• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

السر في انتشار المذاهب السنية

إن المتتبع في كتب التاريخ وما دونه الأسلاف يجد بما لا شك فيه بأن شيوع المذاهب « السنية » الأربعة في تلك العصور كان بإرادة السلطة الحاكمة وإدارتها ، ولذلك كثر أتباعها فالناس على دين ملوكهم .
كما يجد الباحث بأن هناك عشرات المذاهب التي انقرضت وذابت لأن الحاكم لم يكن راض عليها ، كمذهب الأوزاعي ومذهب حسن البصري ، وأبو عيينة وابن أبي ذؤيب ، وسفيان الثوري ، وابن أبي داود ، وليث بن سعد وغيرهم كثير .
وعلى سبيل المثال ، فإن ليث بن سعد كان صديق مالك بن أنس وكان أعلم منه وأفقه كما اعترف بذلك الشافعي (1) .
ولكن مذهبه انقرض وفقهه ذاب واندرس لأن السلطة لم تكن عنه راضية.
وقال أحمد بن حنبل : كان ابن أبي ذؤيب أفضل من مالك بن أنس إلا أنآ مالكاً أشد تنقية للرجال (2) .
وإذا راجعنا التاريخ ، فإننا نجد مالكاً صاحب المذهب قد تقرب إلى السلطة والحكام وسالمهم ومشى في ركابهم ، فأصبح بذلك الرجل المهاب والعالم المشهور ، وانتشر مذهبه بوسائل الترهيب والترغيب خصوصاً في الأندلس حيث عمل تلميذه يحيى بن يحيى على موالاة حاكم الأندلس ، فأصبح من المقربين وأعطاه الحاكم مسؤولية تعيين القضاة فكان لا يولي على القضاء إلا أصحابه من المالكية فقط .
كذلك نجد أن سبب انتشار مذهب أبي حنيفة بعد موته هو أن أبا يوسف والشيباني وهما من أتباع أبي حنيفة ومن أخلص تلاميذه ، كانا في نفس الوقت من أقرب المقربين لهارون « الرشيد » الخليفة العباسي ، وقد كان لهما الدور الكبير في تثبيت ملكه وتأييده ومناصرته ، فلم يسمح هارون « الجواري والمجون » لأحد أن يتولى القضاء والفتيا إلا بعد موافقتهما .
فلم ينصبا قاضياً إلا إذا كان على مذهب أبي حنيفة ، فصار أبو حنيفة أعظم العلماء ومذهبه أعظم المذاهب الفقهية المتبعة ، رغم أن علماء عصره كفروه وأعتبروه زنديقاً ، ومن هؤلاء الإمام أ؛مد بن حنبل والإمام أبو الحسن الأشعري .
كما أن المذهب الشافعي انتشر وقوي بعدما كاد يندرس ، وذلك عندما أيدته السلطة الغاشمة ، وبعدما كانت مصر كلها شيعة فاطمية ، انقلبت إلى شافعية في عهد صلاح الدين الأيوبي الذي قتل الشيعة وذبحهم ذبح النعاج .
كما أن المذهب الحنبلي ما كان ليعرف لولا تأييد السلطات العباسية في عصر المعتصم عندما تراجع ابن حنبل عن قوله بخلق القرآن ولمع نجمه في عهد المتوكل « الناصبي » .
وقوي وانتشر عندما أبدت السلطات الاستعمارية الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الماضي وتعامل هذا الأخير مع آل سعود فأيدوه فوراً وناصروه وعملوا على نشر مذهبه في الحجاز والحزيرة العربية .
وأصبح المذهب الحنبلي يعود إلى ثلاثة أئمة أولهم أحمد بن حنبل الذي لم يكن يدعي بأنه فقيهاً ، وإنما كان من أهل الحديث ، ثم ابن تيمية الذي لقبوه بشيخ الإسلام ومجدد « السنة » والذي كفره علماء عصره لأنه حكم على كل المسلمين بالشرك لأنهم يتبركون ويتوسلون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم جاء في القرن الماضي محمد بن عبد الوهاب صنيعة الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط ، فعمل هو الآخر على تجديد المذهب الحنبلي بما أخذه من فتاوى ابن تيمية ، وأصبح أحمد بن حنبل في خبر كان إذ أن المذهب عندهم اليوم يسمى المذهب الوهابي .
ومما لا شك فيه أن أنتشار تلك المذاهب وشهرتها وعلو شأنها كان بتأييد ومباركة الحكام .
ومما لا شك فيه أيضاً بأن أولئك الحكام كلهم بدون استثناء كانوا يعادون الائمة من أهل البيت لشعورهم الدائم بأن هؤلاء يهددون كيانهم وزوال ملكهم ، فكانوا يعملون دائماً على عزلهم عن الأمة وتصغير شأنهم وقتل من يتشيع لهم .
فبديهي أن ينصب أولئك الحكام بعض العلماء المتزلفين إليهم والذين يفتونهم بما يتلاءم مع حكمهم ووجودهم ، وذلك لحاجة الناس المستمرة لوجود الحلول في المسائل الشرعية .
ولما كان الحكام في كل العصور لا يعرفون من الشريعة شيئاً ولا يفهمون الفقه ، فكان لابد أن ينصبوا عالماً باسمهم يفتي ، ويموهون على الناس بأن السياسة شيء والدين شيء آخر .
فكان الخليفة الحاكم هو رجل السياسة والفقيه رجل الدين كما يفعل ذلك اليوم رئيس الجمهورية في كل البلاد الإسلامية ، فتراه يعين أحد العلماء المقربين يسميه مفتي الجمهورية أو أي عنوان آخر يعبر عن ذلك ، ويكلفه بالنظر في مسائل الفتيا والعبادات والشعائر الدينية .
ولكنه في الحقيقة ليس لهذا الرجل أن يفتي أو يحكم إلا بما تمليه عليه السلطة وما يرضي الحاكم ، أو على الأقل ما لا يتعارض وسياسة الحكومة وتنفيذ مشاريعها .
وهذا الظاهرة برزت في الحقيقة من عهد الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان ، فهم وإن لم يفرقوا بين الدين والدولة إلا أنهم أعطوا أنفسهم حق التشريع بما يتماشى ومصالح الخلافة وضمان هيبتها واستمرارها .
ولما كان لهؤلاء الخلفاء الثلاثة حضور مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحة فقد أخذوا عنه بعض السنن التي لا تتعارض مع سياستهم .
فإن معاوية لم يدخل الإسلام إلا في السنة التاسعة للهجرة على أشهر الروايات الصحيحة ، فلم يصحب النبي إلا قليلاً ولم يعرف من سنته شيئاً يذكر ، فاضطر إلى تعيين أبي هريرة وعمرو بن العاص وبعض الصحابة الذين كلفهم بالإفتاء على ما يريده .
واتبع بنو أمية العباس بعده هذه « السنة الحميدة » أو هذه البدعة الحسنة ، فكل حاكم جلس إلى جانبه قاضي القضاة المكلف بدوره بتعيين القضاة الذين يراهم صالحين للدولة ويعملون على دعمها وتأييدها .
وما عليك بعد ذلك إلا أن تعرف ماهية أولئك القضاة الذين يغضبون ربهم في إرضاء سيدهم وولي نعمتهم الذي نصبهم .
وتفهم بعد ذلك السر في أبعاد الأئمة المعصومين من العترة الطاهرة فلا تجد منهم أحداً وعلى مر العصور عينوه من قبلهم أو نصبوه قاضياً أو قلدوه وسام الإفتاء .
وإذا أردنا مزيد التجقيق حول كيفية انتشار المذاهب « السنية » الأربعة بواسطة الحكام ، فلما أن يأخذ لذلك مثالاً واحداً من خلال كشف الستار عن مذهب الإمام مالك الذي يعد من أكبر المذاهب وأعظمها قدراً وأوسعها فقهاً ، فقد اشتهر مالك بالخصوص بالموطأ الذي كتبه بنفسه ويقال عند أهل السنة بأنه أصح الكتب بعد كتاب الله ، وهناك بعض العلماء الذين يقدمونه ويفضلونه على صحيح البخاري .
كما أن شهرة مالك فاقت كل الحدود ، حتى قيل : « أيفتى ومالك في المدينة » ؟ ولقبوه بإمام دار الهجرة .
ولا يفوتا أن نذكر بأن مالكاً أفتى بحرمة بيعة الإكراه فضربه جعفر بن سليمان والي المدينة سبعين سوطاً .
وهذا ما يحتج به المالكية دائماً على معاداة مالك للسلطة وهو غير صحيح إذ ان الذين رووا هذه القصة ، هم أنفسهم الذين رووا ما بعدها ، فإليك البيان والتفصيل .
قال ابن قتيبة : « وذكروا أنه لما بلغ أبا جعفر المنصور ضرب مالك بن أنس وما أنزل به جعفر بن سليمان ، أعظم ذلك إعظاماً شديداً وأنكره ولم يرضه ، وكتب بعزل جعفر بن سليمان عن المدينة وأمر أن يؤتى به إلى بغداد على قتب .
ثم كتب إلى مالك بن أنيس ليستقدمه إلى نفسه ببغداد ، فأبى مالك ، وكتب إلى أبي جعفر يستعفيه من ذلك ويعتذر له بعض العذر إليه ، فكتب أبو جعفر إليه أن وافني بالموسم العام القابل إن شاء الله فإنى خارج إلى الموسم » (3) .
فإذا كان أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يعزل ابن عمه جعفر بن سليمان بن العباس عن ولاية المدينة من أجل ضرب مالك فهذا يبعث على الشك والتأمل .
إذ أن ضرب جعفر بن سليمان لمالك لم يكن إلا لتأييد خلافة ابن عمه وتدعيم ملكه وسلطانه ، فكان الواجب على أبي جعفر المنصور إكرام الوالي وترقيته ، لا عزله وإهانته بتلك الطريقة ، فقد عزله وأمر بإقدامه على شر حال مكبلاً بالأغلال على قتب ، ثم يبعث الخليفة بنفسه اعتذاره إلى مالك لكي يسترضيه ! إنه أمر عجيب !
ويفهم من ذلك بأن والي المدينة جعفر بن سليمان تصرف الحمقى الذين لا يعرفون من السياسة ودهائها شيئاً ، ولم يفهم بأن مالكاً هو عمدة الخليفة وركيزته في الحرمين الشريفين ، وإلا ما كان ليعزل ابن عمه من الولاية لأنه ضرب مالكاً الذي استحق ذلك من أجل فتواه بحرمة بيعة الإكراه .
وهذا ما يقع اليوم أيضاً بين ظهرانينا وأمام أعيننا عندما يحاول بعض الولاة إهانة شخص ما وسجنه لتدعيم هيبة الدولة وسلامة أمنها ، فإذا بذلك الشخص يكشف عن هويته وإذا به من أقارب السيد الوزير أو من معارف زوجة الرئيس فإذا بالوالي قد أعفي من منصبه ودعي لمهام أخرى قد لا يعرفها حتى الوالي نفسه .
وهذا يذكرني بحادثة وقعت زمن الاحتلال الفرنسي للبلاد التونسية ، فكان شيخ الطريقة العيساوية وجماعته يضربون البنادير ويرفعون أصواتهم بالمدائح في الليل مروراً ببعض الشوارع وحتى يصلوا إلى محل الحضرة كما هي عادتهم .
وبمرورهم أمام مسكن ضابط الشرطة الفرنسي ، خرج إليهم هذا الأخير مغضباً فكسر بناديرهم وفرق جمعهم ، لأنهم لم يعملوا بقانون احترام الجار والتزام الهدوء بعد العاشرة ليلاً .
ولما علم المراقب المدني بالحادثة وهو بمثابة الوالي عندنا ، غضب غضباً شديداً على ضابط الشرطة فعزله من منصبه وأعطاه ثلاثة أيام لمغادرة مدينة قفصة ، ثم استدعى شيخ الطريقة العيساوية واعتذر إليه باسم الحكومة الفرنسية ، واسترضاه بأموال كثيرة كي يشتري بها بنادير وأثاثاً جديداً ويعوض كل ما كسر لهم .
وعندما سأله أحد المقربين إليه لماذا فعل كل ذلك ؟ أجابه بأن الأفضل لنا أن يتلهى هؤلاء الوحوش بضرب البنادير وينشغلوا بالشطحات وأكل العقارب وإلا سوف يتفرغوا لنا ويأكلونا نحن لأنا غاصبين حقوقهم .
ونعود إلى الإمام مالك لنستمع إليه يروي بنفسه كيف كان لقاؤه بالخليفة أبي جعفر المنصور .


____________________
(1) مناقب الشافعي ص 524 .
(2) تذكرة الحفاظ ج 1 ص 176 .
(3) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج 2 ص 149 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page