طباعة

الانتقام

((عليّ آثام العرب إن مر بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه)) (1).
هذا ما قاله أحد المرتزقة في معسكر العدو، وقد التاع وتعذب من شدة حملات علي الأكبر وصولاته حتى بلغ من البغض له والحنق عليه والحقد بحيث صمم على التصدي لهذا المجاهد العطشان، ولا شك أن هذا المرتزق قد ذاق أنواع العذاب من هروب وهزيمة وجبن من سيف علي الأكبر، ولكنه حينما لاحظ تعب عليّ وارهاقه تجرد من جبنه واستجمع جرأته وقال قولته تلك.. انه المدعو (مرة بن منقذ بن النعمان العبدي) الذي تتضح روحه الجاهلية من كلماته ومنطقه ((عليَّ آثام العرب.. والحق أن آثام العرب يستحقها وهي عليه وهو بمستواها، إذ أنه كاره ومعادٍ وقاتل لأشبه الناس بسيد العرب والعجم، وبالرغم من المنطق القرآني الناهي لمثل ذلك المعنى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) نجد أن ذلك الجندي الجاهلي مصمم على تحمل أوزار العرب، مع أنه مستوزر كثيراً من الأوزار، وهكذا أحب أن يحمل على ظهره هو ومن على شاكلته أوزاراً ثقيلة لا طاقة لهم ببعضها.. (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) قرآن كريم.
ولولا العار عليه من قبل رفاقه لصمم ولأقسم باللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى، لكن صيغة تصميمه تلك أقل كشفاً لمضمونه الجاهلي كما يتوهم، وعلى كل حال فإن الأهداف والدوافع الدفينة قد انكشفت، وتكشفت عن الحرب الجارية هذه حقائق لم تخف أو تنطمس.

الحرب قد بانت لها حقائق      وأظهرت من بعدها مصادق

ولكي لا نهمل النص السابق علينا أن نلاحظ ما فيه ونرى ما يمكن أن نستوحيه . قال: ((... إن مر بيّ))، كما قال : ((.. وهو يفعل مثل ما كان يفعل)).
يبدو جلياً أن علياً كان لا يترك لهم جمعاً إلا ومر به ولا كتيبة إلا وهاجمها، وكأنه كان يستعرضهم بحملاته استعراضاً عسكرياً مرعباً، بحيث أنه ما أن يترك كتيبة إلى غيرها حتى يعود إليها وإلى غيرها، وهكذا دواليك بنشاط منقطع النظير بحيث أنهم يتوقعون معاودته وكرته عليهم ثانية لهذا توقع ذلك الجندي فقال ((.. إن مر بي)).
ويبدو أنه كان يفعل بهم فعلاً لم يشهدوه طوال حياتهم العسكرية من شاب مسلح بمفرده، فكان استعراضه للجيش رهيباً، ان مرة العبدي لاحظ حرص علي الأكبر على تلقين جموعهم دروساً قاسية وتعليم جحافلهم حقائق بطولية رسالية لاتنسى لاحظ حرصه على عدم إهمال أي كتيبة دون أن يطعمها بالقتلى والجرحي ويختم لها بالهزيمة المنكرة فحقد حقداً قوياً . ((عليَّ آثام العرب، إن مرّ بيّ وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه)).
فانتظر دور الكرة العلوية على كتيبته الأموية، وقد نزع منه لباس الهروب والهزيمة، وكأنه نسي أنه جبان جلف جافي.. فراح يتربص ويلتمس الفرص، ليطعنه ولو عن بُعد منه، وبينما كان الشجاع العطشان يستعرضهم رغم ضعف بدنه ذي الجراح المثخنة المكثفة، ويزحف على جموعهم بالتتابع، كأنما هو زحف منتظم، وبينما كان يشق طريقه مقاتلاً بقواه الباقية، دنا الجندي المرتزق فتأهب مستجمعاً جرأته على الله ورسوله، وجسارته على الحقائق مسدداً رمحه الطويل في ظهر علي(2) (سلام الله عليه) فغرز الرمح - أو السهم - فيه، فانحنى علي على جواده، ثم ثنى له العدو بضربة على رأسه الشريف، ففجه، حينها أطلق علي الأكبر صوته بالسلام علي أبيه:
((يا أبتاه عليك مني السلام. هذا جدي يقرئك السلام ويقول لك عجل القدوم إلينا)).
ثمّ شهق شهقة فاضت أثرها روحه الزكية..
لكنهم لم يتركوه، فثمة دور ومهمة لهم. ترى ماذا فعلوا به وبجسده الذي أذاقهم مرّ طعم المواقف المسلحة؟؟؟
_____________________________
1- الطبري ح 4، ص 340 .
2- وفي كتاب اللهوف لابن طاووس أنه سدد له سهماً قائلاً..