طباعة

وقفة مع المؤرّخين

والحاجة إليها لا لمحاسبته
لا لمحاسبتهم فقط على مواقفهم المتخاذلة في تسجيل الأحداث بصدق كما ينبغي، وهذا هو جزء من الحساب عليه الثواب والعقاب يوم الحساب, لكن الذي نقف عنده ونتساءل عنه تلك المعايير المزدوجة في تسجيلهم الأحداث، وهو الذي يسترعي الإنتباه، وهذا ما لمسناه عند مؤرخي الوقائع التي صاحبت شهادة (المحسن السبط السقط) من قبل ومن بعدُ.
لذلك هم وحدهم يتحملون وزر ما يذكرون، ولا يخفّف عنهم إصر التبعات ذكرهم اسناد الروايات، فإنّ رجال السند أيضاً هم ناس أمثالهم، فيهم الموثوق بروايته فيروي لنا ما يعرف, وفيهم غير الموثوق بروايته, فهو يهرف بما يعرف وما لا يعرف، عن كل من هبّ ودبّ، تبعاً لما عنده من أهواء وما لديه من انتماء، فقد يميل عن سنن الحق وإن تلبس بلباس أهل الصدق، غير آبهٍ أن يغضب لذلك مَن يغضب، أو يرضى مَن يرضى، والمهم عنده إرضاء نفسه وإشباع رغباته ونـزواته، مما شب عليه من موروث.
وهذه حال الناس في كلّ زمان ومكان، إلاّ من صَانه الله بورع يحجزه عن اتباع الهوى, ومهما احتطنا في أخذ الوقائع من كتب المؤرّخين، سواء من وثّق تسجيله بإسناد، أو أرسل ذكره، فإنّا سنختار ثلّة تتفق رواياتهم ولو إجمالاً في أصل ذكر الحَدَث، وإن اختلفوا في السند أو تفاصيل المتن، ومن مختلفي الشرائح زماناً ومكاناً.
كما إنّا سنقف على مجمل أحوالهم من خلال كتب الجرح والتعديل في تراجمهم، لغرض التوثق في سياق الحجة واستبعاد التهمة عنهم.
ولا شك ليس كلهم على درجة واحدة في الإعتبار، ومن ذا الذي يسلم من جرح، وليس فيهم الأوحدي الذي خلصت سريرته فطهرت سيرته، وقبلت روايته من دون تهميش بغمز أو بلمز.
ولمّا كنّا أمام قراءة نصوص تحكي أخبار وقائع حدثت في الصدر الأول من عصر الصحابة, وكان من رموزها ممّن تبوّأ مكان الصدارة في المجتمع، بحق أو بغير حق، بما فيهم من مهاجرين وأنصار الّذين تبوؤا الدار والإيمان، إلاّ أنّهم أساؤوا إلى النبي(صلى الله عليه وآله) في خلافتهم إلى أهل بيته وعترته، فلم يرعوا له فيهم حقاً ولا حرمة، فعدوا عليهم بالإساءة وهو بعدُ بين ظهرانيهم، لم يواروا الجدَثَ حتى أحدثوا الحدث.
ومن الطبيعي أن يثير سلوكهم ذلك حفائظ الآخرين ممّن لم يزالوا مواظبين ومحافظين على ولائهم لأهل بيت نبيهم، ولم يشيبوا إيمانهم بظلم أبداً.
ومن هنا بدأت الفُرقة، وتشرذمت الكلمة والجماعة, وهُدّت دعائم الوحدة التي أقامها النبي(صلى الله عليه وآله) بالمؤاخاة والمفادات.
وصار التاريخ يروي لهؤلاء ولهؤلاء, وفي المنقول بعض المعقول والمقبول كما فيه كثير من الهراء والافتراء، فضاعت بعض الحقائق في ركام التقية لمصلحة المحكومين، وضاعت أكثر في ضبابية التعتيم السياسي لمصلحة الحاكمين، وفي إطار من العوامل النفسية العاصفة والمضطربة التي كانت سائدة حينذاك رويت (قضية السقيفة) التي هي أساس الفرقة والفجائع, وما جرى هناك من غرائب الوقائع.
وكلما ورد من الروايات عن تلك الفترة، وما جرى فيها من أحداث رواها الرواة، وسجّلها المؤرّخون، فهي كما قال عنها الاستاذ عبد الفتاح مقصود المصري في كتابه (السقيفة والخلافة)(1): (إنك لتلمح في صور هذه الروايات وأوضاعها ألواناً شتى من الدقائق والتفصيلات لها من (الحبكة) ما يظهرها _ لفرط إحكامها وتوثق نسجها _ وهي أشبه بما يقع في الأقاصيص الموضوعة منها بما يكون في واقع الحياة.
ثم نعثر فيها على (الصدفة) التي تطرأ عفواً بلا مقدمات وعلى غير ميقات، حتى ليوشك من يتحسّسها أن يحسبها قد أقحمت إقحاماً، لتؤدي دوراً مرسوماً أريد لها أن تؤديه فأدّته بإحكام كما هو مرسوم.
ثم تجد (التعاقب الحَدَثي) الذي ينساب في نسق منتظم طيّع، إنسياب سلسلة لِدنةتماثلت حلقاتها كل التماثل، طولاً وعرضاً، وزناً وحجماً، لوناً وهيئة، أصلاً ومعدناً، فلا تزيد منها حلقة أو تنقص حلقة عن أخواتها الأخريات بمثل ذرة من غبار، حتى لتظهر حوادثها _ لدقة تواترها وانتظامها _ وهي أدنى إلى ما يجري على مسارح التمثيل.
وليس من ريب في أنّ الإغراق كل الإغراق في التأليف بين هذه الجوانب والتفصيلات كفيل بأن يصيغها بصيغة الحقيقة، ولكنها الصبغة التي لا يمكن أن تصنع من الزيف حقيقة.
وليس أيضاً من ريب في أن الحرص البالغ على أن تبيّن بعض الأحداث المروية أمام الأفهام كأنها طبيعية، خليق بأن يشي بأنها ليست طبيعية.
ولسوف نتبيّن من بعد نماذج من (الحبكة) و(الصدفة) و(التعاقب الحدثي) المحكم الإنسياب، وغيرها من سمات الروايات القصصية التي يدبّجها الابتداع، واضحة جليّة في الروايات التاريخية التي جاءتنا بالسقيفة على ألسنة رواة الأخبار.
لكن قطعة الزجاج المصقول المتلألئ، لا يغيّر من طبيعتها أن تبدو كأنها من ماس، وقطعة الماس الغشيم الخام لا يغيّر من طبيعتها أن تبدو كأنها حصاة، فالحقيقة ثابتة لا تضيع لأنها غير قابلة للذوبان في أحماض الترهات، ولا للاحتراق في نيران المغالطات).
أقول: فعلينا أن لا نتسرع في الحكم رعاية لرضا من يرضى, أو اغاضة سخط من يسخط، فلسنا قضاة موقف, بل علينا أن نستعرض الأحداث بجميع حيثياتها من خلال قراءة رواياتها، من مصادرها المقبولة لدى الراضي والساخط، بعد الانتقاء مما شيب بالتلميع أو التشنيع.
أما اختيارنا لمجموعة المؤرّخين، فسيكون كما أشرنا من قبل من مختلفي المشارب والمذاهب، بل وحتى من مختلفي البقاع والاصقاع في الشرق والغرب، فمن الدينور إلى الأندلس.
وهؤلاء ليس فيهم جميعاً من الشيعة أحد؛ لأنّهم سرعان ما تتناولهم ألسنة الطاعنين بأسنّة القدح والتجريح، وأنّهم لا يحتج بهم في المقام لأنّهم رافضة؟!
ومع كل هذه الحيطة، لم نعدم زعم الزاعم ولا تنطع راغم: إنّ المؤرّخ الفلاني لا يعتمد قوله لأنّه يميل إلى الرفض, كما قيل عن ابن جرير الطبري، والحاكم النيسابوري، والمسعودي الشافعي، وغيرهم.
بل تتصاعد حمّى التجريح للمؤرّخ إذا روى ما يدين السلف, ويجرح كبرياء الذات لدى الجارح، ألم يقولوا عن الشهرستاني صاحب الملل والنحل الذي هو في أشعريته أشهر من أن يذكر، وأظهر من نار على علم, قالوا: بأنّه غال في التشيع؟
والرجل في كتابيه (الملل والنحل) و(نهاية الإقدام في علم الكلام) يحمل على الشيعة بلا هوادة، وأحسب فيما أظن أتاه التجريح لأنّه روى في كتابه (الملل والنحل) قول النظام _ من شيوخ المعتزلة _ في الهجوم على بيت الزهراء (عليها السلام), وضربها وإسقاطها المحسن السبط.
وإن عزّت تلك التهم في إلصاقها بالمؤرخ، فثمة نفثة تسرب الشك في نسبة المصدر إلى صاحبه؛ ليسقط الكتاب الذي روى الحَدَث عن الإعتبار ما دام لم تصح نسبته إلى مؤلفه، كما قيل ذلك في ابن قتيبة وكتابه (الإمامة والسياسة = تاريخ الخلفاء الراشدين) وسيأتي الحديث عنه مفصلاً، واثبات صحة النسبة في الملحق الأول في آخر الكتاب.
وإذا أوصدت أبواب التجريح والشك في وجوه الباغين، فثمة أبواب التصحيف والتحريف مفتوحة للراغبين، وهذه الحال تسببت في ضياع كثير من الروايات ذات الدلالة على الإثبات، كما وقع بعضه في كتاب (المعارف) لابن قتيبة، وسيأتي ما ينفع في المقام في الملحق الثاني في آخر الكتاب.
وما كان ذلك ليحدث لو كانت الذمم تراقب الله ورسوله وتخشى سوء الحساب، ولكنّها عمدت وتعمّدت على إخفاء الحقائق انتصاراً لمن حادّ الله ورسوله، وتضييعاً لمعالم الجريمة، فضاعت حقائق كثيرة، وما وصل إلينا فهو فلتة من فلتات الزمان، وتبقى الإدانة مؤودة في سلة الخيانة:

كم حادث جلل في الكتب نقرؤه

لـذي الــكتـاب وللراوين فيه هوى        فضيّع الحق من يهوى لغير هدى
ومبلغ العذر أقصى ان ندين لمن روى    فـإنّا لله وإنــّا إليه راجعون.

____________
1- السقيفة والخلافة: 34.