وامتشق حسامه المهند من غمده، ونزل مخترقاً صفوف العدو المتكبر، فراح الأكبر في كبرياء العز يضرب الأجلاف ويجندل الجبناء، ويحصد بهم فيوقع أكبر الخسائر في أوساطهم.. راح يضربهم فوق الأعناق ويضرب منهم كل بنان..
ظهر تأثيره عليهم حينما دخل دائرتهم وأخذ يخوض في وسطهم العسكري، ليمزق جمعهم ويفرق صفوفهم ويشتت شملهم الشريد، فقلب وقوفهم وحالة سكونهم إلى حركة دائمة، وركض وهروب فهزيمة فالرجل من إذا هرب نجا..
وغاب شخص علي الأكبر بينهم غياباً تاماً يتجلى للعيان بما يلعبه فيهم ويؤثر عليهم، فلا يظهر منه غير نشاطه المتمثل بهز العسكر وزعزعة الجيش إذ كان نزاله المسلح بكل طاقاته وقدراته مما أعيى الفرسان المدججين والكماة الناصبين، واستمر في فعالياته البطولية يخرق الصفوف ويتحدى السيوف.. نزل فيهم نزول الأسد الجريح، وخاض بهم خوضاً لم يشهدوا له مثيلاً قط، فما يترك كتيبة إلا وعاد إليها وما يلبث أن يرجع لمن فرقهم بسيفه الصقيل، مضى يتصرف بهم حسبما يريد، وقد عجزوا عن وضع حد له وإيقاف قواه التي تواصل استعراضهم فتكيل لهم الضرب وتنزل بهم الخسائر الجسيمة.. (ولهذا حرصوا على أن ينتقموا منه بعد قتله، وذلك بتمزيق جسده).
حتى إذا ماجهلوه وظنوا أنه علي بن أبي طالب قد خرج إليهم، لأنهم لم يصدقوا أن هذه الحملات الشجاعة لغيره، طفق يكشف لهم عن هويته المقدسة واسمه الشريف - كما قيل عن سبب ارجوزته التالية - . أو أنه أراد توضيح شخصيته ومهمته المنوطة به فبادر معلناً لهم، وهو ما زال ماضياً بعزم لا يلين، ينشدهم أنشودته الخالدة وأرجوزته المجيدة:
تا لله لا يحكم فينا ابن الدعي أضرب بالسيف أحامي عن أبي
ضرب غلام هاشمي علوي(1)
أعلن لهم أنه نجل الحسين حفيد أمير المؤمنين علي..
كما أعلن رفضه لحكم الطلقاء وسياسة ادارة الأدعياء فلا وفاق عليها مهما بلغ الثمن: ((تا الله لا يحكم فينا ابن الدعي)).
أبلغهم أنه سيواصل سيره بسيفه المصلت فوق رؤوسهم ذاباً عن الدين الحنيف ومحامياً لأبيه سيد الأمة..
نبههم أن صرامته وتصلبه، وضرباته الفتاكة لها ما وراءها من رصيد هاشمي، فقوة ضربته وعزيمة ساعده، وتحمله لمشاق المعارك وهول الحروب انما له أصالته بدءاً من هاشم خير الكيان القرشي.. تلك المعاني السامية والإيحاءات الجدية تصك أسماع الأعداء، وهو يكرر انشودته ويكر عليهم كرات جده الكرار فلا يعرف أي معنى للفرار..
((فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الكوفة لكثرة من قتل منهم، حتى روي أنه على عطشه قتل مائة وعشرين رجلاً)) (2).
لم يفت في عضده العطش بل حتى الجراح المعضلة، يسمو يحدق فيهم متعالياً فوق الجواد الناهض .وإذا ما تحاوموه بجمع وكتائب يردهم ويجبرهم على التقهقر والنكوص قسراً..
فيـردها قسـراً على أعقـابها في بأس عرنين العـرينة ملبد
وما همّ بالعجز، وهو شامخ على صهوة جواده بجراحه الدامية المتدفقة دماً عبيطاً، حتى إذا زاد ألم العطش وأخذ منه مأخذاً إلى جانب الجراح والدماء السائلة، رجع وهو يأمل أن ينال شربة من الماء لو وصل إلى المخيمات..
____________________
1- الارشاد للشيخ المفيد، وغيره كالمقتل للخوارزمي وأعيان الشيعة، وفي الفتوح بعض الزيادة عن هذا .. وفي الطبري والكامل نقصان عنه... وهكذا بتفاوت جلي...
2- مقتل الحسين ـ للخوارزمي ح 2 ص 30 وفي الفتوح جاء ((فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الشام من كثرة من قتل منهم، فرجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة)) ج 5 ص 209 بمعنى أن ثمة تسليم بوجود بعض الشاميين .