يقول علي (ع) في النهج : حتى إذا قبض الله رسوله صلّى الله عليه وآله ، رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتّكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه ، فبنوه في غير موضعه ، معادن كلّ خطيئة . (1)
وفي مستدرك الحاكم عن علي (ع) قال : إنّ ممّا عهد إلي النبيّ (ص) أنّ الأمة ستغدر بي بعده . (2)
ويروي أيضاً عن ابن عبّاس قال ، قال النبيّ (ص) : أما إنّك ستلقى بعدي جهدا ! قال : في سلامة من دِيني ؟ قال : في سلامة من دينك .
وعن علي (ع) قال : قال لي رسول الله (ص) : إنّ الأمّة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملّتي وتُقتل على سنّتي ، من أحبّك أحبّني ومن أبغضك ابغضني ، وإنّ هذه ستُخضّب من هذا . يعنى لحيته من رأسه . (3)
أقول : راجع في تحقيق غدر الأمّة مبحث : وصيّة رسول الله (ص) وفتنة السقيفة من هذا الكتاب ، ثمّ إلى مباحث أخر ، حتى تعلم ما صنعوا بعد نبيّهم ، بل غدرهم في آخر ساعات من حياته ، ومخالفتهم وصيّة رسول الله (ص) .
ويشير علي (ع) إلى خلاصة غدرهم ونتيجة صنيعهم في حقّه :
في تاريخ الطبري : عن علي (ع) : أنّ النبي (ص) قبض وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي ، فبايع الناس أبا بكر فبايعت كما بايعوا ، ثمّ أنّ أبا بكر هلك وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي ، فبايع الناس عمر بن الخطاب فبايعت كما بايعوا ، ثمّ إنّ عمر هلك وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي فجعلني سهماً من ستة أسهم ، فبايع الناس عثمان فبايعت كما بايعوا ، ثمّ سار الناس إلى عثمان فقتلوه ثمّ أتوني فبايعوني طائعين غير مكرهين ، فأنا مُقاتل من خالفني بمن اتّبعني ، حتى يحكم الله بيني وبينهم . (4)
أقول : الولاية الحقيقية بجعل الله تعالى وإعطائه ، وهي مرتبة تكوينيّة روحانية ومقام معلوم لا يزيد بإقبال الناس وتوجههم ، ولا ينقص بإدبارهم وإعراضهم . كما ورد بأنّ الإمام كالكعبة يُؤتى ولا يأتي . وأمّا الإمارة والخلافة الظاهرية فهي تتحصل بإقبال الناس وتوجّههم واعتبارهم ، وتنتفي بأدبارهم ومخالفتهم ، فإنّ أساس هذه الخلافة تحقّق السلطنة الظاهرية والنفوذ والحكومة والغلبة للحاكم ، بأيّ وسيلة كان وبأي طريق وقع ، حقّاً أو باطلاً . ولكل من هاتين الخلافتين آثار وأحكام شرعية وعقلية وعرفية ، ولا ربط بأحديهما إلى الأخرى .
ثمّ إنّ الأحقّ بالولاية الظاهرية مَن كانت له ولاية حقيقية باطنية ؛ فإنّه أولى لإجراء الأحكام والقوانين الدينية ، وهو أعلم بإصلاح أمور الناس دنيوية وأخروية ، وإنّه مأمون عن الانحراف والضلال والإضلال ، وهو أحرى بالاتّباع والاهتداء ، وهذا معنى قوله (ع) : وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي .
ولمّا كان الإمام له أن يفسّر الحقائق ويبيّن الأحكام ويحفظ معارف الدين ويدفع الشكوك والشبهات ، فليس من وظائفه أن يأتي الناس ويدعوهم إليه ، ويبلّغ الأحكام ويجاهد في التبليغ والدعوة . بل لهم أن يأتوا الإمام ، ويستفيدوا من محضره ، ويهتدوا بهديه ، ويستنيروا بنوره ، ويستكملوا بتعاليمه وتربيته .
ومن الأسف : أنّ أكثر الناس عن طريق السعادة لناكبون ، وعن صراط الحقيقة لمعرضون ، وعن الله وعن رسوله وعن أوليائه لمعتزلون ، يريدون متاعاً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون .
وما أقبح ما صنعوا ؛ حيث خالفوا أهل بيت رسول الله (ص) وأعرضوا عن طريقة أئمّة الهدى ، الذين قال فيهم الرسول : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً .
بل ولم يقنعوا ولم يكتفوا بتركهم والإعراض عنهم ، وشرعوا بالتهمة والسبّ والشتم . وكادوا يظنّون أنّ هذا المنكر من المعروف ، وأنّهم يتقرّبون بها إلى الله تعالى ، فانظر ماذا يقول الإمام علي بن الحسين (ع) في ديدنهم :
في الطبقات ، قال منهال : دخلت على علي بن الحسين فقلت : كيف أصبحت أصلحك الله ؟ فقال : ما كنت أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري كيف أصبحنا ! فأمّا إذ لم تدرِ فأخبرك : أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ؛ إذ كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وأصبح شيخنا وسيدنا يُتقربُ إلى عدونا بشتمه أو سبّه على المنابر ! وأصبحت قريش تعدّ أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً (ص) منها ، لا يعدّ لها فضلٌ إلاّ به ، وأصبحت العرب مقرَّه لهم بذلك ، وأصبحت العرب تعد أنّ لها الفضل على العجم لأنّ محمّداً (ص) منها ، لا يعدّ لها فضل إلاّ به ، وأصبحت العجم مقرّه لهم بذلك ، فلئن كانت العرب صدقت أنّ لها الفضل على العجم ، وصدقت قريش أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً (ص) منها ، إنّ لنا أهل البيت الفضل على قريش لأنّ محمّداً (ص) منّا ، فأصبحوا يأخذون بحقّنا ولا يعرفون لنا حقّا ، فهكذا أصبحنا إذ لم تعلم كيف أصبحنا . (5)
ــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة : 150 .
2 ـ مستدرك الحاكم ، ج 3 ، ص 10 .
3 ـ نفس المصدر ، ص 142 .
4 ـ تاريخ الطبري ، ج 5 ، ص 171 .
5 ـ الطبقات ، ج 5 ، ص 219 .
شكوى أمير المؤمنين علي (ع)
- الزيارات: 3339