• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مقدّمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

أبتدأ بحمد الله تعالى والثناء عليه ، رب الأرباب ، وخالق العباد ، الرؤوف الرحيم الذي خلقنا وكان سبحانه عن خلقنا وعبادتنا له غنياً، وأسبغ علينا من النعم ما لا حد له ولا احصاء، تبارك وتعالى الله ربُّ العالمين .

واُصلي على رسوله الكريم ، ورحمته المهداة الى العالمين ، النبيّ المصطفى الذي انتشل من ابتغى النجاة من تيه الضلال الى نور الهدى ، خاتم الانبياء والمرسَلين ، محمَّد بن عبدالله ، وعلى أهل بيته المعصومين ، ورثة علمه ، والقادة من بعده ، سفن النجاة الفارهة ، ومنائر الهدى السامقة ، عليه وعليهم آلاف التحية والتسليم .

وبـعـد:

فلربما يعتقد البعض بتصوُّر يبتني على الفهم السطحي والمظهري لطبيعة المساجلات الكلامية ، والمحاورات الفكرية التي كانت وما زالت تتمظَّهر بها بعض المراكز المحددة العناوين ، في سعيها الدائب والمتواصل من أجل توسيع الهوَّة الوهمية المفتعلة بين الادراك الحقيقي والسليم لعقائد الشِّيعة الامامية من قِبل اخواننا في الدين من أتباع الفرق الاسلامية المختلفة ، وبين حالة التفسير السلبي وغير العلمي ، بل والمتغرِّب عن أرضية الواقع الحقيقية ـ التي ينبغي أنْ تكون هي المحك الأساس في تقدير مصداقية وأحقانية كلِّ طرف ـ والذي تحاول هذه الاطراف جاهدة من أجل أنْ تجعل منه الصورة التي تريد لها أنْ ترتسم في مخيلة هؤلاء المسلمين عن حقيقة التشيًّع وعقائده .

نعم ربما يعتقد هذا البعض بحسن نية ـ لا تتوافق حتماً وواقع الحال المعاش ـ أنَّ المرتكز الحقيقي الذي تبتني عليه هذه المنازعات الفكرية هو ما يمثِّل الجانب الايجابي المثمر الذي يُفترض أنْ يقود الباحثين الى التوصُّل نحو الخلاصة الايجابية المبتغاة من حلقات البحث ، والذي هو طلبة كلَ عاقل منصف باحث عن الحقيقة في هذا الزمن العسر الشاق الذي يشهد بوضوح جلي تبلور صورة الصراع الخفي والعلني الذي تتوجه حرابه نحو العقيدة الاسلامية المباركة كاطروحة سماوية قادرة على ملء الفراغ العقائدي الذي خلَّفه الانهيار المتلاحق للكثير من الاطروحات المادية وغيرها ، من التي جهد دعاتها وأنصارها ومريدوها في تأكيد قدرتها المزعومة على السمو باالبشرية وحل مشكلات العصر التي ـ على زعمهم الباهت ـ تعجز قبالتها العقائد الدينية ، ارتكازاً في تشكيل هذا المعتقد على وضوح الانحراف العقائدي للكنيسة ، وبروز حالة التبعثر والتشرذم بين عموم الفرق الاسلامية ، رغم بروز وظهور الكثير من حالات الالتقاء والتقارب .

أقول : إنَّ وضوح حالة التشتت بين الأخوة الفرقاء لم تقعد بالمفكرين الغربيين والماديين والمصطفين معهم عن التفكير الجاد في اذكاء وتاجيج هذه الحالة السلبية من خلال الترويج ـ بمكر وخبث ـ عن عدم قدرة الاسلام في الوقت الحاضر لأنْ يشكِّل منهاجاً يمكن اعتماده في بناء الحضارة البشرية، وحل العقد المستعصية المزمنة التي تغلب على حياة هذه الاُمم ، وذلك لادراك اولئك المفكرين بوضوح وجلاء ـ خير من ادارك الكثيرين من رجال هذه الأمَّة ـ حقيقة العقائد الاسلامية وعظمها ، وما يمكن أنْ يشكِّله الادراك والفهم الحقيقي لها ، لاسيما من قِبل الشعوب التي عاشت وتعيش حالة التغرُّب المقصود عن عقائد السماء العظيمة، بعد انفصال الكثيرين منهم ورفضهم لحالة الانحراف والتردي التي تتمثَّل بالعقائد الفاسدة التي يرددها بسماجة رجال الكنيسة وقساوستها، والتي يتأرجح اكثرها على ترانيم أفكار اليهود وأحبارهم بشكل لايخفى إلاّ على السذج والمغفَّلين .

نعم إنَّ المرء ليدرك بوضوح حالة التوجًّس الكبيرة التي يعاني منها المفكرون الغربيون ، ودعاة امتطاء ركب الحضارة الغربية ـ باعتبارها على زعمهم المريض البديل الفكري الوحيد الذي لا يسع البشرية الاستعاضة عنه ، لاسيما بعد الانهيار المتلاحق للافكار المادية التي حكمت الكثير من بلدان اوربا الشرقية ، تبعاً لتمزُّق أشلاء اُمِّهم التي ولدتهم سفاحاً ـ من قدرة الاسلام على حل كلِّ مشكلات العصر التي عجزوا هم عن مجرد تقديم تفسير مقنع لها ، بل وقدرته على أنْ يكون هو البديل الوحيد عن كلِّ الاطروحات الفاسدة التي استطاعت أنْ تجد لها موطأ قدم بعد التغييب القسري للفكر الاسلامي عن أرض الواقع ـ ولسنين طوال مرة ـ وهو ما لا يعسر على أحد ادراكه من خلال استقراء الأحداث المتلاحقة في هذه المعمورة الدالة بوضوح على ما يمكن أن يؤدي اليه الادراك الحقيقي للاسلام ـ ولا احدد هذا بغير المسلمين فحسب ـ من انهيار حتمي لكلِّ النظريات المادية الاُخرى ، والى هذه الحقيقة تشير تلك الاحداث التي أشرنا اليها ، والتي أبصرها حتى مكفوفي الأبصار . . .

ثم لعلَّ تفشي حالة التوجُّه نحو العقائد الاسلامية في ذهنية العديد من الاُوربيين ، ونبذهم للأفكار الغربية ، وتصريح البعض منهم دون مواربة اعتناقه الاسلام (1) وحث الآخرين نحو فهم سليم وواقعي للدين الاسلامي ، بدأ يشكِّل الحلقة الأكثر خطراً في حسابات الماديين والالحاديين ودعاة التغريب ، فكان ذلك حافزاً مؤكداً لهم للتسرب من خلال الخلل التي اوجدتها حالة التعصب المقيت المثارة من قبل المتسربلين بجلباب الاسلام وردائه الفضفاض ، ليُطعن الدين بمدئ أهله ، ويقف اعداؤهم في خانة المتفرجين لا يخفون شماتة ولا يكتمون سروراً ، وتلك هي والله اُم الفواقر.

بلى ، فمن هذا التشخيص الدقيق ـ الذي يدركه العقلاء ـ المنبعث عن رؤية صادقّة ومستجلية للغرض السيء إلذي يراد العزف على أوتاره من خلال بعثرة الصف الاسلامي الواحد ، ترانا نستثير بالمسلم ضرورة البحث الجدي والرصين المبني على قواعد علمية سليمة يستطيع من خلالها تكوين صورة صادقة عن الأمر محل البحث ـ وحديثنا هنا عن عقائد الشيعة ـ تمكنه من الحكم الصحيح لا اطلاقه جزافاً ، لأن ليس بذلك من عمل المحصلين الواعين ، وخلاف البحث الاكاديمي العلمي ، فكيف إذا اختص ذلك بطائفة كبيرة من طوائف المسلمين لها آثارها البارزة في بناء الحضارة الاسلامية ورقيها؟.

إنَّ السجال العلمي الهادف يُعد بلا شك طلبة كلِّ المسلمين الواعين المدركين بدقة أنَّ سر محنتهم وطوال قرون الانتكاسات المرة المتلاحقة ـ التي توِّجت بسقوط عاصمة الدولة الاسلامية بأيدي المغول عام (656 هـ 1258 م ) مستتبعة باخفاقات وترديات متكررة لتكتمل في انهيارها أمام الغزو الاستعماري المقيت المبتدأة اولى مراحله أبان القرن التاسع عشر الميلادي ، والذي استكملت حلقاته مع نهاية الحرب العالمية الاولى ـ يكمن في استسلامهم الممجوج لحالة التناحر المدسوسة من قبل أعدائهم ـ الاجانب منهم أو المتسربلين بلباس الاسلام ـ وبُعدهم البين عن الفهم السليم للكثير من عقائدهم الاساسية ـ وهنا يكمن أصل الداء ـ والتي أدار لها الكثير منهم عارضيه ، واستسلم بجهل لا يُغتفر لما يُلقَن به من تفسيرات وتأويلات غريبة ومردودة لتلك العقائد ، دون أي تامُّل وتبصُّر . . .

ثم إنَ الاستقراء العلمي والدقيق للكثير منِ تلك المساجلات يبين بجلاء أنَّها عين ـ أو انعكاسات ـ التقوُّلات التي تفتقت عنها مخيلة اللاهثين خلف سراب المتع الرخيصة والزائفة ابان امتطاء الأمويين سدة الحكومة الاسلامية ، ممَن أجهدوا أنفسهم في البحث عن مسوغ ما يبرر توليهم لحكومة كانوا هم أكثر الناس كلبأ عليها ، وعداءً لها ، فطرقوا أسواق النخاسة التي تصطف فيها الضمائر المعروضة للبيع ، والمتبارية في الكذب على الله تعالى ورسوله ، كما تتبارى الجواري في عرض محاسنهن أمام رواد هذه الاسواق ـ ولكن شتان ما بين هذه وتلك ـ فوجدوا بغيتهم في بعض الصحابة والتابعين ، ممن حفظ لنا التاريخ تحلُّقهم حول موائد الأمويين الذين طالما حذِّر رسول الله صلّى الله عليه وآله من حكومتهم وما يجرونه فيها على الاُمة من عظائم الاُمور المنبعثة عن فسادهم وبُعدهم البين عن الاسلام .

لقد كان الامويون أوَّل من سن بشكل بيِّن قواعد بعثرة أبناء الدين الواحد متوسِّلين في تحقيق بغيتهم هذه بكل ما تطاولت اليه أيديهم التي أطلقها في بيت مال المسلمين امتطاؤهم لسدة الخلافة الاسلامية التي كانوا اكثر من الَّب عليها ، ولم يدخروا وسعاً في احتوائها والقضاء عليها ، بل ولم ينل رسول الله صلّى الله عليه وآله في حياته ـ بل وحتى وبعد وفاته ـ أذى من أحد قدر ما ناله من الأمويين ، حتى نبذهم المجتمع الاسلامي ودفعهم إلى الظل ، فانكفؤا في جحورهم كالسعالى يترقبون أنْ تدور على هذا الدين وأهله الدوائر ، أو يأتيهم الزمان بما عجزوا هم عن ادراكه ، وهو ما حدث حين تولى عثمان بن عفان سدة الخلافة الاسلامية ، حيث قفز الأُمويون الى قمة الهرم الاداري في الدولة الاسلامية ، وأطلقوا لأحلامهم الفاسدة العنان ، وعاثوا في الأرض فساداً ، والفضل في ذلك عليهم لعثمان وحده حيث فتح الباب ـ ألذي أوصده رسول الله صلّى اللهّ عليه وآله في وجوههم ـ على مصراعيه أمام طموحهم المنحرف ، واغراضهم الخبيثة ، ولاغرو في ذلك فعثمان يعلن بصراحة على الملأ : أنْ لو كانت بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني اُمية!! (2) وكان صادقاً في قوله وفياً لتعهده (3) حتى ضج المسلمون ـ وفيهم الكثير من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ بفساد الأمويين وتهتكهم ، فانقضوا على بيت الخليفة وقتلوه .

نعم لقد كانت هذه العصابة المشخصة النوايا ـ والتي أخذ بخطامها (4)  معاوية بن ابي سفيان ، وحاله لا يخفى على أحد ، وبغضه لبيت رسول الله صلّى الله عليه وآله لا يحتاج الى توضيح ـ هي أوَّل من تصدى لتمزيق اشلاء المجتمع الاسلامي الواحد ، ثم اقتفى الخلف من بعد اثار السلف ، وامتطى العباسيون قفى الأحداث ، مثيرين النقع قبالة الحقائق الثابتة بأحقانية أهل البيت عليهم السَّلام ، مرددين عين الترهات التي ما انفك الأمويون عن ترديدها والتلاعب بمفرداتها ، ومستثمرين حالات الصراع الفكري الذي بدأت تتبلور أبعاده في نشوء المدارس الكلامية المتعددة، تزامناً مع توسع الرقعة الجغرافية للدولة الاسلامية ، وتأثر الكثير من تلك المدارس بالاطروحات الفلسفية والفكرية لتلك الشعوب الحديثة الاسلام ، والتي تمتلك بلا شك جملة خاصة من الافكار البعيدة الغور ، والواسعة المدى ، فحدثت ـ وذلك أمر متوقع ـ العديد من حالات التأثر الفكري والعقائدي عند بعض المدارس الكلامية الاسلامية التي افرزتها تلك الظروف الغريبة عن حياة المسلمين ، فاستثمرتها السياسة الحاكمة ترويجاً لموقفها المعاند لمدرسة أهل البيت عليهم السلام ، واقحاماً لمتكلِّمي الشِّيعة في مخاضات الجدل والمناظرة والتي سجل لنا التاريخ امتلاك هؤلاء المتكلِّمين ـ المتخرجين من تلك المدرسة المباركة التي تستقي علومها من دوحة النبوة المعطاءة ـ لزمام المحاجة والمجادلة، فلم يمتلك اولئك المنكسرين ما يرد لكبريائهم الممرَّغ في وحل العجز بعض معالمه إلا اجترار ما ازدرته نفوس المسلمين العقلاء من الكذب الرخيص والافتراء الباهت .

نعم لا شيء جديد يمكن للمرء أنْ يعده محفلاً للبحث والتباري الفكري والعقائدي ، بل هو ـ وكما ذكرنا ـ اجترار مقيت ، وتكرار ممل ، لانْ تكلَّف البعض أنْ يُضفي عليه طابعاً عصرياً مموِّها لبضاعة السابقين ، ولكن الأصل اجلى من ان يخفيه أي تزويق ، وأي تمويه . والانكى من ذلك أنْ تجد التراث الشيعي للكثير من علماء الشِّيعة ومتكلِّميها ، وطوال حقب متلاحقة ، تزدان به ما لا يحصى من المؤلَّفات والأسفار القيِّمة التي تبيِّن بوضوح لا خفاء فيه عقائد الشِّيعة ، وأدلتهم الشرعية التي يرتكزون عليها في صياغة احكامهم التي يتعبدون من خلالها . . . وهذا التراث ـ بكلِّ ما فيه ـ لا يعسر على احد قراءته ومطالعته ، وادراك حقيقته ، وذاك اجدى لمن ابتغى الحقيقة لا سواها ، لأن السماع أو الركون لتقولات الاخرين ـ كما هو حال العديد من الباحثين في عصرنا الحاضر ، وهو ظاهرة سلبية مردودة ـ قد يؤدي إلى ايقاع الظلم بالآخرين دون حجة أو دليل يعتذر به ، لتعمُّد البعض قلب الحقائق وتزييفها لأغراض ومآرب غير خافية على أحد (5) .إنَّ المسلمين الذي دكَّت سنابك خيولهم أقاصي المعمورة ، واذعن لسلطانهم العظيم الأكاسرة والقياصرة ، وأخذت أصوات مآذنهم تنادي بالتكبير والتوحيد في أراضي الصليب المتكسِّر ـ الذي ما انفكَّ المتاجرون به من حمله على أكتافهم ليخفوا تحت أخشابه المتهرئة جشعهم وفسادهم وانحرافهم عن أبسط المفاهيم السماوية المقدسة ـ اولئك المسلمين كانوا بأمسِّ الحاجة من غيرهم إلى وقفة تامُّل لا بُدّ منها لادراك الخلل أو العلة الرئيسية التي أودت بكلِّ أمجادهم ومفاخرهم ، وبدأت وأمام أعينهم تتهاوى  (6) شيئاً فشيئاً ، دون أنْ يمتلكوا أمامها حيلة ولا سبيلاً.

حقاً ـ وهذا ممّا لا ريب به ـ إنَّ ذلك الخلل كان قد استشرى كثيراً في جسد هذه الأًمة التي تمتلك ـ وذلك ما تغص به الأفواه ـ كلَّ مقوِّمات الرقي والسمو ، بل وتعد رسالتها هي المنهج العقائدي الوحيد القادر على انقاذ البشرية وانتشالها من وهدة الضياع والتغرُّب والانسلاخ عن رسالتها العظيمة التي خلقها الله تبارك وتعالى من أجلها .

بلى إنَّ ذلك الخلل الرهيب ـ بأبعاده المختلفة ـ كان يسري في جسد هذه الأُمَّة مترافقاً مع جوانب إلخير والعطاء التي أفاضتها شرِيعة السماء بأشكالها المتعددة ، فكان كالعلة التي لا يعيرها البعض اهتماماَ حتى تودي به على حين غرة . فتقادم العصور والدهور، واذكاء حالة الاستسلام أمام واقع الحال دون أي ردة فعل أو انكار ، بل والوقوف السلبي في بعض الأحيان ـ أو الحيادي في أحيان اُخرى ـ أمام دعوات التصحيح المخلصة ، كلُّ ذلك كان يشكِّل العنصر الداعم والمتسامح تجاه حالة السقوط هذه .

نعم ، ولعلَّ الكتاب الماثل بين يدي القارئ الكريم يمثِّل عينة واضحة مفردة تعكس ابتلاء الشِّيعة ـ وطوال قرون ودهور في ايضاح ورد الشبهات السقيمة والواهية التي ما انفك البعض كالببغاء لا يمل من تكرارها في كلِّ مناسبة وعلى كلِّ منبر ، اصراراً على المعاندة والمكابرة ، أو جهلاً ممجوجاً لا عذر فيه ، فكانت مواقفهم المردودة هذه تمثِّل وبوضوح رؤوس الفتنة الملعونة المبتغية زعزعة وخلخلة البنيان الاسلامي ، من خلال التمويه المقصود على الحقائق الواضحة التي لا يُعفى أحد من وجوب التعرُّف عليها وادراك مصداقيتها .

وأقول بعيداً عن المغالاة والتطرُّف: إنَّ الأمر الذي لا مراء فيه هو إنَّ التفاوت المنظور بين فرق المسلمين لا يشكِّل حالة مهولة تدفع العقلاء الى اليأس والقاء ما في أيديهم وترك الحبال على غاربها، لأنَ ـ وذلك منتهى الصدق والحق ـ ما يتفق عليه الاخوة الفرقاء هو أكثر ممّا يختلفون فيه ، وفي ذلك ما يشحذ في المصلحين الهمم ، ويدفعهم إلى مواصلة الجهد الدؤوب نحو التقريب والالتقاء .

بيد إنَ المحاولات المعدودة ـ ومع اقتران اكثرها بصدق النية وصفاء السريرة ـ تبقى قاصرة ودون الاحاطة الشاملة لأبعاد هذا الامر الجسيم ، لانها تبقى دائرة في الذيول ـ دون الأصل ـ مرات كثيرة وبُتعاطى معها بين الأخذ والرد.

ولا غرو في ذلك إذ إنَ العلاج الأنجع لأي علة لا بُدّ فيه من البحث عن الأسباب الرئيسية والأساسية في بروزها ، لا معالجة نتائجها ، وهذا ما عجز الكثيرون عن ادراكه ، أو الاشارة اليه صراحة ودون مواربة . . . فتعاقبت الانتكاسات ، وتوالت الاخفاقات ، وستبقى طالما ما زلنا نجد من لا يتورع عن تزييف الحقائق ، وقلب المسميات بصلافة عجيبة ، ووقاحة لا تصدق.

وحقاً أقول : أنَ الحديث عن هذا الأمر يستثير في خواطر المرء الكثير من الشجون التي لا بُدّ لها من تترجم للجميع دون مواربة ومخاتلة ، وتتطلَّب صدقاً واخلاص نية تتجاوز حدود الأهواء والنزعات النفسية ، وتصبح معياراً وسبيلاًَ لادراك الحق والحقيقة ، لا شيء غير ذلك ...

المسلمون في هذه المعمورة تشعَّبت بهم المذاهب ، ونأت ببعضهم عن بعض ، بمسافات تتباعد وتتقارب تبعاً لمدى الوعي الفكري ، والفهم العقائدي ، وتتوسَّط بين الاثنين جماعة لا تجيد غير لغة التكفير البغيضة ، واثارة النقع قبالة الحقائق الناصعة والثابتة .

فالثقل الأكبر ـ وكما يعلم الجميع ـ لعدد المسلمين يتمثل بأهل السنَة والجماعة والذين يتعبَّدون بفتاوى أئمة المذاهب الاربعة : أبو حنيفة ، مالك ، الشافعي ، وأحمد بن حنبل . فهناك الحنفي ، والشافعي ، والمالكي ، والحنبلي ، وجميع هذه المذاهب تلتقي وتفترق في جملة واسعة من المسائل ، وذلك أمر لا مناص منه .

وأمّا الثقل الأكبر الثاني فيتمثَّل بالشِّيعة ، وأعني بهم الشِّيعة الامامية الاثني عشرية ، وهم ينقادون في فهم عباداتهم ومعاملاتهم لأهل بيت النبوة عليهم السَّلام ، الذين توارثوا علومهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فما افترق حكم اللاحق عن السابق ، بل كان مؤتمناً مؤدياً .

بلى إنَّ الشيعة ترجع في أحكام دينها إلى هذه العترة الطاهرة التي يجب على المسلمين بنص القران الكريم اتباعهم وموالاتهم ومودتهم ، ينضاف الى ذلك جملة واسعة من الأدلة الثابتة والصحيحة التي لا غبار عليها، وهذا ما لا يحاول البعض ـ تعنُتاً ومجافاة للحق ـ ادراكه وتفهُّمه ، فيضع نفسه في المضيق دون أيِ مرتكز يعول عليه ، بل والاغرب من ذلك أنْ تجد من يتوسَّل تبريراً لموقفه المستهجن ـ وذلك ما ليس بخاف على أحد ـ بما تمليه عليه حالته النفسية القلقة ، لا المرتكزات العقائدية والفكرية التي ينبغي ان تسود هذه المباحث .

نعم لا خلاف بأنَّ المسلمين كانوا يشكّلون ـ ظاهراً ـ في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله اُمَّة واحدة يحكمها وجود قائد ميداني ، تنقاد لمشيئته المنبعثة عن ارادة السماء جموع المسلمين ، فلا وجه لاي مخالفة انذاك غير الخروج عن اطار الاسلام ، والكفر الصريح . ومن هنا فلم تكن هناك شبهات عقائدية تعتري أحد ، لأنَّه يجد الجواب الشافي والحاسم لدى صاحب الرسالة صلّى اللهّ عليه وآله . بيد أنَّ اللحظات الأًولى لرحليه صلى الله عليه واله شهدت بذر شجرة الخلاف التي تطاولت مع الأيام وتفرَّعت ، وضربت جذورها بعيدة في أعماق العقيدة الاسلامية المباركة ، وأثمرت معِ الأيام ثمراً مراً لا يُستساغ ، أقسر البعض نفسه على تجرُّعه غصصاً، عناداَ للحقِّ ، أو استسلاماً للواقع المعاش .

فقد توفِّي رسول الله صلّى اللهّ عليه وآله والدولة الاسلامية الغضة الفتية تعيش في أدق ظروفها السياسية وأحرجها ، وحيث تحوطها وتعيش بين جنبيها الكثير من المخاطر المشخَّصة العناوين : كالمنافقين ، ومدعي النبوة وحلفائهم من المشركين ، واليهود، بالاضافة الى الخطر الذي تشكِّله عليهم كلُّ من الدولتين الرومانية والفارسية ، وغير ذلك .

وابان تلك الظروف الحساسة والخطرة اُبتليت الأمَّة بأول وأخطر انقسام أصابها في الصميم ، وكان العلة الأساسية لكلِّ أمراضها وويلاتها المتلاحقة ، ونقطة الاختلاف التي تشعَّبت عنها كلُّ موارد التفرُّق المتفاوتة ، ولن تجد تفسيراً منطقياً وعلمياً يمكنه الاعراض عن التصريح بهذه الحقيقة الثابتة.

نعم إنَّ الاختلاف الذي مُنيت به الأمَّة في مسألة خلافة رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ وما استتبعه بعد ذلك من نتائج متوقعة ـ كان هو سر الداء الذي سرى في جسد هذه الأًمَّة، وتصيَّده أعداؤها فطفقوا ـ باساليب محكمة ومدروسة ـ يأجِّجوا نار الاختلاف ، ويوسِّعوا الهوَّة بين الأخوة الاشقاء ، بل ولم يتورَّعوا عن الكذب والافتراء ، والتحريف والتشويه ، وقلب الحقائق وتزييفها كما اسلفنا .

لقد كانت حقيقة هذا الاختلاف تتلخَّص في تشبُّث طرف واصراره على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد نصَّ على خلافة علي عليه السَّلام من بعده ، وتعضدهم في مقولتهم هذه جملة قوية من الأدلَّة النقلية والعقلية الثابتة ، وهم الشيعة ، حين يصر الطرف الاخر على نفي هذا الأمر ، ويذهب الى القول بأنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ترك الأمَة دون أنْ ينصِّب عليها خليفة له من بعده ، وكان على هذه الأمَّة أنْ تتولى بنفسها تدبير اُمورها، وتنصيب خليفة عليها ـ رغم ما يحيطها من ظروف عسرة وشديدة التعقيد ـ وهو مذهب أبناء العامَّة من الفرق الاسلامية غير الشِّيعة ، فكأنَّه صلّى الله عليه وآله ـ وبناء على هذا التصوُّر ـ قد ترك هذه الأمَة الغضة الأطراف دون راع يقودها في هذا التيه العظيم ، والبحر اللجي المتلاطم الامواج ! ! وذلك ما كانت ولا زالت تعارضهم فيه الشِّيعة أشد المعارضة .

نعم لقد كان هذا هو الأمر الذي انسحبت ظلاله على مسيرة هذه الأمة ابتداء من تلك اللحظات الحساسة ـ التي شهدت انعقاد مؤتمر السقيفة ـ وحتى يومنا هذا ، وكانت من نتائجه المرة ما ترتبت عليه من تفسيرات متباينة لجملة العقائد التي يؤمن بها الجميع ـ والتي ينبغي ان لا يختلف الطرفان فيها ـ نتيجة تعدُّد المدارس الكلامية التي تحاول كلُّ واحدة منها جاهدة انْ تدلي بدلوها في هذا المعترك العقائدي المهم ، بعيداً ـ عن منهله العذب المنبعث عن بيت العصمة ومهبط الوحي.

فاذا كان الطرفان لا يختلفان قطعاً في عقائدهم الاساسية وهي : الايمان بالله تبارك وتعالى ، وكتبه المنزلة ، وجميع انبيائه ورسله عليهم السَّلام ، ويؤمنون بأنَّ الجنة والنار حق لا ريب فيهما ، وأنَّ الله تعالى سوف يبعث الموتى من قبورهم للحساب والجزاء ، فإنَّ الاعتقاد المتفاوت في ماهية الأمامة بين الطرفين شكَّل بالتالي نشوء ما نراه من التأويلات والتفسيرات المتفاوتة بتفاوت المدارس المختلفة ، والتي يخالف البعض منها الاخر ، بل ويستسلم البعض منها لآراء هجينة مردودة ، لا تتوافق وحقيقة الاعتقاد التي ينبغي التسليم بها(7).
أقول: إنَ اعتبار الشِّيعة كون ألامامة أصل من اصول الدين ، ومنصب الهي يمنْ به الله تبارك وتعالى على من يشاء من عباده الذين يمتازون عن غيرهم بمواصفات خاصة تجعلهم اهلاً لهذا التكليف العظيم ، ليس هو نتاج افكارهم الخاصة ـ كما يحلو للبعض اطلاق ذلك دون دليل أو حجة ـ بل على العكس من ذلك ، فقد ابتنت عليه جملة كبيرة من افكارهم ومعتقداتهم ، لأنَّهم يمتلكون على اثبات هذا الأمر جملة واسعة من الأدلة النقلية والعقلية التي يتفق عليها الفريقان ، رغم مخالفة الطرف الآخر لهم في اعتقاده بأنَّ اختيار الامام من حقِّ الأُمة ، وليس هو شأن خارج عن ارادتها ومتعلِّق بارادة السماء ـ كما يعتقده الشِّيعة ـ وإنْ كانوا يذهبون إلى القول بوجوبها لقيادة الأمة . وبهذا فهم قد خالفوا الشِّيعة فيما ذهبوا اليه من تنصيب علي عليه السلام من قِبل الله تعالى ، خليفة لرسوله الكريم صلّى الله عليه وآله ، وحصر الامامة في ابنائه عليهم السَّلام .

وممّا لا ريب فيه أنَّ اطلاق الأقوال جزافاً ليس هو بعمل المحصَّلين ، ولا يسع المرء ـ بل لا ينبغي له ـ الركون إلى صدقه اذا لم يعضده الدليل السليم ، والحجة المقنعة ، وهذا ما نراه من أنَّ الشِّيعة أكثر ما يطالبون به مخالفيهم والرادين عليهم ، مع تطوعهم ( اي الشِّيعة ) لاثبات دعاواهم من خلال طرحها ومناقشة حجيتها.

وخلاصة المقال : فإنَّ الاختلاف الحاصل في مسألة الامامة والخلافة بين الفريقين ، وإنْ تشعَّبت فيه الآراء ، إلا أنَّه لا يخرج عن هذه التصوُّرات الثلاث :

أوَّلها: أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد ترك اُمَّته هملاً من بعده ، وعليها هي وحدها أنْ تتولّى مسؤولية تدبير اُمورها وفق ماترتأيه ، ومما تتوصل اليه . وهذا الأمر كما هو واضح وجلي ينسحب بالتالي الى ارادة الباري عزَّ وجلَّ ، حيث أنَّ الرسول مبلِّغ ، وما لم يُبلَّغ به لا يُطالَب به.

ثانيها: إنَّ الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله قد رسما للأمَّة سبيل ومواصفات واسلوب اختيار الخليفة والإمام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله .

ثالثها: أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد نصقَ بالاسم على خليفة له من بعده بأمر من الله تبارك وتعالى ، وعلى الأمة أنْ تستجيب لهذه المشيئة لأنَّها حكم سماوي لا تأويل ولا اجتهاد ولا رد عليه إلا من العاصين الخارجين عن تلك الارادة المقدسة .

ولعلَّ الذهاب في مناقشة وبحث هذه الآراء الممثلة لجملة المدارس الفكرية المنبعثة عنها يستلزم الكثير من المساحة التي لا يسعنا قطعاً تحميل هذا الكتاب بها ، إلاّ ان ذلك لا يحول دون اللمحة او الاشارة المتعجِّلة اليها.

فأقول مستعيناً بالله تعالى : إنَّ وجود الوصي ضرورة حتمية يحكم بوجوبها العقل وحاجة المجتمع الاسلامي لقائد يسوسه ويدبِّر شؤونه ، ويتولّى مواصلة النهج الذي اختطه الرسول الاكرم صلّى الله عليه وآله بكفاءه تتناسب ـ حتماً ـ وعظم هذه الرسالة واهميتها والظروف المحيطة بها .

ولا يعتري أي عاقل شك في وجوب ذلك ، فإنَّ ما تآلف عليه الناس منذ ظهور التجمعات البشرية ، وتبلور أبسط النظم الحياتية ، وجود إمام أو رئيس يفوضون اليه اُمورهم ، ويفزعون اليه في تدبير شؤونهم ، لأنَّهم يدركون بوضوح أ نَّ خلو أي مجتمع من قائد أو إمام يفتح الباب على مصراعيه امام ذوي المآرب الفاسدة والظلمة والمنحرفين ، فتضطرب أحوالهم ، وتختل موازين حياتهم ، ويفشو فيهم الظلم والفساد وفعل القبيح ، بل وتنهار النظم التي كانت تحكم حياتهم ابان وجود الحاكم السابق ، حتى يستقر الحال على أمر ما .

ومن هنا فإنَّ من اُولى المسلَّمات في سياسات الحكّام والملوك والأمراء ـ بل وحتى ذوي المسؤوليات المتواضعة ـ تنصيب نائب ( أي خليفة ) تُناط به مسؤولية تولِّي شؤون ذلك الحاكم عند تغيُّبه أو وفاته ، لأنَّ ترك هذا الأمر خلاف العقل والمنطق ، ولا يذهب اليه أحد ، فتأمَّل واستقرء ما غبر من الدهور ، بل وما نعاينه في أيامنا هذه ، فهل تجد إلا ما قلناه ؟ .

ثم اذا كان ذلك في شؤون الامارات والممالك والدول ، فكيف لو تعلَّق الأمر بالأديان السماوية ، بل وبآخرها وأعظمها ، وباوسعها نظاماً وتشريعاً ؟ ! وحيث يتعلَّق الأمر بالخالق تبارك وتعالى ، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وآله ، الذي ما اُرسل إلا رحمة للعالمين . . . فهل يريد من يخالف ذلك أنْ ينسب التفريط بهذا الأمر الذي لم يفرِّط به ملوك الدنيا وحكامها إلى الله تبارك وتعالى ، وذلك لا يذهب اليه أحد إلا من كان أعمى القلب معدوم البصيرة ، أو الى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله ، وذلك ليس بمعهود منه ، حيث تحدِّثنا جميع المراجع التاريخية المختلفة أنَّه لم يغادر المدينة يوماً إلا واستناب فيها من يخلفه (8) يلحق بذلك ايضاً وصاياه المتكررة صلّى الله عليه وآله بوجوب الوصية على المسلم والتشديد على المفرِّط فيها . هذا اذا أدركنا أنَّ المنية لم تعاجل رسول الله صلّى الله عليه وآله بل امتد به مرض الموت اياماً . فما معنى هذا التناقض بين الحالتين !!

ثم ألا يثير في النفس الاستهجان مما يقوله الذاهبون الى عدم وجوب الوصية ما يرويه مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عمر ، من إنه قال : دخلت على حفصة فقالت : أعلمت أنّ أباك غير مستخلف ؟

قال : قلت : ما كان ليفعل.

قالت : انه فاعل .

قال ابن عمر: فحلفت اني اكلمه في ذلك . فسكتُّ ، حتى غدوت . ولم اكلمه.

قال : فكنت كأنما احمل بيميني جبلاً. حتى رجعت فدخلت عليه ، فقلت له : إني سمعت الناس يقولون مقالةً فآليت ان اقولها لك ، زعموا أنَّك غير مستخلف ، وانَّه لو كان لك راعي إبل ، أو راعي غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيَّع ، فرعاية الناس اشد(9).

بل وما يروى عن عائشة ايضاً في هذا المنحى من ارسالها إلى عمر عندما طُعن : لا تدع اُمَّة محمّد بلا راع ، استخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك هملاًَ ، فإنِّي أخشى عليهم       الفتنة(10).

ألا تجد في ذلك الموقف ـ الذي نسبه ذلك البعض من اهمال رسول الله صلى الله عليه وآله لامَّته حيرى مضطربة لا تاوي إلى مكان تستظل فيه ، ولا تجد مرفأ أمان تأوي اليه ـ تناقض صريح مع قول الله تبارك وتعالى في حق رسوله الكريم : ( لَقَدْ جاءَكُم رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكُم بالمؤمنينَ رَؤُوفِّ رَحِيمٌ ) (11).

نعم ، ألا يُعد الذهاب إلى هذا القول اساءة وتوهيناً لشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وآله حتى يقال أنَّ عائشة وعبدالله بن عمر كانا أفقه منه واكثر ادراكاً لخطورة الأمر المترتِّب على ترك الأمّة دون خليفة أو وصي !! .

بل وياليت هذا الامر انتهى عند هذين حتى يلتفت اليه ابن خلدون ليقول في مقدمته : فاستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض (12).

فهل خفي كل هذا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟! ثم الا يُعد هذا خطلاًَ من القول وسفهاً؟

هذا اذا تجاهلنا أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله مبلِّغ عن الله تبارك وتعالى في هذه الرسالة العظيمة ، وأنَّ المرسِل جل وعلا أولى برعاية رسالته من الضياع والسقوط ، لعلمه المطلق بما يترتب عليه هذا الترك من تخبط واضطراب عظيمين ، فهل نرتضي لانفسنا نسبة هذا التفريط الى الباري عز وجل ؟! انها بحاجة الى وقفة تأمل .

ولذا فان هذا الافتراض باطل لا يؤبه به لمخالفته الصريحة مع مفهوم العقيدة الاسلامية ، والسيرة الثابتة لرسول الله صلّى الله عليه وآله ، وضرورة العقل لإفتراضه تركه الأًمَّة الاسلامية الفتية نهبة للاختلافات والمشاحنات والافتراضات المتضاربة ، وغرضاً لطلاب الدنيا والسلطة ، واللاهثين خلف متعها الرخيصة الفانية ، مضافاً الى ما ثبت من عدم الوصول الى قاعدة موحَّدة يمكن التسليم بصحتها.

بيد أنَّ خروج هذا التصوُّر عن افتراض العقلاء لم يغن عن اعتقاد البعض بوقوعه ، بل والتصريح به ، كما افترض ذلك الدكتور أحمد أمين في كتابه الموسوم بفجر الاسلام ، حيث قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يعين من يخلفه ، ولم يبين كيف يكون اختياره ، فواجه المسلمون أشق مسألة واخطرها ...(13)! !.

كذا نجد من تذهب به المزاعم هذا المذهب الخطير من نسبة الاهمال والتقصير إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، رغم القطع الثابت بأهمية الوصية وحساسيتها في استمرارية وديمومة الشريعة الاسلامية واتباعها من المسلمين ، بل وانتظام أمرهم حفظاً لهم من التشتُّت والتبعثر.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السَّلام : مكان القيِّم بالأمر مكان النظام من الخرز ، يجمعه ويضمه ، فإنْ انقطع النظام تفرَّق وذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً(14).

ثم اذا افترضنا أنْ الشارع الاسلامي قد حدد للأمَّة سبيل ومنهج اختيار الوصي والخليفة ، فإنَّ من حقِّ المرء أنْ يتساءل : أي منهج وضع للمسلمين هو ذلك الذي اعتمده الصحابة في اقرار هذا الأمر؟

فسقيفة بني ساعدة كانت كميدان تناطحت فيه اراء متضاربة كلٌ منها يدعي أولويته في التصدي لمسؤولية خلافة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وأحقانيته في هذا الأمر دون غيره ، حتى بادر المهاجرون ، وكانوا ثلاثة نفر ، إلى مصادرة هذا الأمر رغماً عن الانصار وغيرهم .

نعم لم يكن بحاضر في سقيفة بني ساعدة من وجوه المهاجرين سوى ثلاثة من المهاجرين : أبي بكر ، وعمر بن الخطاب ، وابي عبيدة الجرّاح ، وليس في هذا تمثيل قانوني لجموع المهاجرين ، وعلى رأسهم أهل البيت عليهم السَّلام ، وهم الأولى بهذا الأمر استرسالاً مع حجتهم الذاهبة ـ في التشبُث بتقدُّمهم على الأنصار ـ إلى أن القرابة هي الحاكمة في هذا التنصيب .

فهل كان هناك منهجان اختطهما رسول الله صلّى الله عليه وآله ، أم أن كلاً منهما كان يجر النار إلى قرصه ، أم ماذا !؟

ثم إذا سلَّمنا بصحة مدعى المهاجرين ، فهل يمكننا أنْ نعتبر دعواهم هي المقياس الذي ينبغي أنْ لا يتجاوزه المسلمون من بعد ، على اعتبار أنَّ فعلهم هو المعيار الشرعي في اختيار الخليفة النائب عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ طالما سلَّمنا بوجود المنهج الذي رسمه المشرع الاسلامي في اختيار الوصي أو الإمام وأناطه بالامَة ـ فَلِمَ لم يُتخذ منهجاً يسير عليه اللاحقون ، وتجري في مدارجه خطاهم ، بل تراها خضعت لحسابات متفاوتة حتى امتطى سدة الخلافة ومنبر رسول الله صلّى الله عليه وآله أمثال معاوية وولده يزيد ومروان ومن لف لفهم .

بلى إذا كان ابو بكر قد تولى خلافة رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ كما يقال ـ بالانتخاب أو التصويت ـ وان كان عمر بن الخطاب يقول : أنَها فلتة ( أو فتنة ) وقى الله المسلمين شرها(15)ـ فلم اختار من بعده عمر ، بل ولِمَ جعلها عمر في ستة؟

إنَّ في ذلك نفي قاطع لوجود منهج مرسوم من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله في اختيار خليفته ، وإلا لكان الجميع مخالفين قطعاً له كما هو معلوم .

واما ما يذهب اليه البعض من أنَّ تعيين الأمام أو الوصي يتم بواسطة مبدأ الشورى الذي يشير اليها قوله تعالىِ : (وَأمرهم شُورى بَينهم )(16) وقوله تبارك وتعالى (وَشاوِرهُم بِالأمْر)(17) فإن قولهم هذا لا ينهض كحجة شرعية يُعتد بها في نفي النص واعتماد الشورى ، لأنَّ المشاورة هنا لا يُراد بها قطعاً مسألة الخلافة ، حيث يُعد ضرباً من المحال اتفاق آراء الأمَّة على فرد معيَّن ، وفيها الجاهل والمنافق والمناوئ وغيرهمِ .

كما لا عبرة بما يُقال من حصر الاُمّة بثلة محددة تتشاور في هذا الأمر، لأنَّ هذا الحصر ينفي استقراء جميع آراء هذه الأمة ، مع ما فيه من المداخلات التي قد تخرج بالأمر عن مساره السليم .

نعم فهل فاتك كيف رست سفينة الشورى التي أمر بها الخليفة عمر ابن الخطاب بعد أنْ طُعن ، وفيها كما يعرف الجميع وجوه الصحابة وأعيانهم ، فدارت دوران الرحى على عثمان ، بعد أنْ فقدت أي مصداقية شرعية لها في القطع بصحة الاختيار لخضوع البعض منهم لهوى النفس ، ومحاباة ذلك الهوى على حساب الحق ، حتى قال أمير المؤمنين علي عليه السَّلام عنها : فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن (18) .

بلى لم يكونوا إلا ستة نفر ، والحق أمامهم أجلى من أنْ يواريه السحاب ، واحتجاج علي عليه السَّلام عليهم بأحقانيته من غيره في هذا الأمر حجة عليهم في اناطة الحق باهله ، بيد أنَ تلك الجماعة المعدودة لم تصدق الأمانة ، فمال البعض منهم لضغنه ، والآخر لصهره ، فضاع الحق بين هذه الجماعة القليلة ، وظُلم علي عليه السَّلام وهو صاحب الحق . . . فكيف بالأمَّة أجمع وفيها من فيها كما ذكرنا ؟! بل ورأينا صحابي من كبار هؤلاء الصحابة ، وهوعبد الرحمن بن عوف يأكله الندم على ميله لعثمان وتقليده اياه خلافة المسلمين ، فيعرض عنه وينافره بعد ان اضطربت الدولة الاسلامية من اقصاها الى ادناها بفساد الامويين وتهتكهم تحت مظلة خليفة المسلمين ، فماذا بعد ذلك ؟ وهل يُعقل أنْ يرتضي الله تبارك وتعالى لرسالته هذا الضياع والتلاعب ، والفوضى والاضطراب ؟ ! إنَه مجرد تساؤل .

إذن ـ وبعيداً عن المعاندة للحق ـ لم يبق سوى الافتراض الثالث من أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد أوصى لأحد المسلمين بأنْ يكون خليفته فيهم ، ووصيه عليهم ، وعلى الأمَّة أنْ تسمع له وتطيع ، لأنَّه الامتداد الحقيقي لصاحب الرسالة ، عدا كونه غير نبي .

ثم لا يخفى عليك أنَ عظم الأهمية المترتِّبة على هذا المنصب تظهر بوضوح تعلِّق صدوره عن الله تبارك وتعالى ، لاسيما والقرآن الكريم يحدِّثنا أنِّ هذا الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله مرهونة كلُّ أقواله وأفعاله بالمشيئة (19).

الالهية ، لأنَّه ( مَا يَنطِقُ عَنِ الهَوى * إنْ هُوَ إلا وَحيٌ يُوحى ) (20) .

نعم فهل يمكن حصر تلك الشخصية العظيمة التي شاءت ارادة الباري عزَّ وجلَّ أنْ تنيط بها هذه المسؤولية الجسيمة والخطيرة ، والتي ينبغي أنْ تكون مشخَّصة للجميع ، ومعلومة عندهم ، ومتميِّزة من بينهم ، تُعرف دون عناء قد يضيع البعض في سلوك الدرب اليه ، أو يقع في جملة المتشابهات المتعددة .

أقول ـ ويوافقني في ذلك كلُّ العقلاء ـ : إنَّ من المنطقيِ الذي ينبغي أنْ تتسالم عليه اراء ومعتقدات الجميع كون معرفة تلك الشخصية الوارثة لهذا الأمر أيسر من أنْ تاخذ من المسلم مأخذاً كبيراً ، وجهداً مضنياً ، لأنَّ الله تبارك وتعالى ما أرسل الأنبياء والمُرسَلين عليهم السَّلام إلا رحمة منه ولطفاً يفيضه على عباده ، وجعل صراط الحق الذي يدعو اولئك المُرسَلين اليه بيِّناً واضحاً لا لبس فيه ولا شبهة ، يسلكه من ابتغى النجاة ، ويعرض عنه من أبى ، وليس للثاني حجة يحتج بها يوم القيامة ، وتلك هي العدالة السماوية ، وإلا لانتفى ذلك المفهوم عندما يعجز البعض عن ادراك الحق لقصور المشرِّع في تحديد مسالكه ، وذلك ما يستحيل افتراضه ، وإنْ افترضه البعض معاندة للحق فليس هو إلا محض افتراء وتجنِّي على المُرسِل والرسول ، ومجافاة صريحة للعقل والمنطق ، وهذا ما يستدل به في وجوب تشخيص الوصي والنائب عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، لأنَّه ليس من المنطقي أنْ يجعل الله تبارك وتعالى وصي رسوله لغزاً مخفياً ، وسراً مموَّهاً ، لما في ذلك من التعارض البين مع الرحمة الالهية أوّلاً ، ومع حكمة نصب هذا الإمام ثانياً ، وكذا هو حال الرسول صلى الله عليه وآله .

إذن فماذا يجيبنا الاستقراء العلمي والبعيد عن الهوى والتعصب المقيت ؟ بل وأين تنتهي بنا سلسلة الأدلة المتوافرة في تحديد شخصية هذا الامام والوصي والخليفة؟

ولعل التسليم لمنطق الحق والصواب يقود الباحث عن الحقيقة إلى الاقرار الذي لا ريب فيه بانحصار الوصاية والخلافة بعلي بن أبي طالب عليه السَّلام دون غيره ، وذلك جلي واضح لم يثبت قطعاً لغيره ، ولا حجة لمن ينيطها بغيره إلا مكابرة للحق ومعاندة له ، وهو مطالب بالدليل والبرهان على مدعاه هذا ، من الآخرين لا منّا ، لأنّا ندرك ذلك بوضوح ، وذلك الادراك الواضح هو الذي كان ولا يزال يدفع بالبعض ـ واقولها بمرارة ـ إلى التجنِّي والافتراء والتقوُّل على الشِّيعة ، بصحائف صفراء باهتة ومتغرِّبة عن الحق ، لا سمة علمية تتسم بها ، ولا حجة حقيقية تحتج بها ، فصرفوا أذهان البعض عن تلمُّس الحقيقة وادراكها بتلاحقهم في اثارة النقع وتكثيفه حول الأدلة والبراهين التي تحتج بها الشيعة منذ تلك الدهور التي بالغ فيها الامويون والعباسيون في بطشهم الرهيب ، وتنكليهم القاسي برجال الشَيعة ومفكريها، حتى ضجت الأرض بمقابر من حضى منهم بقبر ، ناهيك عمَّن لا أثر له ولا ذكر(21) .

أقول: لم يحتج القوم باختيار المشرِّع لوصي وخليفة لرسول الله صلّى الله عليه وآله بشكل قطعي ، إلا ما ادعاه البعض لأبي بكر ، وهو أحتجاج وقول لا يؤبه به ، لأنَّه لم يثبت قطعاً ، ولم يدعيه هو لنفسه ، بل نقل عنه قوله على منبر رسول الله صلِّى الله عليه وآله : اقيلوني ، فكيف يطلب مَنْ نصبه الله ورسوله وصياً على الأمَّة منها أنْ تقيله ؟! إنْ ذلك محض خيال لا صلة له بالواقع قطعاً .

كما إنَّه يتناقض مع قوله الشهير: إنْ بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها، وخشيت الفتنة(22) ويؤكَدها في ذلك قول عمر بن الخطاب من بعد ، وقد تقدم منا ذكره .

بلى قد يحتج البعض بأنَ الأمَّة قد اجمعت على بيعة أ بي بكر ، وأنَ هذه الأمَّة لا تجتمع على خطأ أو على ضلال كما يروى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، إلا أنَّه يُرد عليه وكما قال سيِّدنا الامام المرحوم عبدالحسين شرف الدين : بأنَ المراد من قوله صلّى الله عليه وآله لا تجتمع على الخطأ ، ولا تجتمع على الضلال : إنَّما هو نفي الخطأ والضلال عن الأمر الذي اشتورت فيه الاُمّة فقرَّرته باختيارها ، واتفاق ارائها ، وهذا هو المتبادر من السنن لا غير ، أمّا الأمر الذي يراه نفر من الأمّة فينهضون به [ يشير الى ما جرى في سقيفة بني ساعدة ] ثم يتسنّى لهم اكراه أهل الحل والعقد عليه ، فلا دليل على صوابه . وبيعة السقيفة لم تكن عن مشورة ، وإنَما قام بها الخليفة الثاني ، وابو عبيدة ، ونفر معهما ، ثم فاجأوا بها أهل الحل والعقد ، وساعدتهم تلك الظروف على ما أرادوا(23) .

نعم وإنْ كان يبدو ايراد هذا القول لسيِّدنا الامام شرف الدين رحمه الله تعالى برحمته الواسعة خلاف استرسالنا في بحث هذا الموضوع إلا أنْ ايراده لازم لاستكمال الأمر مدار البحث ، لأنَّ ابن خلدون وجماعة ممَّن وافقه في مشربه ذهبوا إلى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد عين أبا بكر خليفة من بعده قياساً ـ ولا نوافقهم في القياس ـ على ما يروونه من تعيينه إماماً للمسلمين في صلاتهم حين مرضه .

إنّا لا نبتغي هنا مناقشة صحة وفساد هذا الحديث ، ولا رد القياس الذي لا يمكن الركون اليه في هذا الأمر ، لأنَّ ذلك يرده عدم تصريح أبي بكر بذلك ، لأنَّه أولى من غيره في تدعيم خلافته لرسول الله صلّى الله عليه وآله ، فهل يعقل أنْ يعرض عن هذا الدليل مع اهميته العظيمة هذه ؟! كلا وألف كلا.

أقول: لم يتبق لدى الفريقين مَنْ تُحصر فيه الأمامة والخلافة غير علي ابن أبي طالب عليه السَّلام ، وهو قول الشِّيعة وعليه دارت رحى عقائدهم ، وكان العلة الحقيقية التي اضطهدت هذه الطائفة بسببها من قِبل الحكومات الجائرة كالامويين والعبّاسيين وغيرهم ، كما اسلفنا .

ولعلَّ من حق المسلمين التساؤل عن أدلَّة الشِّيعة في دعواهم هذه لكي يمكن التسليم بصحتها أو الاعتقاد بها ، أو ردها إنْ ثبت بطلانها .

فمّما تقدَّم من الحديث واسترساله أشرنا إلى حتمية نصب الامام والوصي من قِبل الله تبارك وتعالى ورسوله الكريم صلّى الله عليه وآله ، بل ووجوب تحديده ، وانتفاء هذا التحديد عن غير الامام علي بن أبي طالب عليه السَّلام ، وذاك لا يسلَّم بصحته دون الدليل الواضح والبيِّن ، والشيعة مطالبون به ، وهو ما سنشير اليه دون الاستفاضة في مناقشته محيلين القارئ الكريم إلى المراجع المختصة بذلك .

فمما يحتج به الشيعة على وجود النص على خلافة علي عليه السلام لرسول الله صلّى الله عليه وآله ، وحصرها بأهل بيته عليهم السلام ما تناقله الفريقان من الأخبار الصحيحة الجمة الموافقة للاستدلال العقلي السائد بوضوح في مجرى هذه المباحث ، والتي منها :



1ـ نصر حديث الدار:

روى الفريقان وبأسانيد متعددة واقعة الدار التي ترتبت بعد نزول الأمر الالهي من السماء بوجوب انذار رسول الله صلى الله عليه وآله لعشيرته بأمر الدعوة بنص قوله تعالى : ( وَأنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ )(24) فخاطبهم صلى الله عليه وآله بقوله : يا بني عبدالمطلب ، إنِّي والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أنْ يكون أخي ، ووصي ، وخليفتي فيكم ؟

فأحجم القوم عن ذلك إلا علي عليه السَّلام ، وكان احدثهم سنَّاً ، إذ استجاب لرسول الله صلى الله عليه وآله قائلاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه .

فأخذ النبي صلى الله عليه وآله برقبة علي عليه السَّلام وقال : هذا أخي ، ووصي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا .

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أنْ تسمع لابنك وتطيع (25).



2ـ حديث المنزلة:

وأمّا حديث المنزاسة فدلالته على أمر خلافة علي عليه السَّلام لرسول الله صلى اللهّ عليه وآله قطعية لا تقبل الشك ، وصحته سلَّم بها أئمة الحديث عند العامَّة ، ورووه بطرق كثيرة جداً ، وأخرجوه في صحاحهم ومسانيدهم ، وبشكل يصعب حصره واستقصاؤه.

وخلاصة هذا الحديث الذي رواه جمع كبير من الصحابة تتحدد في قول رسول الله صلى اللهّ عليه وآله لعلي عليه السَّلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنَّه لا نبي بعدي (26).

فتخصيص رسول الله صلى الله عليه وآله علي عليه السلام منه بمنزلة هارون من موسى عليهما السَّلام دون منزلة النبوة اشارة إلى مشاركته له في كلِّ شيء دونها ، والتي من أهمها خلافته في قومه ، والى ذلك يشير بوضوح تسلسل الوقائع التي يرويها لنا القرآن الكريم من قوله تعالى عن لسان موسى عليه السَّلام بعد تكليفه بالرسالة ، وانفاذه إلى فرعون طاغية عصره ( قالَ رَبِّ اشرح لي صَدري * وَيَسِّرْ لي أمري * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِساني * يَفْقَهُوا قَولي *واجْعَلْ لي وَزيراً مِنْ أهلي * هارونَ أخي * اشدُدْ بهِ أزري * وَأشْرِكه في أمرِي ) (27) فاستجاب له الله تبارك وتعالى توسله هذا بقوَله : ( قَدْ اُوتيتَ سُؤلَكَ يا مُوسى )(28) وأكَّد ذلك سبحانه أيضاً في موضع آخر من الكتاب العزيز حيث قال : ( وَلَقَدْ آتَينا مُوسى الكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أخاهُ هارونَ وَزيراً ) (29) .

وأمّا تلك الوزارة فيوضحها قوله جلَّ اسمه : ( وَقالَ مُوسى لأخِيهِ هارونَ اخلُفني في قَومي وَأصْلحْ وَلا تَتَّبِع سَبيلَ المُفسِدينَ ) (30).

نعم تلك هي خلاصة البعد الأوضح في استخلاف موسى لهارون بإذن الله سبحانه ، وهي عين ما ترتَّب بين رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السَّلام ، لم يستثن منه إلا منصب النبوة ، كما يشير الى ذلك هذا الاستثناء الوحيد ...

والملفت للنظر أنَّ رسول الله صلى اللهّ عليه وآله كان كثيراً ما ينبِّه الأمة إلى التشابه بين علي وهارون عليهما السلام في أكثر من مناسبة ، ومن ذلك ما رواه الهيثمي في موارده من قوله صلّى الله عليه وآله في ايضاح علة تسميته للحسن والحسين والمحسن أبناء علي بن ابي طالب عليهم السَّلام بهذه الأسماء : انَّما سميتهم باسماء ولد هارون : شبر وشبير        ومشبر (31).



3 ـ حديث الثقلين:

ثم لا يخفى على باحث عن الحقيقة دلالة حديث الثقلين الذي نص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله على وجوب اتباع أهل بيته لأنهم عدول للقرآن ، تُسئل الأمَّة عن طاعتها وانقيادها لهم ، كما تسئل في ذلك عن القران .

فقد روت المصادر المختلفة قول رسول الله صلى الله عليه وآله المبيِّن لاًمَّته على طول التأريخ سبيل نجاتها ، والحبل الذي يعصمها من الضلال والانحراف ، حيث قال صلى الله عليه وآله : ألا أيها الناس إنَّما أنا بشر يوشك أنْ يأتي رسول ربي فاُجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين : أوَّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، وأهل بيتي . ، اذكركم الله في أهل بيتي .
وفي لفظ اخر: إنِّي تارك فيكم ما أنْ تمسكتم به لن تضلوا (32) بعدي : كتاب الله عزَّ وجلَّ حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما(33).



4 ـ غدير خم:

لا اُغالي بشيء إذا جزمت بأنَّ في التعرُّض لايراد واقعة غدير خم وشجونها ضمن هذه الاسطر المتواضعة ، ومع هذه العجالة التي تحاول أنْ تنأى بهذا الكتاب عن الاسهاب والاسترسال ، فيه الكثير من البخس الذي ترددت كثيراً أنْ لا أتحمله ولا أخوض غماره ، محيلاً القارئ الكريم إلى ما استفاض فيه العديد من علمائنا ومفكرينا ، وناقشوا من خلال كتبهم البعيدة الغور والمدى أبعاد ودقائق هذه الواقعة الشهيرة التي تجاوز عدد رواتها من الصحابة المائة صحابي ، وقريب من ذلك مَنْ رواها مِنَ التابعين .

بلى انْ فهم واقعة الغدير ، والقطعية الحاصلة فيها بثبوت الأمر الالهي بتنصيب علي عليه السلام خليفة لرسول اللهّ صلى الله عليه وآله تتطلَب من الباحثين عن الحقيقة جهداً حيادياً منصفاً ، بعيداً عن التفسيرات الجاهزة للبعض الذي جهد في أنْ يحتوي البحر بكفه ، معاندة للحق ، وتجنِّيا على الآخرين .

فقد استفاضت المصادر التأريخية والحديثة وغيرها ، ومن الفريقين ، في ذكر هذه الواقعة الشهيرة الحادثة بعد صدور رسول الله صلى الله عليه وآله من حجة الوداع ، وحيث تذكر تلك المصادر انه صلى الله عليه وآله قد استرسل مع الركب العظيم الزاحف في صحراء الجزيرة وجوِّها اللاهب ، وحيث كان الجميع ـ كما هو مألوف عند جميع الحجاج في كل زمان بعد انتهاء مناسك حجهم ـ يستعجل الخطا نحو منزله لما بلغ به من الانهاك والاعياء ، والشوق للقاء الأهل بعد هذا السفر الطويل والشاق . . . عشرات الآلاف من حجّاج بيت اللهّ الحرام يستحث آخرهم أوَّلهم لاجتياز ما تبقى من المسافة الطويلة الممتدة نحو الافق البعيد. . . وعلى حين غرة والركب العظيم يجتاز وادي خم (34) إذا بمنادي رسول الله صلى الله عليه وآله يدعو الناس اليه للاجتماع ، في هذا الجو القائض ، وعلى هذه الأرض الملتهبة، حتى روي أنَّ المسلمين كان يضعون ثيابهم تحت أرجلهم من شدة سخونة رمل الصحراء.

يقول الراوون من الصحابة : أنَّه صلى الله عليه وآله أمر بدوحات فقممن ، ثم خاطب المسلمين ـ المتسائلين عن الأمر الخطير الذي حبسهم من أجله رسول الله صلى الله عليه وآله ـ بقوله : . . . أليس تشهدون أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله ؟ وأنَّ جنَّته حق وناره حق ؟ وأنَّ الموت حق ، وأنَّ البعث حق بعد الموت ، وأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنَّ الله يبعث من في القبور؟
قالوا: بلى نشهد بذلك .

فقال : اللهم اشهد ، ثم قال : ايُّها الناس إنَّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم . ثم أخذ بيد علي عليه السَّلام وقال : فمن كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ...(35)

يقول البرّاء بن عازب وغيره من الصحابة : أنَّ عمر بن الخطّاب لقي علياً بعد ذلك فقال له : هنيئاً لك يابن أبي طالب فقد أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة(36).

نعم كذا تناقلته المراجع المختلفة وإنْ حصل بعض التباين في كيفية السرد ، إلا أنَّ ما أوردنا كان القاسم المشترك بين جميع تلك الروايات ، فراجع .

والغريب الذي تمجه النفوس المنصفة أنَّ من لم يرقه وضوح هذا الأمر في استخلاف علي عليه السَّلام أخذ يتخبَّط ويتوسَّل بما يتصوَّره حلاً لارضاء هواه وهوى أسياده في نفي هذا الدليل القطعي المؤيد لما تذهب اليه الشِّيعة وتؤمن به ، فأخذ يتأوَّل بعيداً عن الحق في تفسير هذه الأقوال الواضحة،

فأوقع نفسه في الحرج الشديد .

ثم أقول بتجرًّد كامل : هل يمتلك ذلك البعض المعاند تفسيراً مقنعاً عن علَّة جمع رسول الله صلى الله عليه وآله لعشرات الآلاف من المسلمين الذين أنهكتهم مراسم الحج ، ووعثاء السفر ، والشوق العارم للاهل والاولاد غير أمر الخلافة والوصاية ؟ بل هل ترتضي العقول بتفسير سطحي ساذج لا معنى له لتبرير هذه المعاندة للحق ، والمخالفة له ؟ إنَّه مجرد تساؤل .



5 ـ تبليغ سورة براءة :

لكثر ما تساءلت تارة في نفسي واُخرى مع أحد محادثي عن سر غفلة البعض في ادراك مغزى هذه الواقعة التي لم يختلف اثنان في تفاصيلها ودقائق منقولاتها ، رغم اتفاقهم على نتائجها وما ترتَّب عليها ، وذلك ما ينبغي أنْ يلتفت اليه الجميع.

ولعل الحق المستوحى من استقراء أطراف القضية يشير بوضوح إلى أنَّ هناك من يسلِّم بها ككل متكامل باعتبارها من الأدلة المثبتة لاستخلاف علي عليه السلام ، دون التأمًّل في مفرداتها ودقائقها ، حين يتجاهل الطرف الآخر حتى مجرد التأمُّل في شكنها الخارجي المظهري ، وهنا يكمن السر في هذه الغفلة محل التساؤل .

ولنشرع أوَّلاً في استعراض تفاصيل هذه الواقعة كما اتفق الجميع على نقلها:

فبعد نزول الأمر الالهي القاطع بحجب المشركين عن بيت الله الحرام ، حيث يجب أنْ لا يدخله بعد إلا مسلم ، وأنْ لا يطوف بعد ذلك في البيت عريان . . . الخ كما هو في سورة براءة ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر بهذه السورة ، وأمره أنْ يبلغها الناس في مكة .

تقول المصادر المختلفة : إن ابا بكر سار بها ثلاثاً ، ولم يحدث شيء ، حتى نزل الأمر الالهي لرسول الله صلى الله عليه وآله بأنْ يلحق علي عليه السَّلام أبا بكر ويأخذ منه السورة ويتولى هو تبيلغها نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله . . . فكان كما أراد الله تعالى ، وعاد أبو بكر ـ متوجِّساً باكياً ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال له : يا رسول الله ، أحدث فيَّ شيء ؟

فاجابه صلى الله عليه وآله : لا ، ولكن اُمرتُ أنْ لا يُبلِّغ عني إلا أنا أو رجل منِّي (37).

كذا تتفق المصادر المتعددة في ايرادها تفاصيل هذه الواقعة الشهيرة ، وهي بلا شك دليل واضح على أنْ لا مُبلِّغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله غير علي عليه السَّلام ، باستقراء الأدلة السالفة ، بيد أنَّ في هذه الواقعة محطات كثيرة للتوقف والتأمُّل والمراجعة ...

فقول رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي بكر ( اُمرتُ ) يدل دلالة قطعية على أنَّ مصدر هذا الأمر هو الله تبارك وتعالى ، وذلك لا خلاف فيه ، حيث كان أمر التنحية والتنصيب أمراً الهياً محضاً أراد منه الله جل اسمه أنْ يبيِّن فيه للأمَّة مَنْ يُبلِّغ عن رسوله أحكام السماء وشرائعها ، وأنَّه هو الممثِّل الحق لرسوله صلى الله عليه وآله دون غيره من الصحابة والمسلمين ، وكذا هي مشيئة السماء .

ثم لِمَ تُرك أبو بكر هذه الأيام الثلاثة بطولها قاطعاً الفيافي والوديان ، متحمِّلاً وعثاء السفر ومشقة الطريق ، طالما أنَّ مشيئة السماء أنْ لا يُبلِّغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا علي عليه السَّلام ، هل كان الأمر يتطلَّب تفكيراً وتدبراً من السماء ، أم أنَّ هناك تأخيراً في التبليغ والابلاغ ؟ كلا وألف كلا لأن في ذاك خلاف محض مع عقيدة كلِّ المسلمين ، فلا يقول به أحد . . . إذن فلماذا؟



6 ـ نصوص اخرى :

ثم وقسراً للنفس على تجنب الاسهاب في الحديث عن النصوص التي تزخر بها اُمهات الكتب واجع الحديث ، استعرض ايجازاً نتفاً من تلك النصوص ، محيلاً القارئ الكريم إلى مصادرها ، إنْ ابتغى الاستزادة :

أ ـ روى ابن حجر في صواعقه عن أبي سعيد الخدري : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال في تفسير قوله تعالى (وَقفُوهُمْ إنَّهُم مَسؤولونَ )(38): عن ولاية علي بن أبي طالب (39).

ب ـ وروت المصادر المختلفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : لكلِّ نبي وصي وارث ، وإنَّ وصيي ووارثي علي بن أبي طالب (40).

ج ـ وقال صلى الله عليه وآله : أوصي مَنْ آمن بي وصدَّقني بولاية علي ابن أبي طالب ، فمن تولاه فقد تولاني (41) .

د ـ وقال أيضاً صلى الله عليه وآله : من أحب أنْ يحيا حياتي ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليتولَّ علي بن أبي طالب ، فإنَّه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة (42) .
هـ ـ وقال صلى الله عليه وآله لعلي عليه السَّلام : أنت أخي ووارثي .

قال : وما أرث منك ؟

قال صلى الله عليه وآله : ما ورَّث الأنبياء من قبلي (43) .

و ـ وروى أنس بن مالك : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال له :

يا أنس ، أوَّل من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين ، وسيد المسلمين ، ويعسوب الدين ، وخاتم الوصيين ، وقائد الغر المحجَّلين .

قال أنس : فجاء علي فقام اليه رسول الله صلى الله عليه وآله مستبشراً فاعتنقه وقال له : أنت تؤدي عني ، وتسمعهم صوتي ، وتبيِّن لهم ما اختلفوا فيه من بعدي (44).

ز ـ وروى عمران بن الحصين عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال : إنَّ علياً مني وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي (45).

وغير ذلك ، فإنَّ للمستزيد مزيد ، فمن ابتغى الكثير فإنَّ عليه استقراء ما كُتب عن هذا المبحث المهم ، ولن يعسر عليه ذلك طالما تجرد البعض عن الفهم المسبق الخاطىء ، وتدارس الأمر بحيادية علمية لا تبتغي غير الحق ، والحقيقة فحسب .


وقفة مع رزية الخميس :

لم يسعني وأنا أطوي هذه الأسطر الأخيرة من حديثي هذا إلا أنْ اُشير إلى حدث بقي حتى يومنا هذا محل تساؤل بين عموم المسلمين ، يتفاوت التصريح به بين الهمس المتواري خجلاً، ، وبين عبارات الاستهجان المندفعة كالبركان المتفجِّر ، أو كالسيل الهادر ، وللاثنين ما يعتذر به ، فالأوَّل يجد بشاعة الحدث تلقي غمامة سوداء على مُثُلٍ بقي طوال عمره مؤمناً بها ، ومدافعاً عنها ، والثاني يحمِّل أصحاب هذا الأمر الكثير ممّا أصاب هذه الأمة من التبعثر والتشتُّت والتمزُّق ، وهي حقيقة لا يسع منصف الاعراض عنها ما جهد في تبريرها. وهنا يكمن أصل الداء.

لقد اتفق المسلمون مع اختلاف مشاربهم وتشتّت مذاهبهم على جملة اُمور اعتبروها من مسلَّمات الدين التي لا مناص لمسلم من الاعتقاد بها والتعبُّد بمضامينها ، ومن ذلك الاستجابة المطلقة وغير المترددة ولا المجتهدة قبالة النص الثابت الصدور عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وحيث تتأكَّد وجوبية الالتزام والتنفيذ ، وحرمة المخالفة والمعارضة حين الحضور المقدَّس لصاحب الرسالة صلى الله عليه وآله (مَا كانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إذا قَضى الله وَرَسُولُهُ أمراً أنْ يَكُونَ لهمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْص اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاًَ    مُبين)(46).

وممّا لا ريب فيه أ نَّ العلة في هذا التحريم واضحة بيِّنة تتمثَّل أوضح أبعادها في رد حكم الله تبارك وتعالى وإرادته ، لأنَّ الرسول "صلى الله عليه وآله ليس إلا ممثِّلا لارادة السماء ، مجسِّدا لمشيئتها ، مبلِّغا لأوامرها . ومن هنا يشدد النكير على المخالفين ، بل وحتى على المجتهدين قبالته .

ونحن هنا لسنا بمعرض تقليب الشجون ، ومحاكمة المتخلِّفين والمخالفين ، قدر ما توخينا منه اماطة القذى عن بعض العيون في تحاملها على الشيعة نتيجة تبنَيها للنصوص المتواترة باستخلاف علي عليه السلام .

وتجنباً للاسهاب لنتأمل ما أورده أصحاب الصحاح في متون كتبهم المختلفة حول هذه الواقعة ، ولنشرع أولاً برواية البخاري عن ابن عبّاس ، قال : لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وفي البيت عمر بن الخطاب ، قال النبي صلى الله عليه وآله : هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، فقال عمر: إنَّ النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ! ! .

قال : فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قاله عمر ، فلما كثر اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وآله قال لهم : قوموا عني . فكان ابن عبّاس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أنْ يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (47).

وفي صحيح مسلم وغيره برواية سعيد بن جبير : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي . فتنازعوا ، وما ينبغي عن نبي التنازع ، وقالوا : ما شأنه ؟ أهجر ! ! استفهموه ؟

فقال صلى الله عليه وآله : دعوني ، فالذي أنا فيه خير(48).

وامّا أحمد بن حنبل فقد روى في مسنده عن جابر قوله : أن النبي صلى الله عليه وآله دعا عن موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلون بعده ، فخالف عمر بن الخطاب حتى رفضها(49).

أقول: لنتجنَب ما أمكننا الخوض في غمار الشجون والتاسُف جهدنا ، ولنتسائل لعل في التساؤل والبحث عن الجواب تتحقق غاية مبتغي المعرفة ، وهو ما يريده المنصفون خلاصة لجهدهم :

1 ـ ما كان ذلك الكتاب الذي أغاض رسول الله صلى الله عليه وآله اعراض بعض أصحابه عنه ، وجهدهم في منعه عن كتابته ، رغم ما صرَّح به من أنَّ الأمَّة لن تضل بعده أبداً ؟ هل كان أحكاماً شرعية ، وقد ثبت أنَ الرسول صلى الله عليه وآله لم يدخر جهداً في توضيح كل تلك الأحكام للمسلمين طيلة حياته ، ثم ما كان يمكن لتلك الصحيفة المحدودة أنْ تحويه من أحكام ، وفي تلك الساعات الأخيرة من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ! ! وكيف غفل هو صلى الله عليه وآله عنها ـ طالما هي من الأهمية بهذا الشكل ـ طيلة حياته ليتذكرها في هذه اللحظات الأخيرة؟

2 ـ لِمَ نبرى بعض الصحابة وعلى رأ سهم عمر بن الخطاب ـ كما تذكر ذلك المراجع المختلفة ـ إلى اتهام رسول الله صلى الله عليه وآله بالهجر والهذيان مباشرة بعد مطالبته صلى الله عليه وآله بتلك الصحيفة ؟ أما كان يجب عليهم أنْ يستجيبوا للرسول الذي أمرهم الله تعالى بوجوب الانقياد إلى أوامره دون مراجعة ومعارضة ، أو على أدنى الاستجابة مسائلته بماهية ذلك الكتاب أمام الملأ الحاضرين ؟

3 ـ هل تأمَّل البعض مبلغ التوهين الذي مُنيَ به رسول الله صلى الله عليه وآله من قِبل اولئك الصحابة ، حيث نبذوه ـ وهو المبلِّغ عن الله تعالى ، ومن لا ينطق عن الهوى ـ بالهجر وأمام الحاضرين المفجوعين به ، حتى سرت مقولتهم سريان النار في الهشيم ، وتلقَّفها اليهود والمنافقون وغيرهم من أعداء الدين فطفقوا يطبِّلوا لها ويزمِّروا ؟

4 ـ وأخيراً ، أما يحق لنا ان نتساءل ويتساءل معنا الجميعِ : لِمَ لم ينبس أحدٌ من اولئك الصحابة ببنتَ شفة رداً على ابي بكر ، واعتراضاَ عليه ، واتهاماً اياه بالهجر ، رغم انه اوصى بعمر خليفة من بعده حين غلبه الوجع وانشبت المنية فيه اظفارها ؟! بل هلّل ذلك البعض وكبرَّ خلاف ما بدا عليه حين اراد رسول الله صلّى الله عليه وآله كتابة عهده باستخلاف علي عليه السلام.

فاي الاثنين أملك لعقله دون الآخر ، بل وايهما رسول لله تعالى دون الثاني ؟! انه مجرد تساؤل لا غير.

نعم وأقول بوضوح كما هو ينبغي أنْ لا يخفى على الجميع : إنِّها الوصاية بعلي عليه السلام لا غير ، وكان المتصدِّين لمنع اثباتها أدرى بها من غيرهم ، وذلك ليس بخاف على المتتبعين المتفِّحصين لأبعاد هذه الواقعة وما تلاها .



الوقفة الأخيرة:

وأخيراً ونحن نحط رحالنا وأزوادنا في فناء محطتنا الأخيرة ، بعد هذا الاستطراق المتعجِّل والمتلاحق الخطا في تبيان جملة من الشوارد السانحة في مفهوم الأمامة الذي لا يزال البعض يصمه ضجيج مكاء وتصدية مبتغي بعثرة وحدة المسلمين عن ادراك حقيقتها بالشكل الذي تقول به الشِّيعة ، فانحاز عن عدم تدبُّر في خانة من كانوا ولا زالوا يعملون حرابهم في جسد وبنيان هذا الدين الواحد ، والمجتمع الواحد .

بلى وما أقوله ينبعث من صميم القلب لا شغافه ، وصدقاً ، لا رياءً ومخاتلة وخداعاً : إنَّ الرباط المقدَّس الذي يجمعنا كمسلمين أعظم وأقوى من أنْ يعتريه الذبول أو يتخلله الوهن ، وذلك ما ينبغي أنْ لا يغرب عن الجميع ، أو يتناساه أحد . فرباط الأخوَّة الاسلامية الذي أمرنا الله تعالى أنْ نعتصم به ـ إذ قال جلَّ اسمه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُروا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إذْ كننتُمْ أعداءً فَألَّفَ بَينَ قُلُوبكًمْ فَأصبَحتُمْ بنِعْمَتِهِ إخواناً وَكُنتُمْ على شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنها كَذَلِكَ يبَيِّنُ اللهُ لَكُم آياتِهِ لَعَلَّكمْ تَهتَدونَ ) (50)ـ حتم لا يسع مسلم الاعراض عنه قطعاً ، ولا تجاهله في آن ما ، لأنّا ندرك جميعاً أنَّ علة ما نعاينه من مصائب أحاطت بالمسلمين في بقاع شتى من هذه المعمورة يكمن في استرخائهم أمام حالة التبعثر والتمزُّق والتكفير التي تعمل على تأجيجها سرائر بغيضة تتبرقَّع بشعارات ممجوجة تحاول جاهدة التمويه على بصماتها المشخَّصة البادية على جسد هذه الأُمَّة النازفة من طعناتهم المتلاحقة المعاندة .

إنَّ دعواتنا المتواصلة بوجوب فهم عقائد الشِّيعة بشكل سليم ـ دون التقوقع في الحدود المصطنعة التي رسم ويرسم أبعادها الاخرون ممَّن تدفعهم الى ذلك اغراض ومآرب خاصة ، أو ممَّن يعتمدون في ترتيب أحكامهم على الفهم السطحي والساذج لتلك العقائد ـ هي أنجع المسالك في طريق السعي نحو التقريب الذي كان ولا زال يدعو اليه المخلصون من رجال هذا الأمَّة ، شيعة وسنة ، عسى الله تعالى أنْ يلم شتات هذه الأمَّة لتكون مصداق قوله سبحانه : ( خيرَ اُمَّةٍ اُخرِجَتْ لِلنَّاس تَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُومِنونَ بالله ) (51).

واذا كان البعض ممن لا يروقه التصريح ويتعمَّد المواربة والمخاتلة في الاشارة الى مواطن الداء التي أبتليت بها الاُمَّة ، تصوًّراً منه أنَ ذلك أنجع الطرق المؤدية نحو التقريب والتقارب ، والوحدة والتآلف ، فانَّ ذلك وهمٌ تصوًّره حالة الانخداع بالاختلاف المضخَّم والمبالغ فيه من قبل مُروِّجي هذا الاختلاف والمزمِّرين له ، فيضطر المصلحون الى تجاوز هذه العثرات دون تأمُّل ونظر باعتقاد كبر حجمها ، وتعاظم قدرها ، ويسير على منوالهم الاخرون وهم يكتنزون في مخيلتهم اعتبار سعة الهوة ، وبعد المسافة بين الفريقين ، وذلك هو أس الداء ، وأصل العلة .

نعم ، إنَّ ما يلتقي به الجميع هو اكبر واعظم من أنْ نتجاوزه لنفترض استحالة الالتقاء والتقارب ، والاشارة المشخِّصة لموطن الاختلاف ايسر سبيل لادراك ماهية ذلك الاختلاف ، وكيف يمكن أن نتجاوزه وصولاً الى تلث الأمنية الغالية على قلوب المخلصين من هذه الأمَّة المنهكة القوى ، والمستلبة العز والكرامة التي منحها اياه هذا الدين العظيم ، فتخاذلت عنه ، واعرضت عن سبيله ، فكان ما نراه اليوم من نكوص عظيم لا تصدقه العقول ، ولا تحتمله القلوب .

كنّا ولا زلنا اخوة الدين الواحد الذي جاء به ذلك الرسول الاُمّي صلّى الله عليه وآله الى تلك الشعوب الغارقة في وحل الانحراف والرذيلة ، فجعلها اُمَّة من خير الأمم ، تحمل النور والهداية الى اصقاع الأرض ونواحي المعمورة ، وما كان ذلك إلا بصدق النية ، وقوه العزيمة ، فلم لا نكون من المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ولننفض عن كاهلنا وهم التنافر والاختلاف المقيت ؟ انها دعوة صادقة لانفسنا كما هي للآخرين .

والله الموفِّق للسداد ، انَّه نعم المولى ونعم النصير ، والحمد لله أولاً وآخراً .


ترجمة المؤلف :

هو الشيخ محمَّد بن الحسين ابن الشَّيخ علي بن محمَّد رضا بن موسى ابن الشيخ الأكبر جعفر ـ صاحب كشف الغطاء ـ ابن الشَّيخ جعفر بن يحيى ابن سيف الدين المالكي الجناجي النجفي.

يعود رحمه الله تعالى برحمته الواسعة بنسبه إلى احدى قبائل العراق المعروفة ، وهي قبيلة بني مالك ، التي تنتهي إلى أحدى خواص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهو مالك بن الحارث الأشتر رحمه الله تعالى .

كان الكثيرون من هذه القبيلة المعروفة يستوطنون نواحي مدينة الحلِّة وأطرافها ، وخصوصاً بلدة جناجه المعروفة سابقاً باسم قناقية ، وحيث كان أجداد المترجم يُعدون من وجهاء تلك البلدة وأعيانها ، حتى هاجر جدُّه الاعلى الشَّيخ خضر بن يحيى منذ ما يقارب من مائتين وتسعين عاماً إلى مدينة النجف الأشرف المزدهرة بحوزتها العلمية وعلمائها الأفذاذ ، فاشتغل بالدرس والتحصيل وتلقي العلوم الدينية بجد ومثابرة أهَّلته لأنْ يتفوق على الكثيرين من أقرانه ويتقدم عليهم بشكل ملحوظ أقرَّ به أساتذته وزملاؤه في الدرس ، مما مهد له السبيل للتخطي نحومصاف الاساتذة والمدرسين الذين يشار لهم بالبنان ، ويحظون بالثناء والتقدير.

وكان رحمه الله تعالى مشهوراً بالتقوى والصلاح ، والزهد والورع ، شاع صيته في الأفاق فتوافد الجميع عليه مقرِّين بفضله ، ومعترفين بمكانته ، فاستطاع أنْ يضع حجر الأساس لاسرة شريفة سمت بها منازل العلم والتقوى لأنْ تتسنَّم بحق زعامة المرجعية الدينية الشِّيعية لسنين طوال .

نعم ، فاذا كانت مدينة النجف الأشرف ، وبالأخص حوزتها العلمية قد عرفت بالشيخ خضر عالماً فاضلاًَ ، وتقياً مصلحاً أخذ العلم على يد كبار أساتذتها ، وابتز اقرانه بجده واجتهاده ، فانَّها قد شهدت من بعده وعلى يد أبنائه وأحفاده الكثير من العطاء الذي طوَّقت أفضاله رقاب عموم الشَّيعة خاصة وباقي المسلمين عامة .

وهكذا فقد كانت هجرة الشَّيخ خضر رحمه الله تعالى إلى النجف الأشرف قبل ما يقارب من المائتين والتسعين عاماً انعطافاً كبيراً في حياة هذه الأسرة الشَّريفة ، ورفداً عظيماً لمسار الحوزة العلمية ودورها في قيادة عموم الطائفة الشِّيعية في جميع العالم .

وكان الشَّيخ خضر قد خلَّف أربعة من الأبناء ، أشهرهم العلامة ، الشَّيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء ، وحاله وسمو منزلته لا تخفى على أحد ، بل هو كالشمس في رابعة النهار ، تُشد اليه الرحال ، وتقصده أفاضل الرجال ، وتتزود من علمه أكثر جموع الطلبة والدارسين والباحثين .

واذا كان والده الشَّيخ خضر قد وضع أساس هذه الأسرة الشَّريفة في جنبات مدينة العلم ، وقبلة الدارسين والباحثين عن صفو علوم أهل بيت العصمة عليهم السَّلام ، فانَّ الشَّيخ جعفر رحمه الله تعالى قد أشاد لعائلته صرحاً شامخاً ، وشرفاً منيفاً ، ومكانة عالية ، واسماً ميموناً ، حتى طغى اسم أشهر مؤلَّفاته ، وهو كشف الغطاء ، على اُسرته وأحفاده ، فاُسموا بآل كاشف الغطاء ، منذ ذلك اليوم ، وحتى يومنا هذا ، بل وأمسوا لا يُعرفون بغيره ، ولا يرتضون سواه ، فكان خير إرث تركه لهم ، إرث عظيم لا تُقاس به الكنوز ولا القطائع .

ومن ثم فانَّ البنيان الشامخ لهذه الأسرة الطيبة المباركة كان لابدَّ له من أنْ يرثه ويتبوأ عرش سيادته بعد رحيل سيده الأكبر الشَّيخ جعفر الذي تُعد خلافته من مشاق الأمور التي تستدعي بوريثه جهداً مضاعفاً ، وسعياً متواصلاً لينال تلك الحبوة الرفيعة التي امتطى ناصيتها ذلك الجد الأكبر.

والحق يقال : إنَّ الأنظار بقيت شاخصة متفحصة مع تقادم السنين بحثاً عن ذلك الوريث المبارك الذي تسمو به همته ، وجده واجتهاده نحو ذلك المكان المنيف الشامخ ، حتى أتت الأيام بذلك الموعود المبارك من قِبل أحد أحفاده النجباء وهو الشيخ محمَّد بن الحسين رحمه الله تعالى ـ صاحب الترجمة ـ فاستطاع أنْ يرتقي هذا المرتقى الصعب ، بجدارة وقدرة ، وسعي واجتهاد ، بل وأنْ تثنى له الوسادة من قِبل الجميع ، ويقر بفضله القاصي والداني ، وأنْ يملأ الدنيا باقواله ومواقفه ، وبحوثه ومؤلفاته ، وسعيه ومثابرته ، بل وأنْ يخلف الكثير الكثير من الآثار الخالدة الدالة على عظيم ما كان عليه ، علماً وفضلاً ، ايماناً وتقوى ، فرحمه الله تعالى برحمته الواسعة ، وأسكنه فسيح جنانه .

ولادته ونشاته :

ولد رحمه الله تعالى عام (1294هـ ـ 1877م ) في مدينة النجف الأشرف ، وقد أرَّخ الشاعر موسى الطالقاني رحمه الله تعالى ولادته بقوله:

سُرورٌ بهِ خُصَّ أهلُ الغري * فَعَمً المَشارِقَ وَالمَغــربـينِ
بـِمــَولَدِ مَنْ فِيهِ تَمَّ الهَنا * وَقَرتْ بِرُؤيــتَهِ كـل عَينِ
وَقـَد ْبُشِّرَ الشَرْعُ مذْ أرخوا * سَتُثنى وَسائِدُهُ لِلحُسـيـنِ (52)


فنشأ في بيت تفوح من جنباته عبقات العلم والسؤدد والشرف ، بيت يطفح بالعلماء والفضلاء ، والأساتذة النجباء ، فاشتد عوده واستقام ، وامتدت عروقه بعيدة في تلك الأرض الخصبة المعطاءة ، فكان بحق خير خلف لخير سلف ، ونعم الابن لتلك الأسرة الطاهرة .

لم يتجاوز أعتاب عامه العاشر حتى كان ينهل من علوم العربية وفنونها كالبلاغة والمعاني والبيان ، فوجد فيه أساتذته ميلاً واستعداداً كبيراً للاستزادة من هذه العلوم الرائعة والفنون العظيمة ، فتولوه بالاهتمام والرعاية حتى استطاع تجاوز جميع تلك المراحل دون أي تردد أو تلكؤ ، بل وأنْ يكون مع الأيام أديباً بارعاً لا يدانيه أحد ، واُستاذاً ماهراً يُشار له بالبنان .

ولم تقعد به توجهاته نحو دراسة اللغة العربية وتخصصاتها المتعددة عن دراسة غيرها من العلوم كعلم الرياضيات المتشابك ، فاندفع في طلب معرفته ، وفهم بعض أبعاده بما تيسر له الظرف والامكان بتلهف وشغف ، إلا أنَّ النظام الدراسي المتبَّع في نشأته واعداده كان ينأى به بعيداً عن التخصص بهذا العلم البعيد الغور ، والواسع الأبعاد .

ومن هنا فإنَّ شيخنا المرحوم كاشف الغطاء ما أنْ أتم دروسه الأولية في علوم العربية وآدابها ـ والتي أظهر فيه تفوقاً ملحوظاً ، وبراعة متميِّزة دون باقي أقرانه كما أسلفنا ـ حتى شرع بدراسة الفقه والأصول وفق الاسلوب المتبع في الحوزة العلمية ، فأتَم دراسة السطوح وهو في باكورة شبابه ، مما أهَّله لمواصلة دراسته المتقدمة والعالية عند كبار أساتذة الحوزة انذاك مع أخيه الشَّيخ أحمد كاشف الغطاء رحمه الله تعالى ، فاستشف فيه أساتذته تلك العبقرية الفذة ، والذكاء الوقاد ، والعزيمة الراسخة التي تؤهِّل صاحبها لامتطاء ذرى المجد ، وناصية الرقي ، فتتبعوه بالتوجيه والرعاية ، والصقل والتهذيب ، وأسبغوا عليه الكثير من الاهتمام والاعتناء ، حتى وفقوا ـ بفضل الله تعالى ـ في ذلك غاية التوفيق ، وخرَّجوا من مدراس بحثهم رجلاً عالماً فاضلاُ ، بارعاً حكيماً ، مظهراً لعظمة المذهب ، مدافعاً عن حرمه ، فكان كما قال الشَّيخ محمَّد جواد مغنية رحمه الله تعالى برحمته الواسعة : من العلماء الذين هم أندر من الكبريت الأحمر ، من اُولئك العلماء المتميِّزين الذين لم يتحددوا في علائقهم مع مقلِّيديهم وأتباعهم فحسب ، بل التقوا بالعالم ، ونقلت عنهم فئات شتى في الشرق والغرب ، وعرف بهم البعيد أنَ في الشِّيعة معجزات من العبقرية ، وأنَّ مذهب التشيُّع يقوم على اقوى وأمتن أساس (53) .

مشايخه وأساتذته :

أخذ الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى على جملة من علماء وأساتذة وفضلاء عصره ، كلٌ وفق منهجه في التدريس ، ومنهم :

1 ـ الشَّيخ محمَّد كاظم الهروي الخراساني رحمه الله تعالى ، صاحب كتاب الكفاية في اُصول الفقه ، حضر عنده بحث الخارج في درس الكفاية ست دورات .

2 ـ السيِّد محمَّد كاظم الطباطبائي اليزدي رحمه الله تعالى ، حضر عنده مجلس درسه منذ عام (1312 ـ 1337هـ) حيث وافت السيِّد فيها المنية .

3 ـ الشَّيخ محمد رضا الهمداني رحمه الله تعالى ، صاحب كتاب مصباح الفقيه ، كان من حضّار درسه لمدة عشر سنوات .

4 ـ الميرزا محمَّد تقي الشِّيرازي رحمه الله تعالى ، درس عنده لمدة سنتين.

5 ـ الشًيخ محمَّد باقر الأصطهباناتي رحمه الله تعالى ، وكان الشَّيخ رحمه الله تعالى قد حضر عنده دروس الحكمة والكلام .

6 ـ الشيخ أحمد الشِّيرازي رحمه الله تعالى .

7 ـ الشيخ محمَد رضا النجفي آبادي رحمه الله تعالى .




الشَّيخ كاشف الغطاء والمرجعية

لقد استطاع الشَّيخ كاشف الغطاء بما عُرف عنه من تضلُع مشهود بعلوم الفقه والأصول ، والحكمة والفلسفة ، والالهيات وغيرها أنْ يلقي بظلاله على أطناب الحوزة العلمية العامرة في مدينة النجف الاشرف آنذاك ، رغم وجود العديد من الأساتذة الكبار والعلماء الفضلاء أمثال استاذه اليزدي رحمه الله تعالى وغيره ممَّن تقدم ذكره .

بل وذُكر أنَّه رحمه الله تعالى أنجز وفي حياة اُستاذه اليزدي شرحه على كتاب العروة الوثقى الذي كان يحاضر به مع تلامذته في دروسه المختلفة التي كان يلقيها تارة في المسجد الهندي ، واُخرى في جانب الباب الطوسي أو مقبرة الامام الشِّيرازي رحمه الله تعالى بجوار ضريح الامام علي بن أبي طالب عليه السَّلام .

ولقد شهد له معاصروه من العلماء الكبار ، وتلامذته الذين صاحبوه في تلك الحقبة السالفة من حياته المباركة بأنَّه كان فقيهاً بارعاً ، قوي الحجة والبرهان ، بل ومجتهداً في مبانيه ، حراً في آرائه ونظرياته ، حيث كان كثيراً ما ينتزع العديد من الفروع التي تعسر على البعض ـ وذلك لا غرابة فيه ـ لما امتاز به رحمه الله تعالى من ذوق عربي سليم يؤهِّله لفهم وادراك حقيقة النصوص المعتمدة في بناء جملة واسعة من الأحكام ، حتى أنَّه رحمه الله تعالى قد روي عنه اتيانه ببعض المسائل الفقهية النادرة التي ليس لها عنوان محدد في الكتب الفقهية الاستدلالية ، فيفتي بها مع تقديمه الحجة والدليل على ذلك ، تاركاً للآخرين مسألة المذاكرة حول ذلك الأمر وأبعاده .

نعم ، إنَّ من المسلَّم به كون مسألة التوسُّع في التفريعات الفقهية تتطلب مهارة فائقة ، واحاطة واسعة بهذا العلم الذي يعسر على الكثيرين الخوض في غماره ، واجتياز عبابه ، وهذا الأمر ما كان يمتلكه الشَّيخ كاشف الغطاء ، فوفق في ذلك أيَّما توفيق .

والحق يقال : إنَّ امتلاك هذه القدرات الواسعة في جملة تلك العلوم قد مهَّدت السبيل أمام شيخنا المترجَم للتربُع على عرش المرجعية العامَّة للشِّيعة ، والتي تُعد بحق شرفاً عظيماً ، ومنزلة رفيعة ، لا ينالها إلا القلَّة من ذوي الجد والاجتهاد ، والتقوى والايمان .

ففي عام (1337 هـ ) وبعد وفاة السيِّد اليزدي رحمه الله تعالى ـ والذي كان يُعد مرجعاً كبيراً من مراجع التقليد ـ اتجهت الأبصار نحو الشَيخ كاشف الغطاء ، فتوافد على درسه الفضلاء والعلماء ، وتطلَعوا عن كثب مدى ما يُنسب اليه من كبير الفضل ، وعظيم المنزلة ، فوجدوا الوصف عن الموصوف ، والحقيقة تقصر عنها الحكاية ، فأقرّ الجميع بعلميته ، وثُنيت له الوسادة ، وشاع في الأصقاع ما عليه من تلك السمات المؤهِّلة لتسنُّم المرجعية الشِّيعية ، فتعاظم عدد مقلديه في أنحاء العالم المختلفة ، ممّا دفعه ذلك بعد نشره لرسائله العملية إلى اعادة طبعها مراراً وتكراراً ، لزيادة الطلب عليها ، وتكاثر أعداد مقلديه .

وهكذا فقد توطَّدت مرجعية الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى ، وكان ذاك ايذاناً لتحمُّله عبء أعظم المسؤوليات المناطة بمراجع الأمَّة ، لا سيِّما وقد كان العالم الاسلامي ابان تلك الحقبة يشهد جملة واسعة من التغيرات والتطورات والانتكاسات التي تستلزم معالجة واقعية حاسمة ، ومواقفاً شجاعة ثابتة لدرء حالات النكوص والانهزام والتبعثُّر التي أصبحت سمة غالبة مشخَّصة لواقع المجتمع الاسلامي آنذاك .


الشَّيخ كاشف الغطاء وبصماته الخالدة على صفحات التاريخ :

كثيرون هم من تطويهم عجلات الزمن وصفحاته المتلاحقة دون أنْ يتركوا لهم آثاراً ـ وإنْ دقت ـ تدلُّ على عبورهم من خلال بوابة الحياة المشرعة ، ومنافذها الواسعة ، فرحلوا كأنْ لم يكونوا إلا أسماء ما أسرع ان يعفو عليها ويخفيها غبار الأيام .

نعم ، إنَّ الله تعالى ما خلق الانسان إلا وجعله مقترناً بأمر كبير ، وموسوماً بصفة عظيمة ، ألا وهي خلافته في أرضه ، إذ قال جلَّ اسمه مخاطباً ملائكته : ( إنِّي جاعِلٌ في الأرضِ خَليفةً ) (54) بل وجعل سبحانه مقياس الوفاء باداء الرسالة هو العمل ، فمن خلاله تُمنح المنازل والدرجات ، ويُنال الرضا في المحيا وعند الممات ، وذلك ممّا هو أجلى من الشمس في رابعة النهار.

وحقاً قد تتفاوت الأعمال شكلاً وكيفاً ، بيد أن اعتماد المنهج الشرعي السليم الواضح في ادائها هو المقياس الحقيقي الذي تقيم به تلك الأعمال ، ويمكن للمرء أنْ يشير لها بالبنان بفخر واعتزاز ، وما أقل ما هي .

ولا نغالي بشيء إذا قلنا بان حياة الشيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى كانت ميداناً خصباً للكثير من الأعمال المباركة التي اتشحت بها سنوات عمره القصير ، وأبرزت من خلالها دقائق توجهاته ، وحقائق معتقداته ، فكانت فعلاً وممارسة لا اُطروحة وتنظيراً ، وذلك هو اسمى ما يُوسم به المؤمنون .

ولا أقول إِني ساستقرىء من خلال صفحات مقدمتي هذه أبعاد تلك المواقف قدر ما أردت منها مجرد اللمحة والاشارة ـ وذلك لعسر المخاض ، ومشقة الاستقصاء ، ومحدودية المدى المتاح ـ تاركاً عبء ترجمة هذا الطموح للدراسات الخاصة بهذا الأمر ، لأنَّي وجدت عند البحث قصور التراجم المحدودة للشَّيخ كاشف الغطاء عن احتواء الكثير من الأبعاد الخاصة به ـ مع اقراري بجدَّة البحوث ، وصدق النوايا ، ومبلغ الجهود المبذولة ـ رغمِ كون الفاصلة الزمنية بيننا وبين عصر المترجَم رحمه الله تعالى لا تمثل بوناً شاسعاً تتثاقل الخطا عن تجاوزه ، وتتوه النفوس عن تلمُّسه ، بل هو أيسر الان من أنْ يترك فتتقادم عليه السنون ، وتُسدل عليه ستائر النسيان ، فتضطرب في التحدُّث عنه الروايات كما يتلمَّسه الباحثون عن سيرة الكثير من رجال هذه الاُمة وعظمائها .

ومن ثم فساحاول من خلال هذه الصفحات الاشارة العابرة ، واللمحة الخاطفة عن بعض مواقف الشَّيخ رحمه الله تعالى ، بايجاز واختصار :





1 ـ الجهاد ضد الاستعمار البريطاني :

حين امتدت ذراع الاخطبوط البريطاني المستعمر نحو الأراضي العراقية ـ في سعيه المحموم لابتلاع وازدراد خيرات تلك المنطقة ، بدعوى منازلة الدولة العثمانية التي قادتها تخبُّطاتها الرعناء نحو جملة خطرة من المزالق والمهالك المتكررة ـ كانت مخيلة الساسة البريطانيين قد صوَّرت لهم حتمية اصطفاف الشِّيعة يتقدَّمهم علماؤهم إلى جانب تلك القوات الغازية ، لادراكهم ( أي البريطانيون ) عظم المحنة التي اُبتلي بها الشِّيعة من رجال تلك الدولة وقادتها الذين انشبوا أظفارهم بحمق في جسد هذه الطائفة المستضعفة دون رحمة أو شفقة ، وباصرار عجيب ، وتعنت غريب ، كان أعظمه في افتاء شيخهم انذاك بحلِّية دم الشِّيعي (55)!!
بيد أنَّ حساباتهم كانت خاسرة ، وتصوُّراتهم كانت باطلة ، إذ أتتهم الرياح بما لا يشتهون لسفنهم ، ودارت عليهم الدوائر ، وخرج الشِّيعة لمحاربتهم بشكل اقشعرت له أبدانهم ، وأهتزت لمنظره أفئدتهم .

نعم لقد اصطف الشِّيعة آنذاك ، يتقدمهم علماؤهم الأبرار مع بقايا الجيش العثماني المهلهل المنهزم ، لادراكهم بوضوح ما يشكِّله الاستعمار البريطاني من مخاطر وخيمة لا تستهدف خيرات الشعوب المسلمة فحسب قدر ما يمثِّله من خطر جدي على عموم العقيدة الاسلامية المباركة بكل أبعادها ، خلاف الدولة العثمانية التي رغم كل انحرافاتها ومساوئها فانَّها يحتويها معهم رباط الاسلام المقدس ، وهذا ما اثبتت صوابه الأيام .

وهكذا فقد بدأت قوافل العلماء المجاهدين بالتوجه إلى ساحات النزال والمجالدة الشرعية ، مرتدين أكفان الشهادة بعزيمة واصرار راسخين . .. مسجِّلين مآثر ازدانت بها صفحات التأريخ ، وتفاخر بها الأبناء ومن بعدهم الأحفاد ، وستبقى خالدة مدى الدهر لأسماء طُرِّزت بماء الذهب من أفاضل علماء الشِّيعة الذين كان الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى برحمته الواسعة واحداً منهم ، وحيث كان من المرابطين في مدينة الكوت عام (1334هـ ـ 1916م ) للتصدي لتقدم القوات الانكليزية الغازية ـ المدججة بأحدث الأسلحة ، وأشدها فتكاً ـ رغم ضآلة الامكانيات ، وبساطة المعدات ، فكانوا مع عموم المجاهدين سيفاً قاطعاً ، وموتاً زؤاماً أحاط بالقوات النازية واجتاحها كالطوفان لا يلوي على شيء ، بل وأوشك أنْ يوردها الحمام لولا تخاذل الجيش العثماني ، وقلة العِدد ، والتاريخ خير شاهد على ذلك .





2 ـ موقفه من مؤتمر بحمدون :

يحاول المستعمرون ـ وكما يعرف ذلك الجميع ـ خدمة أغراضهم السياسية ، وطموحاتهم غير الشرعية بشتى الوسائل التي تتفتق عنها مخيِّلتهم النهمة ، متسترين ـ وصولاً إلى ذلك ـ بأشكال مختلفة من الشعارات والعناوين الجذابة ، مستدرجين من تنطلي عليه أكاذيبهم وأحابيلهم التي لا تغرب حقيقتها عن ذوي الألباب .

نعم ، وصورة تلك الحال كانت واضحة في المؤتمر الذي دعت له جمعية أصدقاء الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الامريكية للانعقاد بتأريخ 22 نيسان عام (1954 م ) في لبنان ، وبالتحديد في مدينة بحمدون ، وحينها تلقى الشَّيخ كاشف الغطاء دعوة رسمية موجهة من قبل كارلند ايفانز هوبنكز نائب رئيس تلك الجمعية لحضور هذا المؤتمر الذي ينحصر ـ على حد زعمهم ـ بعلماء المسلمين والمسيحيين ، وأنْ تتحدَّد أعمال هذا المؤتمر بمناقشة ودراسة المواضيع التالية :

1 ـ دراسة القيم الروحية للديانتين الاسلامية والمسيحية .

2 ـ تحديد موقف الديانتين من الأفكار الشيوعية الالحادية .

3 ـ وضع البرامج الكفيلة بنقل القيَّم الروحية التي تؤمن بها الديانتان إلى الجيل الحديث .

وكان غير خافٍ على أحد أنَّ الغرض المتوخى من اقامة هذا المؤتمر ـ الذي كانت تروِّج له الادارة الامريكية انذاك ـ هو تسخير المسلمين وعلمائهم كاتباع منفذين للسياسة الغربية التي هالها وأقلقها التوُّرم المظهري الكاذب لسريان الأفكار الشيوعية في أنحاء مختلفة من العالم ابان تلك الحقبة الغابرة التي شهدت انخداع العديد من تلك الشعوب بتلك الأفكار الالحادية التي ساهم في انتشارها حينذاك حدة التفاوت الطبقي بين أفراد المجتمع الواحد ـ وهو مرض الرأسمالية العضال ـ تزامناً مع ما اُسمي بالثورة الصناعية ، واستثمار اصحاب رؤوس الأموال لحالة التفاوت الحاد بين عنصري العرض والطلب بعد الهجرة المكثفة التي شهدتها المدن الصناعية الكبرى من القرى والأرياف ، فانتهز دعاة هذه الأفكار المنحرفة حالة البؤس المزري التي احاطت بالأيدي العاملة هناك من خلال خداعهم بحالة الفردوس المزعوم التي ستحققها لهم عند تصديها لقيادتهم ، ولكن الزمن اتى على كلِّ أكاذيبهم ففضحها ، وكلِّ حيلهم فابطلها ، وسقطوا في مزبلة التأريخ بلا أسف عليهم.

نعم لقد كانت حالة الاضطراب التي بدأت تعم دوائر صناعة القرار في أوربا لمواجهة طغيان المد الشيوعي آنذاك هي التي دفعت اُولئك المفكِّرين الى اللجوء الى الدين كأنجع سلاح لا تمتلك أمامه تلك القيم الالحادية للنظرية الشيوعية شيئاً ، بل وتبدو قباله عاجزة تافهة ، وهو ما كان ولا زال يخشاه حملة تلك الافكار ، والمروِّجين لها ، حمقاً بعد افلاسهم .

وحقاً ، فقد كان ذلك قراراً صائباً موفَّقاً لو انبعث من نوايا صادقة هدفها اسعاد البشرية ، ورفع الحيف عنها ، بيد انَها اطروحة تفتَّقت عنها مخيَّلة جهة كانت ولا زالت مصدر محنة وبلاء ، بل وعاصفة سوداء اُبتليت بها الانسانية عامَّة ، والشعوب الاسلامية خاصة ، وعلى امتداد التاريخ المعاصر ، وحتى يومنا هذا ، فكانوا بحق أسوأ بكثير ممَّن يستثيرون بالمسلمين والمسيحيين الههم لمواجهتهم .

ومن هنا فقد كان موقف الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى حاداً وصريحاً في رفضه لحضور هذا المؤتمر من خلال ما أرسله إلى المؤتمرين من جواب طويل أسماه ( المُثل العليا في الاسلام لا في بحمدون ) والذي أوضح فيه ـ بصراحة جلية ـ رأيه في مواضيع هذا المؤتمر وبحوثه ، مبيناً ما توقعه السياسة الامريكية وحليفتها الانكليزية من ظلم وتجني على شعوب العالم المستضعفة المغلوبة ، مع اشارته الواضحة إلى بُعد دعاة هذه السياسة ومباينتهم للقيم الروحية التي تدعو لها الأديان السماوية المختلفة ، وإنَّ من يُنادي بتلك القيم يجب عليه أنْ يكون من أوَّل العاملين بها، والمؤمنين بحقيقتها ، وذلك ما لا ينطبق على الدعاة لعقد هذا المؤتمر ، والراعين له .





3 ـ اخماد فتنة الحصان :

لعلَّه أمسى من بديهيات الأمور التي كادت لا تخفى على أحد ما راهن عليه البعض من المتسربلين زوراً بجلباب الاسلام والتقوى والصلاح من توظيف بعض المواقف السلبية والمتغرِّبة عن الواقع في طرح ومناقشة أفكار وعقائد الشِّيعة ، والجوانب الأخرى المتعلِّقة بهم ، كوسيلة فعالة ماكرة لبعثرة الصف الاسلامي الواحد ، واشاعة ظاهرة التمزُّق والتشرذم والتنافر بين اُخوة الدين الواحد ، وبالتالي توسيع الهوَّة الوهمية المفتعلة بين أفراد هذه الطائفة والطوائف الاسلامية الأخرى .

هذا مع ما يتوخاه البعض من المتصيِّدين للسوانح الشاردة لطعن المسلمين من خلال امتطاء موجة الانفعالات التي قد تنفلت بديهياً وبأشكال مختلفة ومن جهات معينة في اشاعة الاضطراب والفوضى والغوغائية ـ المتسرِّبة من خلال ذلك ـ في جوانب المجتمع الشِّيعي المستدرج ـ بخبث وسوء طوية ـ نحو هذا الفخ القاتل ، وذلك ما لم يعد خافياً على أحد .

نعم ، ولعلَّ ما أحدثه كتاب ( العروبة في الميزان ) لعبدالرزاق الحصان (56) الذي نُشر عام (1351 هـ ـ 1933 م ) من فتنة ـ حيكت أطرافها من قِبل بعض الأيادي المراهنة على تمزيق وحدة الصف الاسلامي ـ كانت عظيمة عمدت إلى استدراج عوام الناس ودفعهم إلى اشاعة الفوضى والاضطراب في عموم المدن العراقية انذاك ، من خلال اثارة واستفزاز مشاعر عموم الشِّيعة هناك بسبب ما سُطِّر في هذا الكتاب السقيم من تفاهات وترهات باطلة ترتكز على جملة افتراضات متهرِّئة منها الطعن بانتماء الشِّيعة في العراق ، والذهاب الى القول بانَّهم أجانب عن هذا البلد ودخلاء فيه ينبغي التصدي لاقصائهم عنه ، حين تراه يشيد بدور الامويين الوسخ ، وأياديهم الملطَّخة بدماء المؤمنين .

إنَ هذا الموقف المستهجن والممجوج من قِبل مُسطِّر هذه الوريقات الصفراء الباهتة كان لابدَّ له من أنْ يثيرشجون وأحاسيس عموم الشِّيعة الذين اُتيح لهم قراءة هذا الكتاب ، أو طرق سمعهم شيءٌ من عباراته السقيمة هذه ، فاعلنوا الاضراب العام في العديد من مدن العراق الكبرى كبغداد والمحلة والديوانية والناصرية ، وكان أشده في مدينة النجف الاشرف ، لما لها من قدسية متميِّزة في قلوب الشِّيعة ، فتعطَّلت الأسواق ، وساد الهيجان فيها ، لا سيَّما وقد تسرَّب اليها العديد من القبائل الهائجة المحيطة بها .

بيد أنَّ الأمور لم تجري على منوالها الطبيعي ، حيث انظم في صفوف الملتاعين من سماجة وصفاقة هذا الكتيب التافه العديد من ذوي المآرب الفاسدة والمنحرفة ، من الذين امتطوا موجة الأحداث لاشاعة الفوضى والاضطراب ، والتعدي على حرمات الناس وممتلكاتهم.

فضجَّ العقلاء من رجال الشِّيعة وعلمائها بالصبغة الغريبة التي كانت تؤججها وتروج لها أيادي أجنبية ماكرة ، يقابلها ضعف السلطة عن مواجهة هذه الظاهرة المحتدمة والمتفجِّرة ، وكان انذاك السيِّد جعفر حمندي حاكماً ادارياً في النجف ، فحاول جاهدآَ الحد من تفاقم هذا الأمر دون جدوى ، فاضطر به الحال أنْ يتصل بالعديد من كبار العلماء وفضلاء الحوزة وأعيان النجف الذين توجهوا نحو المرقد الطاهر للامام علي بن أبي طالب عليه السَّلام في محاولة يائسة منهم لانهاء هذا الاضطراب ، وهذه الفوضى المستحدثة ، إلا أنَّهم أخفقوا في تدارك هذه الأحداث الوخيمة ، والحد من توسعها ، ولم يجدوا من عموم الجماهير المضطربة اذاناً صاغية ، ونفوساً مستجيبة ، فلم يجد الجميع بداً من التوجه إلى الشَيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى ، لما يدركونه من عظيم منزلته في قلوب الناس ، بل وما يمتلكه من قدرة عجيبة في التحكُّم بمشاعرهم واحاسيسهم ، وتلك والله نعمة كبيرة ، وفضل من الله جسيم يمن به على من يشاء من عباده المتقين.

وهكذا ، فلم يكد يحطه زوّاره من رجال الحكومة ، وفضلاء الحوزة ، وأعيان المدينة بتفاصيل الأمر ـ رغم تحذيرهم له من خطورة الموقف ، وشدة تازمه ـ حتى نهض من فوره بطلعته المهيبة ، وخطواته المتسارعة الرصينة نحو المرقد المطهر للامام علي عليه السلام ، وكان ذلك وقت الزوال ، فاشرف على الناس طالباً منهم حفظ الهدوء وترك الفوضى ريثما يعود للتحدُّث معهم بعد فترة لشرح ملابسات هذه القضية ومداخلاتها .

والحق يقال : إِنَ حضّار هذا الحدث الكبير ـ الذي عسر على الجميع التحكُّم باندفاعاته الرهيبة ، وتعقّداته المتشابكة ـ لتنتابهم الحيرة في تفسير علَّة تحكُّم هذا الرجل بعواطف الناس ، وقدرته الفائقة في توجيه مشاعرهم ، وبهذا الشكل الغريب ، حيث يذكرون أنَّه رحمه الله تعالى ارتقى المنبر عصراً بتان وروية ، ثم أرسل نظراته الثاقبة تجوس في الجموع المحيطة به ، والتي ران عليها الصمت والسكون وهي تحدق بمرجعها الكبير الذي لم يلبث أنْ شرع بحديثه معهم ، مطلقاً عباراته الدقيقة الحساسة ، والمنحدرة كالسيل الهادر من أعالي الجبال ، مبرهناً على خطأ وفساد هذه التصرُّفات الضارة التي أخذت تصطبغ بها ظاهرة الاحتجاج هذه ، وما يمكن أنْ تشكِّله من اثار سيئة مخالفة للموقف الواجب اتخاذه أمام هذه الاساءات المقصودة.

نعم ، ذكر المعاصرون الذين شاهدوا باعينهم تفاصيل هذه الواقعة : بان الشَّيخ كاشف الغطاء ما أنْ انفلت عن المنبر حتى عادت الحياة إلى مجراها الطبيعي ، وأُعيد فتح الأسواق ، واُزيلت مظاهر الاضطراب والفوضى من عموم المدينة وما جاورها ، وكانَّ شيئاً لم يكن ، وباءت تجارة المراهنين على تمزيق هذه الاُمة وبعثرتها بالكساد والخسران .




4 ـ موقفه من العادات المنحرفة :

لا تخلو جميع المجتمعات البشرية من وجود جملة متفاوتة من العادات الغريبة الشاذة والدخيلة التي يتشبَّث بها العوام ومعدومي الثقافة من أفراد تلك المجتمعات ، والتي قد تتحوَّل بمرور الأزمنة في أذهانهم إلى طقوس عبادية لا ينفك البعض منهم عن التعبُّد بها ، والذب عن حماها ، بما يمتلكه من قدرات وامكانيات ، وذلك أمر طالما كنّا ولا زلنا نعاينه في نقاط وبقاع مختلفة من هذه المعمورة.

وإذا كانت بعض تلك العادات لا تشكِّل بمجموعها أثراً سلبياً وضاراً بتلك المجتمعات المذكورة ، أو الاساءة إلى معتقداتها ، والتوهين بها ، فإنَّه لا غضاضة في غض النظر عن وجودها واستمرارية العمل بها ، بيد أنَّ الأمر إذا تحوَّل في حقيقته إلى ممارسات شاذة وسلبية ، وكثيرة الضرر بتلك المجتمعات وعقائدها ، فإن في التسامح عنها جفاءً للعقل والمنطق والفطرة ، واستسلاماً مردوداً قبال استشراء الجهل والتخلُّف .

هذا عند الحديث عن عموم المجتمعات البشرية ، والتي قد لا تحكم بعضها مُثُلٌ سماوية ، وعقائد الهية ، فكيف إذا تعلَّق الأمر بالمجتمعات الاسلامية التي يعمل الدين الاسلامي على تشذيب وتهذيب سلوكيات أفرادها ، واعدادهم لأنْ يكونوا عناصر خير وعطاء في هذه الأرض .

نعم ، إنَّ العقيدة الاسلامية المباركة التي استطاعت أنْ تخلق من المجتمع البدوي الجاهل في أرض الحجاز اُمَّة تخمل الخير والعطاء لكلِّ الشعوب الغارقة في الجهل والتخلَّف والانحراف ، تحمل في طيّاتها التنافر الصريح والحاد مع تلك العادات التي أشرنا اليها ، وهذا ما لا خلاف فيه ، إلا من المعاندين والمغالطين .

ثم فإنّا إذا أشرنا لما تصنَف في خانته بعض تلك العادات الشاذة والدخيلة ، فإنَّ البعض من المتعبِّدين بها جهلاً وعمداً يجرهم العناد والمكابرة إلى مواقف حادة سلبية من دعاة الاصلاح والتشذيب ، متوسِّلين بحجج واهية ساذجة قد تنطلي على بعض العوام الذين ربما يشتط بهم جهلهم إلى الاساءة والتوهين باولئك المصلحين من العلماء والمفكِّرين ، وهذا ما يدفع البعض إلى ان يناى بنفسه عنه رغم ما يعترم فيها من سخط وغيض.

ومن هنا فإنَ من الجلي الواضح أنَّ في التصدي لتلك العادات المتأصلة في تلك النفوس عملية تستلزم وقفة شجاعة وصريحة لا يمتلكها الكثيرون لما ذكرناه من نتائج متوقعة بما يمكن ان تشكِّله ردود الفعل من مخاطر المعارضة والتكفير والتسقيط التي لا بُدّ وأنْ تلجأ إليها تلك الفصائل التي انجرفت في ذلك التيار بحسن نية أو سوء قصد ، إلا انها ـ أي تلك الوقفة ـ ورغم كلِّ شيء فإنَها ـ وحقاً وصدقاً أقول ـ تورث صاحبها شرفاً عظيماً ، وفخراً كبيراً ، مع ما فيها من الأجر والمثوبة التي يدخرها الله تعالى له إلى يوم الحساب .

ولعلَّ من نِعَمِ الله تعالى على الشِّيعة أنْ لا يخلو علماؤهم من اُولئك الرجال الأفذاذ المتمسكين بالمنهج الحقيقي لأهل بيت العصمة عليهم الآف التحايا والسَّلام .

والحق يُقال : أنَ الشيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى كان نموذجاً واضحاً من أصحاب تلك المواقف العقائدية الشجاعة التي خلِّفت له الثناء والاطراء أبد الدهر.

فمن العادات السيئة والشاذة التي تفتَّقت عنها أذهان الجهلة ، وروَّجت لها العقول والنفوس الفاسدة ، وزمَّر لها أعداء الشِّيعة ، ونسبوها ظلماً اليها ، ما اعتاد بعض العوام على فعله آنذاك ، وبالتحديد في الأيام العشرة الأولى من شهر ربيع الأول من القيام بالكثير من التصرُّفات المنكرة المؤذية للناس ، والمشينة للدين ، وبشكل بغيض ممقوت متواصل تطبَّعت نفوسهم عليه ، وتشرَّبت به لتكرره طوال عشرات أو مئات السنين ، وكان الكثيرون من علماء الدين المخالفين والمعارضين لهذا المنهج المنحرف ـ في أثناء اقامة تلك الاحتفالات والمناسبات المختلفة ـ يتحاشون التصدي لمنع اُولئك الجهلة عن منكراتهم هذه للاسباب التي ذكرناها سالفاً ، رغم استيائهم البالغ ممّا تَشكِّله من اساءة بالغة للتشيُّع وأئمته ، فانبرى الشَّيخ كاشف الغطاء بشجاعة قلَّ نظيرها لمنع تكرر ايقاعها ـ رغم تحذير الكثيرين له من مغبة التصدي لها ـ وتحريم الاتيان بها ، وايضاح ضررها على التشيُّعِ ، وتوهينها بالمذهب بشكل صريح سافر يتصيَّده أعداؤهم ومبغضيهم ، فوفقه الله تعالى في مسعاه أيّما توفيق ، وانقاد الجميع لارادته ، وقُبِر الكثير من تلك العادات السيئة التي كانت كالبقعهّ السوداء في ثوب التشيُّع الأبيض الذي هو بريٌ منها ، ومتنزِّه عنها.



5 ـ لقاؤه مع الدكتور أحمد أمين :

لعلَّ من المحن الكبرى التي اُبتليت بها الشِّيعة وطوال حقب مترادفة من القرون ما انفكت تواجهه وتُنبز به من تهم وتقوُّلات بعيدة عن الصحة ، ومتغرّبة عن أرض الواقع ، اعتماداً من قِبل متقوِّليها على آراء جاهزة ، أو فهم سطحي لا يُعتد به ، أو غير ذلك من الأسباب والحجج التي لا تبرئ قائليها من تصنيفهم في خانة العاملين على تمزيق هذه الاُمة وبعثرة صفوفها ، وباساليب ومناهج مختلفة ، باطلة الدعوى ، سقيمة الحجة ، وذاك ما لا يخفى على الباحثين والمتتبعين ، وهذه كتب الشِّيعة لا يعسر على أحد مطالعتها وادراك حقيقة ما ذكرناه .

ولقد كان الدكتور أحمد أمين (57) ـ رغم مكانته العلمية التي عرف بها ـ عينة صادقة من تلك الحالات السلبية التي اُبتليت بها الشِّيعة ، وتصدَّت لابطالها .

فالدكتور المذكور ـ وذلك ممّا يؤسف له ـ قد تعرض وبشكل سافر غريب طعناً واساءة لعموم الشِّيعة وعقائدهم دون دليل علمي يرتكز عليه ، أو حجة واقعية يستند اليها ، فوقع نتيجة ذلك في المضيق ، وحمَّل نفسه ما لا تطيق ، وهذا ما تجده واضحاً عند مراجعتك لمقدمة كتابنا هذا .

وعموماً فانَّ هذا الدكتور ـ وبعد أنْ أطلق تقوُّلاته المذكورة ـ كان قد شدَّ الرحال نحو مدينة النجف الاشرف مع البعثة المصرية المؤلَّفة من بعض الأساتذة والباحثين ، وحيث ألقوا رحالهم فيها ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك عام ( 1349هـ ) واطَّلعوا عن كثب على المناهج العلمية الرصينة التي تدرَس في حوزتها ، والمكانة الرائعة والمهيبة لعلمائها وأساتذتها ، واستقرءوا عياناً الكثير من آراء الشِّيعة ومعتقداتهم ، بعد أنْ أمضوا ردحاً من الزمن وهم يتلقونها عن الوسطاء والغرباء ، من المستشرقين والمخالفين للشِّيعة ، ويسلّموا بصحتها دون مراجعة أو تفحُّص .

ومن ثمَّ فإنَّ تلك البعثة كان لا بُدَّ لها من أنْ تتشرَّف بلقاء الامام كاشف الغطاء رحمه الله تعالى ، وزيارة مدرسته العلمية ، ومكتبته الفخمة ، فكان لذلك عظيم الأثر في نفوسهم ، وحيث بوغتوا بما لم يتوقعوه ـ وذلك قصور فيهم لا في الاخرين ـ معلنين ذلك بصراحة لا مواربة فيها .

ولقد كان لقاء الدكتور أحمد أمين بالامام كاشف الغطاء رحمه الله تعالى برحمته الواسعة مليء بالجوانب العلمية الصريحة التي أفاضها في حديثه شيخنا المرحوم ، والتي دلَّت على عظم مكانته العلمية ، وقوة استحضاره ، وذكائه المفرط .

وقد أوردت مجلِّة العرفان في مجلدها الحادي والعشرين ، وفي الصفحة الثامنة بعد الثلاثمائة من جزئها الثالث منه جانباً من تلك المحاورة العلمية ، نوردها تاكيداً لمّا تقدَّم منّا ذكره :

قال سماحته ـ بعد ترحيبه بالوفد المصري ـ مخاطباً الدكتور أحمد أمين :

من العسير أنْ يلم بأحوال النجف وأوضاعها ـ وهي تلك المدينة العلمية المهمة ـ شخص لا يلبث فيها أكثر من سواد ليلة واحدة ، فإنَّي قد دخلت مصركم قبل عشرين سنة ، ومكثت فيها مدة ثلاثة أشهر متجوِّلاً في بلدانها ، باحثاً ومنقباً ، ثم فارقتها وأنا لا أعرف من أوضاعها شيئاً ، اللَّهم إلا قليل ضمنته أبياتاً أتذكَّر منها :


تـَبزغ ُ شَـمــس العلى وَلكنْ * مِنْ اُفقِها ذلك البــــزوغُ
ومثـلـما تـنـبــغ الـبرايا * كـذا لـبلدانــها نــبـوغ
أكـثـرُ شــيء يـَروجُ فيها * اللــهــو والزهو وَالـنـزوغ


فضحكوا من كلمة (النزوغ ) وقال الاستاذ أحمد أمين ـ مخاطباً الشَّيخ ـ : قلتم هذا قبل عشرين سنة ؟!

قال : نعم ، وقبل أنْ ينبغ ـ طه حسين ، ويبزغ سلامة موسى ، ويبزغ فجر الاسلام ، وقد ضمَّنتَه ـ مخاطباً أحمد أمين ـ من التلفيقات عن مذهب الشِّيعة ما لا يحسن بالباحث المؤرِّخ اتباعه .

فاجاب أحمد أمين : ولكنه ذنب الشِّيعة أنفسهم ، إذ لم يتصدوا إلى نشر حقيقة مذهبهم في الكتب والصحف ليطلع العالم عليه ! ! .

فقال الشَّيخ : هذا كسابقه ، فإنَ كتب الشَيعة مطبوعة ومبذولة أكثر من كتب أي مذهب اخر ، وبينها ما هو مطبوع في مصر ، وما هو مطبوع في سوريا ، عدا ما هو مطبوع في الهند ، وفارس ، والعراق ، وغيرها ، هذا فضلاً عما يلزم للمؤرِّخ من طلب الأشياء من مصادرها.

فقال أحمد أمين : حسناً ، سنجهد في أنْ نتدارك ما فات في الجزء الثاني ! ! .

ثم واصل أ حمد أمين قوله مخاطباً سماحة الشيخ كاشف الغطاء : هل يسمح لنا العلاّمة في بيان العلوم التي تقرأوها ؟

فاجاب الشَّيخ : هي علوم النحو ، والصرف ، والمعاني ، والبيان ، والمنطق ، والحكمة ، والكلام ، وأُصول الفقه ، وغيرها .

فقال أحمد أمين : ما هي كيفية التدريس عندكم ؟

فأجاب الشَّيخ : التدريس عندنا على قسمين :

1 ـ سطحي ، وهو أنْ يفتح التلميذ كتاباً من كتب العلوم المتقدِّمة بين يدي اُستاذه ، فيقرأ له هذا عبارة الكتاب ، ويفهمها التلميذ ، وقد يعلِّق عليها ويورد ويعترض ، ويشكل ويحل ، وغير ذلك ممّا يتعلَّق بها.

2 ـ خارج ، وذلك أنْ يحضر عدة تلاميذ بين يدي الاستاذ ، فيلقي عليهم الاستاذ محاضرة تخص العلم الذي اجتمعوا ليدرسوه ، ويكون هذا غالباً في علوم الفقه والاصول والحكمة والكلام ، مع ملاحظة أنَّ التلميذ بكلا القسمين يكون ذا حرية في ابداء آرائه واعتراضاته وغيرها .

فقال أحمد أمين : إنَّ البعثة تودُّ أنْ تسمع لبحثكم ، فهل أنتم فاعلون ؟

عندها لم يبد الشَّيخ اعتراضاً ، بل أجاب برحابة صدر طلب البعثة ، وارتقى المنبر ، فاجتمع حوله من حضر الجلسة من تلاميذه ، مشاركين الوفد في الاستماع لكلامه .

ولمّا كان الشَّيخ على غير سابقة عهد بالأمر ، وعلى غير تهيئة وتمهيد لنوع العلم الذي سيبحث فيه ، لذا تركوا له الحرية في اختيار العلم ، ومن أجل هذا يرى القارئ الكريم أنَّ البحث الاتي ذا فصلين : فقه وأصول ، وعقائد . وهو موافق لرغبة الوفد .

ومن ثم فقد ابتدأ سماحته خطبته مرتجلاً فقال :

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتيمِ إلا بِالَّتي هيَ أحْسَنُ )(58) .

تشتمل هذه الآية على عقدين : عقد سلب ، وعقد ايجاب ، أمّا عقد السلب( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتيمِ ) فهو من الأساليب القرآنية التي اخترعها وارتجلها في الاستعمالات العربية ، ولم تكن معروفة من ذي قبل .

وقد تكررت هذه الجملة في الكتاب الكريم ، فهي تارة : تتعلَّق بالأفعال مثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ )(59) وقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبيلاً )(60) وقوله تعالى : ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأنتمْ سُكارى )(61) ويكون المراد منها حينئذٍ على سبيل الاستعارة بالكناية : المبالغة في التحذير عن ارتكاب ذلك الفعل ـ الزنا ـ والصلاة مع السكر ، أو غير ذلك . . . وشبَّه اسم المعنى باسم العين فحذَّر من قربه ، فكيف بملاصقته أو الدخول فيه ! ! .

واُخرى : تتعلَّق بالأعيان ، مثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبا هذهِ الشَّجَرَةَ ) (62) وقوله تعالى : ( انَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ )(63).

ومن هذا القبيل آية العنوان التي هي من براعة الصنعة وابداع البيان بمكان ، وحيث أنَّ النهي لا يتعلَّق بالأعيان رأساً ، بل لا بدَ من توسيط فعل مقدَّر في البين يناسب تلك العين ، فإذا قيل : حرمت أُمهاتكم عليكم ، يعني : العقد عليهن ، وإذا قيل : حرمت الخمر ، يعني : شربها ، واذا قيل : حرِّم الميسر والقمار ، يعني : اللعب بهما ، وهكذا يُقدَر في كلِّ مكان ما يناسبه ، بل أظهر ما يتعلّق به من الأفعال التي تُطلب من تلك العين ، وممّا هي معدة له ، فلا يراد من قول (حرمت الخمر) حرمة كلِّ الأفعال التي يمكن أنْ تتعلَّق بها ، فيحرم لمسها أو النظر اليها أو التداوي بها وهكذا . . . كلا، بل ليس المراد إلا حرمة شربها .

وعليه فيكون المراد والمعنى بالآية التي في العنوان : لا تتصرفوا في مال اليتيم التصرُفات المطلوبة عند العقلاء من مال التجارة في بيع ، أو شراء ، أو صلح ، أو رهن ، أو ادانة ، أو غير ذلك .

والغرض أيضاً بهذا النحو من البيان شدة التحذير ، والنهي عن التصرُف في مال اليتيم ، وأنَّ قربه لا يجوز ، فكيف الوقوع فيه ؟!

وليس المراد النهي بوجه عام عن التقرب لمال اليتيم ، بحيث يكون المعنى والمقصود النهي عن المعاملة بمال اليتيم بوجه مطلق من رفع أو وضع أو فعل أو ترك إلا بالتي هي أحسن ، أمّا حيث لا تريدون التصرُّف فلا شيء عليكم ، وإنْ كان التصرف أحسن بخلافه على الوجه الثاني فان مفاده لزوم التصرُف بالأحسن يؤِّيد الحكم الضروري من حرمة التصرف بمال الغير مطلقاً صغيراً أو كبيراً بغير اذنه ، وليس هو المقصود أصالة بالبيان بالضرورة ،

وانَما المقصود عقد الايجاب ، وهو اعطاء الرخصة بالتصرُّف في مال اليتيم إذا كان في التصرُّف مصلحة ، فيكون مخصصاً لما دلَّ على عموم حرمة التصرُّف في مال الغير ، انَّما الكلام في مقدار تلك الرخصة وحدودها حسبما يستفاد من الآية ، فإنَّ محور البحث والنظر يدور من هذه الجهة على تشخيص المراد من لفظ ( الاحسن ) وهل هو من أفعال التفضيل نظير : الصلاة خير من النوم ؟ أو صفة مشبهة نظير : النوم خير من الله ؟ !

وعلى الأوَّل ، فهل المراد الأحسن بقول مطلق ؟ أي ما لا أحسن منه ، أو الأحسن نسبياً أي الأحسن من تركه وإنْ كان غيره أحسن منه ؟

وعلى الثاني ، فهل المراد منه ما اشتمل على مصلحة ؟ أو يكفي خلوِّه عن المفسدة ، بناءً على أنَّ كلَّ ما ليس بحرام فهو حسن ؟

ثم لما انتهى الكلام إلى هذا المقام طلب بعض الحضور تغيير الموضوع ونقل البحث إلى مسألة من المسائل الاعتقادية وأساسيات أُصول الدين ، فاوصل سماحته الكلام اقتضاباً من غير روية ولا تمهل ، ونقل البحث إلى مسألة الحاجة إلى الانبياء وضرورة البعثة فقال :

إنَّ النظر في عامة أحوال البشر يدل على أنَّ أوضح صفاته ، وألصقها فيه ، وأقدمها عهداً به ، هي الخلال الثلاث التي لا يجد عنه محيصاً ، ولا منها مناصاً ، مهما كان ، ألا وهي : الجهل ، والعجز ، والحاجة ، وهذه الصفات هي منبع شقائه ، وأصل بلائه ، وكلما توغَّل الانسان في العلم والمعرفة تطامن للاعتراف بما توصَّل اليه من العلم بعظيم جهله ، وأنَّ نسبة معلوماته إلى مجهولاته نسبة القطرة إلى المحيط ، وكان أكبر علمه جهله البسيط .

وقد سئل أفلاطون حين أشرف على الرحلة الأبدية عن الدنيا فقال : ما أقول في دار جئتها مضطراً ، وها أنا أخرج منها مكرهاً ، وقد عشت فيها
متحيِّراً ، ولم استفد فيها من علمي سوى أنني لا أعلم .

وقال سولون الحكيم : ليس من فضيلة العلم سوى علمي بانِّي لا أعلم .

ومن استقصى كلمات حكماء اليونان وغيرهم وجد لكلِّ واحد منهم مثل هذه الكلمات . والتشبُع بهذه الروح السارية إلى متضلع في الفضيلة ، متشبِّع بروح الفضيلة ، من علماء الاسلام وحكمائهم ، حتى قال الشافعي :

وَإذا ما ازدَدتُ عِلماً * زادَني عِلماً بِجَهلي

والرازي يقول :


نــهايةُ إدراكِ العُقولِ عتالُ * وَغايَة سَعي العالَمينَ ضلالُ
وَلَمْ نَستَفدْ مِنْ بَحثِنا طولَ عُمرِنا * سوى أن جَمعنا فيهِ قيلَ وقالوا


حين أنَّ علماء الغرب وكبار المخترعين الذين حورَّوا الدنيا إلى هذا الشكل العجيب يعترفون بعدم وصولهم إلى حقائق الأشياء ، فهم وإنْ اخترعوا الكهرباء لا يعرفون حقيقتها ، هذا فضلاً عن الروح والنفس والحياة ، وهذا مجال لا يأتى عليه الحصر.

فالانسان عريق بالجهل ، لصيق بالعجز والحاجة ، ولا شقاء ولا بلية إلا وهي منبعثة اليه من ذلك ، وعقول البشر بالضرورة غير كافية لرأب هذا الصدع ، ونأي هذا الثلم ، وسد هذا العوز ، فالعناية الأزلية التي أوجدت هذه الخليقة لو تركتها على هذه الصفة تكون قد أساءت اليها بايجادها ، وما احسنت الصنيع بنعمة الوجود عليها ، ولكان الاحرى لو تركتها في طوامر العدم ، وأطمار الفناء ، ويكون ذلك نقضاً للحكمة ، وافساداً للنعمة .

اذاً فلا بُدَّ من ايجاد رجال كاملين في أنفسهم ، مكمِّلين لغيرهم ، يكونون كحلقة الاتصال بين الخالق والمخلوق ، وهمزة الوصل بين العبد والربِّ ـ فإنَ السعادة منه واليه ـ وأولئك هم السفراء والأنبياء الذين بهم تتم الحجة ، وتستبين المحجة ، وحينئذٍ تكون سعادة كلِّ انسان وشقاؤه باختياره ، قال تعالى : ( وَهَدَيناهُ النجدَينِ ) (64) وقال : ( انّا هَدَيناهُ السَّبيلَ إمّا شاكِراً وَإمّا كَفُوراً )(65) وتكون حينئذٍ لله على الناس الحجة البالغة .

نعم ، وكل هذا موقوف على اثبات الصانع الحكيم ، المنزَّه عن العبث والظلم ، فضلاً عن الجهل والعجز.

وهناك أدلى الشَّيخ بالحجة ، وأملى اُصول البرهنة على وجود الاله تعالى الحق بعدة قواعد لا يساعدنا ضيق المجال لسردها وعدها تفصيلاً ، ولكن نكتفي بالاشارة اليها على وجه الاجمال :

1 ـ قاعدة : أنَّ ما بالعرض لا بدَ وأنْ ينتهي إلى ما بالذات .

2 ـ أنَّ معطي الشيء لا يكون فاقده.

3 ـ أنَّ الصدفة في النواميس الدائمة الكلِّية والأشياء المتكرِّرة مستحيلة .

4 ـ امكان الأشرف .

5 ـ قاعدة اللطف .

وأمثال ذلك من أُمهات قواعد الحكمة وأُصول الفلسفة الحقة .

ثم ارتأى في هذا المقام أنْ يختم البحث لضيق الوقت ، وهكذا كان .

وعندما نزل الشَّيخ من المنبر دارت بينه وبين أحمد أمين الأحاديث




الآتية :

سأله أحمد أمين : هل الاجتهاد عند الشِّيعة مطلق أو مقيَّد ؟

فاجابه الشيخ : الاجتهاد عندنا مطلق ، يستنبط كلًّ مجتهد الأحكام الشرعية من نفس الكتاب والسنَة ، غير مقيَّد بكلام مجتهد آخر مهما كان ، ولكن على أُصول وقواعد مقررة عند الجميع ، وهي القواعد التي يتكفَّل بها علم أُصول الفقه ، وهذه القواعد بعضها متفق عليه عند الجميع ، وبعضه أيضاً موضع نظر واختلاف ، فتكون اجتهادية أيضاً ، ولكلِّ مجتهد فيها رأيه الخاص الذي يبرهن ويبني عليه طريقة الاستنباط .

فقال أحمد أمين : ما هي الأدَّلة التي يبتني عليها الاجتهاد عندكم ؟

فرد عليه الشَّيخ : هي الكتاب ، والسنَّة ، ونعني بالسنَّة الأخبار الواردة عن المعصومين .

فقال أحمد أمين : هل هناك شيء يعارضها ويتقدَم عليها ؟

فقال الشَّيخ : كلا لا يعارضها شيء ، ولا نرفع اليد عن الخبر الصحيح المعتبر إلاّ إذا كان مصادماً لضرورة العقل الفطري ، كما لو ورد خبر بجواز شهادة مؤمن لأخيه المؤمن في دعوى يدَّعيها على الغير مع عدم علم الشاهد بتلك الدعوى ، وإنْ كان عالماً بان ذلك المدعي لا يدعي باطلاً ، فإنَّ مثل ذلك الخبر لا نعمل به مهما كان .

فقال أحمد أمين : هل يوجد تعارض في أخبار الأئمة ؟

فاجاب سماحة الشيخ : نعم .

فقال أحمد أمين : كيف يتناقض كلامهم مع أنَّكم تشترطون فيهم العصمة؟

فاجابه الشَّيخ : لا تناقض في الجوهر ، وإنَّما التناقض في الأخبار الواردة عنهم ، أو في ظواهر كلماتهم ، أمّا في الحقيقة لا تعارض ولا تناقض ، وإنَّما هو اختلاف في ظاهر الكلام ، كالاختلاف الذي يوجد في ظاهر الكتاب الشريف وهو القرآن العزيز ، قال تعالى : ( فَيَومَئذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلا جَانٌ )(66) وقال عز ُّشانه :( وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسؤولونَ )(67) ولكل وجهة خاصة .

وعلى الجملة : فحال السنَّة والأخبار كحال الكتاب الكريم ، فيه النص والظاهر ، والمجمل والمبيّن ، والمطلق والمقيد ، والعام والخاص ، والحكم الواقعي والحكم الظاهري ، والأحكام المؤقَّتة التي تقتضيها الأوقات والظروف والأحوال والحوادث الزمنيَّة ، وتقابلها الأحكام المؤبدة التي لا تتغير بتغير الأحوال وتبدل الزمان .

ووظيفة المجتهد الفقيه ـ البالغ تلك المرتبة السامية ، والملكة الراسخة ـ هي تمييز بعضها عن بعض ، والجمع بين متعارضاتها ، ورد بعضها إلى بعض ، واستخراج العلل والأسباب التي أوجبت ذلك التعارض ، واستنباط الحكم الصحيح حسب القواعد من مجموعها . أمّا التعارض والتناقض الواقعي حسب الحقيقة والجوهر فهو مستحيل عندنا بعد البناء على عصمة الأئمة .

فقال أحمد أمين : ما الدليل على عصمة الأئمة؟

فرد الشيخ : حكم العقل الضروري .

فهش واستبشر ، وكان طلب من الشَّيخ البيان والايضاح ، فقال سماحته : إنَّه بسيط جداً ، وأنا سائلك : ما الحكمة والغاية من ارسال الرسل ، وانزال الكتب ؟
فقال أحمد أمين : الهداية والارشاد والتهذيب .

فقال له الشَّيخ : اذن فهل يحصل الارشاد من شخص يقول : لا تكذب وهو يكذب ؟ ولا تشرب الخمر وهو يشرب الخمر؟ ولا تزن وهو يرتكب الزنا ؟

وهل يحصل الغرض ، وتتم الفائدة من الهداية من شخص يجوز عليه الغلط ، والغفلة ، والنسيان ، والاشتباه ؟ ! لا شك في أنَّ الجواب بالسلب .

واذا كان ارسال الرسل ، وبعث الانبياء واجباً بالحكمة حسب العناية الأزلية ، فالعصمة أشد لزوماً ، وأقوى وجوباً ، وإلا بطل الغرض ، وماتت الفائدة ، وانتقضت الحكمة .

فسأله أحمد أمين : ما الدليل على انفتاح باب الاجتهاد عندكم ؟

فاجابه الشيخ : وما الدليل على انسداده ؟ ! وأيَّة آية أو خبر تدل بالحجر على العقول ، والضغط علن الأفكار ، وسلب هذه الحرية الفكرية التي منحها الله تعالى لعباده ، وكانت من أفضل نعمه على خلقه ؟! .

غاية ما هناك أن الله سبحانه وتعالى رأفة بالعباد ، ورفعاً لمشقة الاجتهاد ، ورعاية لحفظ نظام الهيئة الاجتماعية ، ووجوب قيام كلِّ طائفة لشأن من الشؤون الضروَرية ، فتتوزع الأعمال ، و تتبادل المنافع ، لذلك كلِّه رفع وجوب الاجتهاد عن كلّ فرد من المكلَّفين ، وأطلق لهم السراح في ذلك ، فجعل وجوبه كفائياً ، وأجاز رجوع العامَّة إلى المجتهدين وتقليدهم في اُمور الدين . أمّا من أنفت نفسه ، وسمت همته عن حطة التقليد وخطة الاتِّباع ، وأراد أنْ يأخذ الحكم من دليله على قواعد الفن والصناعة ، فأيّ دليل على منعه وحجر ذلك عليه ؟! وهل نجد عاقلاً في الدنيا يمنع عن العلم ويأمر بالجهل ؟ وإنَّ مذهباً يكون هذا الحكم من دعائمه وقواعده أحرى بان يسمى مذهب الجهالة والتضليل ، ومن آراء العصور المظلمة ، وبقايا أديان الجاهلية والاستبداد ، هذا أمّا دين الاسلام فهو أرفع وأنصع من ذلك ، ولو لم يكن دليل على شرف مذهب الشِّيعة ، وصحة قواعده وأُصوله الا هذا لكفى .



6 ـ دوره في المؤتمر الاسلامي العالمي في القدس :

لقد كان ما اتسم به الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى من دور متميِّز بارز في الذود عن حياض الاسلام ، والدفاع عن حريمه ، سمة مشخَّصة لدى علماء المسلمين وزعمائهم ، حتى اصبح طوداً شامخاً في هذا المضمار ، وشخصت نحوه أبصار الجميع ، مع اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ، وتشكِّل أمزجتهم وميولهم .

ومن هنا فما أنْ تجسَّدت فكرة(68) عقد مؤتمر اسلامي عام في مدينة القدس الشريفة على أرض الواقع ، حتى بادرت لجنة المؤتمر إلى توجيه دعوة ملحة للشَّيخ رحمه الله تعالى للمشاركة في هذا المؤتمر الهام الذي تقرر أنْ تعقد جلساته الموزعة على أيامه العشرة ابتداءً من ليلة المعراج في 27 رجب عام 0 35 1 هـ ( 7 كانون الاول 1932 م ) وأنْ يكون هدف هذا اللقاء ـ كما ذكر ذلك الحاج أمين الحسيني لصحيفة السياسة القاهرية انذاك ـ هو : البحث في نشر أساليب التعاون الاسلامي ، ونشر الثقافة الاسلامية ، والدفاع عن البقاع المشرَّفة الاسلامية ، والعمل لوقاية الدين الاسلامي وصيانة عقائده من شوائب الالحاد ، وتأسيس جامعة اسلامية في بيت المقدس ، والنظر في قضية الخط الحديدي الحجازي .

وكان من الطبيعي أنْ يستجيب الشَّيخ لهذه الدعوة الملحة ، رغم ايمانه بأنْ ترجمة آمال المسلمين تكمن في صدق النوايا المقترنة بالأعمال الجادة العاملة على توحيد صفوفهم ، ونبذ خلافاتهم ، وتشخيص علَّة تفرُّقهم لمعالجتها ، لأنَّها هي الوسيلة الأنجع ، والسبيل الأقوم للنهوض بهذه الاُمة المبتلاة بهذا الداء الوبيل الذي بدأنا نرى ثماره واضحة وجلية في أيامنا هذه من التسابق المحموم من قِبل الكثير من الساسة المسلمين للصلح مع الكيان الصهيوني اللقيط ، ومد جسور العلاقة معه .

نعم ، لقد استجاب الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى لطلب مشاركته في ذلك المؤتمر ، فشد الرحال نحو مدينة القدس الشريفة ـ التي كانت ولا زالت تحتل في ضمائر وقلوب المسلمين الكثير من الحب والتقديس ـ في ليلة الأوَّل من شهر رجب ، حيث استقبل من قبل جميع العلماء المشاركين في ذلك المؤتمر ، يتقدمهم مفتي القدس الشيخ الحسيني ، وكذا أعيان ووجهاء فلسطين آنذاك .

والحق يقال : أنَّ تواجد الشيخ كاشف الغطاء في ذلك التجمع العظيم كان حافلاً ، ومؤثراً ، بل واستقطب أنظار الجميع بعلمه وبلاغته وغيرته على هذا الدين الحنيف ، فطلب منه في احدى الليالي المفتي الحسيني ، ومفتي نابلس الشيخ محمَّد تفاحة ـ وكان من أكبرعلماء فلسطين سناً ـ ومراقب المسجد الاقصى ، أنْ يرتقي المنبر بعد صلاة المغرب لالقاء خطبة في الحاضرين الذين بلغ عددهم سبعين الفاً امتدت صفوفهم حتى خارج المسجد الاقصى .

ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا جزمنا بانَّ هيبة هذا المؤتمر ، وحساسية ظروفه ، لا بُدَّ أنْ تدفع بالكثيرين إلى الاعتذار والتنصُّل عن القيام بهذا الأمر اذا فوجئوا به على حين غرة ودون استعداد ، كما فوجئ بذلك الشيخ رحمه الله تعالى ، وبوغت به ، وكان بديهياً أنْ يعتذر عن ذلك لما يمكن أن يشكِّله من حرج يقدح بشخصيته ومكانته ، كما سجَّل لنا التأريخ في صفحاته المطوية عن مواقف مشابهة للعديد من الشخصيات المعروفة التي حصرت فوق المنابر فلم تنبس بشفة ، أو لم تتمكَّن من تركيب جملة مفيدة واحدة .

نعم لقد فوجئ الشَّيخ رحمه الله تعالى بهذا الطلب المتعجِّل ، بيد أنه وأمام الحاح مضيفيه لم يجد بداً من الامتثال لرجائهم ، والاستجابة لرغبتهم بما عُرف عنه من أخلاق رفيعة وأدب جم ، فارتقى المنبر ـ أمام أعين الحاضرين التي شخصت نحوه ، وتعلَّقت به ، وأصاخت لكلماته بسمعها ـ بسكينة ووقار ، وافتتح خطبته بقوله تعالى ( سسبحان الذي أسرى بعَبْدِهِ لَيلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرام إلى المَسْجِدِ الأقصى الذي باركنا حَوَلهُ )(69) واسترسل في الحديث حول تلكَ البركة وأنواعها بشرح وافٍ ، بيان ساحر ، مشيراً إلى أنَّ انعقاد مثل هذا المؤتمر هو شكل من أشكال تلك البركة بقوله : ومنها هذا الاجتماع الخطير من الجم الغفير ، من مختلف الأقطار النائية ، والذي لم يخطر على البال ، ولم يقع في التصوُّر ، واستوفى ما هو الغرض منه ، وما الهدف الذي يرمي اليه ، والآثار المترتِّبة عليه . . . إلى آخره .

وبعد أنْ أنهى خطبته ـ التي سحرت المستمعين بحلاوة ألفاظها ، وسلاسة عباراتها ، وجزالة كلماتها ـ طلبت منه لجنة المؤتمر وأكابر الموجودين أنْ يأتموا به في صلاة العشاء حيث صوِّب ذلك بالأكثرية ، فاستجاب لهم ، واقتدت به الالوف من الصفوف في حدث عظيم قل نظيره .

كما أنَّ للشِّيخ كاشف الغطاء في أيام انعقاد المؤتمر مشاركات واسعة ، وخطب بليغة ، ولقاءات متعددة تركت في أذهان الجميع ذكريات شجية عن شخصية فذة عاصروها من علماء الشِّيعة الكبار.





7 ـ موقفه من نوادي التبشير :

إنَ استقراء ودراسة الدور الذي لعبته وتلعبه نواديَ التبشير المبثوثة في نقاط مختلفة من الأراضي الاسلامية يبيِّن بوضوح البعد التخريبي والخبيث الذي تلجأ اليه هذه النوادي في سعيها المحموم من أجل نشر وترويج أفكارها وعقائدها المنحرفة والمردودة عقلاً .

نعم إنَّ الحوار العلمي يشكَل قاعدة سليمة يمكن من خلالها الرسو على مبدأ صحيح يسلَّم بصوابه واحقانيته العقلاء ، بيد أنَّ ما تلجأ اليه هذه النوادي ـ التي تحركها أصابع ونوايا معلومة للجميع ـ لا يمكن أنْ نصنِّفه ضمن هذه الاعتبارات الصحيحة ، لاعتمادها على أساليب الكذب والافتراء والخداع ، وهذا ما حاول ويحاول مفكرو المسلمين ايضاحه وكشف أبعاده .

ولعل الثابت المتفق اليه ترادف انشاء تلك النوادي مع الغزو الاستعماري الذي تقوم به الجيوش الأجنبية ـ المنتسبة لها تلك النوادي ـ لتلك الدول المبتلاة بها ، من خلال انتهازها لظروف التخلُّف والفقر القاهرة ، والتي نجدها عياناً في كثير من الدول الآسيوية والافريقية النامية .

واعتماداً على صحة هذا التصوُّر ، فقد كانت العديد من الدول العربية المسلمة ـ ابان خضوعها للاحتلال الاوربي المقيت ـ أرضاً مشرعة الأبواب أمام تلك النوادي التي ألقت فيها رحالها واستقرت .

بيد أنَ هذا الظرف المؤقت لم يكن مواتياً تماماً لرواد هذه الدعوات التبشيرية ، حيث كان يتصدى لدعاواهم هذه ـ رغم ما تتمتع به هذه النوادي من حصانات واسعة المدى ـ جملة من العلماء والمفكِّرين الذين أغاضتهم حالات الدجل والافتراء التي تعتمدها وسائل تلك النوادي في تسريب أفكارها ، بعيداً عن المنطق والحجة الصحيحة .

ولعلَّ شيخنا كاشف الغطاء رحمه الله تعالى كان واحداً من اولئك الأعلام الذين تنبهوا لمدى انحراف دعوات مروجي تلك الافكار ، وخطرها على المجتمعات الاسلامية .

ولمّا كانت مصر ـ تلك الدولة المسلمة التي تحتل في قلوب المسلمين مكانة متميِّزة ـ مرتعاً خصباً لتلك النوادي ابان تلك الحقبة السالفة ، وذلك ما كان يغيض قلوب المصلحين من علماء ومفكري المسلمين ، فكان الشَّيخ كاشف الغطاء يستغل تواجده في هذا البلد ليتعرض بالرد ، وتفنيد دعاوى خطباء تلك النوادي .

ولقد كان يروى عنه رحمه الله تعالى أنَه كان ينحدر صوب أكبر تلك النوادي بجرأة وشجاعة ويتصدى لمقاطعة الخطيب الذي لا ينفك عن الكذب والافتراء والطعن بعقائد المسلمين دون دليل أو حجة .

حتى أنَّه في احدى المرات لم يدع لذلك الخطيب (70) فرصة لمواصلة تقولاته وافتراءاته دون أنْ يجبهه برد يربكه ويلعثمه ، فلم يجد قسيسهم الأكبر مناصاً من التوسُّل به للتوقف عن ذلك مقابل السماح له بالتحذُث بعد من على منصة الخطابة ، فرضي بذلك رحمه الله تعالى ، ووجدها فرصة سانحة لابداء الحق أمام هذا الملأ ، وإعلاء كلمته .

وبعد انتهاء خطيبهم من هذره الممجوج تقدَم الشيخ رحمه الله تعالى نحو منصة الخطابة ، وشرع في خطبة رائعة مؤيَدة بالأدلة العلمية المتينة ، مثبتاً من خلالها بطلان دعاوى هذا الخطيب ، وكذب ما افتراه على القرآن وعلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى الاسلام ، ومتعرِّضاً من خلالها الى تفنيد العقيدة التي يدعو لها لابتنائها على أمرين : أحدهما مستحيل عقلاً ، وهو التثليث ، وثانيهما مخالفته للعقل والمنطق من خلال التسليم لخرافة لا تستسيغها أبسط العقول ، وهي الاعتقاد بأنَ الاله قد سلَّط عباده الأشقياء على نفسه فصلبوه ليكفِّر خطيئة أبيهم آدم ! وخطيئة بني ادم ! وليصير بعد ذلك ملعوناً لأنَّه قال : ملعون كل من يُصلب على الخشبة ، كما هو منصوص في أناجيلهم ! !

ثم استفاض رحمه الله تعالى في ذكر تناقضات الأناجيل ، وما فيها من الخرافات والمهازل ، والتي أشار إلى بعض منها في كتاب التوضيح في ما هو الانجيل ، ومن هو المسيح عليه السلام.

ولمّا وجد اولئك المبشِّرون أنَّ الشيخ رحمه الله تعالى قد اتى على كلِّ دعاواهم فأبطلها ، وكل تقولاتهم ففنَدها ، أصابهم الارتباك ، وانتابهم هوس واضطراب ، وهم يتأملون بحنق وغيظ استرسال هذا الشيخ الجريء في حلِّ عرى أكاذيبهم واحدة بعد الأخرى بمهارة وتمرُس عجيبين ، مستلباً حواس وعقول الجالسين الذين تعلَّقت أنظارهم به ، وشخصت نحوه ، فلم يجدوا بداً من الاشارة اليه بالتوقف عن خطبته وترك المنصة ، فلم يعرهم رحمه الله تعالى اهتماماً ، وواصل خطبته ، والجموع اليه مصيخة مذعنة .

عندها انفلت الشر من عقاله في تلك النفوس الفاسدة ، وتآمروا على المكيدة بالشًيخ رحمه الله تعالى وقتله ، فبادروا إلى اطفاء الأنوار ، وإثارة الفوضى في المجلس بعد أنْ اندفع جماعة منهم نحو منصة الخطابة لتصفية الشيخ وتدارك الأمر قبل استفحاله ، إلأ أنَ ارادة البارئ جل اسمه كانت فوق كيدهم ، فانسل الشًيخ بهدوء مندفعاً نحو الخارج تاركاً اياهم في اضطرابهم يتخبطون .

نعم ، لقد بقىِ هذا الموقف الشجاع للشيخ كاشف الغطاء وسام شرف يحق لجميع المسلمين التفاخر به ، بجميع مذاهبهم ومشاربهم ، لأنَّه يمثل الغيرة الصادقة على هذا الدين الذي يحاول أعداؤه متشبثين تمزيق أوصاله ، وبعثرة أشلائه ، بجد واجتهاد ، حين يقف البعض متفرجاً دون أنْ يبدي أي رد فعل أو اعتراض ، ناهيك بمن أمسوا على هذا الدين وأهله أشد كَلَباً من أعدائه ومبغضيه.




8 ـ الشَّيخ كاشف الغطاء والتقريب :

لعلَّه لم يعد خافياً علن أحد أنَ سر محنة هذه الأمّة ، ومصدر كلِّ بلائها يكمن في تكريس حالة التشتت والتمزِّق التي تُفرض عليها من قِبل المراهنين على جراحها وآلامها ، والتي تطفح في أحيان عديدة على جسدها أوراماً تنزف دماً وقيحاً تقشعر له جلود المخلصين من هذه الاُمة ومحبيها .

نعم إنَّ ما نعاينه من اختلاف يعمد البعض في قواميسه إلى وسمه بانه حالة اختلاف وتباين حادة ، لا يمكن بأي حال من الأحوال التسليم قطعاً بصحته ، ولا الاقرار بصوابه ، رغم تهويله والمبالغة به من قِبل ذلك البعض ، لأنَّه يحمل في طياته جذور المخالفة القطعية للمنطق والصواب ، والجفاء الحاد عن الحقيقة التي لا يعسر على الباحثين اداركها وتلمسها .

إن حالات الالتقاء والتقارب الثابتة بين المذاهب الاسلامية المختلفة ، والتي اشرنا اليها سابقاً هي من الحد الذي يجد المرء قباله تلاشي الفواصل الوهمية التي ما تنفك بعض الجهات الفاسدة والمنحرفة من العمل الدؤوب سعياً وراء توسيعها وتضخيمها ، بحجج وذرائع مختلفة .

وحقاً أقول : إنَّ ادراك حقيقة هذا الأمر ببعديه الايجابي والسلبي اللذين ذكرناهما هو ما يستحث بالمخلصين من علماء ومفكري هذه الاُمة السعي الجاد لرأب ذلك الصدع ، ولَم ذلك الشتات ، رغم صعوبة المخاض ، وعسر الخطب ، كنتيجة منطقية لتقادم السنين ، وترسُب العديد من الاعتقادات النفسية السلبية الظن بالاخرين ، والبعيدة كلّ البعد عن أرض الواقع ، وحقيقة العقائد التي تحاول الانتساب اليها .

ولقد شهدت الشعوب الاسلامية ـ وطوال حقب مترادفة ـ نماذج صادقة من تلك الجهود والنوايا الصادقة ، التي تشكل اُمنية عظيمة سامية تتعلَق بها قلوب جميعِ المخلصين من رجال الأمّة ، لعلماء ومفكرين وباحثين أنفقوا شطراً كبيراَ من حياتهم سعياً وجهداً دائبين في هذا الميدان المقدس والعظيم .

والحق يقال : إنَ شيخنا كاشف الغطاء رحمه الله تعالى برحمته الواسعة كان من كبار رواد هذا الميدان المبارك من خلال سعيه الدؤوب المتواصل في التقريب بين المذاهب الاسلامية ، من خلال مؤلَفاته ، وخطبه ، ومذكراته ، ومواقفه المتكررة الموشية ، بحالة القلق والتوجس المرير الذي ينتابه من استمرار حالة الاُمة على ما هي عليه من الاختلاف والتنافر والتقاطع رغم شدة التقارب ووضوحه بين مذاهبها(71) ؟
ولا اُغالي إذا ذهبت إلى القول بانَّ حياة الامام كاشف الغطاء كانت موقوفة في اقامة صرح الوحدة الاسلامية المباركة ، ونبذ الاختلاف ، والالتفات إلى ما يحيط بهذه الاُمة من أخطار جسيمة ، وما يدبره لها اعداؤها من مكائد ودسائس ومؤامرات ، وباشكال ومسارب مختلفة ، يصطبغ بعضها بالوان باهتة يراد منها خداع السطحيين والساذجين من رجال هذه الأمَّة ، وجرهم إلى المزيد من المواجهة والاقتتال في ميادين وسخة غير نزيهة ، حين ينخر اعداؤهم ذلك البنيان العظيم الذي وضع لبناته الأولى نبي الرحمة محمَّد بن عبدالله صلّى الله عليه وآله ، وشاد صرحه الصادقون من رجال هذا الدين والذين يتقدمهم أهل بيت العصمة عليهم السَّلام.

بيد ان البعض ـ وذلك غير خاف على أحد ـ لم يكن تروقه تلك الدعوات الصادقة الصادرة من القلب ، والمرتكزة على قواعد الاسلام الحنيف ، حيث كان يعمل بمعاول الهدم في ذلك البنيان المقدس ، وباسم الدفاع عن الاسلام ! والذود عن حريمه ! وما ذلك إلا عين النفاق ومرآة الانحراف(72) .
نعم ، ورغم كل ذلك فإنَّ استقراء السيرة الذاتية لشيخنا رحمه الله تعالى يبين بوضوح جده واجتهاده في مواصلة هذا المسير المقدس والشاق
رغم ما كان يلقاه من صدود ولا مبالاة من قِبل الكثيرين ، ذلك ما كان يؤلمه أشد الايلام ، حتى لقد قال في احدى كلماته : ولا لوم على مثلي لو تشائم واستولى عليه اليأس والقنوط بعد تلك الخطب الفياضة الملتهبة التي ألقيتها على الجماهير المكتظة في عواصم الاسلام : كالقدس ، وبيروت ، ودمشق ، وجامع البصرة ، ومسجد الكوفة ، وبغداد ، والتي طبع غير واحد منها ، كخطبة القدس التاريخية ، وخطبة الاتحاد والاقتصاد ، والخطب الاربع ، وغير ذلك .

ألقينا كلَّ هذه وأضعافها شعلة ملتهبة في حث المسلمين والعرب على الوحدة والاخلاص ، وما يلزم عليهم لجمع شتاتهم ، واستعادة مجدهم ، وقلنا كلمتنا المشهورة : إنَّ الاسلام يرتكز على دعامتين : كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة ، وذكرنا كيف ينبغي أنْ يتحد المسلمون في مقدمة رسالتنا ( أصل الشيعة ) وأنَّ كلَّ ذلك ذهب مع الريح ، فكانَ الحوار كان مع جدار ، أو كأنَّما كنّا نخطب على أصنام وأحجار ، وإلا فاين الآثار(73) .. . ؟ !

ومن ثم فإنَّ المرء عندما يتأمَّل في هذه العبارات الملتاعة يدرك مدى تمكًّن حرص صاحبها على وحدة المسلمين في قلبه ، وسريانه في شرايينه وأوردته .. . ولا غرابة في ذلك فلقد عهد منه المسلمون المعاصرون له تلك الرغبة المخلصة والصادقة في سلوكه وقوله ، وقد تقدَّم منّا الحديث عن بعض ذلك ، فراجع .

وللحقيقة أقول : إنَّ دراسة دور الشَّيخ كاشف الغطاء في عملية التقريب بين المذاهب الاسلامية تستلزم الكثير من الاستقراء العلمي الرصين والمتأنِّي لجملة مؤلَّفاته ، وكلماته ، وخطبه ، ورحلاته ، وغير ذلك ، وذلك ما لا يسعنا خوض غماره في هذه العجالة ، ومن خلال هذا المدى المحدود . فالتاريخ المعاصر قد سجَّل لنا الكثير من الاشارات ذات الدلالات الواضحة في سعيه نحو التقريب ، والتي تتطلَّب من العاملين في هذا الميدان المقدس دراستها بشكل علمي رصين ، وعرضها كاطروحة متقدِّمة تبين للاجيال القادمة حرص العديد من علماء الشِّيعة على توحيد الكلمة ، ورص الصفوف .

ولعلَّ من المواقف الملفتة للنظر في هذا المنحى العظيم ما لجأ اليه الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى برحمته الواسعه أثناء احدى سفراته التي القى فيها رحاله في أرض مصر المسلمة ، حيث واظب على حضور مجلس درس شيخ الجامع الأزهر آنذاك وهو الشَّيخ سليم البشري (74) رحمه الله تعالى لمدة ثلاثة اشهر ، وكذا مفتي الحقانية الشيخ محمَّد بخيت المطيعي ، الذي يقول عنه سماحته : لم أجد في مصر عالماً محقِّقاً مثله ، يباحث اُصول الفقه عصراً في جامع رأس سيدنا الحسين عليه السَّلام ، والتفسير بين المغرب والعشاء في الأزهر ، وله مؤلَّفات كثيرة طُبع أكثرها .
نعم ، وفي الجانب الآخر فقد كان الشَّيخ يرى وهو يباحث للكثير من طلبة الأزهر وغيرهم في الفقه الشِّيعي مرة ، وفي الفصاحة والبلاغة مرة أُخرى ، بشكل استقطب أنظار الجميع ، وحاز اعجابهم واحترامهم .

وأخيراً اكرر وأقول : إن دور الشيخ كاشف الغطاء في التقريب هو أوسع من أنْ تحتويه وريقات محدودة ، أو تستوفيه دراسة متعجِّلة ، ونحن لم نتعرض لها هنا بوضوح قدر ما أردنا منها اشارة عابرة ، ولمحة خاطفة ، سائلين المولى جلَّ اسمه أنْ يوفقنا لاستيفاء حق هذا الأمر في دراسة مستقلة وافية ، إنَّه الموفق لكلِّ خير.



مؤلَّفاته :
لا نغالي بشيء إذا قلنا بأنَ للعديد من علماء هذه الطائفة باعاً كبيراً ، ويداً طولى في البحث والتأليف ، والتجديد والابداع ، متخطِّين الحدود التقليدية التي بقي البعض يدور في خللها ، ويقتات من فتاتها ، فيبتدأ وينتهي حيث ما ابتدأ منه .

وإذا حفظت لنا صفحات التأريخ اسماء العديد من اولئك الأعلام البارعين المبدعين امثال الشَّيخ المفيد والشَّيخ الصدوق والشَّيخ الطوسي والعلاّمة الحلي رحمهم الله برحمته الواسعة ، وكذا غيرهم من العلماء الأفذاذ ، فإنَّ من حقِّ ذلك التأريخ أنْ يُزين صفحاته تلك بذكر سيرة ومؤلَّفات عالم فذ شهد قرننا الحالي ابداعاته ونتاجاته المتعددة المشارب والأشكال .

نعم لقد أبدع يراع الامام كاشف الغطاء رحمه الله تعالى في اغناء المكتبة الاسلامية بالجم الكثير من المؤلَّفات القيَّمة ، والبحوث الرائعة في شتى العلوم والمعارف الاسلامية المختلفة ، بشكل قلَّ نظيره ، وتضاءل مثاله.

وسنحاول من خلال هذه الأسطر استعراض ما أمكننا حصره من مؤلَّفاته تلك ، بأبوابها وعلومها المختلفة ، المطبوعة منها والمخطوطة ، دون اسهاب أو تفصيل .

1 ـ في الحكمة والكلام :

أ ـ الدين والاسلام : ( أربعة أجزاء ، طُبع منها جزءان ) .

ب ـ المراجعات الريحانية ( جزءان ) .

ت ـ أصل الشِّيعة واُصولها ( وهو الكتاب الماثل بين يدي القارئ الكريم ) .

ث ـ الفردوس الأعلى .

ج ـ الآيات البينات .

ح ـ جنة الماوى.

خ ـ التوضيح ( جزءان ، وقد تقدَمت الاشارة اليه ) .

د ـ مبادئ الايمان في الدروس الدينية .

ذ ـ نبذة من السياسة الحسينية .

ر ـ حاشية على كتاب الأسفار لملا صدر الدين رحمه الله تعالى ( مخطوط ).

ز ـ حاشية على العرشية ورسالة الوجود لملا صدر الدين رحمه الله تعالى أيضاً ( مخطوط ) .

ص ـ حاشية على رسالة الوجود لصدر المتالّهين رحمه الله تعالى أيضاً ( مخطوط ).


2 ـ في السياسة والموعظة :

أ ـ المُثل العليا في الاسلام لا في بحمدون ( اشرنا اليه سابقاً، فراجع ).

ب ـ المحاورة بين سفيرين .

ت ـ الميثاق العربي الوطني .

ث ـ خطبة الاتحاد والاقتصاد في الكوفة .

ج ـ الخطبة التاريخية في القدس .

ح ـ الخطب الأربع .
خ ـ خطبته في باكستان .





3 ـ في الفقه وأصوله :

أ ـ حاشية على كتاب التبصرة للعلاّمة الحلّي رحمه الله تعالى.

ب ـ المسائل القندهارية ( فارسي تُرجم إلى العربية وأُلحق بكتاب الفردوس الاعلى ) .

ت ـ سؤال وجواب .

ث ـ وجيزة الأحكام .

ج ـ زاد المقلِّدين ( فارسي ) .

ح ـ الأرض والتربة الحسينية .

خ ـ حاشية على سفينة النجاة لأخيه الشيخ الفقيه أحمد كاشف الغطاء رحمه الله تعالى .

د ـ حاشية على كتاب العروة الوثقى للسيِّد محمَّد كاظم اليزدي رحمه اللهّ تعالى .

ذ ـ مناسك الحج ( عربي وفارسي ) .

س ـ تحرير المجلة ( خمسة أجزاء ، فقه مقارن ) .

ش ـ حاشية على مجمع الرسائل ( فارسي مطبوع مع حواشي السيِّد البروجردي رحمه الله تعالى ) .

ر ـ شرح العروة الوثقى ( خمسة مجلدات ، مخطوط ) .

ز ـ تنقيح الأصول ( مخطوط ) .

س ـ رسالة في الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ( مخطوط ).

ش ـ حاشية على مكاسب الشَّيخ مرتضى ـ الأنصاري رحمه الله تعالى ( مخطوط ).

ص ـ حاشية على القوانين ( مخطوط ) .

ض ـ مجموعة الفتاوى ( مخطوط ) .

ط ـ حاشية على الكفاية للآخوند الخراساني رحمه تعالى ( مخطوط ) .

ظ ـ رسالة في الاجتهاد والتقليد ( مخطوط ) .

ع ـ حاشية على رسائل الشَّيخ الأنصاري رحمه الله تعالى ( مخطوط ) .

4 ـ في الأدب والتفسير وغيرهما ( وأكثرها لا زال مخطوطاً ) :

أ ـ مغني الغواني عن الأغاني ( مختصر كتاب الأغاني ).

ب ـ نزهة السمر ونهزة السفر ( عن رحلته الأولى إلى سوريا ومصر ) .

ت ـ ديوان شعره الذي أسماه : الشعر الحسن من شعر الحسين .

ث ـ تعليقات على أمالي السيِّد المرتضى رحمه الله تعالى .

ج ـ تعليقات على كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة .

ح ـ مجموعتان من المنتخبات الشِّعرية .

خ ـ منتخبات من الشعر القديم .

د ـ عقود حياتي ( ترجمة حياة المؤلِّف بقلمه ) .

ذ ـ صحائف الأبرار في وظائف الأسحار.

ر ـ جنَّة الماوى .

ز ـ رسالة عن الاجتهاد عند الشِّيعة .

س ـ تعليقات على كتاب الوجيز في تفسير القرآن العزيز.

ش ـ تعليقات على نهج البلاغة ، ونقود على بعض شروحات الشَّيخ محمَّد عبده له .

ص ـ تعليق على كتاب الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين .

ض ـ تعريب كتاب فارسي هيئة .

ط ـ تعريب كتاب حجة الشهادة .

ظ ـ تعريب وتلخيص رحلة ناصر خسرو المشهورة .

ع ـ كتاب في استشهاد الامام الحسين عليه السلام .

غ ـ العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية ، في تاريخ عائلة ال كاشف الغطاء ، وعلماء النجف ، وتاريخها الحديث.

هذا عدا ما كان ينشره في الصحف والمجلات من المقالات والمباحث المختلفة التي يصعب حصرها .
وفاته :

اُصيب الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى في أواخر سني عمره الشَّريف بمرض عجز انذاك الأطباء عن ايجاد العلاج له ، وخصوصاً في عمره الذي تجاوز السبعين عاماً ، وهو التهاب المجاري البولية ، فانتقل إلى مدينة بغداد للمعالجة في مستشفى الكرخ الذي يشرف فيه على علاجه حذّاق الأطباء ، وكبار المتخصِّصين ، بيد أنَّ ادنى تحسُّن لم يطرأ على حالته الصحية التي بدت وكأنَّها تسوء يوماً بعد يوم .

وبعد اقامة قاربت من الشهر الواحد في تلك المستشفى ، شد الشَّيخ رحاله للاستجمام في قرية كرندا الجبلية الواقعة في الأراضي الايرانية الحدودية ، بين خانقين وكرمانشاه ـ وكان رحمه الله تعالى قد حلَّ فيها مصطافاً في صيف عام (1366هـ ) ـ ولكن المنية عاجلته فيها ، فتوفي بعد صلاة الفجر من يوم الاثنين الثامن عشر من شهر ذي القعدة عام (1373 هـ) الموافق لليوم التاسع عشر من شهر تموز عام (1954 م ) .

وكان يوم وفاته رحمه الله تعالى يوماً مشهوداً ، حيثما ما أنْ اُشيع خبر وفاته ـ الذي تناقلته محطات الاذاعة في معظم انحاء العالم ـ حتى انهالت جموع الناس المفجوعين من انحاء ايران نحو تلك القرية الصغيرة التي غصت بجموع المعزِّين الوافدين اليها على حين غرة .

ولم يلبث الجثمان الطاهر للشَّيخ كاشف الغطاء أنْ حُمل صوب الأراض العراقية عبر حدودها التي تقاطر عليها الكثير من الناس بشتى طبقاتهم ، يتقدمهم العديد من كبار رجال الدولة آنذاك .

فحُمل جثمانه رحمه الله تعالى نحو مدينة بغداد ، ومنها إلى مدينة الكاظمية المقدسة ، فمدينة كربلاء المقدسة ، لينتهى به في مدينة النجف الأشرف ، وبالتحديد في بقعة وادي السلام ، حيث مقبرته الخاصة التي أعدها بنفسه لأن تكون محطته الأخيرة في هذه الدنيا الفانية . . . رحمه الله تعالى برحمته الواسعة ، وأسكنه فسيح جنّاته ، وجزاه عن جميع المسلمين أفضل وأحسن الجزاء ، انه نعم المولى ونعم النصير(75).


عملنا في هذا الكتاب :

لم تكن تجاربي السّابقة في الكتابة والتحقيق ـ رغم بساطتها وقلَّة شأنها ـ لتمنحني ذلك الشعور باللذة والتفاعل والاندفاع والحرص على تقديم الأفضل ـ شغفاً بالكتاب ، واعتزازاً وتقديراً له ولمؤلِّفه ، لا بحثاً عن الاشادة والتقدير ـ قدر ما كان يرافقني ذلك طيلة الأشهر المتواصلة التي امتد على طولها عملي في تحقيق هذا الكتاب .

وحقاً أقول : إنَّ المرء لتنتابه الغبطة العارمة ، والسعادة البالغة وهو يجد عياناً جهوده التي أنفقها في انجاز عمل ما تتجسد بشكل واضح على أرض الواقع والحقيقة ، بعد فترة طويلة من الترقُّب والانتظار ، والمتابعة والسعي ، وهو سمة ثابتة يتفق في تحسسها جميع المؤلِّفين والمحققين في كلَ مكان وزمان ، بيد أنَ تلك الغبطة والمسرة تكون أشد وأكثر حدة وتصاعداً في الأعمال التي يتفاعل معها المرء تفاعلاً روحياً ، وينشد اليها انشداداً نفسياً ، فتبدو في ناظره أمنية عزيزة ، ورغبة غالية ، وذلك هو عين تعاملي مع هذا السفر الجليل الماثل بين يدي القارئ الكريم .

نعم ، فعندما شرعت بتحقيق هذا الكتاب حاولت قدر الامكان ـ بعد التّوكُّل على الله تعالى والاستعانة به ـ اخراج هذا الكتاب بالحلَّة التي ينبغي أنْ يتشح بها ، والتي ينبغي أنْ تتناسب وأهميته ، وشهرته التي طبق صيتها الآفاق ، لادراكي بأنَّ هذا الكتاب لا يصنَّف قطعاً ضمن المؤلَفات التي تُقتنى لتزيَّن بها المكتبات من قِبل البعض فحسب ، بل إنَّ له وجوداً يفرض على الجميع مطالعته وقراءته ، من شيعي مستزيد وهبه الله تعالى حرصاً على البحث والمطالعة ، الى آخر لا يدري ما التشيُّع وما الشِّيعة ، وبين الاثنين تندرج جماعات متفاوتة المذاهب والمشارب .
ولا اُخفي على القارئ الكريم بأنَّ النسخ المطبوعة المتداولة لهذا الكتاب ، والتي بلغت طبعاتها العشرات ـ وأخص منها العربية التي أمكنني مطالعتها ، ونتيجة سعي الكثير من دور النشر للحصول على الربح المادي دون الاعتناء بمادة الكتاب ، وذلك أمر شائع ومعروف ـ وجدتها مليئة بالأخطاء والتصحيفات والسقوطات المخلَّة بشكل بيَّن بمادة الكتاب ، وبأهميته ، والتي كان يزيدها سوءاً اعتماد بعض الدور في اعادة طبعها لهذا الكتاب على تلك النسخ المغلوطة ، فتتكرر الأخطاء وتتضاعف ، وتتعاظم الحاجة وتتأكَّد في وجوب تحقيق هذا الكتاب وضبط متنه .

ومن هنا فقد كان همي الأوَّل اخراج متن صحيح وسالم لهذا الكتاب ، وأنْ يكون قدر الأمكان قريب من النموذج الأصلي الذي كتبه مؤلِّفه رحمه الله تعالى ، فكان لا بُدَّ لي من الحصول على جملة من النسخ المطبوعة التي تبدو أقرب من غيرها الى ، الصحة ، ولأماكن مختلفة ، فوفَّقني الله تبارك وتعالى في الحصول ثلاثة نسخ مطبوعة في العراق وإيران ولبنان ، ولدور نشر متفرقة ، تبين لي بعد المطالعة والاستقراء أنَّ أصحهنَّ هي نسخة المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف ، والمطبوعة في عام ( 1389هـ ـ 1969م ) فاعتبرتها النسخة الأم ، رغم عدم خلوها من الأخطاء المطبعية التي لا تخفى المطالع المتفحِّص ، والقارئ المتمرِّس ، وذلك أمر يكاد لا يخلو منه أي كتاب .

ومن هنا فانِّي بعد مقابلتي لتلك النسخة الأم مع النسختين الأخريتين اللتين اعتمدتهما كمساعدتين لتلك النسخة ـ والتي طبعت احداهما في ايران ، وهي طبعة دار القرآن الكريم ( الطبعة الثالثة ، عام 1410 هـ ) والأخرى في بيروت ، وهي طبعة دار الأعلمي ( الطبعة الرابعة ، عام 1402 هـ ) ـ عمدت إلى ضبط النص قدر الامكان ، باعتماد النسخ المذكورة ، أو باجتهاد مني عند قناعتي بعدم صحة ما جاء في تلك النسخ ، مع اشارتي إلى ذلك في الهامش ، أو وضع ما ارتأيت اضافته في المتن لتصحيح السياق بين معقوفين .

ثم اني وبعد انتهائي من تصحيح النص وضبطه شرعت بانجاز الأعمال الأخرى المكمِّلة للتحقيق ، كالتخريج ، والتعليق ، والشرح وغيرها ، وبالقدر الذي مكنني الله تعالى عليه ، ووجدت أنَّه من ضروريات التحقيق .

كما انَي وأثناء عملي في هذا الكتاب وجدت أنَّ الشَّيخ رحمه الله تعالى قد أورد جملة واسعة من الأعلام ، لعلَّ العديد منهم غير معروفين لدى الكثير من القرّاء ، رغم كونهم كانوا يُعدون من فضلاء العلماء ، وفطاحل الشُعراء ، وكبار الأدباء ، وعظماء رجال السياسة والدولة في تلك الأزمنة الغابرة والمطوية ، فابتغيت تقديم خدمة اضافية للقرّاء الكرام من خلال ترجمتي المختصرة المعرِّفة بشكل ما لاولئك الأعلام ، والذين أورد الشيخ اكثرهم على اعتبارهم من رجال الشِّيعة ووجهائهم ، وألحقت ذلك في آخر الكتاب .

ثم لم أجد بُداً من أن أُلحق الكتاب بجملة من الفهارس الفنية التي أصبحت في وقتنا الحاضر من الضروريات التي لا ينبغي ان تخلو منها الكتب المحققة ، وبشتى تصانيفها ، واختلاف أبوابها .

وأخيراً أقول : لقد حرصت في عملي هذا على أنْ اُقدم للمكتبة الاسلامية كتاباً محققاً صحيحاً لأحد أعلام الطائفة الكبار ، وبذلت في سبيل ذلك جهداً كبيراً ، وزمناً طويلاً ـ مبتغياً الأجر من الله تعالى والمثوبة على عمل قصدت فيه خدمة هذا الدين المبارك العظيم الذي جاء به نبينا الكريم ، ورحمة الله تعالى المهداة إلى العالمين ، الرسول المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلّم ـ ولكن ذلك لا يحول دون سهو القلم ، وشطحات الأفكار ، ولذا فاني أستميح سادتي العلماء ، وأساتذتي الكرام ، وزملائي المحققين العذر عند الكبوات والعثرات ، والأخطاء والزلات ، عسى البارئ جلَّ اسمه أنْ يوفِّقنا لتقديم ما هوأكمل وأصح ، إنَّه الموفِّق لكلِّ خير.


شكر وتقدير :

لم يسعني وأنا أُقدِّم هذا الكتاب النفيس بين يدي القارئ الكريم إلا أنْ اُشيد بمن مد لي يد العون وبأي شكل ما في اخراجه بهذه الحلَّة الجديدة القشيبة.

نعم ، فإذا كان الفضل أوَّلاً وآخراً لله تبارك وتعالى ، فإنَّه جل اسمه يوفَق البعض من عباده إلى مد يد العون والمساعدة للآخرين ، فتطوق أفضالهم تلك الأعناق بالجميل والمنة التي لا يسع أحد إلا الاشادة بها وشكرها ، ولعلَّ لمؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث اليد الطولى ، والفضل الأكبر في انجازي لهذا العمل ، وأخص بالذات عميدها سماحة السيِّد جواد الشهرستاني حفظه اللهّ تعالى ، الذي أتاح لي بكرمه المعهود الاستفادة من الخدمات المتيسرة في مؤسسته العامرة التي أتشرَّف بالانتساب اليها .

كما واخص بجزيل الشكر والامتنان مؤسسة الامام علي عليه السّلام لتفضلها بنشر هذا الكتاب الذي جعلته باكورة أعمالها المباركة في هذا المضمار المقدس .

ثم لا يسعني أخيراً تجاوز الاشارة إلى مدى الفضل الكبير والمتواصل لزوجتي الطيبة الوفية التي كانت نعم العون لي في انجاز جميع أعمالي ، ومنها هذا العمل .

وفَّقنا الله تعالى وإياهم لما فيه رضاه ، انه نعم المولى ونعم النصير ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين ، وصلّى الله على محمَّد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين .

عـلاء آل جـعـفـر
ربـيـع الأول 1415 هـ






(1) لعلَه لا يخفى على أحد الأثر العظيمِ الذي خلَفته الدهور المرة القاسية التي أحاطت بالشِّيعة ـ وأعملت أنيابها فيهم تمزيقاً وتقطيعاَ وبشكل متناوب متلاحق ـ وساهمت بشكل مباشر في تحديد أعدادهم ، والحد من تكاثرهم بشكل جلي واضح للعيان ، وهذا ما سبق أنْ تقدَّم منّا الحديث عنه سالفاً .

يضاف إلى ذلك ما لجأت اليه الحكومات الجائرةِ المتلاحقة من ترويجها واسنادها للمذاهب الاسلامية الأخرى ، تنكيلاً بالتشيَّع ، وتحجيماَ له ، لا حباً وايماناً بتلك المذاهب في أغلب الأحيان ، وإنْ كان ذلك الأمر يتشكل في بعض الأحيان بصبغة التعصُّب الطائفي المقيت الخارج عن أي مفهوم شرعي .

(2) روى أحمد بن حنبل في مسنده (1 : 62) عن عثمان بن عفان : أنًه دعا جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ـ وفيهمِ عمّار بن ياسر ـ وقال لهم : إنَّي سائلكم وإنِّي أُحب أنْ تصدقوني ، نشدتكم الله أتعلمون أنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يؤثر قريشاً على سائر الناس ، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش ؟

فسكت القوم ، فقال عثمان : لو أنَّ بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أُميَّة حتى يدخلوا من عند آخرهم ! !
(3) بلى فقد كانت أيادي عثمان بن عفان في بني أُمية لا حدود لها ، ممّا أثار ذلك عليه نقمة المسلمين ، لاسيّما وأنَ هناك الكثير من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله الذين أدركوا وعاينوا الموقف العدائي لهذه الاسرة من الاسلام واهله ، بل ومن رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله الذي ما زالت كلماته وعباراته المحذِّرة للمسلمين من فساد هذه العائلة وانحرافها ، وجهدها الدؤوب قي تمزيق هذا الدين ، تتردد في آذانهم ، وتتجاوب معها نفوسهم ، ولذا فقد كان موقف الخليفة المخالف بشكل حاد لتلك الوصايا مصدر نقمة وغضب بدأت تعتمل في نفوس اولئك الصحابة ، ياججها اسراف الأمويين وتجاوزهم على حقوق المسلمين وتلاعبهم بها .

ولقد استعرض المؤرخون في كتبهم جوانب متفرقة من تلك الامور ، إلا أنَّ أوسعها

(4) تفصيلاً ما أورده ابن ابي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة (1 : 198) حيث ذكر : أن عثمان أوطأ بني اُمية رقابَ الناس ، وولاّهم الولايات ، وأقطعهم القطائع .

فلما افتُتِحَتْ افريقيّة في أيامه أخذ الخُمس كلَّه ووهبه لمروان بن الحكم طريد رسول الله صلّى الله عليه وآله .

وطلب منه عبدالله بن خالد بن أسيد صِلَة ، فأعطاه أ ربعمائة ألف درهم .

وأعاد الحكَم بن أبي العاص [ عدوَ رسول الله صلّى الله عليه واله ، ومن أكثر الناس ايذاء له ] بعد أن كان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد سَيَّره ثم لم يردَّه أبو بكر ولا عمر، وأعطاه مائة ألف درهم ! ! .

وتصدَّق رسول الله صلّى الله عليه وآله بموضع سوق بالمدينة يُعرف بمهزور على المسلمين ، فاقطعه عثمان الحارثَ بن الحكم أخا مروان بن الحكم .

واقطعٍ مروان فَدَك ، وقد كانت فاطمةُ عليها السلام أطلبتْها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه ، تارة بالميراث ، وتارة بالنِّحْلة فدُفِعت عنها .

وحَمى المراعى حولَ المدينة كلَّها من مواشي المسلمين كلِّهم إلا عن بني اُميَّة .

وأعطى عبدَالله بن أبي سَرْح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقيّة بالمغرب ـ وهي من طرابلس الغرب إلى طَنْجة ـ من غير أنْ يَشْرَكه فيه أحد من المسلمين .

وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال ، وقد كان زوّجه ابنته اُم أبان ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى ، فقال عثمان : أتبكي أن وَصَلْتُ رَحمِي ! قال : لا ، ولكن أبكي لأنّي أظنك أنَك أخذتَ هذا المال عِوضاً عما كنتَ أنفقتَه في سبيل الله في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ، والله لو أعطيتَ مروان مائة درهم لكان كثيراً ، فقال : ألقِ المفاتيح يابن أرقم ، فإنّا سنجد غيرك .

وأتاه أبو موسى باموال من العراق جليلة ، فقسمها كلَها في بني اميّة . وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة ، فاعطاه مائة ألف من بيت المال أيضاً بعد صَرْفه زيد بن أرقم عن خزنه .

وانضمّ إلى هذه الأمور اُمور اُخرى نقمها عليه المسلمون : كتسيير أبي ذرّ رحمه الله تعالى إلى الرّبَذة ، وضرب عبدالله بن مسعود حتى كسرت أضلاعه . . . وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين . . .

(5) الغريب أن تبلغ السذاجة أو الصلافة بالانسان حداً يتجاوز فيه كلَّ الحدود الشرعية والاخلاقية ، وتحشره مجرداً في زاوية حرجة ، وفي موقع مفضوح تجعل المرء معها يتساءل عن مدى الفائدة التي يجنيها هذا البعض من هذه التصرفات والمواقف الشاذة والمنحرفة المرتكزة على التقوُّلات والافتراءات الباهتة التي لابُدَ وأنْ يظهر زيفها مع الأيام وعند الاستقصاء ، وعندها لا أ دري بماذا يعتذر فنالك المبطلون ، سواء أكان ذلك في الدنيا أو يوم يقوم الحساب .

نعم هناك الكثير من هذه الموارد الدالَّة على انحراف أصحابها عن جادة الصواب ومنطق الحق ـ من الذين لاتُفسَّر مواقفهم هذه إلا بأنها محاولات مسمومة لبعثرة الصف الاسلامي الواحد ـ أشار اليها بعض الباحثين والمتتبعين في بحوثهم ومؤلَّفاتهم ، كما أشرنا الى بعض منها في مقدمتنا التحقيقية لكتاب مكارم الاخلاق ، فراجع .

وأمّا ما نريد الاشارة اليه هنا فهو عينة صادقة عن خبايا تلك النفوس التي لا ترعوي أمام كلمة الحق ، ولا تخشى المساءلة يوم الحساب ، وبشكل تمجه النفوس ، وتزدريه العقول .

فقد عمد أحد الكتّاب المصطفين في خانة حاملي معاول تمزيق هذه الأمة باسم الدفاع عن حريمها زوراً وبهتاناً ، ويُدعى محمد مال الله في كتابه الموسوم بـ (موقف الشِّيعة من أهل السنًة) في الاصدار الأوَّل ممّا يسمى بدراسات في الفكر الشيعي الى التلاعب باحدى العبارات التي نقلها عن كتابنا هذا بصلافة عجيبة ، ووقاحة غريبة .

فقد ذكرِفي الصفحة 28 من كتابه المذكور، ما هذا نصّه : والبداء عند الشِّيعة : « أنْ يظهر ويبدو لله عزَ شانه أمر لم يكن عالماً به »! ! انتهى .

(6) واشار في الهامش الخامس الى كتابنا هذا : (5) أصل الشيعة وأصولها/ محمَد الحسين آل كاشف الغطاء : 231 .

وياليته اكتفى بموقفه المخزي هذا، لَكُنّا تلمّسنا له عذراً ، ولكنه يصر على خداع القرّاء ، ويواصل كذبه وافتراءه دون أي حياء ، فقد أعاد كتابة عين تقوّلاته هذه في كتابه الآخر (الشَيعة وتحريف القرآن )! ! في طبعته الثانية الصادرة عن شركة الشرق الأوسط للطباعة في عمان عام (1405هـ )، وفي الصفحة 12 منه ، فراجع .

نعم هكذا تصرف هذا المؤلَف بهذه العبارة ليسيء الى طائفة باكبرها ويتهمها بالكفر والانحراف ، متوهماً أنْ لا أحد سيكشف كذبته هذه ، وأنَّها ستمر على القرّاء مرور الكرام ، ويقال : انظروا ماذا تقول الشِّيعة على لسان واحد من كبار علمائها ، هل هذا إلا هو الكفر المحض! !

ونص العبارة التي تصرَّف بها هذا المؤلَف موجودة في خاتمة كتابنا هذا ضمن حديث الشيخ رحمه الله تعالى عن المفتريات التي تتهمِ ظلماً بها الشيعة ، حيث قال : ممَّا يُشنِع به الناس على الشَيعة ، ويزدرى به عليهم أيضاَ أمران : الأوّل : قولهم بالبداء ، تخيلاَ من المشنِّعين أنَّ البداء الذي تقول به الشِّيعة هو عبارة عن أنْ يظهر ويبدو لله عزَّ شأنه أمر لم يكن عالمآَ به ! ! وهل هذا إلا الجهل الشنيع ، والكفر الفضيع ، لاستلزامه الجهل على الله تعالى ، وأنَّه محل للحوادث والتغييرات ، فيخرج من حظيرة الوجوب الى مكانة الامكان ! ! وحاشا الامامية « بل وسائر فرق الاسلام من هذه المقالة التي هي عين الجهالة » بل الضلالة . . . الخ .

أقول : أترك للقارئ الكريم مسألة التعليق على هذا الأمر ، والحكم بما يراه موافقاً للعقل والمنطق والصواب

(7) لعل من الأمور التي تثير الاستغراب في نفوس الباحثين وجود جملة من أصحاب السنن والصحاح ـ ومن استقى من منابعهم موارد بحثه دون تأقُل أو تدبُّر ـ قد وقع أسير جملة مردودة من الأخبار والروايات الموضوعة التي يُشخَّص الكثير منها بانتمائه إلى الاسرائيليات التي جهدت أصابع أعداء الدين في رصفها مع جملة العقائد الاسلامية المباركة والمتوافقة مع العقل والمنطق والفطرة .

بل والأنكى من ذلك أنْ تجد مَنْ يتعبَّد بتلك النصوص الموضوعة ، ويسلم بصحتها ، ويؤمن بمضامينها ، وذلك ممّا تنفطر تأسفاً عليه القلوب ، رغم إيمان ذلك البعض بالجوانب السليمة من تلك العقيدة المتنافية بشكل حاد مع تلك الآراء والمعتقدات الدخيلة ، والذي يشكِّل دعوة صريحة وواضحة لمناقشة تلك الآراء مناقشة علمية رصينَة ، بعيدة عن التعصُّب والتشنُّج .

نعم إنَ تسرًب هذه الاسرائيليات الموضوعة يشكِّل الطرف الأوضح في ظاهرة الفهم الخاطىء والتفسير السلبي لبعض النصوص القرآنية المباركة التي أصبحت محل الاختلاف في تفسير ورسم المفهوم الخاص لتلك المدارس في بعض العقائد التي يؤمن بها الجميع ، وزادها تعقيداً تشبث تلك المدارس في الدفاع عنها ، ورد الاعتراضات الموجهة اليها ، واتهام المخالفين الفين لها بالانحراف والسقوط ، رغم ان العقلاء من المسلمين يتسالمون على ما تشكله ظاهرة التحاور العلمي المبتني على اُسس التشريع الاسلامي من مرتكز واضح المباني في التوصل إلى نتيجتين ايجابيتين ، وهما التصحيح والتشذيب للمظاهر الدخيلة على العقائد الاسلامية ، أو التسليم بصواب المنهج الآخر والاقرار بصحته ، وذلك هو بغية كلِّ المخلصين.

وإذا كانت هناك بعض المشخَّصات التي تعزى الى ظاهرة التسرًّب جانب مهم في تبلورها وبنائها ، فإنَّ ما عرفه المسلمون ممّا يسمى بالتشبيه والتجسيم واحد من تلك الجوانب المشخصة الغريبة عن البنيان العقائدي للشريعة الاسلامية القائمة على التنزيه

والتوحيد .

ولعلَّ الأقرب للصواب في تحديد العلة الأساسية في تحليل ظاهرة التسرُب يتأتى في دراسة الظروف المادية والنفسية التي رافقت نشوء هذه الظاهرة ، وهذه العملية بلا شك تتطلَب دراسة مستفيضة ومتخصصة لا يسعنا هنا الخوض في غمارها ، إلا أنَ ما ذكره ابن خلدون في مقدمته يلقي شيئاً من التوضيح على هذا الأمر ، حيث قال : أنَ العلة الأساسية تكمن في كون العرب آنذاك لم يكونوا أهل كتاب ، ولا علم ، وأنَما غلبت عليهم البداوة والأمية ، وإذا تشوَفوا إلى معرفة شيء مما تتشوَّف اليه النفوس البشرية في أسباب المكنونات ، وبدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، فانما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى مثل ؟ كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبدالله بن سلام .

بلى لقد كان ذلك الأمر ما يمكن اعتبار الطرف الأوّل في تلك الظاهرة محل البحث ، وأمّا الطرف الأخر منها فيكمن بالجمود على الفهم السطحي المبتور لجملة تلك الآيات القرآنية أو الأخبار المختلفة ، والتي تختلف بشكل بيِّن مع الأصول العقائدية الاسلامية التي تحاول جاهدة الانتماء اليها ، كما في حالة تفسير قوله تعالى : ( وجُوهٌ يَومَئذٍ ناضِرَةَ إلى رَبِّها ناظرَة ) ، وقوله تعالى : ( كُلُ مَنْ عَلَيها فان وَيَبقى وَجهُ رَبِّكَ ذو الجَلالِ وَالاكرام ) ، وقوله جل اسمه : ( وَقالَتِ اليَهودُ يَدُ الله مغلُولَة غُلًتْ أيديهِم وَلُعِنوا بِما قالُوا بَل يَداهُ مَبسَوطَتانِ ) وغيرها.

أقول : ثم إنَّ ما تولَّد من ذلك الفهم السلبي واُسمي بالتشبيه والتجسيم لا يمكن اعتباره بانَّه يشكَل ظاهرة جديدة طفحت على الساحة العقائدية لأتباع بعض المدارس الاسلامية ، بل يبدو من الواضح للعيان تشكِّل جوانب منها لدى الامم السالفة ، كما في تشبيه النصارى المسيح عليه السَّلام بالله تبارك وتعالى ، وإنْ كان الشهرستاني يقول في ملله (1 : 93) : بأنَ التشبيه كان صرفاً خالصاً في اليهود ـ لا في كلِّهم بل في القرّائين منهم ـ إذ وجد في التوراة الفاظاً كثيرة تدل على ذلك ...

وأضاف في موضع آخر (1 : 06 1) عند حديثه عن بعض أخبار التشبيه التي تداولها جماعة من أهل الحديث ( وهو ما أردنا الاشارة اليه ) : وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها الى النبي صلّى الله عليه وآله ، وأكثرها مقتبسة من اليهود ، فإنَّ التشبيه فيهم طباع ، حتى قالوا : اشتكت عيناه فعادته الملائكة ! ! وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ! ! وأنَّ العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الحديد! ! انتهى .

وأخيراً فإنَّ استعراض ومناقشة جملة تلك الأخبار والروايات المختلفة التي أشرنا اليها يدل

بصراحة على صحة وصواب ما ذهبنا اليه ، هذا إذا اعتمد الباحث والدارس في الحكم عليها الأسس والقواعد المعروفة لدى علماء الأصول والجرح والتعديل .

فمن ذلك : الأخبار والروايات التي تزعم بأنَّ الله تعالى خلق آدم عليه السَّلام على صورته ، أو أنَ له سبحانه جوارح مشخصة كالأصابع والساق والقدم ، وأنَّ في ساقه ـ سبحانه ـ علامة يُعرف بها! ! .

بل وأنًه تعالى يضع قدمه يوم القيامة في نار جهنم ليكف نهمها فتقول : قط قط ! ! .

كما أنَه جل اسمه يهبط في آخر الليل إلى السماء الدنيا ! ! ويقول : من يسألني فأستجيب له ، من يسالني فأعطيه ، من يستغفرني فاغفر له .

يضاف إلى ذلك ما يروى من إمكان رؤيته تعالى حقيقة لا مجازاً ، حتى أنَّ تلك الأخبار لا تكتفي بحصر رؤية الله تعالى برسوله الأكرم صلّى الله عليه وآله ـ حيث تذكر بأنه يرى الله سبحانه فيقع ساجداً له ـ بل يتعداه ذلك الأمر إلى الجميع ، حيث تورد بأنَه جلَّ وعلا يهبط يوم القيامة إلى العباد ليقضي بينهم ! ! وذلك مصداق ما نُسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله : أنَّكم سترون ربَكم عياناً ، وأنّ المسلمين يرون ربَّهم يوم القيامة كما يرون القمر لا يضامون في رويته ! ! .

والأغرب من ذلك كله ما يُروى من أنَ الله تبارك وتعالى يأتي هذه الأمة يوم القيامة على هيئة غير هيئته التي يعرفونه بها ، فينكرون ذلك عليه ! ! حتى يأتيهم بالصورة التي يعرفونه بها فيتبعونه !!

وغير ذلك . راجع : صحيح البخاري 8 : 62 ( كتاب الاستئذان ) 9 : 156 ( كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى : لما خلقت بيدي ، وباب قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة ) و 2 : 66 ( كتاب التهجد ، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ) ، صحيح مسلم 4 : 2183|2841 و: 2017|115 و 2147|19 ، 25، 21 ، 22، و: 2186|35 ، 36، 37 ، 38، 1: 439|211 ، 212 ، 963|299 ، 300 ، 302 ، سنن ابن ماجة 1 : 64|182و: 435|1366 و 444|1388،1390 ، سنن الترمذي 4: 691|2557و2: 307|446 و4: 591|2382 و4 : 687|2551 ، 2552 ، مسند أحمد 2: 264، 267 ، 282 ، 487 ،504 ، 3 : 34 ، 4 : 16 ، موطأ مالك 1: 214|30.

(8) بلى إن المراجعة البسيطة لسيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله في استخلاف مَنْ ينوب عنه حين تركه لعاصمة الدولة الاسلامية ، حتى ولو قصر مدى السفر وقلت أيامه ـ كما فيِ غزوة اُحد التي لم تبعد عن المدينة إلا ميلاً واحداً ، ولم يستغرق بعده عنها إلا يوماً واحداً فقط ، بل وفي غزوة الخندق التي كانت في المدينة عينها ـ تدل دلالة واضحة على استحالة وقوع التفريط منه في ترك هذه الأمّة دون راعي أو خليفة ينوب عنه ، لاسيما ونحن نعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يفاجأ بموته كما معروف لدى الجميع ، وأنه صلى الله عليه وآله يدرك بوضوح ما يحيط اُمّته من المخاطر الجسيمة التي تتحين بها الفرص والغفلات ؟!

نعم ، فإنا عندما نتأمّل ذلك نجد أن افتراض عدم الاستخلاف من قِبَل رسول الله صلّى الله عليه وآله خلاف ما عُهد من سيرته المباركة ـ مضافاً إلى خلافه الصريح مع المنطق والعقل ـ وذلك ما يتبيّن عند المراجعة البسيطة لكتب السيرة والتاريخ المختلفة :
__________________
1 ـ فعندما اُذن له صلى الله عليه وآله بقتال المشركين في السنة الثانية من الهجرة، وخرج مع جماعة من المسلمين للتعرض لعير قريش ، استخلف على المدينة سعد بن عبادة خليفة عنه .
2 ـ وفي تلك السنة ايضاً ، وعند خروجه صلى الله عليه وآله في غزوة بواط ، استخلف عنه سعد بن معاذ.
3 ـ واستخلف زيد بن حارثة عند خروجه صلّى الله عليه وآله في طلب كرز بن جابر الفهري الذيَ اغار على المدينة .
4 ـ ثم استخلف صلّى الله عليه وآله أبا سلمة المخزومي عندما خرج في غزوة العشير.
5 ـ وفي غزوة بدر الكبرى كان ابن اُم مكتوم خليفة عنه صلّى الله عليه وآله في المدينة .
6 ـ وعندما خرج صلّى الله عليه وآله في غزوة بني القينقاع استخلف أبا لبابة الأنصاري .
7 ـ وأعاد صلّى الله عليه وآله استخلاف أبي لبابة عند خروجه في غزوة السويق .
8 ـ وأما عندما خرج صلّى الله عليه وآله الى سليم وغطفان في السنة الثالثة من الهجرة ، فإنًه استخلف عنه ابن اُم مكتوم .
9 ـ وفي غزوة بفران كان خليفته صلّى الله عليه وآله في المدينة ابن اُم مكتوم ايضاً.
10 ـ وأمّا عثمان بن عفان فقد استخلفه صلّى الله عليه وآله عند خروجه في غزوة ذيَ أمر.
11 ـ واستخلف صلى الله عليه وآله ابن اُم مكتوم عند خروجه الى أحد .
12 ـ وأعاد صلّى الله عليه وآله استخلاف ابن اُم مكتوم عندما خرج الى غزوة حمراء الأسد .
13 ـ واستخلفه أيضاً عند خروجه صلى الله عليه وآله في غزوة بني النضير.
14 ـ وعند خروجه صلّى الله عليه وآله الى غزوة بدر الثالثة كان خليفته في المدينة عبدالله بن رواحة الأنصاري .
15 ـ وفي غزوة ذات الرقاع استخلف صلّى الله عليه وآله عثمان بن عفان في المدينة.
16 ـ وأمّا في غزوة دومة الجندل فقد استخلف صلّى الله عليه وآله ابن أم مكتوم في المدينة .
17 ـ وفي غزوة بني المصطلق كان زيد بن حارثة خليفة عنه صلّى الله عليه وآله في المدينة .
18 ـ وعندما قاتل صلى اللهّ عليه وآله الاحزاب ، وفي المدينة عينها ، استخلف ابن أم مكتوم أيضاً خليفة عنه .
19 ـ وكان أبو رهم الغفاري خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة بني قريضة .
20 ـ وفي غزوة بني لحيان كان ابن اُم مكتوم خليفة عنه صلّى الله عليه وآله .
21 ـ واعاد صلّى الله عليه وآله استخلاف ابن اُم مكتوم عند خروجه في غزوة ذي قرد .
22 ـ وكان ابن اُم مكتوم ايضاً خليفة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله عند خروجه في غزوة الحديبية .
23 ـ وفي غزوة خيبر استخلف صلّى الله عليه وآله عنه في المدينة سباع بن عرفطة.
24 ـ وأعاد صلى الله عليه وآله استخلافه عند خروجه في عمرة القضاء .
25 ـ وأمّا عند خروجه صلى الله عليه وآله في فتح مكة فإنَه استخلف أبا رهم الغفاري في المدينة .
26 ـ ولمّا خرج صلّى الله عليه وآله في غزوة حنين كان أبو رهم خليفته في المدينة أيضاً .
27 ـ وأمّا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السًلام فقد خلفه عنه صلى الله عليه وآله في المدينة عند خروجه الى تبوك .
(9) صحيح مسلم 3 : 1823 (كتاب الامارة ، باب الاستخلاف وتركه ) .
(10) الامامة والسياسة: 23.
(11) التوبة 9: 128 .
(12) مقدمة ابن خلدون : 187 .
(13) فجر الاسلام :225 .
(14) نهج البلاغة 2: 316 .
(15) صحيح البخاري 8 : 208 ( كتاب المحاربين ، باب رجم الحبلى من الزنا اذا احصنت ) ، تاريخ الطبري 3: 205 ، الكامل في التاريخ 2 : 327 ، تاريخ الخلفاء : 51 ، الرياض النضرة 1: 237 ، الصواعق المحرقة: 18 ، النهاية لابن الأثير 3: 467 ، البداية والنهاية 5: 245.
(16) الشورى 42: 38 .
(17) آل عمران 3: 159 .
(18) يشير عليه السلام إلى اغراض كره التصريح بها .
(19) نهج البلاغة 1 : 88 ( ضمن ما يُعرف بالخطبة الشقشقية ).
(20) النجم 53: 3 ـ 4.
(21) لقد بلغ تنكيل الحكّام بشيعة أهل البيت عليهم السلام حداً يعجز عن تصويره القلم ، وفي وصفه اللسان ، لا لشيء يُتهمون به إلا ولائهم لبيت النبوة الطاهر ، ودفاعهم عن حريمه . . . فاخذوهم على التهمة والظنة ، وتقصوهم تحت كل حجر ومدر ، وشرَّدوهم في الاصقاع النائية بعد أنْ سملوا أعين العديد منهم ، وهتكوا اعراضهم ، وقتلوا الكثيرين منهم ، فملئوا حياة الباقين منهم رعباً وخوفاً ، ولوعة وحزناً ، وصبغوا حياتهم بالسواد دون رحمة أو شفقة .
نعم ذلك هو مصداق تعامل الكثير من اولئك الحكّام مع الشِّيعة ، لا مبالغة فيه ولا تهويل ، وأنا أدعو القارئ الكريم إلى استقراء ذلك من خلال مراجعته لكتب التاريخ المختلفة ، وأدعوه بالخصوص لمطالعة كتاب ( الشيعة والحاكمون ) للشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله تعالى برحمته الواسعة ، فقد تناول الكثير من دقائق هذه الأحداث بشكل علمي رصين.
(22) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 6 : 47 ، أنساب الأشراف 1 : 590.
(23) المراجعات : 579 ، المراجعة 80 .
(24) الشعراء 26: 214.
(25) تأريخ الطبري 2: 217 ، الكامل في التاريخ 2: 62 ، تأريخ أبي الفداء 1: 116 ، شرح الشفا 3 : 37 ، معالم التنزيل 4 : 278 ، شواهد التنزيل 1 : 372 ، ترجمة الامام علي عليه السلام من تأريخ دمشق 1: 103|139 و140 ، تفسير الخازن 3: 371.
(26) صحيح البخاري 5: 89/202 ، صحيح مسلم 4: 187/2404 ، سنن الترمذي 5: ، 3730 ، مسند احمد 1: 173 ، 175 ، 182 ، 184 ، مستدرك الحاكم 2 : 337 ، الرياض النضرة 2: 157 ، مصابيح السنَة 4: 170 /4762 ، تأريخ بغداد 4: 204 ، تأريخ الخلفاء : 65 ، الصواعق المحرقة: 187 .
(27) طه 20 : 25 ـ 32.
(28) طه 20: 36 .
(29) الفرقان 25 : 35.
(30) الأعراف 7 : 142 .
(31) موارد الظمآن : 551|2227 .
(32) ينبغي للمسلم التأمل بروية في عبارة رسول الله صلّى الله عليه وآله هذه لادراك حقيقة ما يعنيه صلّى الله عليه وآله من قرانه بين اتّباع أهلِ هذا البيت الطاهر عليهم السَلام ، وبين الهداية التي لا ضلال يُخاف معها ، وإعتبار اتَباعهم سلوكاً للسبيل والصراط القديم المؤدي إلى رضا الله تعالى .
نعم يجب التأمُّل والتدبر في ذلك ، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله لا يلقي الكلام جزافاً ولا على عواهنه ، بل هو الرسول الكريم المبلغ عن الله تبارك وتعالى ، والذي لا ينطق قطعاً عن الهوى بنصّ القرآن ألكريم .
(33) سنن الترمذي 5: 662 و 663 صحيح مسلم 4 : 1873|2408 مسند أحمد 3 : 17 و5: 181 ، مستدرك الحاكم 3: 109 ، أُسد الغابة 2: 12 ، السيرة الحلبية 3: 336، مجمع الزوائد 9: 163 الصواعق المحرقة : 230
(34 ) واد بين مكة والمدينة عند الجحفة به غدير ، عنده خطب رسول الله صلى الله عليه وآله . معجم البلدان 2: 389 .
(35) يعد استعراض المصادر التي أوردت واقعة الغدير ، وبأسانيدها وطرقها الكثيرة هنا امراً مستعسراً ، كما ان ايراد البعض دون الباقي بخساً لا ينبغي أنْ لا نتحمله ، ولذا فإنًي اُحيل القارىء الكريم إلى الكتب المختصة التي تناولت بالتفصيل والاسهاب ما استطاعت حصره واثباته من تلك الطرق والوسائط ، والتي يُعد كتاب الغدير للشيخ عبدالحسين أحمد الأميني (ت 1390 هـ ) من أوسعها وأشملها ، فراجع.
(36) انظر: مسند احمد 4 : 281 ترجمة الامام علي عليه السَّلام من تأريخ دمشق 2 : 50|548 و 549 و550 ، البداية والنهاية 5 : 210 الفصول المهمة : 41 ، الحاوي للفتاوى 1 2 12 ، ينابيع المودة : 3130 ، تذكرة الخواص : 29 الرياض النضرة 3 : 127 ، الخطط للمقريزي : 223 ، كفاية الطالب : 62 .
(37) سنن الترمذي 5 : 636|3719 ، مستدرك الحاكم 3 : 132 ، مسند أحمد 1 : 3 ، 331، 3 : 212 ، 283 و 4 : 164 ، 165 ، مجمع الزوائد 9 : 119 ، تفسير الطبري 10 : 46، البداية والنهاية 7 : 350 ، الخصائص للنسائي : 8 ، الفصول المهمة : 40 ، الصواعق المحرقة : 188 .
(38) الصافات 37 : 24 .
(39 ) الصواعق المحرقة : 229 .
(40) انظر : ترجمة الامام علي عليه السَّلام من تأريخ دمشق 3 : 5 ، ميزان الاعتدال 2 : 273 ، الرياض النضرة 2 : 234 ، ينابيع المودة : 79 ، كفاية الطالب : 620 ، المناقب للمغازلي : 200
(41) ترجمة الامام علي عليه السلام من تأريخ دمشق 2 : 597 ، مجمع الزوائد 9 : 159، المناقب للمغازلي : 230 .
(42) المستدرك على الصحيحين 3 : 128 ، لسان الميزان 2 : 34 ، حلية الأولياء 4 : 349،مجمع الزوائد 9 : 108 ، ترجمة إلامام علي عليه السَّلام من تأريخ دمشق 2 : 98 ، 6031 ، 604 ، 605 .
(43) ترجمة الامام علي عليه السلام من تأريخ دمشق 1 : 108 ، الرياض النضرة 2 : 234، تذ كرة الخواص : 23 ، ينابيع المودة : 56 ، فرائد السمطين 1 : 115 ـ 121 .
(44) ميزان الاعتدال 1 : 64 ، حلية الاولياء 1 : 63 ، ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 2 : 487 ، كفاية الطالب : 212 ، مطالب السؤول : 21 ـ
(45) سنن الترمذي 5 : 632/3712 ، مسند أحمد 4 : 438 ، مستدرك الحاكم 4 : 438 ، الخصائص للنسائي : 23 ، أُسد الغابة 4 : 27 ، الرياض النضرة 3 : 129 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 9 : 171 .
(46) الأحزا ب 33 : 36 .
(47) صحيح البخاري 7 : 219|30 ، وانظر كذلك : صحيح مسلم 3 : 159|22 ، مسند أحمد1 : 324 ، البداية والنهاية 5 : 200 .
(48) صحيح مسلم 3 : 1257|1637 ، وانظر كذلك : مسند أبي يعلى 4: 298 ، مسند أحمد 1 : 222 ، البداية والنهاية 5 : 200 ، تاريخ الطبري 3 : 193 .
(49) مسند أحمد 3 : 346 .
(50) آل عمران 3 : 104 .
(51) آل عمران 3 : 110
(52) ديوان الشاعر : 260 .
(53) مجلة العرفان | المجلد | الجزء العاشر | صفحة 938.
(54) البقرة 2 : 30.
(55) نعم لقد ذكر بأنّ الشَّيخ نوح الحنفي هو الذي أفتى ـ على ما هو مثبت في باب الردة والتعزيرمن الفتاوى الحامدية وتنقيحها ، والممضاة من قبله ـ بكفر الشِّيعة ! ! ووجوب قتلهم ! ! بما نصه : اعلم أن هؤلاء [ أي الشَيعة ] الكفرة البغاة الفجرة ! ! جمعوا بين أصناف الكفر والبغي والعناد ! ! وأنواع الفسق والزندقة والالحاد ! ! ومَنْ توقَف في كفرهم والحادهم ، ووجوب قتالهم ، وجواز قتلهم فهو كافر مثلهم ! ! . . . . إلى آخر تخريفاته وسخافاته الدالَة على انحرافه وسقوطه .
ولا ادري بم يعتذر به يوم القيامة بين يدي الله عزّ وجلّ ، وحيث قُتل نتيجة فتواه هذه ـ التي جاءت استجابة لرغبة سلطان السؤ سليم الأؤل ، الذي دفعه عداؤه المستحكم للشاه اسماعيل الحاكم انذاك في ايران ، والذي نصب نفسه حامياً للمذهِب الشَيعي ـ عشرات الالوف من رجال الشيعة ونسائها ، دون أي ذنب وأي جريرة ، إلا لأنَهم شيعة فحسب .
فقد ذُكر أن السلطان سليم قتل في الأناضول وحدها أربعين ـ وقيل : تسعين ـ ألفاً من الشيعة ، بل وذكر أن مدينة حلب ـ التي كانت عاصمة الدولة الحمدانية ، ومن مراكز تجمع الشَيعة ـ لم يبق فيها شيعي واحد !! فتأمل .
(56) قال الزركلي في أعلامه (3 : 352) : عبدالرزاق بنِ رشيد بن حميد الحصان ، البغدادي الكرخي ، مؤرِّخ للقومية العربية ، أثار بعض كتبه نقداَ شديداً في بغداد .
من كتبه العروبة في الميزان ، قامت بسببه تظاهرات احتجاج ، وسُجن مؤلفه أربعة أشهر.
رحل إلى الكويت والى السعودية ، وتوفي غريباً في فندق بالكويت .
(57) راجع ترجمتنا له في الملاحق الخاصة بالتراجم .
(58) الانعام 6 : 152 .
(59) الانعام 6 : 151 .
(60) الاسراء 17 : 32 .
(61) النساء 4 : 43.
(62) البقرة 2 : 35 .
(63) التوبة 9 : 28 .
(64) البلد 90 : 10 .
(65) الانسان 76 : 3 .
(66) الرحمن 55 : 39 .
(67) الصافات 37 : 24 .
(68) قيل انّ أول دعوة صدرت لعقد هذا المؤتمر كانت من الزعيم الهندي الاسلامي شوكت علي في 4|12|1931.
(69) الاسراء 17 : 1 .
(70) قيل هو منصور القبطي .
(71) فمن نداء له رحمه الله تعالى كتبه أيام مرضه الذي أودى بحياته ـ وكان حينها راقداً في مستشفى الكرخ ـ ووجَهه إلى الطوائف الاسلامية في البحرين ـ نشرته جريدة اليقظة بتأريخ 4|1954|7 ـ يقول فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
( يا أيها الَذينِ آمَنُوا اتَقُوا اللهَ حق تقاتهِ وَلا تَموتُن إلا وَأنْتُمْ مُسلِمُونَ * واعتَصِمُوا بِحَبل اللهِ جَميعاً وَلا تَفرَقُوا وَاذكرُوا نِعْمَة اللهِ عَلَيكُمْ إذ كُنتم أعداء فَالفُ بَينَ قُلُوبِكُم فَاصبَحتم بنِعْمَتِهِ إخواناً ) [ آل عمران 3 : 102 ـ 103 ] .
كل ذي حس وشعور يعلم أن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى الاتفاق والتآلف ، وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف ، وأنْ ينضم بعضهم الى بعض كالبنيان المرصوص ، ولا يدعوا مجالاً لأيَ شيء يثير الشحناء والبغضاء ، والتقاطع والعداء ، فانَ كل ما يقع من هذا القبيل بين المسلمين في الوطن الواحد ، أو في أوطان متباعدة هو أعظم سلاح
للمستعمرين ، بل هو قرة عين لهم . وما نشبت مخالب الأجانب في الممالك الاسلامية والبلاد العربية إلا بإلقاح الفتن بينهم ، واثارة النعرات الطائفية والاقليمية فيهم ، يضرب بعضهم ببعض ، ويذيق بعضهم بأس بعض ، وتكون للمستعمر الغنيمة الباردة ، والربح والفائدة والخسران والوبال علينا .
(72) الغريب أنْ تجد ـ ورغم كلِّ ما بادر ويُبادر اليه العديد من أعلام الطائفة ومفكريها من خطوات جادة ، ودعوات صادقة للتقريب والتقارب بين المذاهب الاسلامية ـ جملة من النفوس السوداوية المشخَّصة الارتكاز ـ التي لا ترعوي أمام كلمة الحقِّ ، ولا تصيخ له سمعاً ـ تعمد جاهدة لقلب الحقاثق أمام ناظري المسلمين بصلافة وسماجة يصاحبهما اصرار عجيب على تلك المواقف الخاطئة والمنحرفة ، والتي لقت الاُمة الاسلامية منها الكثير من المصائب والويلات .
وأقول بصدق : إنَ القلم قد يشتط بصاحبه بعيداً إذا أطلق له العنان في هذا المرتكض الواسع والكبير ، والمليء بالحسرة بالألم ، بيد أنْ لا بد له من أنْ يكبح جماحه ما استطاع ذلك ، نئياً عن الوقوع في المزالق التي يريد ذلك البعض دفع الآخرين اليها بمكر وخبث .
ومن هنا فقد جهدت في أنْ اكتفي بمجرد الاشارة العابرة إلى شيء من تلك المواقف المشينة للبعض من المتاجرين زوراً باسم الاسلام ، وعقائده العظيمة ، من التي لا يجد المرء لها إلا تفسيراً واحداً وهو العمل على تمزيق وحدة المسلمين ، وتكريس حالة التنافر المصطنعة الخبيثة بينهم ، من التي أمكن لأعداء هذا الدين التسللُ من خللها ومنافذها الواسعة وضربه في أكثر نقاطه حساسية وخطورة .
نعم ، فانَ من يتامَّل ـ مثلاً ـ صفحات كتاب الجبهان الموسوم بـ ( تبديد الظلام ) يجد عين هذه الحقيقة ماثلة للعيان ، بل ولا بد له ان ينتابه الذهول وهو يتنقل بين اسطره وصفحاته التي سؤَدها بالكثير من العبارات المليئة بالسباب والفحش من القول ، ومن الذي قد يتنزه بعض السوقة عن التلفظ به أمام جمع من الناس ، ناهيك عن كتاب يدعو فيه صاحبه ظلماً وبهتاناً الى حماية الدين والذود عن حرماته .
ولعل الفصل الخاص الذي افرده الجبهان لمناقشة كتابنا هذا كان من السقم والتلاعب بالألفاظ حداً لا يعسر على اي طالب مبتدئ في العلوم الحوزية ان يتصدى لمناقشته وتفنيد دعاواه ، والقامه حجراً يخرسه ويوقفه عن هذره الممجوج ، بيد ان اي شخص اخر لا يستطيع ان يجاري الجبهان في ما استهدف به شخص الشيخ كاشف الغطاء من السباب والكلام البذيء والعبارات الفاحشة ، التي نتزه عن حتى مجرد الاشارة اليها
بلى لقد كان جزاء الامام كاشف الغطاء رحمه الله تعالى من الجبهان ومن لف لفه ـ من الساعين في اذكاء الفتن وتأجيجها بين المذاهب الاسلامية المختلفة ، وبأسم الدين ـ هذا الجزاء ، معرضين بصلافة عن سيرة هذا الرجل الذي أوقف حياته في العمل على التقريب بين المسلمين ، والذود عن حرماتهم ، والدفاع عن مقدساتهم ، بل وجاب البلاد الاسلامية طولاً وعرضاً ، داعياً الى نبذ الخلاف ، وتوحيد الكلمة ، وأنْ يحب المسلم أخاه المسلم كحبه لنفسه ، لا فرق بين مذهب واخر ، ولا بين طائفة واُخرى .
نعم لقد كان جزاؤه من الجبهان فحش القول ، وبذيء الكلام . . . فهل تجد أصدق مقوله تعبّر عن هذه الحالة إلا قول القائل : وكل اناء بالذي فيه ينضح ؟ .
(73) راجع كتاب في السياسة والحكمة : 109 .
(74) صاحب المراسلات المشهورة مع الامام عبدالحسين شرف الدين رحمه الله تعالى (ت 1377هـ ) والمسطَرة في كتاب المراجعات ذائع الصيت .
ولد في محلة تبشر بمحافظة البحيرة المصرية عام (1248هـ ـ 1832م ).
درس في الجامع الأزهر وتخرج منه وُعد من أساتذته الكبار.
تولن مشيخة الأزهر مرتين ، امتدت الاولى منذ عام ( 1317هـ ـ 1900م ) إلى عام (1320هـ ـ 1904م ) حين امتدت الثانية منذ عام ( 1327هـ ـ 1909م ) إلى عام ( 1335هـ ـ 1916م ).
له جملة مؤلفات منها : حاشية تحفة الطلاب لشرح رسالة الآداب ، وكتاب الاستئناس في بيان الاعلام وأسماء الأجناس .
توفي عام ( 1335هـ ـ 1916م ) .
(75) اعتمدنا في اعداد هذه الترجمة الخاصة بحياة الشيخ كاشف الغطاء على جملة من المراجع أهمها : مقدمة جامع ومرتَب كتاب ( جنة المأوى ) للشيخ كاشف الغطاء ، وهو السيّد محمد علي الطباطبائي . مقدمة جامع وناشر كتاب الشَيخ الموسوم بـ ( في السياسة والحكمة ) وهو ولده عبدالحليم آل كاشف الغطاء . مقدمة الطبعة الثامنة لكتابنا ـ نشر المطبعة الحيدرية في النجف الاشرف ( 1389هـ ـ 1969م ) ـ بقلم كاظم المظفر. كتاب ( محاورة مع السفيرين البريطاني والأمريكي ) نشر المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف (1373هـ ـ 1954 م).


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page