• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مسألة المسح على الأرجل في الوضوء

مسألة المسح على الأرجل في الوضوء

 مقدّمة:


لقد اختلف المسلمون في اُمور من شؤون العقيدة وجوانب الشريعة، والمتتبع لهذه الاختلافات، يلاحظ أن بعضها مما يُتوقع ظهوره، لأن موضوعاتها متشابكة ومعقّدة، وتنطوي على ملابسات كثيرة، بحيث لا يتيسر لكل أحد من الناس الخوض فيها، فإذا خاض فيها من ليس أهلاً لها، ظهر الاختلاف والتبس الأمر على الناس، وخفيت الحقيقة، مثل مسألة الجبر والتفويض، ومسألة خلق القرآن، ومسألة المعاد الجسماني، وأكثر مسائل العقيدة من هذا النوع. فلو وقفت ظاهرة الاختلاف بين المسلمين عند حد هذا النوع من المسائل التي للخلاف فيها مناشئ مألوفة لما كانت هذه الظاهرة مثيرة للاستفهام والتساؤل. لكن المتتبع لها يجدها قد تجاوزت هذا الحد ودخلت في اُمور يُستبعد فيها الخلاف، كالخلاف في كيفية الوضوء، والخلاف في أن البسملة جزء من السورة في الصلاة أم لا؟ والخلاف في حال اليدين أثناء الصلاة، وأمثال ذلك من الاُمور التي كانت مورداً لعمل النبي(صلى الله عليه وآله) بنحو يوميٍّ متكرر وعلى مدى ثلاث وعشرين عاماً، وبمرأى ومسمع من المسلمين، فإن الخلاف في مثل هذه الاُمور يشكل ظاهرة غريبة تستحق المزيد من البحث والتحقيق على الصعيد التاريخي من أجل التوصل الى العامل الحقيقي الذي كان وراء ظهور هذه الاختلافات غير الطبيعية، ويشكل البحث التاريخي فيها مقدمة ضرورية للبحث الفقهي.

ومسألة حكم الرِجلين في الوضوء من حيث المسح أو الغسل من جملة هذه المسائل التي يفترض وضوحها وعدم وقوع الخلاف فيها، لكنها وخلافاً للمتوقع كانت معركة الآراء بين الفقهاء، والمدارس الفقهية. بين قائل بوجوب المسح ـ وهم الإمامية، وعليه ابن عباس [1] ـ وقائل بوجوب الغسل ـ وهم بعض أئمة أهل السنة [2] ـ وقائل بالتخيير ـ كمحمد بن جرير الطبري، والحسن البصري، فيما نقله الرازي وغيره عنهما [3] ـ وقائل بوجوب الجمع بينهما في الوضوء، وعليه داود بن علي الظاهري، والناصر للحق من الزيدية [4] .

مع آية الوضوء أولاً
وقبل الورود في بحث هذه الآراء وأدلتها، لابد من إيراد آية الوضوء الوحيدة في القرآن الكريم وهي قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين) [5] .

وهذه الآية تتضمن بحوثاً فقهية من جهات عديدة ترتبط بأجزاء الوضوء، ومنها الجزء الأخير المتمثل بحكم القدمين، فالآية تخاطب المكلفين وترسم لهم كيفية الوضوء، وتبين أن الأعضاء التي يقع عليها الوضوء من بدن الإنسان على قسمين: قسم يُغسل، وآخر يُمسح، أما القسم المغسول، فهو قوله تعالى: (فاغلسوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق) ، وأما القسم الممسوح، فهو قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين) .

وهكذا فالآية تشتمل عى وضوح تام فيما يرتبط بحكم القدمين ووظيفتهما الوضوئية، فهما من القسم الممسوح الذي جاء بعد قوله: وامسحوا، ولو كان من القسم المغسول لكان من المناسب مجيئهما بعد قوله: فاغسلوا، وهذا من بديهيات اللغة، وهو ثابت لا يتغير سواءً قرئت كلمة «أرجلكم» الواردة في الآية بالجر أو بالنصب، فإنها إن قرئت بالجر، كما هي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه، فقراءة الجر تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، وهما معاً يشكلان القسم المحكوم بالمسح من أعضاء الوضوء، وإن قرئت بالنصب، كما هي قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه، فإنها توجب المسح أيضاً، لأن كلمة «رؤوسكم» في قوله: (وامسحوا برؤوسكم)هي في محل نصب لكنها مجرورة بالباء، ثم عطفت آية الأرجل على الرؤوس، فقالت: (وامسحو برؤوسكم وأرجلكم)فأصبحت الأرجل معطوفة على محل الرؤوس، فجاز قراءتها بالنصب عطفاً على محل الرؤوس، وجاز قراءتها بالجر عطفاً على الظاهر.

وهذا ما ذكره الفخر الرازي وعقب عليه، بقوله: وهذا مذهب مشهور للنحاة [6] .

أدلة القائلين بالغسل
القول بالغسل هو الذي مضت عليه المذاهب الأربعة، واستدلوا عليه بأدلة عديدة، منها ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره، حيث كتب يقول:

«إن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح، ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب الى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها.

وإن فرض الرجلين محدود الى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح...» [7] .

وقال القرطبي : (إن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي(صلى الله عليه وآله)، واللازم من قوله في غير ما حديث، وقد رأى قوماً يتوضؤون وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار اسبغوا الوضوء». ثم إن الله حدها، فقال: الى الكعبين، كما قال في اليدين: الى المرافق، فدلّ على وجوب غسلهما...) [8] .

وقال محمد رشيد رضا: «وأما الجمهور فقد أخذوا بقراءة النصب وأرجعوا قراءة الجر إليها، وأيدوا ذلك بالسنة الصحيحة وإجماع الصحابة، ويزاد على ذلك أنه هو المنطبق على حكمة الطهارة، وادعى الطحاوي وابن حزم أن المسح منسوخ، وعمدة الجمهور في هذا الباب عمل الصدر الأول، وما يؤيده من الأحاديث القولية، وأصحها حديث ابن عمر في الصحيحين، قال: تخلف عنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) في سفرة فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، قال فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، مرتين أو ثلاثاً...» [9] .

هذه خلاصة ما استدلّ به القائلون بالغسل على رأيهم.

أدلة القائلين بالمسح
والقائلون بأن حكم الأرجل في الوضوء هو المسح هم الإمامية، وأدلتهم على ذلك هي آية الوضوء والأخبار الكثيرة، فضلاً عن أخبار أئمة أهل البيت(عليهم السلام) . وآية الوضوء هي قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين...) ، والاستدلال بالآية تارة يكون على أساس قراءة الجر في (وأرجلكم) واُخرى على أساس قراءة النصب، فإن قُرئت بالجر ـ كما هي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم ـ فدلالتها على وجوب مسح الأرجل تكون من أوضح الواضحات، فالآية جمعت بين الرؤوس والأرجل بحكم واحد هو المسح، وجعلت الأرجل معطوفة على الرؤوس ومحكومة بحكمها.

ورغم وضوح هذه النتيجة، وتسليم عدد من الأعلام بها كالفخر الرازي في تفسيره للآية، وابن حزم في المحلّى، نجد علي بن محمد الماوردي يدّعي بأن القراءة المخفوضة: (يمكن حملها على أحد وجهين، أحدهما على مسح الخفين فيكون اختلاف القراءتين على اختلاف المعنيين، الثاني: أنه محمول على عطف المجاورة دون الحكم...) [10] بمعنى أن القراءة المخفوضة لا تحتم الحكم بالمسح. وهو ادعاء غريب جدّاً، فإن الظاهر من (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) المباشرة بين الأيدي والأرجل، والمباشرة لا تتم مع وجود الخف، وحينئذ يحتاج الفقيه في مسألة الخف الى دليل آخر غير هذه الآية، ولو كان الأمر كما يدّعي لكان واجباً على من آمن بالقراءة المخفوضة أن لا يمسح رجليه ولا يغسلهما، بل يلبس الخف ويمسح عليه، وسيرة المتشرعة جرت على مسح الرجلين أو غسلهما. وليس فيها لزوم لبس الخف والمسح عليه. ثم لماذا يرتكب الفقيه هذا التأويل البعيد للآية ويهجر التأويل الطبيعي الذي يساعد عليه العرف والسيرة واللغة؟ هذا في الاحتمال الأول الذي احتمله.

أما الاحتمال الثاني فهو مردود من قبل اللغويين والمفسرين معاً. وقد أجاد الفخر الرازي في ردّه حيث قال: «فإن قيل لِمَ لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار، كما في قوله جحر ضب خرب، وقوله كبير اُناس في بجاد مزمل؟ قلنا: هذا باطل من وجوه، الأول: أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر. وكلام الله يجب تنزيهه عنه، وثانياً: أن الكسر إنّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس... وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل، وثالثها: أن الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب...» [11] ، ولذا آمن الفخر الرازي بأن قراءة الجر تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، وانّه كما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل... هذا على قراءة الجر.

أما قراءة النصب فهي الاُخرى توجب الحكم بالمسح، وذلك كما قال الرازي: لأن قوله: (وامسحوا برؤوسكم) فرؤوسكم في محل النصب ولكنها مجرورة بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس والجر عطفاً على الظاهر، وهذا مذهب مشهور للنحاة. إذا ثبت هذا، فنقول: ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله «وأرجلكم» هو قوله: «وامسحوا»، ويجوز أن يكون قوله: «فاغسلوا»، لكن العاملان ـ كذا ـ إذا اجتمعا على معمول واحد كان اعمال الأقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله : «وأرجلكم» هو قوله: «وامسحوا»، فثبت أن قراءة النصب (وأرجلَكم) بنصب اللام توجب المسح أيضاً... [12] .

وأن إيجاب الغسل في هذه القراءة لا يتم إلاّ على مذهب نحوي باطل، وهو عطف الأرجل على الوجوه، وهو باطل لوجود الفاصل بينهما، وأن المعطوف عليه إذا تعدد اُختير الأقرب وهو الرؤوس في الآية، وتُرك الأبعد وهو الوجوه.

ومن هنا آمن الفخر الرازي بأن آية الوضوء توجب المسح، لكنه ردّ هذا الحكم ولم يسلّم به محتجاً بوجوه ضعيفة ذكرها في تتمة كلامه السابق وهي:

1 ـ الأخبار الواردة بإيجاب الغسل، وهي أخبار بعضها غير دال على الغسل، وهناك ما يعارضها ويوافق حكم المسح، ومع التعارض لابد من القول ـ على الأقل ـ بالتساقط والرجوع الى الكتاب العزيز. وقد أجاد السيد عبدالحسين شرف الدين في ردّ هذا الوجه، حيث كتب يقول:

أخبار الغسل قسمان:

منها ما هو غير دال عليه، كحديث عبدالله بن عمرو بن العاص إذ قال: ـ كما في الصحيحين ـ تخلّف عنّا النبي(صلى الله عليه وآله) في سفر سافرناه معه فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى: «ويل للأعقاب من النار» [13] .

وهذا لو صحّ لاقتضى المسح، إذ لم ينكره(صلى الله عليه وآله) عليهم بل أقرهم عليه كما ترى، وإنما أنكر عليهم قذارة أعقابهم [14] ، ولا غرو، فإنّ فيهم أعراباً جهلة بوالين على أعقابهم ولا سيما في السفر فتوعدهم بالنار، لئلاّ يدخلوا في الصلاة بتلك الأعقاب المتنجسة.

ومنها ما هو دال على الغسل، كحديث حمران مولى عثمان بن عفان، إذ قال: رأيت عثمان وقد أفرغ على يديه من انائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر... الحديث [15] ، وقد جاء فيه ثم غسل كل رجل ثلاثاً. ثم قال: رأيت النبي(صلى الله عليه وآله) يتوضأ نحو وضوئي، ومثله حديث عبدالله بن زيد بن عاصم الأنصاري، وقد قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله)فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه... الحديث [16] وفي آخره ثم غسل رجليه الى الكعبين. ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله)الى غير ذلك من أخبار جاءت في هذا المعنى.

وفيها نظر من وجوه:

أحدها: أنّها جاءت مخالفة لكتاب الله عزّ وجلّ ولما أجمعت عليه أئمة العترة الطاهرة [17] والكتاب والعترة ثقلا رسول الله(صلى الله عليه وآله) لن يفترقا أبداً ولن تضل الاُمة ما إن تمسكت بهما، فليضرب بكل ما خالفهما عرض الجدار.

وحسبك في انكار الغسل ووهن أخباره ما كان من حبر الاُمة وعيبة الكتاب والسنّة عبدالله بن عباس إذ كان يحتج للمسح فيقول [18] : افترض الله غسلتين ومسحتين، ألا ترى أنه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين.

وكان يقول [19] : الوضوء غسلتان ومسحتان [20] ولما بلغه أن الربيع بنت معوذ بن عفراء الأنصارية تزعم أن النبيّ(صلى الله عليه وآله) توضأ عندها فغسل رجليه، أتاها يسألها عن ذلك وحين حدثته به، قال ـ غير مصدق بل منكراً ومحتجاً ـ إن الناس أبوا إلاّ الغسل ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح [21] .

ثانيها: أنها لو كانت حقّاً لأربت على التواتر; لأن الحاجة الى معرفة طهارة الأرجل في الوضوء حاجة عامة لرجال الاُمة ونسائها، أحرارها ومماليكها، وهي حاجة لهم ماسة في كل يوم وليلة، فلو كانت غير المسح المدلول عليه بحكم الآية، لعلمه المكلفون في عهد النبوّة وبعده، ولكان مسلَّماً بينهم، ولتواترت أخباره عن النبي(صلى الله عليه وآله) في كل عصر ومصر. فلا يبقى مجال لانكاره ولا للريب فيه. ولما لم يكن الأمر كذلك، ظهر لنا الوهن المسقط لتلك الأخبار عن درجة الاعتبار.

ثالثها: انّ الأخبار في نوع طهارة القدمين متعارضة، بعضها يقتضي الغسل كحديثي حمران وابن عاصم وقد سمعتهما، وبعضها يقتضي المسح كالحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه [22] ، ورواه كلّ من أحمد، وابن أبي شيبة، وابن أبي عمر، والبغوي، والطبراني، والماوردي، كلّهم من طريق كلّ رجاله ثقات [23] . عن أبي الأسود عن عباد بن تميم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)يتوضأ ويمسح على رجليه.

وكالذي أخرجه الشيخ في الصحيح عن زرارة وبكير ابني أعين عن الباقر(عليه السلام) أنه حكى وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله) فمسح رأسه وقدميه الى الكعبين بفضل كفيه ولم يجدد ماءً [24] .

وعن ابن عباس أنه حكى وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله) فمسح على قدميه [25] .

وحيث تعارضت الأخبار، كان المرجع كتاب الله عزّ وجلّ لا نبغي عنه حولاً» [26] .

هذا نص ما أفاده(قدس سره).

كما آمن ابن حزم بأن القرآن يحتم حكم المسح بالنسبة للرجلين في الوضوء، وقال: (ان القرآن نزل بالمسح) سواءاً قرأنا الآية بالخفض أو بالنصب، وأن جماعة من السلف قد قالوا بالمسح، منهم: الإمام علي(عليه السلام)، وابن عباس، والحسن، وعكرمة، والشعبي، وجماعة غيرهم، وهو قول الطبري، ورويت في ذلك آثار [27] .

لكنه ذكر بعد ذلك خبر «ويل للأعقاب من النار» واعتبره ناسخاً للآية القرآنية، وقد اتضح أن هذا الخبر يؤيد الآية فكيف يكون ناسخاً لها؟ ويرد عليه أيضاً ـ كما ذكره الفخر

الرازيـ بأن نسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز [28] .

2 ـ وذكر الفخر الرازي للقول بالغسل وجهاً آخر هو: ان الغسل مشتمل على المسح، ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب الى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها. وردّ عليه السيد عبدالحسين شرف الدين بقوله:

«وأما قوله بأن الغسل مشتمل على المسح فمغالطة واضحة، بل هما حقيقتان لغة وعرفاً وشرعاً [29] ، فالواجب إذاً هو القطع بأنّ غسل الأرجل لا يقوم مقام مسحها.

لكن الإمام الرازي وقف بين محذورين: هما مخالفة الآية المحكمة ومخالفة الأخبار الصحيحة في نظره، فغالط نفسه بقوله: إن الغسل مشتمل على المسح وانّه أقرب الى الاحتياط وانّه يقوم مقام المسح، ظنّاً منه بأنه قد جمع بهذا بين الآية والأخبار، ومن أمعن في دفاعه هذا وجده في ارتباك، ولولا أن الآية واضحة الدلالة على وجوب المسح ما احتاج الى جعل الغسل قائماً مقامه، فأمعن وتأمل ملياً» [30] .

3 ـ ذكر الفخر الرازي وجهاً آخر للقول بغسل الرجلين في الوضوء وهو أن الآية جعلت حكم الرجلين محدود الى الكعبين، وهذا التحديد ينسجم مع الغسل، لأن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، وقد مرّ أن هذا الوجه ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن أيضاً، وقد تصدى السيد عبدالحسين شرف الدين(قدس سره) للإجابة عليه بقوله:

«الكعبان في آية الوضوء، هما: مفصلا الساقين عن القدمين [31] بحكم الصحيح عن زرارة وبكير ابني أعين إذ سألا الباقر(عليه السلام)عنهما [32] وهو الظاهر مما رواه الصدوق عنه أيضاً [33] وقد نصّ أئمة اللغة على أن كل مفصل للعظام كعب [34] .

وذهب الجمهور الى أن الكعبين هنا إنّما هما العظمان الناتئان في جانبي كل ساق. واحتجّوا بأنه لو كان الكعب مفصل الساق عن القدم، لكان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً، فكان ينبغي أن يقول وأرجلكم الى الكعاب، كما أنّه لمّا كان الحاصل في كل يد مرفقاً واحداً، قال: (وأيديكم الى المرافق) .

قلت: ولو قال هنا الى المرفقين لصحّ بلا اشكال، ويكون المعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى مرفقي كل منكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين من كل منكم، فتثنية الكلمتين في الآية وجمعهما في الصحة سواء، وكذلك جمع إحداهما وتثنية الاُخرى ولعل التفنن في التعبير قد اقتضاه .

هذا إذا كان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً، أما إذا كان الحاصل في كلّ رجل كعبين فلا يبقى لكلامهم وجه، وقد أجمع علماء التشريح على أن هناك عظماً مستديراً مثل كعب البقر والغنم تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم يسمى كعباً أيضاً[35] ، وعليه، فمسح كل رجل ينتهي الى كعبين اثنين هما المفصل نفسه والكعب المستدير تحته. وفي تثنية الكعب في الآية دون المرفق نكتة لطيفة وإشارة الى ما لا يعلمه إلاّ علماء التشريح. فسبحان الخلاق العليم الحكيم» [36] .

وهكذا يبدو بوضوح أن اختيار فقه الجمهور للقول بالغسل قد أوقعهم في محنة التعارض مع القرآن الكريم، فراحوا يتأولون الوجوه البعيدة ويركبون كل صعب وذلول من أجل إثبات مدعاهم ومن جملة من أدلى بدلوه في هذا المضمار الزمخشري في تفسير الكشاف، وقد ذكر السيد عبدالحسين شرف الدين محاولته التوفيقية ثم أجاب عنها، فكتب يقول:

وتفلسف الإمام الزمخشري في كشافه حول هذه الآية إذ قال: «الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنّة للاسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها، (قال): وقيل (الى الكعبين) فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة» [37] .

هذه فلسفته في عطف الأرجل على الرؤوس وفي ذكر الغاية من الأرجل، وهي كما ترى ليست في شيء من استنباط الأحكام الشرعية عن الآية المحكمة، ولا في شيء من تفسيرها، ولا الآية بدالّة على شيء منها بشيء من الدوال، وإنّما هي تحكم في تطبيق الآية على مذهبه بدلاً من استنباط المذهب من الأدلة، وقد أغرب في تكهنه بما لا يصغي إليه إلاّ من كان غسل الأرجل عنده مفروغاً عنه بحكم الضرورة الأوّلية، أما مع كونه محل النزاع فلا يعتنى به ولا سيما مع اعترافهم بظهور الكتاب في وجوب المسح. وحسبنا في ذلك ما توجبه القواعد العربية من عطف الأرجل على الرؤوس الممسوحة بالاجماع نصاً وفتوى» [38] .

ومن جملة المحاولات أيضاً قولهم: إن الحكم بالغسل هو المنطبق على حكمة الطهارة، وأن الطهارة هي المبالغة في النظافة التي شُرع الوضوء والغسل لأجلها [39] .

وواضح أن مثل هذا الجواب يتم عند من يقول بالاستحسان، أما الذي لا يقبل الاستحسان، كمصدر من مصادر التشريع فلا يكون تاماً عنده، بل هو لا يتم حتى عند من يرى الاستحسان، لأن الاستحسان عند القائلين به دليل عند فقد الدليل القرآني أو النبوي، والمفروض ـ كما يسلم به صاحب تفسير المنار ـ أن الدليل القرآني والنبوي موجودان في المسألة، فلا تصل النوبة الى الاستحسان.

وقد ذكر السيد عبدالحسين شرف الدين هذه المحاولة وأجاب عليها، حيث كتب يقول:

«ربما احتج الجمهور على غسل الأرجل انّهم رأوه أشد مناسبة للقدمين من المسح، كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل إذا كان القدمان لا ينقى دنسهما إلاّ بالغسل غالباً بخلاف الرأس فإنه ينقى غالباً بالمسح، وقد قالوا أن المصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسباباً للعبادات المفروضة، حتى الشرع لاحظ فيها معنيين، معنىً مصلحياً ومعنىً عبادياً، وعنوا بالمصلحي ما يرجع الى الاُمور المحسوسة، وبالعبادي ما يرجع الى زكاة النفس.

فأقول: نحن نؤمن بأن الشارع المقدس لاحظ عباده في كل ما كلّفهم به من أحكامه الشرعية، فلم يأمرهم إلاّ بما فيه مصلحتهم، ولم ينههم إلاّ عما فيه مفسدة لهم، لكنّه مع ذلك لم يجعل شيئاً من مدارك تلك الأحكام منوطاً من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد، بل تعبّدهم بأدلّة قوية عيّنها لهم، فلم يجعل لهم مندوحة عنها الى ما سواها. وأوّل تلك الأدلة الحكيمة كتاب الله عزّ وجلّ وقد حكم بمسح الرؤوس والأرجل في الوضوء، فلا مندوحة عن البخوع لحكمه، أما نقاء الأرجل من الدنس فلابدّ من احرازه قبل المسح عليها، عملاً بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه، ولعلّ غسل رسول الله(صلى الله عليه وآله) رجليه ـ المدعى في أخبار الغسل ـ إنّما كان من هذا الباب، ولعلّه كان من باب التبرد، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء والله تعالى أعلم» [40] .

ولو كان الأمر كما تشاء لنا أفكارنا لكان كما قال الإمام علي(عليه السلام): «كنت أرى أن باطن القدمين أحسن بالمسح من ظاهرهما، حتى رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يمسح ظاهرهما»[41] وفي رواية اُخرى: «لولا أني رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يمسح ظاهر قدميه لظننت أن باطنهما أولى بالمسح من ظاهرهما» [42] .

ومن جملة المحاولات لإثبات أن حكم الأرجل هو الغسل لا المسح ما ذكره صاحب تفسير المنار من اعتماد الجمهور على اجماع الصحابة وعمل الصدر الأول[43] ، وهو أوهن من أن يذكر، فقد اتضح لك عما قليل أن في الصحابة من عارض الغسل وعمل بالمسح، وقد اعترف صاحب المنار بذلك، حيث ذكر أن «القول بكل من الغسل والمسح مروي عن السلف من الصحابة والتابعين ولكن العمل بالغسل أعم وأكثر وهو الذي غلب واستمر» [44] .

فأي اجماع على الغسل والقول بالمسح مروي عن السلف والتابعين؟ وأما قوله بأن العمل بالغسل أعم وأكثر فلا ينفع القائلين بالغسل، لأن التعميم والانتشار ـ على فرض التسليم به ـ قد يكون ناشئاً من عوامل سياسية، فإن الخليفة إذا اختار مذهباً عمّمه، وحث الرواة على الأخذ به.

ومن جملة المحاولات قولهم: إن المراد بمسح الرجلين غسلهما. قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : «قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر الى أن المسح في الرجلين هو الغسل» وعلّق القرطبي على ذلك بقوله: «وهو الصحيح فإن لفظ المسح مشترك يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل» [45] .

وهذه من أسوأ المحاولات . وقد اكتفى صاحب المنار بالردّ عليه بقوله: «وهو تكلف ظاهر» [46] ، فأين الغسل من المسح؟ ولو كان الأمر كما يقول من الناحية اللغوية للزم أن يكون المسح بمعنى الغسل عندما تكون هناك قرينة مساعدة، وهي مفقودة في الآية، بل الموجود في الآية قرينة معاكسة، وهي أن الآية الكريمة ذكرت الغسل ثم عقبت عليه بذكر المسح، وهذا يعني أنها في مقام التفصيل بين الأمرين، ولو كان المراد بالمسح في الآية هو الغسل لوجب غسل الرأس أيضاً، فلماذا يفرق صاحب هذه المحاولة بين الرأس والرجلين؟ وكيف يكون المسح في الرأس بمعنى المسح، والمسح للقدمين بمعنى الغسل؟ على أن كلامه لا يقتضي وجوب الغسل بل يقتضي التخيير بينه وبين المسح، فما الوجه في الحكم ببطلان المسح؟

ومما لا شك فيه أن هذه المحاولة تجعل مقتضى الاحتياط هو المسح لا الغسل، لأن الغسل تدور شبهات من حوله بخلاف المسح.

وهكذا يتضح بطلان القول بالغسل، وفشل كل المحاولات والأدلة الرامية لإثبات وجوبه بالنسبة الى القدمين في الوضوء.

القول بالجمع والتخيير
ويبقى هنا قولان في المسألة: قول بالجمع بين الوظيفتين، وقول بالتخيير بينهما، وجواب القول بالجمع: انّه يجري عند الاحيتاط، والاحتياط يأتي عند الشك في الوظيفة الشرعية، فإذا قام الدليل على الوظيفة الشرعية، وتم إثبات المسح، ينتفي الشك، وكلما انتفى الشك انتفى الحكم بالجمع كوظيفة احتياطية.

أما القول بالتخيير: فيجري بعد إثبات شرعية العملين معاً في الوضوء، فإذا ثبت لدى المكلف أن الغسل والمسح كلاهما عمل مشروع بالنسبة الى القدمين، وأن آية الوضوء تدل على صحتهما معاً، وأن النبي(صلى الله عليه وآله) قد عمل بهما معاً، تارة بالمسح واُخرى بالغسل، جاز لنا التخيير، ومع عدم إثبات ذلك لا يجوز لنا القول بالتخيير، إذ لا معنى لتخيير المكلف بين عملين أحدهما صحيح شرعاً والآخر لم تثبت صحته، وقد اتّضح أن كل المحاولات الرامية لإثبات شرعية الغسل كوظيفة في الوضوء بالنسبة الى القدمين قد باءت بالفشل.

فيبقى الحكم بالمسح هو المؤيد بالأدلة والسالم عن الاشكال.

منشأ اختلاف الروايات
ذكرنا في مقدمة هذا البحث أن مسألة حكم القدمين في الوضوء من المسائل التي تقتضي عدم ظهور الخلاف فيها، لكثرة ابتلاء المسلمين فيها زمن معاصرتهم للنبي(صلى الله عليه وآله)وكونها وظيفة يومية متكررة عمل بها النبي(صلى الله عليه وآله) طيلة عقدين من الزمن أمام مرأى ومسمع الصحابة. وهذه النقطة مما تحفز باتجاه البحث التاريخي الدقيق عن علل ظهور مثل هذه الاختلافات بين المسلمين.

وقد انكبّ أحد الباحثين على دراسة الظروف التاريخية التي احاطت بهذه المسألة دراسة تحليلية معمقة انتهى من خلالها واعتماداً على شواهد وأدلة وقرائن تاريخية كثيرة على أن القول بغسل القدمين في الوضوء قد ظهر في أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وانّه هو المنشأ لذيوع وانتشار هذا الرأي بين المسلمين، فمن أراد التفصيل التاريخي في ذلك فعليه مراجعة هذا الكتاب الموسوم بـ «وضوء النبي من خلال ملابسات التشريع» للسيد علي الشهرستاني.

خلاصة البحث:
إنّ آية الوضوء تحتّم القول بوجوب مسح القدمين في الوضوء على كل التقادير وهو الضروري في مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وأن وضوء النبي(صلى الله عليه وآله)، والصحابة وسائر المسلمين كان على هذا النحو، وان القول بغسل القدمين لا يرجع الى أساس في الكتاب ولا السنّة، وانّه قول مبتكر مبتدع ظهر في أيام الخليفة الثالث.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page