طباعة

فتنة : وصية رسول الله (ص)

الملل والنحل : فأوّل تنازع في مرضه عليه السلام ، فيما رواه محمّد بن إسماعيل البخاري بإسناده عن عبد الله بن عبّاس ، قال : لما اشتدّ بالنبيّ (ص) مرضه الذي مات فيه ، قال : ائتوني بدواة وقرطاس اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي ، فقال عمر : قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله !! وكثر اللغط ، فقال النبيّ (ص) : قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع .
قال ابن عبّاس : الرزية كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله . (1)
أقول : قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ) .
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ) .
وقال تعالى : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) .

وقال تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) .

ولا يخفى أنّ رسول الله (ص) لما قال : أكتب كتاباً لا تضلوا بعدي ، فهموا منه أنّ الوصية راجعة إلى أمرٍ مهمّ يوجب تركه الضلال والانحراف للأمّة ، وليس هو إلاّ تعيين الخليفة وتأمير الأمير ، وفهموا بالقرائن الماضية والموجودة أنّ وصيّته راجعة إلى أهل بيته الأطهار والى عليّ بن أبي طالب (ع) ، وكان هذا خلاف نظرهم ، فخالفوا أشدّ خلاف ، وقالوا ما لا يناسب مقام الرسالة .
مسند أحمد : عن جابر ، أنّ النبيّ (ص) دعا عنه موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلّون بعده ، قال : فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها .  (2)
وفي إمتاع الأسماع : واشتدّ به (ص) وجعه يوم الخميس ، فقال : إيتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً . فتنازعوا ، فقال بعضهم : ما له ، أهجر ؟ استعيدوه ! وقالت : زينب بنت جحش وصواحبُها : إيتوا رسول الله (ص) بحاجته ! فقال عمر : قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، مَن لفلانة وفلانة ـ يعني مدائن الروم ـ إنّ النبيّ (ص) ليس بميّت حتى يفتحها ، ولو مات لانتظرته كما انتظرت بنو إسرائيل موسى ، فلما لغطوا عنده ، قال : دعوني فما أنا فيه خير ممّا تسألوني . (3)
أقول : إن كان اعتذار عمر وتعليله في المنع والخلاف ، بقوله أنّ النبيّ (ص) ليس بميّت حتى يفتحها ، لا عن غرض سياسي ، فهو أقبح من الخلاف والعصيان .
وعلى أيّ حال ، فالحقّ ما قال ابن عبّاس : الرزية كلّ الرزية للإسلام والمسلمين ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب وصيته لئلا يضلّوا بعده .
البخاري : بإسناده عن سعيد بن جبير سمع ابن عبّاس رضي الله عنهما يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثمّ بكى حتى بلَّ دمعه الحصى ، قلت : يا ابن عبّاس ما يوم الخميس ؟ قال : اشتد برسول الله (ص) وجعه ، فقال : ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : ما له أهجر ؟ استفهموه ! فقال : ذروني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه . (4)
وفي البخاري أيضاً : بإسناده مثلها ، وفيها : استفهموه فذهبوا يردون عليه ، فقال :
دعوني ... الرواية . (5)
ويروي أيضاً : لمّا حضر رسول الله (ص) وفي البيت رجال ، فقال النبيّ (ص) : هلمّوا أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده .
فقال بعضهم : إنّ رسول الله (ص) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، ومنهم مَن يقول غير ذلك ، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف ، قال رسول الله (ص) : قوموا . قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : فكان يقول ابن عبّاس إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم .
وقريب منها في مسند أحمد : وفيه : فقال عمر : إنّ رسول الله (ص) قد غلب عليه الوجع وعندنا القرآن . (6)
ويروي : مثلها ، وفيها صرّح بأنّ القائل هو عمر بن الخطاب . فقال عمر : إنّ النبيّ (ص) قد غلب عليه الوجع ... الرواية . (7)
ويروي أيضاً : وفيها : قال عمر أنّ النبيّ (ص) غلبه الوجع . (8)
وفي مسلم : عن سعيد بن جبير . (9) ، كما في البخاري ، ج 2 ، ص 126 .
ويروي أيضاً : قريبا منها بسند آخر . (10) وكذ في مسند أحمد . (11)
ويروي بإسناده (12) نظير ما في البخاري ، ج 4 ، ص 5 .
ويقول في زاد المسلم : وعبيد الله الناقل لقول ابن عبّاس هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أحد فقهاء المدينة السبعة ، فهو مذكور في إسناد هذا الحديث في الصحيحين .
واللَّغَط ـ بفتحتين ـ هو الصوت والجَلَبة ... وقوله في الحديث يَهجُر ـ بضم الجيم ـ أي : يخلط ويهذي ، وهذا القول خطأ من قائله ؛ لأنّ وقوع ذلك من النبيّ (ص) مستحيل ؛ لأنّه معصوم في صحّته ومرضه ، لقوله تعالى ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى  ) ، ولقول رسول الله (ص) : إنّي لا أقول في الرضا والغضب إلاّ حقا . (13)
ويقول : وأمّا قولهم في تفسير : حسبنا كتاب الله . أنّه قال تعالى : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) ، وقال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ، فكلّ منهما لا يفيد الأمن من الضلالة ودوام الهداية للناس حتى يتّجه ترك السعي في تلك الكتابة ، كيف ولو كان كذلك لما وقع الضلال بعد ، مع أنّ الضلال والتفرّق في الأمّة قد وقع . (14)
الطبقات : يقول ابن عبّاس : يوم الخميس وما يوم الخميس ؟! اشتدّ بالنبي (ص) وجعه ، فقال : ائتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً ، قال : فقال بعض من كان عنده أنّ نبي الله ليهجر ! قال : فقيل له : ألا نأتيك بما طلبت ؟ قال : أَوَبعد ماذا ؟! قال : فلم يدع به . (15)
ويروي أيضاً : عن جابر : لما كان في مرض رسول الله (ص) الذي توفّي فيه دعا بصحيفة ليكتب فيها لأمّته كتاباً لا يضلُّون ولا يُضلّون ، قال فكان في البيت لغط وكلام وتكلّم عمر بن الخطاب ، قال فرفضه النبيّ (ص) . (16)
ويروي أيضاً : عن عمر بن الخطاب كنّا عند النبيّ (ص) وبيننا وبين الناس حجاب ، فقال رسول الله (ص) : اغسلوني بسبع قِرب ، وأئتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ، فقال النسوة : ائتوا رسول الله (ص) بحاجته قال عمر : فقلت اسكتن فإنّكن صواحبه ، إذا مرض عصرتنّ أعينكنَّ وإذا صحّ أخذتنَّ بعنقه ، فقال رسول الله (ص) : هنّ خيرٌ منكم .
ويروي أيضاً : عن ابن عبّاس لما حضرت رسول الله (ص) الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ـ كما في البخاري ، ج 4 ، ص 5 . (17)
أقول : يستفاد من هذه الروايات أمور :
الأوّل : أنّ رسول الله (ص) كان متوجّهاً إلى اختلاف الأمّة بعد رحلته وضلالتهم وانحرافهم عن الحقيقة .
الثاني : أنّهم اختلفوا في محضر رسول الله (ص) وخالفوا كلامه ، وخالفوا أن يكتب لهم كتاباً فيه هديهم ، مع أنّ الله سبحانه يقول : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، وما آتاكم الرسول فخذوه .
الثالث : إنّهم قالوا ما لا يقوله إلاّ عدوّ خصيم ، ونسبوا إلى ساحة قدس رسول الله الأكرم ما لا ينسبه إلاّ جاهل أثيم ، وقد قال سبحانه وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى .
الرابع : أنّ رسول الله (ص) قد انزجر وتألّم بحيث اظهر شدّة الانزجار وقال : ذروني ، ودعوني ، وقوموا عنّي .
الخامس ـ أنّ هذه المذاكرة قد وقعت يوم الخميس وقبل أربعة أيام من رحلته (ص) ، وهو يومئذٍ في أوّل مرضه ، وكان اشتداد مرضه يوم الأحد ، وفي هذا اليوم عقد لأسامة لواءا بيده ، ثمّ خرجوا ومنهم أبو بكر وعمر إلى معسكر أسامة بالجُرف ، فكيف يجوز نسبة الهجر إليه في ذلك اليوم .
السادس ـ أنّ من المخالفين عمر بن الخطاب وقد صرّح باسمه ، والظاهر ـ بل المصرَّح ـ أنّه هو القائل بكلمة ( ليهجر ) .
السابع : أنّ عمر بن الخطاب هو القائل أيضاً بجملة ( كفانا كتاب الله ) مع أنّ رسول الله (ص) كان يقول كراراً : إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً .
الثامن : أنّ الله تعالى يقول : ( وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) ، ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) ، ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ) . وأنّهم خالفوا رسول الله ولم يطيعوه في أهمّ الأمور ، ثمّ إنّ عمر بن الخطاب قد خالف كتاب الله في موارد كثيرة ، منها في المتعتين ، ومنها : في ميراث الأنبياء ، وغيرهما .
التاسع : إنّ المقصد الأسنى والهدف الأعلى في حياة كل امرئ إنّما يتحقّق بتحقّق الوصية وحفظها والعمل بها بعده ، وهذه مُنية كلّ من أسس أساساً ودوّن قانوناً وأوجد نظاماً وتشكيلاً ، وإذا فقدت الوصية أو لم يعمل بها بعده فقد بطل جميع عمله وانمحى كلّ آثار وجوده وبقى خاسراً خائباً .
العاشر : يثبت من هذه الروايات أنّ رسول الله (ص) قد توفي وهو منزجر وساخط على عمر بن الخطاب ، وقد صرّح به بقوله وعمله قوموا عنّي ، إنّهن خير منكم ، فرفضه النبيّ ، أو بعد ماذا .
ونِعم ما يقول ابن عمر في موضوع الاستخلاف :
في الطبقات : أن ابن عمر قال لعمر بن الخطاب : لو استخلفت ! قال : مَن ؟ قال : تجتهد ، فإنّك لست لهم بربّ تجتهد ، أرأيت لو أنّك بعثت إلى قيّم أرضك ألم تكن تحبّ أن يستخلف مكانه حتى يرجع إلى الأرض ؟ قال : بلى ، قال : أرأيت لو بعثت إلى راعي غنمك ألم تكن تحبّ أن يستخلف رجلاً حتى يرجع . (18)
أقول : هذا الكلام يؤيّد ما ذكرناه آنفا في الأمر التاسع من أنّ الهدف الأعلى في حياة كل امرئ إنّما يتحقّق بالوصاية ، وهذا أمر فطري ضروري لكلّ من كانت له جمعية أو رعيّة أو أسس أساساً اجتماعياً ، ولا يختصّ هذا بمورد معيّن ، بل يجري في جميع موارد الغَيبة والسفر والبعد عنهم ، ولهذا ترى رسول الله (ص) يستخلف في مغازيه وفي كلّ موقع يخرج من المدينة ولو بأيام قلائل ، فكيف يمكن أن لا يستخلف بعد حياته وفي غيبته الدائمة ؟!
وعلى أيّ حال فهذا الخلاف أوّل فتنة ظهرت في الإسلام ، وأوّل تدبير من المخالفين على الوصية وعلى استخلاف أهل البيت ، ومن هذا الخلاف بدأت الفتن ، ومن هنا ظهر الانحراف ، فللمسلم الحرّ أن يتوقّف في هذه المرحلة ، يحقّق عن الحقّ وعمّا أراد الله عزّ وجلّ ورسوله ، ويبحث عن الصراط الذي يعرّفه رسول الله (ص) في طول أيام حياته ، ويراجع الأحاديث الواردة في الكتب المعتبرة من أهل السنة ، وقد أدرجنا في هذا الكتاب ما فيه كفاية للمعتبر وأنّها لهدى للمتّقين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الملل والنحل ، ج 1 ، ص 13 .
2 ـ مسند أحمد ، ج 3 ، ص 146 .
3 ـ إمتاع الأسماع ، ج 1 ، ص 545 .
4 ـ البخاري ، ج 2 ، ص 126 .
5 ـ البخاري ، ج 3 ، ص 58 .
6 ـ مسند أحمد ، ج 1 ، ص 366 .
7 ـ البخاري ، ج 4 ، ص 5 .
8 ـ نفس المصدر ، ص 167 .
9 ـ مسلم ، ج 5 ، ص 57 .
10 ـ نفس المصدر ، ص 76 .
11 ـ مسند أحمد ، ج 1 ، ص 222 .
12 ـ مسلم ، ج 5 ، ص 76 .
13 ـ زاد المسلم ، ج 4 ، ص 18 .
14 ـ نفس المصدر ، ص 20 .
15 ـ الطبقات ، ج 2 ، ص 242 .
16 ـ نفس المصدر ، ج 2 ، ص 243 .
17 ـ الطبقات ، ج 2 ، ص 244 .