلام ان يضع الحدود فيها بدقة، ومن اجل ذلك ايضا وضع الحجاب عن المرأة حين تؤمن هذه البوائق.
اقرأ الآية الكريمة مرة اخرى ثم انظر كيف رفعت الحجاب دون المحارم من الرجال، ودون من لا يحرم حوله ريب من سواهم.
وقد قال في القرآن عمن تقدم بهن الايام وينال منهن البر حتى تزول منهن معالم الفتنة وحتى يأمن عوادي الجنس: «والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح ان يعضن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وان يستعففن خير لهن والله سميع عليم»[4].
ليس عليهن حرج في ان يضعن من ثيابهن المعدة للحجاب. وان رآهن الرجال الاجانب. ما دمن قد امن الفتنة. وما دام الكبر قد صرف عنهن انظار الرجال. على ان لا يقصدن من وضع ثيابهن ان يتبرجن بزينة. اما اذا قصدن ذلك فانهن مسؤلات عن فعلهن ذلك.
مسؤولات لقصدهن ما لا يجوز لهن فعله. ومسؤلات لآن ذلك القصد منهن تحد للعفة التي فرضها عليهن الاسلام.
لقد انصرفت عنهن انظار الرجال فيما يعتقدن، ومن اجل ذلك ساغ لهن رفع الحجاب، ولكن ما يدريهن فربما كان هذا الوهم خاطئاً، فلعل فيهن بقية من هذا الاغراء، ولعل في الرجال من تبلغ به عرامة الجنس، فيمتد الى مثلهن بالنظر، ومن اجل هذه الحالات المحتملة فان يستعففن فلا يضعن من حجابهن شيئاً فان ذلك خير لهن والله سميع عليم.
ويمتد الخط مع امن الفتنة خطوات، فيباح للرجل ان ينظر الى امرأة يريد التزوج بها، ويباح للطبيب ان ينظر مواقع الفحص والعلاج من جسد المريضة، ويباح النظر الى المرأة لانقاذها من الخطر اذا توقفت نجاتها عليه، ويباح للطبيب ان نظر مواقع الفحص والعلاج من جسد المريضة، ويباح النظر الى المرأة لانقاذها من الخطر اذا توقفت نجاتها عليه، ويباح النظر الى المرأة اذا توقفت على النظر اليها اقامة عدل او استنقاذ حق.
واقول يمتد خط اباحة النظر الى المراة مع امن الفتنة خطوات، لأن امن الفتنة امر دقيق لا يقال إلا بحذر ولا يوضع إلا بقدر.

ـ 25 ـ ومن خصائص دين الاسلام انه ينظر الى غرائز الكائن البشري

ـ 25 ـ ومن خصائص دين الاسلام انه ينظر الى غرائز الكائن البشري والى ضروراته مجردة عن كل ما يكبح وعن كل ما يثير.
ان الغرائز والدوافع بطبيعتها السليمة التي ركبت في الانسان وباقتضائها الصحيح السوي الذي تدعو اليه الحياة او بقاء الحياة دون ما زيادة ولا نقصان.
من خصائصه انه ينظر الى هذه البواعث معتدلة في التكوين ومعتدلة كذلك في الدعوة. فيضع لها حدودها على اساس العدل. ويشرع لها حقوقها على مبدأ التوازن.
العدل بين الغرائز والدوافع. التوازن في النشاط الحيوي للانسان. فيوجه لكل واحدة من الغرائز حصتها من النشاط دون سرف ولا تقتير.
اما المغريات التي تثير الغريزة وتطمعها باكثر مما تستحق.
وتضربها حتى تستعر وتند عن المقاييس وتتمرد على الظلم.
واما المعوقات التي تعترضها فتعتاقها عن الحدود الطبيعية الصحيحة. او تميتها دون الحقوق العادلة المشروعة.
اما الكبت والاغراق في الغريزة فان الاسلام يراهما كما يراهما العلم آفتين بالغتي الضرر، ولا بد لهما من العلاج. وهو يتحرى الاسباب الموجبة للاثارة او المقتضية للكبح فيدأب على ازاحتها واستيصال جذورها.
جذورها في نفس الفرد. وجذورها في عوائد المجتمع. ولقد رأينا كيف يتخذ الحيطة الكاملة عن الانطلاق في غريزة الجنس.
رأيناه كيف يحتاط لهذه الآفة حتى يستل آخر عرق من عروقها، كيف يحصن نفس الفرد ـ الذكر والأنثى على السواء ـ بالايمان القوي، والخلق المتزن، وبالسلوك الرضي، ثم يصونه عن كل ما يفتن وعن كل ما يثير، وما الاغراق والانطلاق في هذه الغريزة وفي كل رغبة او غريزة سواها لولا الفتنة ولولا الاثارة والتحريض.
ثم رأيناه كيف يبتغي للفرد المصرفات النظيفة، فيحثه على الزواج الشرعي، ويفتح له ابوابه ويسهل عليه امره، ويفرضه عليه فرضاً في كثير من الاحيان، وعند خشية الوقوع في المحرم على الخصوص.
واما الكبت فيها، وهو ـ كما يقول العلماء النفسيون ـ اخماد الشعلة في النفس، واخماد ظهورها كذلك في منطقة التصور، اخمادها في كلتا المرحلتين حتى تختنق، وحتى ترتد عقدة نفسية في منطقة [اللاشعور] وحتى تورث الانسان [عصابا] يتحكم عليه في سلوكه، ويقضي عليه بالشقاء في اكثر حالاته.
اما الكبت فقد حاربه الاسلام بكل اسبابه وبكل امتدادته، ومن اهم اسبابه الرهبانية التي عرفها المتدينون قبل مجيء الاسلام، وقد اهدرها هذا الدين منذ اول يوم من ايامه.
ومن يستقرئ احكام الزواج في هذا الدين ويطلع على نصوصه فيه وفي علله وآدابه يعلم جيداً كيف اقتلع علل الكبت واحدة واحدة، وطهر الفرد المسلم والمجتمع المسلم ومن اوضارها اثراً اثراً.

ـ 26 ـ «يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن

ـ 26 ـ «يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك ادنى ان يعرفن فلا يؤذين، وكان الله غفوراً رحيما»[5].
[1] الانعام: 115.
[2] الفتح: 23.
[3] النور: 30 ـ 31.
[4] النور: 60.
[5] الأحزاب: 59.
وهذا داء اجتماعي آخر يجعله القرآن سبباً للامر بالحجاب.
ان ازواج الرسول [ص] وبناته ونساء المؤمنين اللاتي عاصرن النبوة ونزل ما بينهن القرآن قد تعالت انفسهن وارواحهن عن كل ما يخدش ويريب، فلقد محصتهن العقيدة وجلاهن الايمان وارتفعن بأدب الله وادب رسوله عن هذه السفاسف وما اليها.
غير ان لبعض الناس انفساً دنسة وضيعة صغيرة تطمع فيما ليس فيه مطمع كما يقولون في الامثال، وتقبض الاكف على الوهم وتمد الايدي لتتناول النجم، وقد كان بعض هؤلاء يتعرض للنساء المؤمنات حين يخرجن للصلاة او لغيرها من الأعمال، يتعرض لهن بلحظة خائنة او يلفظة ماجنة، والمؤمنات يؤذيهن هذه الجرأة.
تؤذيهن لا لأنهن يخشين اعتداءاً من بعض هؤلاء الأثمة، فيد الفحشاء اقصر من ان تبلغهن بسوء، بل لأن حرمة المرأة المسلمة عندهن اسمى من ان تغازل بلحظ او تعابث بلفظ، ولأن المجتمع المسلم اعظم قداسة في رأيهن من ان تطرف فيه عين خائنة او تظهر فيه حركة آثمة، والمغازلات والمعابثات تحسب اعتداءاً واجراماً في المجتمعات السليمة، وتبعد مجاملة ومطايبة في المجتمعات الموبوءة.
كان بعض هؤلاء الماجنين يتعرض للنساء المؤمنات في طريقهن الى الصلاة فيؤذيهن هذا التعرض، فاذا قيل له في ذلك اعتذر عن فعله بأنه يجهل، بأنه يجهل انهن من نساء المؤمنين، كأن الجهل يبيح المجون، وكأن العبث بالأعراض جريمة شخصية صغيرة تسقط بالاعتذار.
وهذه سقطة خلقية واجتماعية لا بد لها من التلافي ولا بد لها من العلاج، ولا يمكن عليها القرار.
والاسلام يعالج هذه الداء بتعزير هؤلاء الماجنين العابثين الأعراض بما يقطع مجونهم ويحسم هراءهم، ثم بتزويج العزاب منهم المضطربين للتزويج، الغني منهم من ماله، والفقير من بيت المال.
اما العلاج السريع الدائم فهو ان تدني المؤمنات عليهن من جلابيبهن فيخسأن بها كل كلب عاو.
والجلباب ثوب كبير يشمل البدن كله، ومن اجل هذه الصفة فيه استعارته العرب لما يشمل، فقالوا: جلببه الهم مثلا اذا استولى عليه واخذ كل نواحيه.
كان هذا في بدء الاسلام، وقد وضع له الدين هذا العلاج الحاسم، فهل انقطعت هذه الانفاس اللاهثة التي تتعقب خطوات النساء المصونات، ليفكر مفكر في الاستفتاء عن هذا العلاج؟!.
هل نفقت هذه الحملان البشرية التي يكاد يركب بعضها بعضاً في طريق المرأة؟!.
هذه القطعان الكبيرة التي تمثل للانسان مواريثه من الحيوان؟!.
هل بادت هذه السلالة لنفكر نحن او يفكر احد سوانا في الاستغناء عن العلاج الذي وضعه الاسلام؟.
ان الطرق والمجامع والمباءات والمتنزهات لا تزال مشحونة بهذه الجراثيم التي تتلصص على الاعراض وتنخر في المجتمعات.
وكل ما وجد في ذلك ان القديم منها كان يتناول الامر ببساطته، اما الحديث فقد تطورت به الاساليب وتسلسلت به المطاليب، وبين ان التطور في هذه الشؤون انما يكون الى اسفل.
ما هذه الشبان المائعة المدخولة التي تزاحم المراة على (مكياجها) لتزاحمها كذلك في سبيلها؟!.
انها من اعراض ذلك الداء الخلقي الاجتماعي الذي استفظعه القرآن ووصف له العلاج، ولن يرتفع العلاج ابداً ولن يستغنى عنه حتى تبيد آخر جرثومة من جراثيم الداء.
وعزيز والله على الاسلام ان يرى وفرة كبيرة من شبانه وفتيانه تقتل الساعات الطويلة وتخبي الجذوات المتقدة، ساعات الحياة العزيزة وجذوات الشباب الثمينة.
عزيز على دين الاسلام ان يرى فتيانه وشبانه وعدته لمستقبل ايامه تهدر هذه الذخائر العظيمة هدراً، ثم لا تجني من ذلك، ولا يجني مجتمعها من ورائها إلا خبالا ووبالا !.
وان المرأة ليعجبها من الرجل ان يكون رجلا يملأ هذه اللفضة بمعناه ويفعم مركزه الاجتماعي بكفاءته ومواهبه، وابغض خلق الله الى قلبها الرجل المستأنث، ولو انها خيرت بين رجل تام الرجولة وهو في قبح عنترة وذكر تام الأنوثة وهو في جمال الأمين لما ترددت في الاختيار، وسل أي انثى رشيدة عن ذلك اذا شئت.
لم ينحسم ذلك الداء الاجتماعي الوبيل الذي استفظعه القرآن ولم تهن اعراضه، ولم تتقلص آثاره، وليس لفتياتنا الكريمات ولا لمن يتصنع الانتصار لهن ويتكلف الغيرة عليهن من الرجال ان يطلبوا رفع العلاج ما لم ينته جميع ذلك.
وليس لهم ان يقترحوا على الاسلام ان يخرج عن حدوده، وان يعدل عن منهجه، لأنه يعلم حق العلم ان خطته التي نهج عليها هي الخطة الحكيمة المثلى، ولا محيد له ولا لأحد من الناس عنها، يعلم ذلك حق العلم، ويعلم به كذلك كل عاقل جاد في نظرته منصف في حكمه.

ـ 27 ـ وضبط النفس عن ميولها الوضيعة وسيطرتها على اهوائها المنحرفة

ـ 27 ـ وضبط النفس عن ميولها الوضيعة وسيطرتها على اهوائها المنحرفة، وتحكيم العقل الرشيد السديد في شهواتها ونزواتها، فلا تطلق إلا بحق ولا تمنع إلا بحق، وتعزيز الارادة وسد نفوذها حتى تقبض على الزمام بقوة فلا يفلت، وتوجه الأمر بحنكة فلا يلتوي ولا يضطرب ولا يتشتت.
هذه الخلايا هي الميزة الكبرى في الانسان، وهي العدة له للاكتمال في معاني الانسانية، والارتفاع في مراقيها.
واي صفة من الصفات الحميدة يمكن ان ينالها الانسان، واي مرقى من مراقي الكمال في هذه الحياة يقوى ان يبلغه، واي مطمح من المطامح التي يتنافس عليها ذوو المواهب والكفاءات يستطيع ان يدركه اذا هو لم يؤت نصيباً من هذه الخلال. اذا هو لم يملك النفس المنضبطة المتزنة والعقل الرشيد المسيطر والارادة القوية الفعالة. اذا كان عبداً مملوكا لهشوته ورغبته، ليس له مع امرها امر وليس له مع قولها قول؟!.
ما قيمة العالم الضليع اذا تدخلت اهواؤه في تجاربه وملاحظاته، فلم يستطع ان يمنع فضولها وان يعين حدودها؟!.
وما قدر السياسي الخطير اذا رسمت له شهواته خطوطه في السياسة او شاطرته وجوه التدبير ثم لم يملك تبديلا ولا تعديلا؟!.
وما منزلة القائد المرموق اذا املت عليه النزوات نصف خطته او كلها، لم يقو إلا ان يضع، ولم يقو إلا ان ينفذ؟!.
وما شأن الطبيب النطاسي اذا اوحت له اندفاعاته كيف يفحص وكيف يصف وكيف يعالج، ولم يتمكن ان ينقذ مريضه من هذا التطفل والتدخل؟!.
وما وقع الحاكم او القاضي اذا شاركته الميول في تحري الحق او صدته عن الحكم به، ولم يشجع ان يخلص للعدل في تحريه وفي حكمه؟!.
وما اثر المعلم والباحث والمهندس والمحامي والتاجر والمزارع والعامل والجندي اذا صرفته ملاذه وسقطاته عن اداء مهمته او حددت له وجه العمل فيها، ولم يطلق إلا ان ياتمر، ولم يطق إلا ان يتوجه؟!.
ان تحقيق أي امنية من الاماني الكبيرة يفتقر الى شيء غير قليل من ضبط النفس وتسديد خطواتها، والمقدار الذي يفتقر اليه من هذه العدة يختلف بمقدار ما لتلك الأمنية من خطورة ونباهة شأن، اما الاكتمال في معاني الانسانية اجمع فهو يفتقر الى الضبط الكامل لميول النفس واندفاعاتها.
وهذه هي الغاية التي ابتغاها الله للعالمين يوم شرع لهم شرعه، وقد وقت لهذه الغاية حدودها ووضع للعالمين ضماناتها، وحجاب المرأة من اهم هذه الضمانات التي تكفل بالغاية للرجل والمرأة على السواء.

ـ 28 ـ ما اجدر الانسان بأن يعرف حدوده ولا يتجاوز حقوقه

ـ 28 ـ ما اجدر الانسان بأن يعرف حدوده ولا يتجاوز حقوقه، وما ابأس الأمة اذا اضطربت بينها الموازين فتصدى كل قائل فيها لكل قول، وتولى كل عامل منها كل عمل وتصدر كل احد لكل شيء، ففقد الاختصاص وشملت الفوضى وساءت الحال.
ليكن السفور شهوة نفسية لبعض النساء او رغبة جنسية لبعض الرجال، ليكن ذلك فما عدم التاريخ شذوذاً في الناس منذ اول يوم من ايامه، وما عدم من يتخيل ثم يبغي ان يحتص من خياله زرعاً، او يتوهم ثم يحاول ان يشيد على وهمه بناءاً، وما عدم التأريخ من يسخر اسمى موهبة من مواهبه لأحط رغبة من رغائبه، ان هؤلاء واولئك كثيرون في الحياة كثيرون عبر التاريخ.
اما ان يجرؤ مسلم يعترف بالاسلام ويؤمن بالقرآن، اما ان يجرؤ هذا فيدعي ان السفور ليس اشتطاطاً على الدين، على دين الاسلام بالخصوص، وان الاختلاط بين الجنسين الرجال والنساء ليس بعيداً عن روحه، وان آية الحجاب (التي قدمناها) انما تدعو الى السفور، السفور (المحتشم؟) ثم يتخبط في التاريخ فيزعم ان العرب لم تكن تعرف الحجاب، كما انها لم تكن تعرف السفور الخليع !.
اما هذا فمما يخجل ويضحك في آن واحد.
واذا لم تكن العرب تعرف السفور الخليع فما هو تبرج الجاهلية الأولى الذي نهت عنه الآية الثالثة والثلاثون من سورة الحزاب؟ واذا لم تكن العرب تعرف الحجاب فما معنى الجلباب الذي امرت به الآية التاسعة والخمسون من السورة ذاتها؟ اليس اولئك وهؤلاء اللاتي عنتهن الآيتان الكريمتان من نساء العرب؟!.[1]
ولنقل ـ جدلا، وكما يحلو لبعضهم ان يقول ـ ان القرآن ليس كتاب وحي، افلا نصدقه في ما ينقل من تاريخ العرب ايضاً؟!.
وهنا كتاب آخرون، ومسلمون ايضاً يزعمون ان الحجاب انما كان له هذا الشيوع والانتشار بين الجاهليين قبل مجيء الاسلام، ولم يعرفه المسلمون كذلك إلا في عصورهم المتأخرة البعيدة عن عصر الرسالة، هكذا يخبطون في التاريخ، اما نصوص القرآن فلا قيمة لها أو هي دعوة الى السفور !!
وكان الدين في رأي هذه الفئة من الناس عقيدة بسيطة يعتقدها القلب وتدين بها النفس، ثم لا شيء غير ذلك، فليس على الانسان مثلا ان يجري على وفق هذه العقيدة في العمل، وليس عليه ان يطبق احكام الشريعة في السلوك، وهم انما يخادعون انفسهم اذا كانوا جادين في ظنهم هذا.
الدين عقيدة وشريعة، واثر هذين ايمان وعمل، ايمان تمتلئ به جوانب النفس، وعمل تخضع له جميع نواحي السلوك.
ولا يتم احدهما بدون الآخر، لا يكتملان إلا مجتمعين، ولا يثمران إلا متفاعلين، والمسلم الحق من سار على هدى القرآن العظيم يحقق ما احق ويبطل ما ابطل.
ولم يترك دين الاسلام ناحية من الانسان ولا وجهة من حياته ولا مظهراً من سلوكه إلا وقد شرع لها حكما لا بد للمسلم من اطاعته ولا بد من الانقياد له «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما»[2].
وانا اعلم ان في تاريخ المسلمين وفي تاريخ العرب نساء برزات يجتمن بالرجال ويجتمعون اليهن، وقد كان بعضهن يعقد النوادي للاجتماع بهم والتحدث اليهم، ولكن: ايصح لنا ان نتخذ من صنع هؤلاء حجة نعارض بها نصوص الكتاب ونستدل بها على حكم الاسلام في الحجاب؟!.
ان هذه الأساليب من الاستدلال مدخولة مرذولة.
على ان الغالب من هؤلاء النساء البارزات ممن تقدم بهن العمر وامنت منهن الفتنة، وقد اباح الكتاب الكريم للقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً ان يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وقدمنا البحث عن ذلك.
وهاهنا مخادعون مخاتلون، يقفون في وجه كلمة الله يمنعونها ويتخذونها هزواً، وبعض الاساليب الساخرة ماكر ماهر، يثبط الجبان من الدعاة ان يقول، ويحمل الساذج من الاتباع ان يتريب وان يلوم.
يقول بعض هؤلاء الكتاب: «تفنن اخواننا [ويعني بهم رجال الدين] ما شاء لهم التفنن في تبيان مساوئ السفور وما يجر وراءه من ويلات التبرج والخلاعة وآفات الحب والغرام، واود ان ازيدهم علماً ان علماء الاجتماع اليوم قد بحثوا هذه المساوئ بحثاً مستفيضاً عميقاً، وليست هذه التي ذكرها اخواننا إلا شيئاً تافهاً بالقياس الى ما ذكره علماء الاجتماع في هذا الشأن».
«وقد اطلق بعض العلماء على الحب والغرام اسم [العقدة الرومانتيكية] وبينوا ما تجني هذه العقدة على الناس من بلاء عارم يؤدي الى تحطيم العائلة، وكتب احد العلماء كتابا ضخما شرح فيه الخطر الذي يهدد المدنية من جراء هذا التفسخ العائلي الذي جره شيوع الحب والغرام بين شباب الجيل الحاضر.
«والعلماء حين فعلوا ذلك لم يندفعوا بآرائهم كما اندفع بها اخواننا المتزمتون فطلبوا الى المرأة ان ترجع الى البيت او تتخذ الحجاب من جديد.
«وسبب ذلك انهم عارفون بأنهم غير قادرين على ارجاع عقارب الساعة الى الوراء، فالمرأة بعد ان خرجت من البيت لن ترجع اليه مرة اخرى ولو ملأوا الدنيا موعظة وصراخاً».
«لا يكفي في الفكرة ان تكون صحيحة بحد ذاتها، الأحرى ان تكون عملية ممكنة التطبيق، وكثيراً ما تكون الأفكار التي يأتي بها الطوبائيون من اصحاب البرج العاجي رائعة، ولكنها في الوقت ذاته عقيمة تضر الناس اكثر مما تنفعهم» الى صفحات اخرى يكتبها على هذا الغرار.
هكذا يكتبون، وهكذا يتحدثون عن قولة الله العظيم في كتابه، كما يتحدثون عن بعض مهازل العقل البشري.
انها فكرة يقولها اخوانه رجال الدين وليست حكما شرعياً يجب الخضوع له على كل مسلم !.
وانها صحيحة ولكنها غير عملية وغير ممكنة التطبيق، وانها صحيحة ولكن يجب ان تترك وان تنبذ لأنها تصادم التيار الجارف، وانها صحيحة ولكن القائلين بها متزمتون متحذلقون يدعون الى ما يمتنع ان يكون، وانها صحيحة ولكنها عقيمة تضر الناس اكثر مما تنفعهم !!.
انها حق والحق ان يرتفع صوته وان يعلوا، وانها كلمة الله، وكلمة الله يجب ان يجهر بها وان يعلن، وانها حكم الله فلا يضر به من اعرض او زاغ عنه، وصدق الله العظيم الذي يقول «افنضرب عنكم الذكر صفحاً ان كنتم قوماً مسرفين»[3].
نعم، وليعلم هؤلاء وامثالهم ان كانوا لا يعلمون ان كلمة الله يجب ان يجهر بها وان تعلن ما دام من المحتمل ان يسمعها فرد واحد من الأمة فينتفع بها ويرتدع، ويجب ان يجهر بها وان تعلن وان لم يلق اليها سمع ولم يتذكر بها متذكر، يجب ان يجهر بها لتقام بها حجة ولتؤدي بها امانة وليتم بها بلاغ، «ان الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون»[4].
وهذا هو الفارق بين فكرة يؤمن بها عالم الاجتماع وبين حكم شرعي يحمله رجال الدين، فالعالم الاجتماعي يتناول الفكرة على انها حقيقة من حقائق العلم وواجبه في ذلك ان يبحثها بدقة وان ينقل خلاصتها للناس بأمانة، ثم لا يحتم عليه العلم اكثر من ذلك، ورجل الدين يتناول الفكرة على انها حقيقة من حقائق الدين، وواجبه في ذلك:
ان يفهمها حق الفهم اولا،
وان ينقلها للناس بامانة ثانياً.
وان يدعو الى تطبيقها على الأفراد وعلى المجتمع ثالثاً.
هذا هو الفارق الذي يجهله كتابنا او يتجاهلونه.
واقول: رجل الدين، وفقاً لقول هذا الكاتب، وإلا فكل اتباع الاسلام المؤمنين برسالته ـ في رأي الاسلام ـ رجال دين، وكلهم حملة دعوة، وكلهم راع وكلهم مسؤول عن رعيته كما يقول الرسول العظيم [ص].
من الخير ان يقف المرء عند حدوده وان لا يستخدم حدود الله وسيلة لمآربه، فيرتكب بذلك جريمة مضاعفة،
وما يقعد بالمرأة ان تتلقى علومها ومعارفها في معاهد مختصة؟ وما يقعد بها ان تأخذ اهبتها الكاملة لوظيفتها المهمة العظيمة:
اهبتها من العلم، واهبتها من الثقافة، واهبتها من المدنية الصحيحة، هي مربية الجيل ومنشئة اخلاقه؟ وما يقعد بها ان تخدم مجتمعها وتساهم في اسعاده؟ ما يقعد بها ان تفعل جميع ذلك في حدودها الواقعية الصحيحة التي وضعتها لها الطبيعة وقررها لها الشرع؟.
اما ان يطمع لها في اكثر من ذلك فهذا ما يفتقر الى عملية جراحية خطرة، وفي اغلب الظن انها غير ناجحة ولا مجدية، فان الطبيعة قد زودتها بكيان من نوع مخصوص.
وبعد فهذه قولة الله سبحانه في مسألة الحجاب اسوقها لقرائي صريحة واضحة، لا لبس فيها ولا تعقيد، قولة الله في كتابه فلا مرية فيها لمسلم، وحكمته في شريعته فلا ريبة فيها لعاقل.
وقد قلت لقارئي في مطلع حديثي انها وقفة قصيرة لا يطالبني فيها بتطويل، وقلت انها يماءة سريعة فلا يحوجني الى تفصيل، اما غير هذه وهذه فان الوقفة وان كانت قصيرة، إلا انها مستوفية، والايماءة وان كانت سريعة إلا انها مستقصية.
واعود فاكرر معذرتي التي اسلفتها في التقديم واقدم له تحياتي في مطلع الحديث وفي ختامه
[1] الآية الأولى هي قوله تعالى في حديثه مع ازواج الرسول [ص]: «وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى» والآية الثانية هي قوله تعالى: «يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن» وقد تحدثنا عن هذه الآية الأخيرة في فصل تسلسل (25).
[2] النساء: 65.
[3] الزخرف: 5.
[4] البقرة: 159.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page