طباعة

خلاصة ما مرّ في سطور

خلاصة ما قرأناه في النصوص الثابتة كان ما يلي:
أ _ قرأنا أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) أوصى إلى علي، كما في حديث ابن عباس وأم سلمة، فقد قال ابن عباس للذي جاءه فأخبره: انّ عائشة قالت: مات بين سحري ونحري ولم يوص إلى أحد، فمتى أوصى إليه، قال ابن عباس: أتعقل! والله مات وإنه لمستند إلى صدر علي.
وأم سلمة قالت: كان _ علي _ أقرب الناس به عهداً، ومات (صلى الله عليه وآله) وهو مستند إلى صدر علي.
غير أنّ عائشة أنكرت ذلك، وكان انشطار عند المسلمين في ذلك، وكل فريق يؤيد وجهة نظره، حتى استنكر بعضهم كيف أن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يأمر أمّته بالوصية ثم هو لا يوصي؟ وقرأنا الجواب في حديث طلحة بن مصرف، وقد سمع الهذيل بن شرحبيل: أكان أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله؟
كما قرأنا عن عائشة أنّ علياً كان قد أدخله النبي(صلى الله عليه وآله) معه في الثوب الذي كان عليه، فلم يزل يحتضنه حتى قبض ويده عليه، كما في الرياض النضرة(1).
ب_ وقرأنا أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) جهز جيش أسامة، وأدخل فيه أبا بكر، وعمر، وأبا عبيدة بن الجراح، وعثمان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وهؤلاء هم الذين جعل لهم حديث العشرة المبشرة، ومع ما ذكر لهم وفيهم فقد أمرهم النبي(صلى الله عليه وآله) أن يخرجوا في جيش أسامة، ولعن من تخلف عن جيش أسامة، ومع ذلك فقد تخلفوا حتى مات النبي(صلى الله عليه وآله).
ج _ وقرأنا انّ النبي(صلى الله عليه وآله) لما رأى تقاعس القوم عن الخروج في الجيش، أراد أن يكتب لامته بمحضر من المهاجرين والأنصار في حجرته، كتاباً لن يضلّوا من بعده، فاستدعى بدواة وكتف، فبادره عمر بكلمته النابية، ((انّه يهجر، حسبنا كتاب الله)) فكانت الرزية كل الرزية _ كما قال ابن عباس _ ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين ذلك الكتاب.
د _ وقرأنا أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) لما مات، اشتغل أهل بيته علي ومن معه بغسله وتجهيزه، وذهب سراعاً أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح إلى سقيفة بن ساعدة، ولم يحضروا الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله) ولا دفنه.
هـ _ وقرأنا بأنه بايع عمر وأبو عبيدة أبا بكر بالخلافة، وتابعه بعض الأنصار على ذلك، ثم اتوا إلى المسجد يطلبون مبايعة الناس لأبي بكر.
و _ وقرأنا أنّ علياً(عليه السلام) وجميع بني هاشم ومعهم الزبير وجماعة من الصحابة ممن يوالون علياً(عليه السلام) أبوا أن يبايعوا، فكانوا يجتمعون عند الإمام في بيته، كما عن الطبري وغيره.
ز _ وقرأنا أنّ أبا بكر أمر عمر بأن يأتيه بالإمام ومن معه بأعنف العنف _ كما في رواية البلاذري _ ليبايع، فأتاه عمر ومعه لفيف من الأعوان ومعهم الحطب، فهدد عمر باحراق البيت على من فيه إن لم يخرجوا، فقيل له: إن في الدار فاطمة، قال: وإن _ كما عن ابن قتيبة _ ثم هجموا على البتولة دارها، وهي تمانعهم عند الباب، فزحموها حتى أسقطت جنينها المحسن، وهي تصيح: ((يا أبتاه ماذا لقينا بعدك من ابن أبي قحافة وابن الخطاب)).
ح _ وقرأنا أن عمر وقنفذاً وآخرين هم الذين دخلو الدار فأخرجوا الزبير تلاً بعد أن ثار بسيفه فأخذوه وحطموه على صخرة هناك، وسلّموه إلى خالد بن الوليد وهو واقف لهم خارج الدار، وأخرجوا علياً وهو ملبب يقاد كالفحل المخشوش، كما عن معاوية بن أبي سفيان.
ط _ وأوقفوه بين يدي أبي بكر، وجرى له معهم من الاحتجاج ما مر ذكره، فلم يتركه القوم وهددوه بالقتل، فقال: ((تقتلون عبداً لله وأخاً لرسوله))، فقالوا: أما عبد الله فنعم وأما أخاً لرسوله فلا، وهذا من أقبح المكابرة والإنكار.
ي _ وقرأنا أنّ فاطمة(عليها السلام) هي التي أنقذت حياة الإمام بخروجها خلفه، فكان لخروجها أثر كبير في الناس، فخشي أبو بكر أن ينفلت الأمر، والمدينة بعد تغلي كالمرجل، فقال: لا أكرهه على البيعة ما دامت فاطمة إلى جانبه.
ك _ وقرأنا انّه كان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عنه عند ذلك، وأنه لم يبايع هو ولا أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة(عليها السلام)، كما عند البخاري، ومسلم، وعبد الرزاق وغيرهم.
ل _ وقرأنا أن فاطمة(عليها السلام) طالبت أبا بكر بميراثها، وبحقها من الفيء، ونحلتها في فَدَك، فأبى أبو بكر عليها ذلك، فغضبت وهجرته (فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر) كما عند البخاري ومسلم وغيرهما.
م _ وقرأنا أموراً تقشعر لها الجلود، صدرت من زمرة أضفى عليها المخالفون أبراد القداسة، بينما هي خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته وبعد مماته، وكتاب الله تعالى شاهد واعد بقوله: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ}(2).
وأخيراً _ ولا نطيل الكلام _ فإنّ الصحابة الذين كانوا يوم السقيفة يتنازعون فيما بينهم أمر الخلافة، لم يكونوا يجهلون من هو الأحق بالخلافة، ومن هو الذي عيّنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خليفة له من بعده من يوم بدء الدعوة، كما في تفسير قوله تعالى: { وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}(3).
وإنّما كانوا يتنازعون في الحكم والإمارة إذ لم تكن كلمة (خليفة) من الألفاظ التي وقعت في خواطر المسلمين، أو جرت على ألسنتهم في اجتماعهم يوم السقيفة (4).
يقول الاستاذ علي عبد الرزاق: (كانوا يومئذٍ _ يوم السقيفة _ إنّما يتشاورون في أمر مملكة تقام، ودولة تشاد، وحكومة تنشأ إنشاء، ولذلك جرى على لسانهم يومئذٍ ذكر الإمارة والامراء, والوزارة والوزراء... وتذاكروا قوة السيف والعزة والثروة، والعدد، والمنعة، والبأس والنجدة، وما كان ذلك إلا خوضاً في الملك، وقياماً بالدولة، وكان من أثر ذلك ما كان من تنافس المهاجرين والأنصار وكبار الصحابة، بعضهم مع بعض، حتى تمت البيعة لأبي بكر... فكان أول مَلكٍ في الإسلام) (5).
ولم يتجن الرجل على أحد من الصحابة الذين يتنازعون في اقتناص السلطة، ألم يقل الحباب بن المنذر الأنصاري: منّا أمير ومنكم أمير؟ ألم يقل أبو بكر للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء؟ ألم يقل عمر يخاطب الأنصار: انّه والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيّها من غيركم... من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة(6).
والآن فهل من حق القارئ أن يسأل بعد ما قرأ كل الذي مرّ به، أين هو الإجماع المزعوم على انتخاب أبي بكر للخلافة؟ وقد تخلف عن الإجماع علي(عليه السلام) وجميع بني هاشم ومن تابعهم وشايعهم، كسلمان، وأبي ذر، والمقداد، وعمّار، وخالد بن سعيد بن العاص، وحذيفة، واُبي بن كعب صاحب المقولة الشهيرة (هلك أصحاب العقدة) وبريدة الأسلمي، وأبي الهيثم بن التيهان، وأبي أيوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وعثمان أخيه، وهؤلاء هم الذين حاجّوا أبا بكر في المسجد وقد ورد احتجاجهم في كتاب الاحتجاج للطبرسي(7).
فأي انتخاب واختيار يزعم على صحة خلافة أبي بكر؟
وسؤال ثان، ومن حق القارئ أن يسأل: كيف ساغ لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة الحضور في السقيفة لتعيين الخليفة، والثلاثة كلهم جنود محاربون سمّاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جيش أسامة(8)، وأمرهم بالخروج معه وتحت إمرته، وقد لعن من تخلف عن المسير في ذلك الجيش فقال: ((لعن الله من تخلف عن جيش أسامة))(9).
فهاتان مخالفتان واضحتان، ومعهما كيف يسوغ للثلاثة أن يتولّوا زمام الأمور، مع أنّهم جنود مأمورون وتحت إمرة أسامة، حتى روى اليعقوبي استنكار أسامة لذلك(10).
وسؤال ثالث _ ومن حق القارئ أن يسأل _: هل كان من حق أبي بكر وعمر وأبي عبيدة أن يطالبوا الإمام علي بن أبي طالب بمبايعته لأبي بكر، وهم بالأمس القريب كانوا قد بايعوا له في غدير خم(11).

بايعوه وبعدها طلبوا البيعة    منه لله ريب الدهور

وسؤال رابع _ ومن حق القارئ أن يسأل _: هل من حق أبي بكر أن يجبر أحداً على مبايعته، وليس معه أي حجة شرعية تسوّغ له ذلك؟ فلا هو خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل هو خالفة _ كما اعترف بذلك لمن سأله(12) _ فليس من حقه ذلك وهو غاصب للمقام.
وسؤال خامس _ ومن حق القارئ أن يسأل _: هل كان من حق غاصب المقام أن يأمر بجلب الممتنع بأقسى الوسائل وأعنف العنف، كما مرّ عن البلاذري وغيره؟
وسؤال سادس _ ومن حق القارئ أن يسأل _: هل لأبي بكر أن يحضر الممتنع وإن كان في بيت من بيوت أذن الله بأن ترفع، وهو نفسه وعمر مثله يعلمون بأنّ بيت علي(عليه السلام) من أفاضلها، وقد روى هو ذلك(13).
وسؤال سابع _ ومن حق القارئ أن يسأل _: ألم يكن علي ومن معه في بيت فاطمة(عليها السلام)، ولما داهم البيت عمر ومن معه من عصابته، وخرجت اليهم فاطمة(عليها السلام) تمانعهم وتقول لعمر: ((أتراك محرقاً عليّ بيتي)) _ داري _ فيقول لها: نعم، وذلك أقوى مما جاء به أبوك؟ ألم يروا ولم يسمعوا بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) كان إذا أتى ذلك البيت يقف ويقرأ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(14).
ألم يروا ولم يسمعوا بأن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يقول: ((فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها فقد أغضبني، ومن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله))(15).
وفي نور الأبصار(16): خرج النبي(صلى الله عليه وآله) وهو آخذ بيد فاطمة فقال: ((من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة منّي وهي قلبي، وهي روحي التي بين جنبيّ، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)).
وأخرج الدارقطني عن عمر أنه سمع رجلاً يقع في علي فقال: ويحك أتعرف علياً؟ هذا ابن عمه _ وأشار إلى قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) _ والله ما آذيت إلا هذا في قبره(17).
وروى الإمام أحمد في زوائد المسند بلفظ: إنّك إن انتقصته فقد آذيت هذا في قبره. وأخرج السيوطي في الجامع الصغير نقلاً عن أحمد، وتاريخ البخاري، ومستدرك الحاكم في فضائل الصحابة عن عمرو بن شاس مرفوعاً: (من آذى علياً فقد آذاني) قال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذهبي، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح(18).
وأخرج السيوطي أيضاً في الجامع الصغير نقلاً عن ابن عساكر عن علي مرفوعاً: (من آذى شعرة منّي فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله) قال المناوي في فيض القدير(19): أي أحداً من أبعاضي وإن صغر، كنى به عن ذلك، كما قال: فاطمة بضعة منّي. وقال: زاد أبو نعيم والديلمي: (فعليه لعنة الله ملء السماء وملء الأرض).
أقول: فماذا بعد الحق إلا الضلال، فما دام رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ذلك، فلا عتاب على من اتبع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلعن من عليه لعنة الله ملء السماء وملء الأرض.
فبماذا يفسر العمريون مجيئ عمر بقبس من نار ليحرق بيت علي وفاطمة8 على من فيه، فاستنكر بعض أصحاب الضمائر الحيّة ذلك، فقالوا له: إنّ في الدار فاطمة! قال: وإن، _ كما مرّ _ .
وهذا أمر ثابت تاريخياً، مع هذا كله وقد تبجح حافظ إبراهيم في عمريته حيث قال بكل صلف:

وقولة لعلي قالها عمرٌ        أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرّقت دارك لا أبقي عليك بها    إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها    أمام فارس عدنان وحاميها

فهل إنّ ذلك كان يرضي الله ورسوله، لنكفّ ألسنتنا وأقلامنا عن الخوض في تلك الجريمة الشنعاء؟
أولم تصرخ فاطمة(عليها السلام) مستغيثة بأبيها: ((ماذا لقينا بعدك من ابن أبي قحافة وابن الخطاب))؟ أوليس هذا من شدة الأذى الذي لحق بها.
ألم يخرجوا علياً بأعنف العنف ملببّاً يتلونه تلا، وأوقفوه حافياً حاسراً بين يدي أبي بكر وقالوا له: بايع، قال: ((فإن لم أفعل)) فهددوه بالقتل، قال: ((تقتلون عبداً لله وأخا رسوله))؟ فقالوا: أما عبد الله فنعم، وأما أخا رسوله فلا، فانعطف إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) صارخاً: ((يابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني))؟.
وهل هذا ليس فيه شيء من الأذى؟ إذن ما هو الأذى الذي يستوجب لعنة الله ملء السماء وملء الأرض؟ ولا شك أنّهم كانوا من الصحابة, وسمعوا من النبي(صلى الله عليه وآله) فيمن آذى علياً وآذى فاطمة، فما الجواب؟
وما داموا هم صحابة فلا شك أنّهم سمعوا قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً}(20)، فلا ضير على من يلعن من لعنه الله سبحانه في الدنيا والآخرة, وأعد له عذاباً مهيناً.
وسؤال ثامن _ ومن حق القارئ أن يسأل _: هل كانت بيعة أبي بكر بالاختيار، كما يزعم البكريون؟ فلماذا إذن المساومة والرشوة؟ ألم تقل الأنصارية، وقد ردت ما بعث بها إليها أبو بكر: أتراشونني عن ديني؟ كما مرت الإشارة إليه (21).
ألم يقل عمر لأبي بكر، وقد بلغه مجيئ أبي سفيان بن حرب، وكان جابياً لبعض الصدقات قد بعثه النبي(صلى الله عليه وآله)، فعاد بعد موت النبي(صلى الله عليه وآله) فاستنكر خلافة أبي بكر وقال: ما بال هذا الأمر في أرذل حي من قريش؟ لأملأنّها خيلاً ورجالاً، وسماه أبا فصيل تحقيراً له، فقال عمر لأبي بكر أن يعطيه المال الذي جاء به ليسكت، وقد تم ذلك, وزاد بتولية ابنه يزيد بن أبي سفيان أن قال: وصلته رحم, وهذا كله مذكور في التاريخ.
ألم يعطوا معاذ بن جبل المال الذي أتى به من اليمن بعد أن ساومه عمر على ذلك(22)، حتى أصبح معاذ ممن يشار إليه في القضاء؟ لأنهم أخذوا بضبعه.
وسؤال تاسع _ ومن حق القارئ أن يسأل _: لقد مرّ بنا مكرراً حديث الفلتة، وانّ عمر نفسه قال ذلك عن بيعة أبي بكر بأنّها فلتة، وقد روى ذلك البخاري في باب رجم الحبلى، ورواه غيره كما مرّ، ولما كانت الفلتة وفيها شر ولكن وقى الله شرها، فكيف لصاحب تلك البيعة الفلتة وفيها شر، الحق بأن يستخلف غيره، وهي باطلة لما فيها من شر، وما بني على الباطل باطل؟ وقد سمّاها أحمد أمين المصري (غلطة) (23).
وسؤال عاشر، وآخر وآخر وتبقى الأسئلة تترى، ولا جواب على صواب غير المكابرة من الاتباع والأذناب، الا فمن هو أوّل من أسّس أساس الظلم والجور على أهل البيت؟ فليجيبوا على هذا السؤال بفصيح المقال.
إن المسلم البصير بأمر دينه، لا يخشى من قراءة تاريخية تكشف له الصفحات المزوّرة، والأمجاد المفتعلة لشخصيات مهزوزة عقائدياً ومهزومة تاريخياً، ما دام من حقه النظر بعقل واع، ومدرك موازين الحق، فلا يخدعه التقديس الأعمى للموروث، الذي يخلط الحابل بالنابل ويساوي المظلوم بالظالم، وآخر دعواه (عفا الله عما سلف) وهذه بلية أكثر المسلمين في الأرض، ولابدّ من إعادة قراءة التاريخ قراءة واعية كي يمكن لنا تلافي ما قرأناه وسمعناه من أخطاء غيّرت كثيراً من المفاهيم الصحيحة, فأضفينا الشرعية على حكم كل حاكم ظالم، لأنّا قرأنا حديثاً مكذوباً : ((أطعه وإن ضربك وأخذ مالك)).
وبالتالي تولى سلاطين الجور والحكام الطغاة، فأحاطوا أنفسهم بحثالات لا تسوى شروى نقير، فصاروا يروون لهم ما يشاؤون من أكاذيب تدعم سلطانهم حسب الأهواء والشهوات.
وفيما نحن بصدده لا استغناء لنا عن قراءة التاريخ بصفحاته، لغربلة ما فيه من كذب فاضح ببصماته، وادانة من أحدث الانحراف وتنكب الطريق الجدد فابتعد عن الصواب، فأورد الأمة _ مشارب _ بوءة، فثارت الفتن حتى اليوم، وتوالت المآسي يتبعها بعضها بعض كقطع الليل المظلم، ولا شك أنه سوف يتحمل وزر فعله ووزر من تابعه وشايعه لقوله (صلى الله عليه وآله): ((من سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها))(24).
وبتحديد المواقف تتضح هوية الأشخاص قرباً وبعداً من الدين, وهذا أمر طبيعي لمعرفة المحق من المبطل، وفيصل الحكم انّما هو القرآن الكريم والسنة النبوية قولاً وفعلاً وتقريراً, ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال التخلّي عن هذين العمودين: (القرآن والسنة) ومتى تخلّينا عنهما أو عن أحدهما فلسنا بمسلمين عملاً، وإن كانت بطاقة الهوية فيما يكتب فيها الديانة مسلم, فذلك لا يجدي يوم القيامة عند الحساب بين يدي من لا يخفى عليه خافية.
ولما كان النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) قد جاء برسالة فبلّغها، وشريعة شرّعها، وترك أمته على النهج الواضح والطريق المستقيم، ليس من حق أيّ إنسان تبديل حكم من الأحكام، ولا تعدي حدّ من حدود الإسلام، لأنه (صلى الله عليه وآله): {وَمَا يَـنْطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى}(25).
لذلك يجب على من كان مسلماً صحيح العقيدة الإذعان لما جاء به، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(26)، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ}(27).
هذا النبي العظيم الذي أنقذ الأمة من حيرة الجهالة إلى نور الحق والعدالة، لم يسأل أمته أجراً على جهوده وجهاده طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، سوى مودة أهل بيته، كما قال تعالى: {قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}(28).
وأقرب الناس إليه هم أهل بيته: (علي وفاطمة والحسن والحسين) الذين جللهم بالكساء، وفيهم نزلت آية التطهير: {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(29)، وعرفوا بأهل الكساء، وقد روى أبو بكر خبر الخيمة التي ضربها عليهم النبي أمام المسلمين وقال: (رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيّم خيمة وهو متكئ على قوس عربية, وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: معاشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة, حرب لمن حاربهم, وليّ لمن والاهم, لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ طيّب المولد, ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ رديء الولادة) وقد مر هذا برواية المحب الطبري فراجع النص الثامن.
فماذا كان الموقف المحزن المخزي من المسلمين أزاء أهل بيته أولئك؟ ومَن هو أول من أسس أساس الظلم عليهم، وبنى عليه بنيانه؟ ألم يكن أبو بكر هو الذي قال لعمر: إئتني به _ بعلي _ بأعنف العنف؟ ألم يكن هو الذي قال لعمر: فإن أبوا فقاتلهم؟
ألم يكن هو الذي ندم بعد ما اقترف في حق أهل البيت، وذلك عند حضور أجله، فقال في مثلثاته وقد مرّ ذكرها وذكر مصادرها وفيها: (ليتني لم أكشف عن بيت فاطمة وإن اشتمل على حرب).
ألم يكن هو الذي كان ينضض بلسانه عند موته ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)؟
وهل تجدي ليتني؟ قال الشاعر:

ليت وهل تنفع شيئاً ليت    ليت شباباً بوع فاشتريت

وكيف ينفعه الندم بعدما سمعت اذناه ووعاه قلبه ما قاله النبي(صلى الله عليه وآله) مِن لعن مَنْ آذى عترته، وهو _ أبو بكر _ يقول: (علي عترة رسول الله(صلى الله عليه وآله)) .
ألم يقل النبي(صلى الله عليه وآله): ((اشتد غضب الله، وغضب رسوله، وغضب ملائكته على من هراق دم نبي وآذاه في عترته))(30). ألم يقل النبي(صلى الله عليه وآله): ((يا فاطمة إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك))(31). ألم يقل (صلى الله عليه وآله): ((فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني)).
وهنا يقفز إلى الذهن السؤال الطويل العريض:
هل إنّ فاطمة الزهراء ماتت وهي غضبى على أحد؟ فيكون ذلك فيمن غضب الله تعالى عليه، وغضب عليه رسوله، ومن غضب الله عليه ورسوله فمأواه جهنم وساءت مصيراً.
فهل لنا بعد هذا أن نتولّى من أغضب فاطمة(عليها السلام) حتى ماتت وهي غضبى عليه؟ والله سبحانه يقول في كتابه: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَـنُوا لا تَـتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَـئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أصْحَابِ القُـبُورِ}(32).
وأخيراً فهل يجوز لعن من آذى فاطمة(عليها السلام) لقوله (صلى الله عليه وآله): ((من آذى فاطمة فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى)) والله سبحانه يقول: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وأعدَّ لَهُم عَذاباً مُهِينَاً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإثْماً مُبِيناً}(33).
ولتكن لدى القارئ صراحة الحق وجرأة الإيمان، فيجيب ولا يجمجم في الجواب، ففاطمة الزهراء (عليها السلام) جابهت وجبهت الشيخين بذلك حين أتياها معتذرين، فلم تعذرهما وقالت لهما: ((أرأيتكما إن حدثتكما حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتعملان به))؟ قالا: نعم، فقالت: ((نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي, وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني))؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قالت: ((فإنّي أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأشكونكما إليه))، فبكى أبو بكر حتى كانت نفسه تزهق وهي تقول: ((والله لأدعونّ الله عليكما في كل صلاة أصليها))(34).
فمن غضبت عليه وظلّت تدعو الله عليه لا يجوز لنا أن نتولاه أيّاً كان ذلك الإنسان.
____________
1 - الرياض النضرة 2: 180.
2 - النور: 63.
3 - الشعراء: 214، راجع كتاب (علي إمام البررة) 1: 72 _ 92 تجد صور الحديث وهي عشر، منها التصريح بالخلافة لمن بعده لمن يؤازره في دعوته، وفي ثمان منها بالوصاية من بعده، وفي خمس منها بالوزارة، وفي ثلاث منها بالوراثة، وفي ثلاث منها بالولاية، ومع هذا التظافر في النقل يزعم من لا حريجة له في الدين بأن النبي (صلى الله عليه وآله) مات ولم يوص، ولم يستخلف، ولم يول، ولم يورث... .
4- عبد الكريم الخطيب: الخلافة والإمامة، ديانة وسياسة: ص337.
5- الإسلام وأصول الحكم: 92.
6- راجع بشأن هذه الأقوال الإمامة والسياسة 1: 7.
7 - الاحتجاج للطبرسي: 47.
8- طبقات ابن سعد 4: 46 و136، وتاريخ اليعقوبي2: 93، وفتح الباري 9: 218 _ 219، وغير ذلك.
9- الملل والنحل للشهرستاني 1: 23 .
10- جاء في تاريخ اليعقوبي 2/ 106 : وأمر _ أبو بكر _ أسامة بن زيد أن ينفذ في جيشه وسأله أن يترك له عمر يستعين به على أمره, فقال: فما تقول في نفسك؟ فقال: يابن أخي فعل الناس ما ترى, فدع لي عمر وانفذ لوجهك.
11 - مبايعة الشيخين مع باقي الصحابة في غدير خم ذكرها الشيخ الأميني (رحمه الله) في الغدير بتوثيق, فراجع الجزء الأول.
12- راجع النهاية لابن الأثير، والفائق للزمخشري، ولسان العرب لابن منظور جميعاً في مادة (خلف) وكنز العمال 14: 173، تجد أنّ أعرابياً سأل أبا بكر: أنت خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا، قال: فما أنت؟ قال: أنا الخالفة بعده، أي القاعدة بعده.
13- أخرج الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 1: 410، بسنده عن أنس بن مالك، وعن بريدة قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الآية:$فِي بُيُوت أذِنَ اللّهُ# إلى قوله: $وَالأبْصَارُ# [النور: 36_37]، فقام إليه رجل فقال: يارسول الله أيّ بيوت هذه؟ قال: ((بيوت الأنبياء))، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها _ لبيت علي وفاطمة _ قال: ((نعم، من أفاضلها))، قال الحاكم: لفظ أبي القاسم ما أصلحت، وكتبته من أصل سماعه بخط أبي حاتم.
14 - الأحزاب: 33.
15- صحيح البخاري 2: 308، باب: مناقب فاطمة.
16- نور الأبصار للشبلنجي: 52.
17- فيض القدير 6: 18.
18- المصدر نفسه 6: 18.
19 - المصدر نفسه 6: 18.
20 - الأحزاب: 57.
21- كنز العمّال 5: 353، نقلاً عن ابن سعد وابن جرير.
22- كنز العمّال 5: 342 _ 343، نقلاً عن عبد الرزاق وابن راهويه.
23 - قال في كتابه يوم الإسلام: 54، فلما مات النبي (صلى الله عليه وآله) حصل هذا الاختلاف، فبايع عمر أبا بكر ثم بايعه الناس، وكان في هذا مخالفة لركن الشورى ، ولذلك قال عمر: إنها غلطة (كذا) وقى الله المسلمين شرها، وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر.
24 - المصنف لابن أبي شيبة 3: 109, وراجع موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف 8: 319، لمعرفة بقية المصادر.
25- النجم: 3 _ 4.
26- الحشر: 7.
27- النور: 63.
28 - الشورى: 23.
29- الأحزاب: 33.
30 - ذخائر العقبى: 39.
31- نفس المصدر: 39.
32- الممتحنة: 13.
33 - الأحزاب: 57 _ 58.
34- راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 13 _ 14.