طباعة

موقف الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يومئذٍ

لما كان النبي(صلى الله عليه وآله) قد تقدم إلى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بما سيجري عليه من بعده، وما سيلاقيه من العتاة من غصبهم مقامه، وأنّ الأمة ستغدر به وتعصي النبي(صلى الله عليه وآله) في أوامره باتباعها له، وأنّها ستنكر ولايته وإمامته، وعيّن له ما يجب عليه القيام من بعده إتماماً لجهوده في إقامة دينه، وأنّ عليه أن يصبر على ذهاب حقه في سبيل الحفاظ على شريعته، فقد روى أحمد في مسنده(1)، بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (انّه سيكون بعدي اختلاف أو أمر، فإن استطعت أن تكون السَلَم فافعل).
وعليه أن يعامل المستحوذين على حقه معاملة المسلمين ما داموا ينطقون بالشهادتين، وقد جاء في نهج البلاغة(2): ومن كلام له (عليه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم، جاء فيه:
وقام إليه رجل وقال: أخبرنا عن الفتنة؟ وهل سألت عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال (عليه السلام): ((لما أنزل الله سبحانه قوله: {الم أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفْتَنُونَ}(3)، علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أظهرنا، فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي، فقلت: يارسول الله، أوليس [قد] قلت لي يوم اُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحيزت عنّي الشهادة فشقّ ذلك علي، فقلت لي: أبشر فإنّ الشهادة من ورائك؟ فقال لي: إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذاً؟ فقلت: يا رسول الله ليس هنا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر، وقال: يا علي إنّ القوم سيفتنون بعدي بأموالهم، ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلّون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية, والربا بالبيع، فقلت: يارسول الله، بأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة)).
وهذا يوضّح لنا معنى ما ورد في بعض الآثار والأخبار أنّ الناس كفروا وارتدوا بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) إلاّ ثلاثة(4)، وفي رواية لابن حجر عن عمرو بن ثابت(5): إلاّ خمسة، وليس ذلك بمستغرب الوقوع عند من يقرأ قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِب عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}(6).
وأقوال الرسول الكريم وهو يخاطب صحابته نحو: (لا ألفينّكم ترجعون بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض...)(7). ونحو: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض...) البخاري ومسلم وغيرهما(8).
وفي بعض ألفاظ أحاديث الحوض عنه(صلى الله عليه وآله) قال: (ليردنّ عليّ الحوض ممن صاحبني إذا رأيتهم ورفعوا إليّ واختلجوا دوني فلأقولنّ: أي رب أصحابي أصحابي، فليقالنّ لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل باب اثبات حوض نبينا(صلى الله عليه وآله) عن أنس، وأخرجه أحمد في مسنده(9).
وجاء في البخاري في كتاب التفسير آخر سورة المائدة باب قوله تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} بسنده عن ابن عباس قال: خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله) : ... ألا ويجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يارب أصحابي، فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}(10)، فيقال: إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.
وفي البخاري في كتاب الرقاق باب في الحوض بسنده عن أبي هريرة أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قال: يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيحلؤون عن الحوض، فأقول: يارب أصحابي، فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى.
إلى غير ذلك من عشرات الأحاديث والآثار التي تنطق بوقوع ارتداد بعض الصحابة عن الصراط السوي الذي تركهم النبي(صلى الله عليه وآله) عليه، وأمرهم بالتمسك به كما في حديث الثقلين وغيرهم، ولكن القوم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها، فانقلبوا على الأعقاب، ونبذوا العترة والكتاب من وراء ظهورهم.
فلم ير الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلاّ الصبر على ذهاب حقه حفاظاً على بقاء الإسلام والنداء بالشهادتين، وفي خطبة الشقشقية ما يكشف عن مدى الألم الذي كان يعتصر قلبه بأبي هو وأمي، فهو أول مظلوم وأول من غصب حقه، ولما كان (عليه السلام) لم يجد العدد الكافي الذي يعينه، صَبَر على شدة المحنة وطول الأذى، ولم يكن سكوته عن طلب حقه إلا لقلة الناصر، وهو القائل: ((لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم)) (11).
ولقد كتب إليه معاوية كتابه المشهور جاء فيه اعتراف صريح بأنّ الإمام لم يقعد عن طلب حقه، وقام بإتمام الحجة على المسلمين يومئذٍ، فقد جاء في ذلك الكتاب: ((وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصديق، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب رسول الله، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة... ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حرّكك وهيّجك: لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم...)) (12).
وهذا أيضاً ذكره عمرو بن العاص لمعاوية _ مذكّراً له بشجاعة الإمام _ بعد منعه الماء في صفين عن الإمام وجيشه، فقال عمرو:
خلّ بينهم وبين الماء، فإنّ عليّاً لم يكن ليظمأ وأنت ريّان، وفي يده أعنة الخيل، وهو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت، وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق، ومعه أهل العراق وأهل الحجاز، وقد سمعته أنا وأنت وهو يقول: لو استمكنت من أربعين رجلاً _ فذكر أمراً _ يعني لو أنّ معي أربعين رجلاً يوم فتش البيت، يعني بيت فاطمة(عليها السلام)(13).
وكم في أقوال الإمام(عليه السلام) من نفثات ألم وبرم من أولئك الغاصبين حقه، وما سكوته على مضض إلاّ لقلّة الناصر، والتزاماً بما رسمه له النبي(صلى الله عليه وآله) أن يفعله في تلك الحال.
ولقد وردت عن الإمام(عليه السلام) عدّة نصوص تعطينا صورة واضحة عن رأيه في أحداث تلك الفترة وما أعقبها من ملابسات، وعلى كيفية معالجتها بالأصلح، اتخذ قراره في تلك الأزمة الخانقة من التعايش مع الزمرة الحانقة، إذ لم ير يومئذٍ غير ذلك من الحل المناسب، فلنقرأ ما يقول (عليه السلام):
((إنّ الله لما قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أنّ الصبر أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقلّ خلاف))(14).
وقال (عليه السلام): ((ولقد علم المستحفظون من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّني لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخّر عنها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها، ولقد بذلت في طاعته (صلى الله عليه وآله) جهدي، وجاهدت أعداءه بكل طاقتي، ووقيته بنفسي، ولقد أفضى إليّ من علمه بما لم يفضَ به إلى أحد غيري، ولقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنّ رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله (صلى الله عليه وآله) والملائكة أعواني، فضجّت الدار والأفنية ملأ يهبط وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلون عليه، حتى واريناه صلوات الله عليه في ضريحه، فمن ذا أحق به منّي حيّاً وميّتاً))(15).
وقال (عليه السلام): ((لما قبض الله نبيّه وكنّا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه من دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا، فصار الأمر لغيرنا، وصرنا سوقة، يطمع فينا الضعيف، ويتعزز علينا الذليل، فبكت منّا الأعين لذلك، وخشيت الصدور، وجزعت النفوس))(16).
وقال (عليه السلام) في جواب الأسدي، وقد سأله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به، فقال: ((يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين(17)، تُرسل في غير سدَدَ، ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم: أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نَسَباً، والأشدون برسول الله (صلى الله عليه وآله) نوطاً(18)، فإنّها كانت اثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، والحَكَم الله، والمعود إليه يوم القيامة، ودع عنك نهباً صيح في حجراته))(19).
وقال (عليه السلام): ((اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك، اللّهم إنّي أول من أناب وسمع وأجاب، ولم يسبقني إلاّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصلاة))(20).
إلى غير ذلك من أقواله (عليه السلام) التي أوضحت للناس عظيم معاناته، وفي الشقشقية، ومثلها في كلامه مع ابن عباس في النخيلة وهو صنو الشقشقية بياناً ولساناً ذكرته في (موسوعة عبد الله بن عباس) يفيض ألماً، وتكاد أحرفه تقطر دماً، ولم تقصر عن ذلك خطبته التي استعرض فيها حال المسلمين بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) وإلى أواخر أيام خلافته، وقد أجاب فيها على مسائل السائلين في مشهد يوم عظيم.
وإلى القارئ نص الخطبة نقلاً عن كنز العمال(21):
عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، عن أبيه قال: كان علي يخطب فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني مَن أهل الجماعة؟ ومَن أهل الفرقة؟ ومَن أهل السنة؟ ومَن أهل البدعة؟
فقال: ((ويحك! أما إذ سألتني فافهم عنّي، ولا عليك أن لا تسأل عنها أحداً بعدي، فأما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلّوا، وذلك الحق من أمر الله وأمر رسوله، فأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ومن اتبعني وإن كثروا، وأما أهل السنة المتمسكون بما سنّه الله لهم ورسوله وإن قلّوا، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا، وقد مضى منه الفوج الأول وبقيت أفواج, وعلى الله قصمها واستئصالها عن جدبة الأرض)).
فقام إليه عمّار فقال: ياأمير المؤمنين! انّ الناس يذكرون الفيء ويزعمون أنّ قاتلنا (مقاتلنا ظ) فهو وماله وأهله فيء لنا وولده، فقام رجل من بكر بن وائل يدعى عبّاد بن قيس _ وكان ذا عارضة ولسان شديد _ فقال: ياأمير المؤمنين! والله! ما قسمت بالسوية، ولا عدلت في الرعية، فقال علي: ((ولم، ويحك؟)) قال: لأنّك قسمت ما في العسكر، وتركت الأموال والنساء والذرية، فقال عبّاد: جئنا نطلب غنائمنا، فجاءنا بالترهات! فقال له علي: ((إن كنت كاذباً فلا أماتك الله حتى تدرك غلام ثقيف)).
فقال رجل من القوم: ومَن غلام ثقيف ياأمير المؤمنين؟ فقال: ((رجل لا يدع لله حرمة إلا انتهكها))، قال: فيموت أو يقتل؟ قال: ((بل يقصمه قاصم الجبّارين، قتله بموت فاحش يحترق منه دبره لكثرة ما يجري من بطنه، يا أخا بكر! أنت امرؤ ضعيف الرأي، أما علمت أنّا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير! وأنّ الأموال كانت لهم قبل الفرقة، وتزوجوا على رشدة، وولدوا على الفطرة، وإنّما لكم ما حوى عسكرهم، وما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم، فإن عدا علينا أحد منهم أخذناه بذنبه، وإن كفّ عنّا لم نحمل عليه ذنب غيره، يا أخا بكر! لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أهل مكة، قسّم ما حوى العسكر ولم يعرض لما سوى ذلك، وإنّما اتبعت أثره حذو النعل بالنعل، يا أخا بكر! أما علمت أنّ دار الحرب يحل ما فيها، وأنّ دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بحق، فمهلاً مهلاً رحمكم الله! فإن أنتم لم تصدّقوني وأكثرتم علي _ وذلك أنّه تكلّم في هذا غير واحد _ فأيّكم يأخذ أمه عائشة بسهمه؟)).
قالوا: أينا ياأمير المؤمنين! بل أصبت وأخطأنا، وعلمت وجهلنا، ونحن نستغفر الله! وتنادى الناس من كل جانب: أصبت ياأمير المؤمنين! أصاب الله بك الرشاد والسداد! فقام عمّار فقال: يا أيّها الناس! إنّكم والله إن اتبعتموه وأطعتموه لم يضلّ بكم من منهاج نبيكم قيد شعرة، وكيف يكون ذلك وقد استودعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنايا والوصايا، وفصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران، إذ قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)) فضلاً خصّه الله به إكراماً منه لنبيّه (صلى الله عليه وآله) حيث أعطاه الله ما لم يعطه أحداً من خلقه.
ثم قال علي: ((انظروا رحمكم الله ما تؤمرون به فامضوا له، فإنّ العالم أعلم بما يأتي من الجاهل الخسيس الأخس، فإنّي حاملكم _ إن شاء الله تعالى إن أطعتموني _ على سبيل الجنة، وإن كان ذا مشقة شديدة ومرارة عتيدة، وإنّ الدنيا حلوة، الحلاوة لمن اغتر بها... (22) من الشقوة والندامة عمّا قليل، ثم إنّي مخبركم أنّ خيلاً من بني إسرائيل أمرهم نبيهم أن لا يشربوا من النهر، فلجوا في ترك أمره فشربوا منه إلاّ قليلاً منهم، فكونوا رحمكم الله من أولئك الذين أطاعوا نبيّهم ولم يعصوا ربّهم، وأما عائشة فأدركها رأي النساء، وشيء كان في نفسها عليَّ يغلي في جوفها كالمرجل، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليَّ لم تفعل، ولها بعد ذلك حرمتها الأولى، والحساب على الله، يعفو عمن يشاء ويعذب من يشاء)).
فرضي بذلك أصحابه وسلموا لأمره بعد اختلاط شديد، فقالوا: ياأمير المؤمنين! حكمت والله فينا بحكم الله، غير أنّا جهلنا ومع جهلنا لم نأت ما يكره أمير المؤمنين:

وقال ابن يساف الأنصاري:

إنّ رأياً رأيتموه سفاهاً            لخطأ الايراد والاصدار
ليس زوج النبي تقسم فيئاً        ذاك زيغ القلوب والأبصار
فاقبلوا اليوم ما يقول علي        لا تناجوا بالإثم في الإسرار
ليس ما ضمت البيوت بفيء        إنّما الفيء ما تضم الأوار
من كراع في عسكر وسلاح        ومتاع يبيع أيدي التجار
ليس في الحق قسم ذات نطاق        لا ولا أخذكم لذات خمار
ذاك هو فيئكم خذوه وقولوا        قد رضينا لا خير في الإكثار
إنّها أمكم وإن عظم الخطـ        ـب وجاءت بزلّة وعثار
فلها حرمة النبي وحقا            ق علينا من سترها ووقار

ثم قام عبّاد بن قيس وقال: ياأمير المؤمنين! أخبرنا عن الإيمان، فقال:((نعم، إنّ الله ابتدأ الأمور فاصطفى لنفسه ما شاء، واستخلص ما أحب، فكان مما أحب أنّه ارتضى الإسلام، واشتقه من اسمه، فنحله من أحب من خلقه، ثم شقّه فسهّل شرائعه لمن ورده، وعزّز أركانه على من حاربه، هيهات من أن يصطلمه مصطلم! جعله سلماً لمن دخله، ونوراً لمن استضاء به، وبرهاناً لمن تمسّك به، وديناً لمن انتحله، وشرفاً لمن عرفه، وحجة لمن خاصم به، وعلماً لمن رواه، وحكمة لمن نطق به، وحبلاً وثيقاً لمن تعلّق به، ونجاة لمن آمن به.
فالإيمان أصل الحق، والحق سبيل الهدى وسيفه جامع الحلية، قديم العدة، الدنيا مضماره، والغنيمة حليته، فهو أبلج منهاج، وأنور سراج، وأرفع غاية، وأفضل داعية، لمن سلك قصد الصادقين، واضح البيان، عظيم الشأن، الأمن منهاجه، والصالحات مناره، والفقه مصابيحه، والمحسنون فرسانه، فعصم السعداء بالإيمان، وخذل الأشقياء بالعصيان من بعد اتجاه الحجة عليهم بالبيان، إذ وضح لهم منار الحق، وسبيل الهدى.
فالإيمان يستدل به على الصالحات، وبالصالحات يعمر الفقه، وبالفقه يرهب الموت، وبالموت يختم الدنيا، وبالدنيا تخرج الآخرة، وفي القيامة حسرة أهل النار، وفي ذكر أهل النار موعظة أهل التقوى، والتقوى غاية لا يهلك من اتبعها، ولا يندم من عمل بها، لأنّ بالتقوى فاز الفائزون، وبالمعصية خسر الخاسرون، فليزدجر أهل النهي، وليتذكّر أهل التقوى، فإنّ الخلق لا مقصر لهم في القيامة دون الوقوف بين يدي الله، مرفلين في مضمارها نحو القصبة العليا إلى الغاية القصوى، مهطعين بأعناقهم نحو داعيها، قد شخصوا من مستقر الأجداث والمقابر إلى الضرورة أبداً، لكل دار أهلها، قد انقطعت بالأشقياء الأسباب، وأفضوا إلى عدل الجبار، فلا كرّة لهم إلى دار الدنيا، فتبرؤوا من الذين آثروا طاعتهم على طاعة الله، وفاز السعداء بولاية الإيمان.
فالإيمان ياابن قيس على أربع دعائم: الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد، فالصبر من ذلك على أربع دعائم: الشوق، والشفق، والزهد, والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
واليقين من ذلك على أربع دعائم: تبصرة الفتنة، تأوّل الحكمة، ومن تأوّل الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة فكأنّما كان في الاولين، فاهتدى إلى التي هي أقوم.
والعدل من ذلك على أربع دعائم: غائص الفهم، وغمرة العلم، وزهرة الحكم، وروضة الحلم، فمن فهم فسّر جميع العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن عرف شرائع الحكم لم يضل، ومن حلم لم يفرط أمره، وعاش في الناس حميداً.
والجهاد من ذلك على أربع دعائم: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه، ومن شنأ المنافقين وغضب لله غضب الله له)).
فقام إليه عمّار فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن الكفر على ما بُنيَ كما أخبرتنا عن الإيمان؟ قال: ((نعم يا أبا اليقظان! بني الكفر على أربع دعائم: على الجفاء، والعمى، والغفلة، والشك، فمن جفا فقد احتقر الحق، وجهر بالباطل، ومقت العلماء، وأصرّ على الحنث العظيم، ومن عمي نسي الذكر، واتبع الظن، وطلب المغفرة بلا توبة ولااستكانة، ومن غفل حاد عن الرشد، وغرّته الأماني، وأخذته الحسرة والندامة، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، ومن عتا في أمر الله شك، ومن شك تعالى الله عليه فأذلّه بسلطانه، وصغّره بجلاله، كما فرّط في أمره فاغتر بربّه الكريم، والله أوسع بما لديه من العفو والتيسير، فمن عمل بطاعة الله اجتلب بذلك ثواب الله، ومن تمادى في معصية الله ذاق وبال نقمة الله، فهنيئاً لك يا أبا اليقضان عقبى لا عقبى غيرها، وجنّات لا جنّات بعدها!)).
فقام إليه رجل فقال: ياأمير المؤمنين! حدّثنا عن ميّت الأحياء، قال: ((نعم، إنّ الله تعالى بعث النبيّين مبشرين ومنذرين فصدّقهم مصدقون، وكذّبَهم مكذبون، فيقاتلون من كذّبهم بمن صدّقهم، فيظهرهم الله ثم يموت الرسل، فتخلف خلوف، فمنهم منكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه، فذلك استكمل خصال الخير، ومنهم منكر للمنكر بلسانه وقلبه تارك له بيده، فذلك خصلتان من خصال الخير تمسك بهما، وضيّع خصلة واحدة وهي أشرفها، ومنهم منكر للمنكر بقلبه تارك له بيده ولسانه، فذلك ضيّع شرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة، ومنهم تارك له بلسانه وقلبه ويده، فذلك ميّت الأحياء)).
فقام إليه رجل فقال: ياأمير المؤمنين! أخبرنا على ما قاتلت طلحة والزبير؟ قال: ((قاتلتهم على نقضهم بيعتي، وقتلهم شيعتي من المؤمنين: حكيم بن جبلة العبدي من عبد القيس, والسائحة(23)، والأساورة(24) بلا حق استوجبوه منهما، ولا كان ذلك لهما دون الإمام، ولو أنهما فَعلا ذلك بأبي بكر وعمر لقاتلاهما، ولقد علم مَن ههنا مِن أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أنّ أبا بكر وعمر لم يرضيا ممن امتنع من بيعة أبي بكر حتى بايع وهو كاره، ولم يكونوا بايعوه بعد الأنصار، فما بالي وقد بايعاني طائعينَ غير مكرَهينَ؟! ولكنهما طمعا منّي في ولاية البصرة واليمن، فلما لم أولّهما، وجاءهما الذي غلب من حبهما للدنيا وحرصهما عليها، خفت أن يتخذا عباد الله خولاً، ومال المسلمين لأنفسهما، فلمّا زويت ذلك عنهما وذلك بعد أن جرّبتهما واحتججت عليهما)).
فقام إليه رجل فقال: ياأمير المؤمنين! أخبرنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو؟ قال: ((سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّما أهلك الله الأمم السالفة قبلكم بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله (عزوجل) : {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}(25).
وإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله (عزوجل) ، فمن نصرهما نصره الله، ومن خذلهما خذله الله، وما أعمال البر والجهاد في سبيله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كبقعة في بحر لجي، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق، وأفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، وإنّ الأمر لينزل من السماء إلى الأرض كما ينزل قطر المطر إلى كل نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان، في نفس، أو أهل، أو مال، فإذا أصاب أحدكم نقصاناً في شيء من ذلك، ورأى الآخر ذا يسار لا يكوننّ له فتنة، فإنّ المرء المسلم البرئ من الخيانة لينتظر من الله إحدى الحسنيين: إما من عند الله فهو خير واقع، وإما رزق من الله يأتيه عاجل، فإذا هو ذو أهل ومال ومعه حسبه ودينه، المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام)).
فقام إليه رجل فقال: ياأمير المؤمنين! أخبرنا عن أحاديث البدع، قال: "نعم، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ أحاديث ستظهر من بعدي حتى يقول قائلهم: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كل ذلك افتراء عليَّ، والذي بعثني بالحق! لتفترقنّ أمّتي على أصل دينها وجماعتها على ثنتين وسبعين فرقة،كلّها ضالة مضلّة تدعوا إلى النار، فإذا كان ذلك فعليكم بكتاب الله (عزوجل) ، فإنّ فيه نبأ ما كان قبلكم، ونبأ ما يأتي بعدكم، والحكم فيه بيّن، من خالفه من الجبابرة قصمه الله، ومن ابتغى العلم في غيره أضلّه الله، فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وشفاؤه النافع، وعصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوّج فيقام، ولا يزيغ فيتشعب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلقه كثرة الرد، وهو الذي سمعته الجن فلم تناه أن ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا: يا قومنا! {إنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدَي إلَى الرُّشْدِ}(26)، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم".
فقام إليه رجل فقال: ياأمير المؤمنين! أخبرنا عن الفتنة هل سألت عنها رسول الله؟ قال: ((نعم، إنّه لما نزلت هذه الآية من قول الله (عزوجل) : {الم أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفْتَنُونَ}(27)، علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حيٌّ بين أظهرنا، فقلت: يارسول الله! ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: ياعلي! إن أمتي سيفتنون من بعدي، قلت: يارسول الله! أوليس قد قلت لي يوم اُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحزنت على الشهادة فشق ذلك عليَّ، فقلت لي: أبشر يا صدّيق! فانّ الشهادة من ورائك، فقال لي: فإنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا! وأهوى بيده إلى لحيتي ورأسي، فقلت: بأبي وأمي يارسول الله! ليس ذلك من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر! فقال لي: أجل.
ثم قال لي: ياعلي! انّك باق بعدي، ومبتلى بأمتي، ومخاصَم يوم القيامة بين يدي الله تعالى، فاعدد جواباً، فقلت: بأبي أنت وأمي! بيّن لي ما هذه الفتنة التي يبتلون بها، وعلى ما أجاهدهم بعدك؟ فقال: إنّك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة _ وحلاهم وسماهم رجلاً رجلاً _ ثم قال لي: وتجاهد أمتي على كل من خالف القرآن ممن يعمل في الدين بالرأي، ولا رأي في الدين، إنّما هو أمر من الرب ونهيه.
فقلت: يارسول الله! فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة يوم القيامة، فقال: نعم، إذا كان ذلك فاقتصر على الهدى، إذا قومك عطفوا الهدى على العمى، وعطفوا القرآن على الرأي فتأوّلوه برأيهم، تتبع الحجج من القرآن بمشتبهات الأشياء الكاذبة عند الطمأنينة إلى الدنيا والتهالك والتكاثر، فاعطف أنت الرأي على القرآن إذا قومك حرّفوا الكلم عن مواضعه عند الأهواء الساهية، والأمر الصالح، والهرج والاثم، والقادة الناكثة، والفرقة القاسطة، والأخرى المارقة أهل الافك المردي، والهوى المطغي، والشبهة الحالقة، فلا تنكلنّ عن فضل العاقبة فإنّ العاقبة للمتقين.
وإيّاك ياعلي أن يكون خصمك أولى بالعدل والإحسان والتواضع لله، والاقتداء بسنتي والعمل بالقرآن منك! فإن من فلج الرب على العبد يوم القيامة أن يخالف فرض الله أو سنّة سنّها نبي، أو يعدل عن الحق ويعمل بالباطل، فعند ذلك يملي لهم فيزدادوا إثماً، يقول الله: {إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(28).
فلا يكوننّ الشاهدون بالحق، والقوامون بالقسط عندك كغيرهم، ياعلي! إنّ القوم سيفتنون ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم، ويزكون أنفسهم، ويمنّون دينهم على ربهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون عقابه، ويستحلّون حرامه بالمشتبهات الكاذبة، فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع، ويمنعون الزكاة، ويطلبون البر، ويتخذون فيما بين ذلك أشياء من الفسق لا توصف صفتها، ويلي أمرهم السفهاء، ويكثر تتبعهم على الجور والخطأ، فيصير الحق عندهم باطلاً، والباطل حقاً، ويتعاونون عليه ويرمونه بألسنتهم، ويعيبون العلماء ويتخذونهم سخرياً.
قلت: يارسول الله! فبأية المنازل هم إذا فعلوا ذلك، بمنزلة فتنة أو بمنزلة ردّة؟ قال: بمنزلة فتنة، ينقذهم الله بنا أهل البيت عند ظهورنا السعداء من أولي الألباب، إلا أن يدعوا الصلاة، ويستحلّوا الحرام في حرم الله، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر.
ياعلي! بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه، بنا أهلك الأوثان ومن يعبدها، وبنا يقصم كلّ جبار وكلّ منافق، حتى إنّا لنقتل في الحق مثل من قتل في الباطل، ياعليّ! إنّما مثل هذه الأمة مثل حديقة أطعم منها فوجاً عاماً ثم فوجاً عاماً، فلعل آخرها فوجاً أن يكون أثبتها أصلاً، وأحسنها فرعاً، وأحلاها جنى، وأكثرها خيراً، وأوسعها عدلاً، وأطولها ملكاً.
ياعلي! كيف يهلك الله أمة أنا أولها، ومهدينا أوسطها، والمسيح ابن مريم آخرها.
ياعلي! انّما مثل هذه الأمة كمثل الغيث لا يدرى أوّله خير أم آخره، وبين ذلك نهج أعوج لست منه وليس منّي.
ياعلي! وفي تلك الأمة يكون الغلول والخيلاء وأنواع المثلات، ثم تعود هذه الأمة إلى ما كان خيار أوائلها، فذلك من بعد حاجة الرجل إلى قوت امرأته _ يعني غزلها _ حتى أنّ أهل البيت ليذبحون الشاة فيقنعون منها برأسها، ويواسون ببقيتها، من الرأفة والرحمة بينهم)).
نماذج من مواقف علماء التبرير من تلك الأحداث:
بعد استعراض ما مرّ من النصوص التي يجب أن تقرأ بإمعان, وقد قرأها القارئ فهل حصلت لديه قناعة بأنّ ثمة إدانة لأفعال السلف, بما جرى منهم على أهل البيت: من ظلم بعد موت النبي(صلى الله عليه وآله), فكان (المحسن السبط) أول شهيد لعنف تلك الأحداث؟
لا ريب أنّ مَن غَلَبَ عقله على هواه حصلت لديه قناعة كافية, بأنّ ظلماً قد جرى فأسقط جنيناً على الثرى, وبقيت فعال الظالمين السالفين وصمة عار على الخالفين, وهذا ما أدركه علماء التبرير, ولابدّ لهم ما داموا وهم من أنصار الخلافة, أن يغالطوا أنفسهم ليتمكنوا من مغالطة الآخرين, وهذا ما حدث كما أراه في أقوالهم, فقد نفوا أن يكون أيّ ظلم لحق بأهل البيت, ونفوا ذلك جملةً وتفصيلاً من دون حجة مقبولة, وأنّى لهم إقامة الحجة على ذلك, وحجتهم دعم الحاكمين, فهم أقوى سند, ومنهم المَدد وعليهم المعتمد, ويكفيهم زرع الشك فيما يرويه أنصار الإمامة, لأنّهم أقوى منهم شكيمة وأهدى سبيلاً وأقوم قيلاً, ولو كان ذلك دفعاً بالصدور .
وإلى القارئ نماذج مما قاله بعض علماء التبرير:
1 _ أبو بكر الباقلاني (ت 403 هـ) متكلم على مذهب الأشعري, له نشاط في الرد على المعتزلة والشيعة والخوارج والجهمية وغيرهم, وكتابه (التمهيد) دليل ذلك ما عليه من مزيد. قال في كتابه (نكت الانتصار لنقل القرآن):
وأمّا طعن الرافضة على الصحابة فلا يلتفت إليه, لأنّهم جروا على عادتهم في سب السلف ورميهم بالكفر, وقولهم: إنّ علياً جرّ إلى بيعة أبي بكر بحبل أسود... وإنّ عمر (رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن)(29).
وعلى نهج هذا الأشعري في تحامله على الرافضة, كان نهج المعتزلي كما سيأتي, فجرى التالون على ما أسّس الأولون, وما أدري لماذا كل هذا الحقد على الشيعة؟ فما هو ذنبهم في روايتهم ذلك؟ فهم لم يبهتوا الصحابة بما لم يكن فيهم ومنهم, وعلى تقدير ذكرهم يوجب الإدانة, فليكن الأشعري أو المعتزلي منصفاً في نقده, وعادلاً في توزيع حقده, فيصبّ ثمالة جام غضبه على الذين ذكروا ذلك من أصحاب مذهبه, فإن يك ما ذكروه كذباً فعليهم وزر ما رووه, وإن يك صدقاً, فوزر ذلك على الذين اقترفوه.
ألم يذكر عبد القادر البغدادي الأشعري في كتابه (الفرق بين الفرق)(30) عن النظام المعتزلي ذلك؟ وليسا هما من الرافضة؟
ألم يذكر ذلك المقريزي _ وهو سنّي _ في كتابه الخطط(31)، فهل هو من الرافضة؟
ألم يذكر ذلك الشهرستاني _ وهو سنّي متعصب على الشيعة _ في كتابه الملل والنحل, كما تقدم في النصوص؟ فهل هو من الرافضة؟
ألم يذكر ذلك الصفدي _ وهو من مؤرخي السنّة _ في كتابه الوافي بالوفيات كما تقدم في النصوص، فهل هو من الرافضة؟
أليس هؤلاء جميعاً نقلوا ما قاله إبراهيم النظام المعتزلي البغدادي, تلميذ الجاحظ المعتزلي البصري, فقال: انّ عمر ضرب بطن فاطمة ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى ألقت المحسن من بطنها, وكان يصيح أحرقوا الدار بمن فيها, وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين... راجع نص الشهرستاني فيما تقدم من النصوص.
ألم يذكر الذهبي السنّي العتيد العنيد في ميزان الاعتدال(32)، في ترجمة أبي دارم عنه... أنّ عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن. فهل على الرافضة من وزر لو قالوا ما رواه هؤلاء؟
2 _ قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (ت 415 هـ) من شيوخ المعتزلة ومتكلميهم, فقد قال في كتابه (تثبيت دلائل النبوة) متحاملاً بظلم على الرافضة: ومن عجيب اُمورهم قولهم... والذي عرفنا بالخبر أن يزيد بن معاوية قتل الحسين وأشخص ذريته إلى الشام, هو الذي عرفنا بعقولنا انّ أبا بكر ما ضرب فاطمة, ولا قتل المحسن, وهذا في القياس كمن قال: إذا كان يزيد بن معاوية قد غزى _ كذا والصواب غزا _ المدينة ومكة واستباحهما أن يكون أبو بكر قد فعل مثل ذلك(33).
وقال: وقيل أيضاً للرافضة: إذا كان أبو بكر قد ضرب فاطمة وقتل المحسن, فقد كان ينبغي أن يحصل العلم بذلك عند كل من سمع الأخبار, وأن يكون العلم بذلك مثل العلم بقتل يزيد الحسين, ومثل قتل معاوية حجر بن عدي, وعبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل, بل كان ينبغي أن يكون العلم بما ادعيتم أقوى من العلم بهؤلاء القتلى, لأنّ هذه الحادثة التي ادعيتموها على أبي بكر كانت بالمدينة, وقد شهدها العباس وولده, وعلي بن أبي طالب وولده, وعقيل وولده, وجميع بني هاشم ومواليهم ونسائهم, وجميع المهاجرين والأنصار وأولادهم ونسائهم, وقد كان بالمدينة حين توفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر من مائة ألف إنسان, وكان يكون العلم بهذا أقوى مما كان بكربلا.
ولكن دعاوى الرافضة على ضرب فاطمة(عليها السلام) وقتل ولدها, وأمر أبي بكر خالد بن الوليد بقتل علي بن أبي طالب كدعواهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) النصوص التي يدّعونها, وكل من تأمّل أمرهم تبيّن له بطلان ذلك, ووضح له وضوح الشمس(34).
وقال: وفي هذا الزمان منهم _ يعني من الشيعة الفاطميين _ مثل أبي جبلة إبراهيم بن غسان, ومثل جابر المتوفي, وأبي الفوارس الحسن بن محمد الميمدي, وأبي الحسين أحمد بن محمد بن الكميت, وأبي محمد الطبري, وأبي الحسن الحلبي, وأبي يتيم الرلباي, وأبي القاسم البخاري, وأبي الوفا الديلمي, وابن أبي الديس, وخزيمة وأبي خزيمة وأبي عبد الله محمد بن النعمان, فهؤلاء بمصر وبالرملة وبصور وبعكا وبعسقلان وبدمشق وببغداد وبجبل البسماق، وكل هؤلاء بهذه النواحي يدّعون التشيع ومحبّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته, فيبكون على فاطمة وعلى ابنها المحسن الذي زعموا أنّ عمر قتله...(35).
وقال أيضاً وهو يخاطب الفاطميين بمصر: وأنتم تدّعون ما هو في الظهور أعظم من هذا, من انّ فاطمة(عليها السلام) ضُربت وقُتل جنينها في بطنها جهاراً بمشهد من العباس وعلي وجميع بني هاشم, وبمشهد من المهاجرين والأنصار, وهم أكثر ما كانوا وأوفر, وهذه وقعة أعظم من وقعة كربلاء ومن شهدها أكثر(36).
أقول: من حقنا أن نسأله وجميع المدافعين عن أبي بكر عن معنى ندمه على كشف بيت فاطمة, فماذا جرى يومئذٍ حتى كان شبحه يطارد مخيلة أبا بكر ولم يبارحه حتى مرض موته, فباح بما قال نادماً؟
فإذا لم يكن قد جرى يومئذٍ ما جرى كما يقوله الشيعة ويرويه بعض السنّة فعلام الندم؟
ثم من حقنا أن نسأل قاضي القضاة بماذا كان يقضي لو كانت دعوى فاطمة(عليها السلام) رفعت إليه, أكان يسمع دعواها في النحلة وفي الميراث وفي سهم ذوي القربى؟ أم يردّها كما فعل أبو بكر؟ ثم نفسّر ندمه عند موته على كشف بيت فاطمة(عليها السلام) بذلك؟ كيف يقبل ذو مسكة من عقل ودين أن يقول ذلك؟
ونسأله أيضاً عن حديث رواه أبو بكر نفسه, وذلك حديث الخيمة التي جمع فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً وفاطمة والحسن والحسين: وقال: ((معاشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل هذه الخيمة, وحرب لمن حاربهم, ووليّ لمن والاهم, لا يحبهم إلاّ سعيد الجدّ طيب المولد, ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ ردي المولد)) (37).
فهل كلام قاضي القضاة في دفاعه عما جرى على فاطمة وبعلها وبنيها مما يدل على مسالمتهم؟ أو على محاربتهم؟ وهو لا شك عرف حديث الكساء الذي رواه أهل التاريخ والحديث، ورواه من الصحابة أكثر من عشرة كما في كتاب (علي إمام البررة)(38), وأطال فيه ابن حجر الكلام في اثباته سنداً ودلالةً(39).
وكلا الحديثين حديث الخيمة الذي رواه أبو بكر, وحديث الكساء ومن رواته عائشة ابنة أبي بكر, دلاّ على ما لأهل البيت من الفضل ما ليس لأحد مثله, ولبيتهم حرمة لا توازيها حرمة أيّ بيت آخر.
وهذا ما سمعه أبو بكر من النبي(صلى الله عليه وآله) أيضاً, فقد روى أنس بن مالك وبريدة بن الحصيب وغيرهما: انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرأ: {فِي بُيُوت أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ}(40)، فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: ((بيوت الأنبياء)).
فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها؟ لبيت علي وفاطمة, قال: ((نعم من أفاضلها))(41).
قال الألوسي بعد ذكر الحديث: وهذا إن صح لا ينبغي العدول عنه(42).
وبعد هذا نعود إلى دفع القاضي وتعنته في دفعه وقضائه, حيث يريد أن يكون ما جرى على أهل البيت: بعد النبي(صلى الله عليه وآله) من أعمال عنف في شياع مثل ما شاع ممّا ضرب به الأمثال من قتل الحسين(عليه السلام), وهذا منه بمنتهى الغرابة.

ونقول له: انّ خبر ندم أبي بكر عند موته وذكره مثلثات منها كشف بيت فاطمة, خبر ثابت وقد تقدم ذكره بمصادره السنّية, وليس فيه ذكر ضرب ولا رفس ولا إسقاط جنين, ومع ذلك فقد مرّ بنا تحاشي مَن كنى عن كشف بيت فاطمة(عليها السلام) بقوله: كذا وكذا. فهو يتقي أن يذكر الخبر كما هو, فهل يتوقع قاضي القضاة أن يشاع ويذاع أنباء ما جرى في ذلك اليوم من أحداث مروعة ومفزعة؟ بعد شدة رقابة الحاكمين على الشيعة ومرويّاتهم, ممّا لا يخفى على من هو دون القاضي فضلاً عنه.
وجرى ابن أبي الحديد المعتزلي وتبع القاضي المعتزلي في دفعه بالصدر ما رواه الشيعة وآخرون من غيرهم من خبر الرفسة والضرب فقال: فأمّا الاُمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من ارسال قنفذ إلى بيت فاطمة(عليها السلام), وأنّه ضربها بالعصا فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى أن ماتت, وانّ عمر ضغطها بين الباب والجدار... وألقت جنيناً ميتاً, وجعل في عنق علي(عليه السلام) حبل يقاد به... فكلّه لا أصل له عند أصحابنا... (43) .
أقول: وهذان المعتزليان نفيا الاُمور التي جرت على أهل البيت: في تلك الفترة من بعد موت النبي(صلى الله عليه وآله), وكأنّهما يتوقعان أن يرويها لهما أمثال الطبري من المؤرخين, مع انّ التاريخ فيه تزوير وتحوير وتطوير, فمن كان من المؤرخين من يملك الشجاعة والجرأة فيكتب الحدث كما هو؟ فهذا الطبري وهو شيخ المؤرخين ألم يقل في أحداث سنة / 30 : وفي هذه السنة كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية واشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة, وقد ذكر في سبب اشخاصه إيّاه منها اُمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها، فأمّا العاذرون معاوية... ثم ذكر عن سيف _ الوضاع الزنديق _ ما ذكره ولم يخش من ذكرها، لكنه قال بعد ذلك:وأمّا الآخرون فإنّهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة واُموراً شنيعة كرهت ذكرها.
يالله لماذا الازدواجية في المعايير يا شيخ المؤرخين؟
وأيضاً نجد الطبري يجبن عن ذكر الحقائق كما هي, فقد قال في خبر مقتل عثمان: قد ذكرنا كثيراً من الأسباب التي ذكر قاتلوه أنّهم جعلوها ذريعة إلى قتله, فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها.
وثالثاً نجده في خبر وقعة الجمل من رواية اُخرى, عن غير سيف قال: فوقف عليّ عليها _ أي على عائشة _ فقال: ((استفززت الناس وقد فزوا, فألّبت بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً... في كلام كثير)) ماذا كان ذلك الكلام الكثير؟ لماذا الاحجام عن ذكر بعض الكلام؟
ورابعاً قال في مكاتبة محمد بن أبي بكر مع معاوية: فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة.
إلى غير ذلك من الشواهد مما طواه هو وغيره بحجة وبغير حجة, فهل يتوقع القاضي عبد الجبار وابن أبي الحديد المعتزليان ومن هو على شاكلتهما, أن يجدوا عند الطبري أو غيره من شيوخ المؤرخين ما ذكراه من اُمور تنفرد الشيعة بنقلها من خبر الضرب والرفسة والإسقاط, مع انّه روى ذلك من غير الشيعة، منهم على استحياء، ومنهم على استخذاء.
____________
1 - مسند أحمد 1: 90.
2- نهج البلاغة 2: 64، الخطبة: 154، شرح محمد عبدة.
3- العنكبوت: 1_2.
4 - الاختصاص للشيخ المفيد: 4.
5- تهذيب التهذيب 7: 10، ترجمة عمرو بن ثابت، وقد تحامل عليه مترجموه من العامة لأنه قال: لما مات النبي (صلى الله عليه وآله) كفر الناس إلاّ خمسة، فقالوا فيه ما شاؤوا من تجريح.
6- آل عمران: 144.
7- النسائي 7: 128.
8- موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف 7: 101.
9 - مسند أحمد 5: 48 و50 عن أبي بكرة و388، و393، و400 عن حذيفة.
10- المائدة: 117.
11 - مستدرك سفينة البحار 4: 64، وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد2: 47: ((لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم)).
12- شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي 2: 47.
13- وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 182.
14 - بحار الأنوار 32: 62.
15- غرر الحكم للآمدي: 243.
16 - الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 11.
17- الوضين: بطان يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج، فإذا قلق واضطرب اضطرب الرحل، فكثر تململ الجمل وقلّ ثباته في سيره.
18- النَوط _ بالفتح _: التعلق.
19- البيت لامريء القيس الكندي، وتتمته: وهات حديثاً ما حديث الرواحل، راجع نهج البلاغة شرح محمد عبدة 2: 79 _ 80 .
20- نهج البلاغة (شرح محمد عبدة) 2: 19.
21 - كنز العمّال 21: 126 _ 136.
22 - بياض في جميع النسخ المطبوعة. ولعل تتمة الكلام حسب السياق (وسيرى).
23 - هكذا في النسخ المطبوعة والصواب (السبابجة) وهم قوم من السند، كانوا بالبصرة كشرطة وحرّاس السجن، الصحاح 1: 321، (سبج).
24- الأساورة: قوم من العجم نزلوا بالبصرة كالأحامرة بالكوفة، القاموس المحيط 2: 54 (سورة).
25- المائدة: 79.
26 - الجن: 1 _ 2.
27 - العنكبوت 1 _ 2.
28 - آل عمران: 178.
29 - نكت الانتصار لنقل القرآن: 36.
30- الفرق بين الفرق: 140 _ 141.
31- الخطط للمقريزي 2: 346.
32 - ميزان الاعتدال 1: 139.
33- تثبيت دلائل النبوة: 239.
34 - نفس المصدر: 240.
35- المصدر نفسه :594 _ 595.
36 - المصدر نفسه: 652 _ 653.
37- الرياض النضرة للمحب الطبري.
38- علي إمام البررة 1: 371 _ 408.
39- الصواعق المحرقة: 86 _ 87 .
40 - النور: 36.
41- الدر المنثور للسيوطي 5: 50.
42- روح المعاني 18: 174.
43 - شرح النهج 6: 6.