(والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وارصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبلُ وليحلِفُنَّ إن اردنا الاّ الحسنى واللّه يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبداً لمسجد أُسس على التقوى من أول يوم أحقُّ أن تقوم فيه فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا واللّه يحبّ المُطَّهرين)([28]) .
نزلت هاتان الايتان في رهط من المنافقين اقدموا على بناء مسجد في المدينة عرف فيما بعد بمسجد ضرار بتحريك من أبي عامر النصراني لتحقيق اهداف مشؤومة ومخططات شيطانية ، حيث آلمه ظهور الاسلام في المدينة بهذه القوة والقدرة وتأسيس الدولة الاسلامية فيها ، فاتصل بمنافقي الاوس والخزرج من أجل توجيه الضربة للاسلام ، فلما عرف رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بنواياه لاحقه ، إلاّ أنه فرّ من المدينة إلى مكة فالطائف ومن ثمَّ إلى الشام ، ليقود من هناك المنافقين في المدينة ، فكتب اليهم : ان استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجداً فاني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه . فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء ، فلما فرغوا منه أتوا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول اللّه ! إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنّا نحب ان تأتينا ، فتصلي لنا فيه ، فقال(صلى الله عليه وآله) : « انّي على جناح سفر ، وحال شغل ، » وقال ايضاً « ولو قد قدمنا ان شاء اللّه لاتيناكم ، فصلينا لكم فيه ».
فلما عاد من تبوك ، أتوه ، ودعوه للصلاة فيه ، فدعا بقميصه ليلبسه فيأتيهم ، فنزل عليه القرآن واخبره خبر مسجد ضرار ، وما همّوا به ، فدعا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ، جماعة من أصحابه وأمرهم بهدم المسجد وحرقه ، وان يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة([29]) .
يفهم من هذه الايات ان مؤسسي هذا المسجد كانوا يتوخون تحقيق اهداف مشؤومة تحت واجهة هذا الاسم المقدس ، لكن اللّه سبحانه وتعالى امر رسوله(صلى الله عليه وآله) بعدم القيام في هذا المسجد الذي يراد منه تفريق المسلمين ونشر الكفر والالحاد ، وطلب منه القيام في المسجد الذي يؤسسس على التقوى والهدف الالهي . ويعتقد المفسرون ان المقصود هو مسجد قبا الذي ورد لمقارنته بمسجد ضرار([30]) ، وثمة احتمال آخر مبني على بعض الروايات الواردة عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)([31]) ان المقصود هو مسجد النبي(صلى الله عليه وآله) ، ولكن بلحاظ التعبير الوارد في الاية : «اول يوم » فان الاحتمال الاول هو الانسب باعتبار ان مسجد قبا هو أول مسجد اُسس بعد الهجرة النبوية المباركة .
ثم ان القرآن الكريم يشير إلى خصيصة اخرى لهذا المسجد : (فيه رجال يحبّون أن يتطهروا ...) ، حيث اختلف المفسرون بالمراد من الطهارة في الاية ; فمنهم من قال بانها الطهارة الظاهرية ، ومنهم من اشار إلى أنها الطهارة المعنوية([32]) . فهناك بعض الروايات التي تؤيد المفهوم الاول ، أي الطهارة الظاهرية([33]) ، وبالطبع فان هذه الروايات لا تدل على انحصار مفهوم الاية في هذا المصداق ، بل يمكن ان يكون المعنى الطهارة من كل دنس ظاهراً كان أو باطناً .
ومهما يكن من أمر ، فاننا نستنتج من البحث ان المسجد يجب ان يؤسس على التقوى والطهارة باعتباره مركزاً لتبلور العبودية والدعاء والخضوع للّه تعالى ومحيطاً للطهارة والقداسة ، ومحطة اشعاع للايمان والتقوى ، وأي بناء يقام تحت اسم المسجد لتحقيق اغراض دنيئة ، فيجب السعي لهدمه ، كما أمر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بهدم مسجد ضرار واحراقه .
__________________
([28]) التوبة : 107 ـ 108 .
([29]) علي الواحدي النيشابوري، اسباب النزول : 175 ـ 176، انتشارات بنياد علوم اسلامي، طهران; ابن هشام، السيرة النبوية 1 : 530، مصر ، 1355 هـ.ق . الواقدي المغازي 3 : 790 ـ 797، انتشارات دانشگاهها ، طهران ، 1366 هـ.ش.
([30]) الميزان 9 : 622 .
([31]) تفسيرالرازي 5:253.
([32]) مجمع البيان : 5 : 73 .
([33]) الميزان 9 : 622 .
التوحيد والتقوى أساسان لقيام المساجد
- الزيارات: 3023