فانتبه لنفسك -أيها الأنسان - كيف تكون حالك إذا شاهدت مثل هؤلاءالملائكة العظيمي الخلق ، ليأخذوك إلى مقام العرض ، وتراهم على عظم أشخاصهممنكسرين ، لشدة خوف يوم المحشر، مما يرون من غضب الجبار على عباده ، وعند نزولهملا يبق نبي ولا صدّيق ولا صالح إلاّ ويخرون لأذقانهم خوفاً من الله ، كأنهم همالمأخوذون ، فهذا حال المقربين ، فما ظنك بالعصاة المجرمين !
وعند ذلك تقوم الملائكة صفاً محدقين بالخلائق من الجوانب ، وعلى جميعهمشعار الذل والخضوع ، وهيبة الخوف والمهابة لشدة ذلك اليوم .
ثم تقبل الملائكة فينادون وأحداً واحداً يافلان بن فلانة، هلمّ إلى موقفالعرض ، فعند ذلك ترتعد الفرائص، وتضطرب الجوارح ، وتبهت العقول ، ويتمنى أقوامأن يذهب بهم إلى النار، ولا تعرض قبائح، أعمالهم على الجبار، ولا يكشف سرهم علىملأ الخلائق . فعند ذلك يخرج النداء: يا جبرئيل ، إئت النار، فجاءها جبرئيل وقاللها: يا جهنم ، أجيبي خالقك ومليكك. فقادها جبرئيل على غيظها وغضبها، فلم تلبثبعد النداء أن فارت وزفرت إلى الخلائق وشهقت ، وسمع الخلائق شهيقها وزفيرها،وانتهضت خزانها متنكرة على الخلائق ، غضباً على من عصى الله وخالف أمره .
فأخطر ببالك حال قلوب العباد وقد امتلأت فزعاً ورعباً، فتساقطوا وجثوا علىالركب ، وولوا مدبرين ، وسقط بعضهم على الوجوه، وينادي الظالمون والعصاة بالويلوالثبور، ونادى كل واحد من الصديقين : نفسي نفسي . فبينا هم كذلك إذ زفرت النارزفرة ثانية، فتساقط الخلائق على وجوههم ، وشخصوا بأبصارهم ينظرون من طرف خاشع خفي ، واُنهضت قلوب الظالمين فبلغت الحناجر كاظمين ، فعند ذلك يقال: يا ابنآدم ، ألم أكرمك وأسوّدك (1) وأزوجك ، وأسخر لك الخيل والابل والأنعام ، وأنعمعليك بالشباب ؟ ففي ماذا أبليته ؟ وأمهل لك في العمر، ففي ماذا أفنيته ؟ وأرزقك المال ،ففي ماذا أنفقته ؟ ألم أكرمك بالعلم ، فماذا عملت فيه؟فانظر خجلك وحياءك عند تعداده عليك إنعامه وأياديه ، ومقابلته بمساوئك ،وأنت قائم بين يديه بقلب محزون خافق وجل ، وطرف خاشع ذليل منكسر، ثمأُعصيت كتابك الذي لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
أوما علمت أن جوارحك شهوده، وأعضاءك جنوده، وضمائرك عيونه ،وخلواتك عيانه، فكم من فاحشة نسيتها! وكم من طاعة غفلت عنها! وكم من ذنوبكشف لك عن مساوئها! فخجلت منها حيث لاينفع الخجل ، ووجلت حيث لاينفعالوجل، فليت شعريَ بأي قدم تقف بين يديه! وبأي لسان تجيب عندالعرض عليه !وبأي قلب تعقل! فتفكر في عظم جنايتك وذنوبك ، إذ يقول لك : يا عبديَ أما استحيتمني! بارزتنى بالقبيح ، واستحيت من خلقي، فأظهرت لهم الجميل ، وبارزتنى بالقبيح ،أكنت أهون عليك من عبادي ، استخففت بنظري إليك، واستعظمت خلقي .
يا أبن آدم ، ما غرك بي، فاذا عملت؟ وبماذا أجبت الرسل ؟ ألم أكن رقيباًعليك ، وأنت تنظر بعينك إلى مالا يحل لك ! ألم أكن رقيباً على أذنيك ،و أنت تسمع بهمامالا يحل لك ! وكذا يعدد عليه جميع جوارحه وأعضائه .
فانظر لنفسك ، فإنك بين أن يقال لك : قد تفضلت عليك بالغفران ، فيعظمسرورك وفرحك ، ويغبطك الأولون والآخرون . وأما أن يقال للملائكة : خذوه فغلٌوهثم الجحيم صلّوه ، فعند ذلك لوبكت عليك السمماوات والأرض لكان ذلك جديراً بك ،لعظيم مصيبتك ، وشدّة حسرتك على ما فرطت من طاعة الله ، وعلى ما بعت من آخرتكمن دنيا دنيئة لم تبق لك .
واعلم أنه لن ينجومن هول ذلك اليوم إلا من حاسب في الدنيا نفسه ، ووزنفيها بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته (2)، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه واله : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا» وإنماحسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحاً، ويتدارك ما فرط منتقصير في فرائض الله، ورد المظالم حبة بعد حبة، ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويدهويطيب قلوبهم، حتى يتوب (3) ولم تبق عليه مظلومة ولا فريضة، فهذا يدخل الجنة بلاحساب .
وإن مات قبل ذلك كان على أمر خطر من أهوال ذلك اليوم، فنعوذ بالله منشر ذلك الموقف، حين تتذكر ما أنذرك الله على لسان رسوله صلى الله عليه وآله حينقال: ( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار *مهطعين مقنعي رؤسهم لا يرتد إليهم طرفهم وافئدتكم هواء) (4) فما أشد فرحك اليومبتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم، وما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقفبك على بساط العدل، وقوبلت بميزان السياسة والعدل، وأنت مفلس فقير عاجز مهين،لا تقدر على أن ترد حقاً أو تقيم عذراًفدع التفكر فيما أنت مرتحل عنه ، واصرفه إلى مورده واحذره ، واجتهد فيماينججك منه ، واستمع إلى قوله تعالى : (وان منكم إلأ واردها كان على ربك حتمآَ مقضياً*ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) (5) فإن كنت تعلم من نفسك التقوى، فأنتمن الناجين، وإن لم تكن كذلك، فأنت من الظالمين فيها جثياً، فأشعر قلبك هول ذلك المورد، فعساك تستعد للنجاة(6) منه .
وتأمل في حال الخلائق ، وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبيناهم فيكربها وأهوالها واقفون ينظرون حقيقة آياتها، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات، وأظلتعليهم بادرات، وسمعوا لها زفيراً وجرجرة تفصح عن شدة الغيظ، فعند ذلك أيقنالمجرمون بالعقاب، وجثت الاُمم على الركب، حتى أشفق البراء من سوء المنقلب.
وخرج ملك من الزبانية ينادي: يافلان بن فلان، المسوف نفسه في الدنيابطول الأمل ، المضيع عمره في سوء العمل. فيبادرونه بمقامع حديد، ويستقلبونه بعظائم التهديد، ويسكنونه في دار ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك ، مبهمة المهالك ، فعند ذلكيندمون على ما فرطوا في جنب الله فلا ينجيهم الندم ، ولا ينفعهم الأسف ، بل يكبونعلى وجوههم من فوق النار، فهم بين مقطعات النار وسرابيل القطران ، يتحطمون فيدركاتها ، ويضطربون بين غواشيها ، تغلي بهم النار كغلي القدور، وينادون بالويلوالعويل ، ومهما دعوا بالثبور صب فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود،فمن كان من أهل الشفاعة أدركته ، لقوله صلى الله عليه : «ادخرت شفاعتي لأهلالكبائرمن أمتي» .
و قوله عليه السلام : «يخرجون من النار بعد ما يصيرون حمماً(7) وفحماً» ومنكان من أهل الخلود، فالويل له بالعذاب الدائم المقيم ، نعوذ بالله من ذلك .
____________
1 ـ سَوّده: جعله سيداً، يعني سيادة الإنسان على المخلوقات الاُخرى اُنظر « الصحاح ـ سود ـ 2:490».
2 ـ في تنبيه الخواطر: وخطواته.
3 - في تنبيه الخواطر: يموت .
4 ـ إبراهيم 14: 42، 43.
5 ـ مريم 19: 71، 72.
6 ـ في الأصل: بالنجاة، وما أثبتناه من تنبيه الخواطر.
7 ـ الحمم: الرماد والفحم وكل ما احترق في النار « الصحاح ـ حمم ـ 5: 1905».
عظمة يوم القيامة وشدة أهواله
- الزيارات: 2914