• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة آل عمران : قصَّة المولود بلا أب

 هذه الاُقصوصة بدورها امتداد للأقاصيص السابقة ، حيث لاحظنا أنّ كلاّ من قصة إمرأة عمران ، و قصة زكريّا ، و قصة يحيى ، و قصة مريم ـ هذه القصص الأربع في سورة آل عمران ـ ستكون ممهّدة للدخول إلى قصّة أكبر حجماً ، و أوسع دلالةً ، إنّها قصة عيسى (عليه السلام) فيما وُلد بلا أب بشري ، و هذه القصة نفسها ينبغي أن تضعها في ذهنك لا بما أنـّها تشكّل هدفاً بذاتها ، بل ينبغي عليك أن تجعلها وسيلةَ إنارة لا أكثر ، تضيء الهدف الذي رسمه القرآن الكريم في هذه السورة التي ستنقل لك جانباً من حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في جهاده مع الأعداء و في مواصلة اضطلاعِهِ بمهمّة الرسالة الإسلامية ، فيما احتفّت بأشواك و متاعب يُعلّمنا القرآن الكريم من خلالها نمطَ التعامل الذي نخطّه لأنفسنا في متابعة الوظيفة العبادية.

* * *

و يهمّنا الآن أن نتابع القصة الخامسة من قصص سورة «آل عمران» ، و هي قصة عيسى (عليه السلام) ، لملاحظة موقعها الفنّي من هذه القصص و موقعها الفنّي من السورة بأكملها ، ثمّ موقعها ـ و هذا هو الهدف الرئيس من عملية القصّ ـ من الرسالة الإسلامية عبر اضطلاع النبيّ (صلى الله عليه وآله) بها ، و عبر الوظيفة التي يتعيّن علينا ممارستها في هذا الصدد.

لقد لحظت كيف أنّ سلسلة الأحداث و المواقف في القصص الأربع ، قد ابتدأت من امرأة عمران ، ثمّ إنجابها لمريم. ثمّ قصة زكريّا و إنجابه ليحيى ، كما لحظت إنجاب مريم (عليها السلام)لعيسى (عليه السلام) ، ثمّ صلة يحيى (عليه السلام) بعيسى (عليه السلام) أيضاً.

و لابدّ أنـّك تتذكّر كيف أنّ يحيى سيكون مصدّقاً لرسالة عيسى الذي بُشّرت مريمُ به ، وجيهاً في الدنيا و الآخرة ، و من المقرّبين ، و يكلّم الناس في المهد و كهلا ، و من الصالحين. و كيف أنّ السماء ستعلّمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل ، و كيف أنـّها ستبعثه رسولا إلى العصر حينذاك ، ثمّ كيف أ نّه سيجيء بممارسة أكثر من معجزة بإذن اللّه من خلقه من الطين كهيئة الطير ، و إبرائه الأكمه و الأبرص ، و إحيائه الموتى ، و إخباره بما يأكل الناس و يدخّرونه في بيوتهم ، كلّ اُولئك ستقفُ عليه عندما نحدّثك مفصّلا عن قصة عيسى (عليه السلام)، أي قصة المولود بلا أب و ما يواكبها من مواقف و أحداث شتّى.

إلاّ أنّـنا الآن نعتزم أن نلفت انتباهك إلى أكثر من ملحظ ، لا مناص لنا من اقتطافه من القصص الأربع التي حدّثناك عنها ، لأنّ هذه المَلاحِظ ذات صلة وثيقة بهذه القصة ، و بما يلحقها من أحداث و مواقف.

فقد لحظتَ منذ البداية أنّ الأمر يتصل بممارسات عبادية وفقاً لمفهوم الخلافة الانسانية على الأرض ، فإمرأة عمران تمارس ظاهرة النذر لتحقيق مهمة عبادية لوليدها ، و ابنتُها تتمحّض للعبادة بالنحو الذي وقفت عليه ، و زكريّا بدوره يتّجه إلى مناشدة السماء أن تهبه ذرّيّة طيّبة. و ذرّيّته التي تمثّلت في يحيى قد حققت المناشدة العبادية المذكورة كما عرفت. و زكريّا نفسه قد مارس الكفالة لمريم ، و هي مهمّة تربوية عباديّة خطيرة ، فضلا عن أ نّه تمحّض لفترة ما ، لممارسات عبادية خاصة ، امتثالا لأمر السماء.

هذا كلّه ، ينبغي أن تضعه في ذهنك و أنت تتابع سلسلة المواقف في تحركات الشخوص المذكورة ـ في صعيد الممارسة العبادية ـ .

و إذا انتقلت بذاكرتك إلى الأحداث ، للحظت أنـّها قد تتابعت و هي تحمل نمطاً متماثلا في عملية الإنجاب و ما واكبها من الظواهر ، فأنت تجد نفسك أمام اُبوّة و بنوّة ... أمام أب و إبن ، أو أب و بنت ، أو اُمّ و بنت ، أو اُمّ و إبن ... ستجد نفسك أمام امرأة عمران و ابنتها ، ... و أمام مريم و ابنها ، و أمام زكريّا و ابنه ... و كلّ هذه السلسلة الأبويّة و البُنويّة ، تبدأُ إمّا من الدعاء بطلب ذرّيّة ، أو التحقيق لها بنحو غير مباشر ، لكنّك في الحالتين تلاحظ أنّ الإعجاز هو الطابع الوحيد الذي غلّف كلّ هذه السلسلة من عمليات الإنجاب ، فيما بدأت من العقم أو الكبر ، ثمّ انتهت إلى أخطر ظاهرة في الإنجاب ، ألا و هي الولادة بلا أب ، متمثلة في شخصية عيسى التي انتهت القصصُ إليها و مهّدت لها ، لكي يتسلم القارئ أو المستمع شخصية عيسى (عليه السلام) ، و قد رسمها النصُ أيضاً سلسلةً من الأحداث و المواقف المعجزة كما سنرى.

هنا نطالبُك بملاحظة الأحداث و المواقف ، و شدّها بعضها بالآخر و بخاصة بين ولادة عيسى (عليه السلام) بلا أب و هي ظاهرة إبداع خاصة ، ثمّ ممارسات عيسى نفسه و هي ظواهر إبداعية خاصة أيضاً.

و هذه الظواهر الخاصة رسمها القرآن الكريم لعيسى (عليه السلام) في مستويات ثلاثة ، تجسّد قوى الشخصية ، فيما تستكمل بها كلّ معالمها التي تنتزع التقدير عادة.

هذه القوى الثلاث هي: العلمُ ، و الاقتدار ، و التعبير.

و من الواضح ، أنّ هذه السمات الثلاث تكتسب المزيد من التقدير ، بقدر ما يضخم حجمها عند الشخصية. و لقد رسمها القرآن الكريم جميعاً ، على أشدّ ما يمكن تصوّره في الشخصية ، رَسَمَها في أقصى الامكانات الخاضعة للتخيُّل البشري ، فقد صوّر السمة التعبيرية ـ أي الكلام ـ متمثّلةً في التحدّث مع الآخرين ـ و الشخصيةُ لا تزال في المهد ـ في حين أنّ الطفل لا يقوى في مرحلته النمائية المذكورة حتى على مجرّد النطق ، فضلا عن أن يكوّن له ثروة لغوية يُحاور بها الآخرين.

و أمّا السمة العلمية ، فقد رسمها لعيسى (عليه السلام) على النحو الذي يُحيط من خلاله علماً حتى بما يدخّره الناس في بيوتهم أو يأكلونه مثلا.

و لا تعقيب ـ بطبيعة الحال ـ على مثل هذه الإحاطة التي تندّ عن الإمكان في التجربة البشرية العادية.

و أمّا سمة الاقتدار ، فقد رسمها القرآن الكريم لشخصية عيسى (عليه السلام) بنحو لا يحتاج إلى التعقيب أيضاً ، مادام هذا الاقتدار قد تجاوز مجرّد عملية التطبيب ، من إبراء الأكمه و الأبرص ، إلى عملية إبداع و إحياء. إبداع للجنس الحيواني متمثّلا في صنع هيكل طائر يبعث فيه الروح ، و إحياء للجنس البشري متمثّلا في نفخ الروح فيه من جديد ، بإذن اللّه.

لو تابعت قصة عيسى (عليه السلام) ـ و هي القصة الخامسة من قصص آل عمران ـ للحظت أنّ السمات الإعجازية الثلاث التي قدّمها عيسى (عليه السلام) للجمهور ... و نعني بها سمات العلم و الاقتدار و الكلام ، إنّما جاءت امتداداً لما سبقها من القصص ـ كما وقفت على ذلك ـ و ارهاصاً لما سيجيء من أحداث و مواقف في قصّته ، و في قصة الرسالة الإسلامية كما سنرى.

و قبل أن نتابع هذا الامتداد و الارهاص ، ينبغي علينا أن نلفت نظرك إلى أنّ كلاّ من السمات المعجزة الثلاث ، لا ينحصر رسمها في استقطابها لقوى الشخصية التي تنتزع التقدير فحسب ، بل في إلقائها الضوء أيضاً على أكثر من موقف و حدث.
فسمة الكلام ـ أي تكليم عيسى و هو في المهد ـ جاءت لتُعمّق القناعة بالحدَث المعجز لولادته من خلال مسح أيّ تشكيك أو ضبابية أو سوء تفسير في ولادته ، فكان نطقه بالحقائق ـ و هو في مهده ـ ردٌّ على أيّ لغَط يصدر عن الآخرين في هذا الصدد.

و أما سمة الخلق و الإحياء ، أي خلقه من الطين هيئة طائر بإذن اللّه ، ثمّ إحياؤه للميّت بإذن اللّه ، هذه السمة لا تحتاج إلى التعقيب في صلتها فنّياً و نفسيّاً بكلّ ما تحمله القصصُ الأربع السابقة على قصة عيسى (عليه السلام) من أفكار تتصل جميعاً بقدرات السماء في عملية التوليد البشري.

إنّ قدرات السماء في الإنجاب من العقم ، و في الإنجاب بلا فحل ، شكّلت رسماً كان بمثابة العَصَب الذي يمتدّ في هياكل القصص الأربع جميعاً ، فجاءت عملية التوليد و الإحياء باذن اللّه في شخصية عيسى تتويجاً و تفسيراً للقدرات المذكورة ، مع إضافة عنصر جديد هو الإحياء في قصة عيسى (عليه السلام).

و إذا أخذنا بنظر الاعتبار ، أنّ إحياء الآدميين بعد موتهم يُشكّل القطبَ الآخر من استدلال السماء على قدراتها و انسحاب ذلك على ظاهرة الإقناع التي تحرص السماء على توفيره للمتلقّي ، حينئذ أدركنا قيمة العنصر الجديد الذي رسمته السماء لشخصية عيسى (عليه السلام) ، في إحيائه الموتى بإذن اللّه.

و هذا يعني أنّ السماء مهّدت بهذا العنصر ، إضفاء صفة القناعة على العملية الاُخرى للتجربة البشرية ، و هي عملية إحياء البشر بعد موتهم ، و التهيّؤ للمرحلة الخالدة في الحياة الاُخروية.

و لسوف نرى صدى هذا العنصر على بقية أجزاء السورة في متابعتنا لها.

و أمّا انعكاس هذا الرسم على سياق رسالة عيسى فواضحٌ كلّ الوضوح ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تقوله لنا النصوص المفسّرة من أنّ أيّ حدث معجز يواكب رسالة شخصية ما ، إنّما يتساوق مع طابع العصر و معطياته الحضارية ، فيما كان الطبّ ـ كما تقول النصوص المفسّرة ـ طابع العصر الذي واكب عيسى ، فكان إبراء الأكمه و الأبرص تجسيداً معجزاً لطابع العصر ، ثمّ كان الخلق و الإحياء ـ بإذن اللّه ـ تتويجاً عالياً و تجسيداً لأعلى قمم التصرّف بالمصائر البشرية و ولادتها.

و أمّا السمة العلمية ، فقد جاءت تأكيداً آخر لظاهرة الرسالة ، بصفة أنّ العلم حتى بدقائق الاُمور من نحو ما يدخّره الناس في البيوت ، و ما يتناولون من طعام.
هذا النمط من الإحاطة العلمية يُعدّ دون أدنى شك عنصراً بالغ الأثر في تحقيق ظاهرة الإقناع بمشروعية الرسالة ، و انتسابها إلى قُدرات خارجة عن الإطار القاعدي للتجربة البشرية.

اُولئك جميعاً ، رسمته السماء من خلال تحقيق مهمّتين مزدوجتين:

تحقق اُولاهما عنصر التجانس فنّياً و نفسيّاً في إطار القصص المرسومة التي تمهّد بكلّ أحداثها و مواقفها لرسالة عيسى.

و تحقق الاُخرى عنصر الإرهاص بما يمكن أن تحققه مرحلة الرسالة ذاتها.

و بالفعل ، نلحظ من هنا ، كيف أنّ النصّ القرآني بدأ برسم مرحلة الرسالة التي اضطلع بها عيسى ، فيما بدأها بمطالبة الجمهور بالانصياع إلى رسالته بعد أن توّج ذلك كلّه بالإلماح إلى الرسالة السابقة عليه ـ و هي رسالة موسى ـ من أ نّه جاء مصدّقاً بها من خلال ما تضمّنته من التبشير برسالة عيسى.

هنا ، ينبغي ألاّ تفوتنا الإشارة إلى أنّ رسم التبشير برسالة عيسى ، سيترك وقعه الفنّي و النفسي على التبشير الذي ستصوغه رسالة عيسى بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) ، فيما
تمثّل هذه الرسالة ، خاتمة المبادئ للسماء ، و فيما يستهدف النص القرآني من وراء الرسم المذكور ، ترسيخ القناعة بمشروعية الرسالة الإسلامية في خاتمة المطاف.

و على أيّة حال ، فإنّ الأحداث و المواقف تبدأ من الآن فصاعداً تتّخذ مساراً جديداً هو نمط استجابة الجمهور لرسالة عيسى (عليه السلام) ، ثمّ تعامله و إيّاهم ، و أخيراً كيفية إنهاء حياة عيسى و انسحاب اُولئك جميعاً على الرسالة الإسلامية.

و لنقف عند هذه الملاحظ الأربعة: تعامل الجمهور ، تعامل عيسى ، خاتمة حياته ، انسحاب ذلك على الرسالة الإسلامية.

و لنقف مع الملحظ الأوّل و الثاني:

لقد رسم القرآن الكريم بيئة الرسالة التي اكتنفت عيسى (عليه السلام) منحصرة في موقف الرفض لرسالته و موقف المساندة لها من قِبَل حواريّيه دون أن يرسم تفصيلات الأحداث و المواقف ، فمثل هذه التفصيلات سوف لن يكون لها أثرٌ على مجرى الأحداث في رسالة محمّد (صلى الله عليه وآله) فيما رُسمت قصةُ عيسى لتلقي الضوء على البيئة التي تكتنف الرسالة الاسلاميّة ، كما هو واضح.

و لنقرأ الآيات الثلاث الآتية ، فيما رسمت الموقفين المذكورين ، أي الرفض بعامّة ، و المساندة من الصفوة:

﴿فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ:

﴿مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ؟

﴿قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنـّا مُسْلِمُونَ

﴿رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ

﴿وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ

إنّ هذه الآيات الثلاث تلخّص بيئة الرسالة ، مختزلةً كلّ التفصيلات التي كان من الممكن أن يرسمها القرآنُ ، إلاّ أنّ الانتقاء كان لهذه المواقف الآتية فحسب ، و هي:

1 ـ الجمهور يرفض الرسالة.

2 ـ عيسى يناشد الآخرين بمساندته ، فيستجيب له عددٌ ضئيلٌ من
الشخصيات.

3 ـ المتمرّدون ـ و هم كفار بني إسرائيل ـ يحوكون مؤامرة ضد عيسى.

4 ـ السماءُ تئد المؤامرة ، و تسحقها من الأساس.

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ المتمرّدين كانت مؤامرتهم تتحدّد في محاولة لقتل عيسى ، إلاّ أنّ السماء ألقت على صاحب المحاولة ، أيّ الذي أراد قتل عيسى ، ألقت عليه الشبه ، فَقُتِل من قِبَلِ أصحابه ، و رفعَ اللّهُ عيسى إلى السماء.

و المهم ، أنّ القرآن الكريم اكتفى بإلاشارة إلى عملية محاولة القتل ، اكتفى بقوله تعالى:

﴿وَ مَكَرُوا

و اكتفى من عملية إنقاذ عيسى بقوله تعالى:

﴿وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ

و اكتفى أساساً من موقف الرفض ، بقوله تعالى:

﴿فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ

إلاّ أ نّه فصّل الحديث عن أنصار عيسى فحسب.

تُرى ما هو المبنى الفنّي لهذا التفصيل ، و ذلك الاختزال؟

لقد اختزل القرآن الكريم في قصة عيسى (عليه السلام)، أي المولود بلا أب رسم
الحوادث و المواقف المتصلة برفض دعوته و بالمؤامرة التي دُبـّرت حياله ، و بالقضاء على المؤامرة ، مكتفياً بالإشارة العابرة لها ، لكنه فصّل في موقف المساندين لعيسى و هم اثنا عشر رجلا ، خلع النصُّ عليهم إسم الحواريين ، هؤلاء الحواريون رسمهم النص بأنـّهم أنصارُ اللّه ، و أنـّهم آمنوا باللّه و أنـّهم مسلمون و أنـّهم آمنوا بما أنزلته السماء على الرسل ، و أنـّهم اتبعوا الرسول ، و أنـّهم في نهاية المطاف أكّدوا مبدأ ذا خطورة و كرّروه مرّتين ، ألا و هو ظاهرة الإشهاد ، الإشهاد بأنـّهم مسلمون ، و المطالبة بأن يُكتبوا مع الشاهدين.

إنّ رسم هذه التفاصيل لشخصيات الحواريّين ، يحمل دلالةً فنّية و نفسيّة تتمثّل في إلقائها الضوء على الأفكار المطروحة في سورة «آل عمران» و سنجد فيما بعد عند حديثنا عن سائر أجزاء السورة ، كيف أنّ كلاّ من الإشهاد و الإيمان و الإسلامالذي يعني الانقياد ، سنرى كيف أنّ هذه الظواهر الثلاث قد كرّرها النص في أكثر من موقع من السورة ، فيما سبقت العنصر القصصي و لحقته أيضاً ، و هذه الظواهر الثلاث رسمها النص في سائر أجزاء السورة عبر سياقات متنوّعة تتصل بالجهاد ، و بمواقف المؤمنين الذين ساندوا النبيّ (صلى الله عليه وآله) في معركته ضد الكفر ، و بمواقف خاصة و عامة جاء من خلالها رسمُ هذه الظواهر الثلاث بنحو لافت للنظر ،

من نحو آية ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ...

و آية ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الاِْسْلامُ

و آية ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ ...

و آية ﴿يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ ... و ... إلى آخره.

هذه الآيات تشكّل العصب الذي يمتدّ إلى جزئيات كبيرة من السورة بنحو تتآزر و تتساند فيما بينها و بين سائر الأفكار المطروحة ، فيما يستهدف النصُّ القرآني من رسمها بهذا النحو المتناسق إحداث تأثير خاص في المتلقّي يتصل بطبيعة الاستجابة البشرية لرسالة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) ، و التلميح بخاصة إلى ذلك النفر المُجاهد الذي كرّس حياته لرسالة الإسلام ، بعد أن نفض عنه كلّ تراكمات البيئة الملتوية و اتّجه إلى السماء بكلّ كيانه في ضوء فحصه الموضوعي للحقائق.

إذن ، جاء التفصيل في رسم شخوص الحواريّين بتلك السمات التي وقفنا عليها ، متجانساً مع السمات التي ركّز القرآن الكريم عليها عبر رسمه لشخوص المؤمنين الذين و اكبوا رسالة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، و مطلق المؤمنين الذين رسمهم القرآن بالسمة المذكورة. و هذا التجانس يتمثل في مستويين: أوّلهما: العناية بالتفاصيل.
و الآخر: العناية بشخوص متميّزين. و كلاهما متصلٌ بالتفاصيل و بالشخوص الذين رسمهم القرآن في كلّ أجزاء السورة.

إذن ، للمرّة الاُخرى يتعيّن علينا أن نؤكّد خطورة هذا الرسم للحواريّين ، و تفاصيل سماتهم ، بصفة أنّ هذا الرسم المفصّل جزءٌ من أفكار السورة التي يحوم الرسم القصصي عليها أيضاً ، أي بصفة أنّ النص القصصي موظفٌ لإنارة الأفكار المطروحة في السورة.

* * *

و بعامّة ، فإنّ متابعتنا لقصة عيسى لا تزال في مرحلتها غير المنتهية.

فلقد كان الشطر الأولُ من القصة يتجسّد في ولادة عيسى بالنحو الذي وقفنا عليه.

و كان الشطر الثاني من القصة يتجسّد في الإعلان عن دعوته عبْر الإشارة إلى الظواهر المعجزة التي قدّمها للجمهور من إبراء الأكمه و الأبرص ، و خلق الطير ، و إحياء الميت بإذن اللّه و العلم بدقائق الظواهر.

ثمّ كان الشطر الثالث من قصة عيسى يتجسّد في استجابة الجمهور حياله ، حيث تميّزت الاستجابةُ بالرفض ، و حيث أعلن عن مناشدته للنصرة ، فيما سانده الحواريون ، و حيث اُعِدّتْ مؤامرةٌ لقتله ، و حيث اُحبطت المؤامرة.

و إذن ، لقد تابعنا مراحل ثلاثاً من قصة عيسى.

و لكن ، لا تزال هذه القصة ذات مراحل اُخرى رسمها القرآن الكريم وفق بناء معماري خاص يتعيّن علينا متابعته ، فنقول:

الشطر الرابع من قصة عيسى يُجسّد إنهاء حياة هذه الشخصية ، فلقد رأينا كيف أنّ الملتوين ـ كفار بني إسرائيل ـ دبّروا مؤامرة لقتله و إنهاء حياته ، إلاّ أنّ السماء هنا تدخّلت لإنهاء حياته ، و إنقاذها من القتل ، فيما أنهتها بنحو آخر ، ترسمه الآيةُ الآتية:

﴿إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ

﴿وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا

﴿وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ

﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

إنّ إنهاء حياة عيسى من قبل السماء بهذا النحو الذي رسمته الآية ، ينطوي على إثارة بالغة المدى ، فكما كانت ولادتُه محفوفةً بالإثارة ، و الانبهار ، و الدهشة ، فكذلك كانت نهايتُه محفوفةً بالإثارة ، و الانبهار ، و الدهشة. لقد أوجدت السماءُ عيسى بنحو معجز مثير ، و أنهت حياته بنحو معجز مثير ... فقد وُلِدَ بلا أب ، و توفي بلا أرض.

إنّه لم يمُت بالنحو الاعتيادي ، كما لم يُولد بالنحو الاعتيادي.

في الحالتين تخطّت قصتُه قوانين الأرض التي رسمتها السماء لكلّ الآدميين ، ما عدا البعض.

لقد رفعت السماءُ عيسى إليها بعد أن خُيِّل للمتآمرين أنـّهم قد نجحوا في اغتيال عيسى (عليه السلام).

و مثل هذه الحادثة تحمل أكثر من دلالة فنّية و نفسيّة.

فلقد دحضت هذه الحادثةُ اُسطورة الصُلب التي لا يزال صداها الاُسطوري حاضراً في بعض الأذهان ، و كأنه حقيقة تأريخية.

كما أنّ هذه الحادثة ـ من جانب ثان ـ ألقت الضوء على مساندة السماء لأيّة شخصية تجاهد في سبيل اللّه ، من نحو شخصية إبراهيم (عليه السلام)مثلا ، فيما ساندتها السماء عبر إنقاذها من النار التي أراد المتآمرون إحراقَه فيها ، فيما جعلها اللّه برداً و سلاماً على إبراهيم.

و من جانب ثالث ، فإنّ هذه الحادثة تحقق مبدأ التجانس في الرسم القصصي للشخصيات ولادة و حياة و موتاً. فقد تجانست الولادة بلا أب ، مع الوفاة بلا موت.

فكما أرسلت السماء روحاً لإنجاب عيسى ، فكذلك رفعته إليها دون أن تُميته على الأرض.

و مثل هذا التجانس ينطوي على خطورة فنيّة و نفسيّة لايتحسّسها إلاّ من استخدم ذائقته الفنّية بنحو دقيق مستأن ، هذا فضلا عن سائر مبادئ التجانس في السمات المعجزة التي لحظناها تتتابع مع القصص الخمس التي شكّلت جزءً من السورة وقفنا على تفصيلاتها ، فيما لا حاجة إلى إعادة القول فيها ، مادام التجانس واضحاً كلّ الوضوح في كلّ السمات التي رسمها القرآن الكريم لشخصيات عيسى و زكريّا و مريم و امرأة عمران ، و في كلّ الخصائص التي اكتشفت رسم الأحداث و المواقف و البيئات التي كانت الشخوصُ المذكورةُ تتحرّكُ من خلالها.

* * *

إلى هنا ، فإنّ قصة عيسى في مراحلها الأربع تكون قد أوشكت على النهاية ، لولا أنّ أصداءها لا تزال تُلقي على الأحداث و المواقف أكثر من دلالة ، كما أنّ التمهيد لها بأكثر من قصة كان له صداه ـ كما رأينا ـ في القصص الأربع.

و لكن ما هي الأصداءُ المذكورة؟

إنّ هذه الأصداء تنعكس على رسالة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) و ما واكبها من أحداث و مواقف و شخوص و بيئآت ، حيث قلنا: إنّ العنصر القصصي بحكاياته و قصصه
الخمس وظّف من أجل إنارة البيئة الإسلامية في هذا الصدد ، و أنّ النص القرآني يستهدف من التوظيف المذكور إحاطة المتلقّي بطبيعة رسالة السماء و مشروعيتها و ضرورة الإيمان بها و تعميق اليقين بذلك بالنسبة إلى مجتمع رسالة الإسلام مع ملاحظة أنّ لكلّ من المجتمعين: مجتمع القصص المتقدّمة ومجتمع الإسلام له سماته الاستقلالية من جانب ، وسماته المتجانسة من جانب آخر ، وهو ما سنلحظه في الاُقصوصة الآتية ، أي: المباهلة حيث ترتبط بمجتمع الإسلام من جانب ، وبما سبقها من الجانب الآخر...



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page