قدمنا في الجزء السادس من نفسيات الخليفة الثاني وملكاته من فقهه وعلمه وعمله وخطواته الواسعة في شتى النواحي ما يوقفك على أن كل ما نسرد هاهنا من ولائد الغلو في الفضائل، وقد التمط بحياته الروحية من أول يومه إلى أن تسنم عرش الخلافة بإدلاء من الخليفة الأول إليه حصوله على لماظة من العيش يقتاب بها.
كان ردحا من الزمن يرعى الإبل في وادي ضجنان (1) يرعب ويتعب إذا عمل. ويضرب إذا قصر (2).
وآونة كان يحتطب ويحمل فوق رأسه حزمة من الحطب مع أبيه الخطاب وما منهما إلا في نمرة (3) لا يبلغ (4) رسغيه (5).
وكان مدة يقف في سوق عكاظ وبيده عصا ترع الصبيان به، وكان يوم ذاك يسمى عميرا (6).
وكان برهة من أيام إسلامه يمتهن بالبرطشة، وكان مبرطشا يلهيه عن أخذ الكتاب والسنة الصفق بالاسواق (7).
وكان دهرا يبيع الخيط والقرظة بالبقيع (8).
أنا لا أدري في أي من أيامه هذه حصل على جدارة لما يخبرنا به ابن الجوزي في سيرة عمر ص 6: من إنه كانت السفارة - في الجاهلية - إلى عمر بن الخطاب إن وقعت حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيرا. وزاد عليه أبو عمر في الاستيعاب قوله: وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به وبعثوه منافرا ومفاخرا. (9)
أو كانت قريش كلهم من هذه الطبقة الواطئة؟ فكانوا يبعثون للسفارة والمفاخرة غلاما هذا شأنه؟ وفيهم الصناديد والعظماء والرؤساء وذوو عارضة ورجال الكلام.
أم كانوا لا يبالون بمن يرسلونه؟ " والرسول دليل عقل المرسل " لم يكن هذا ولا ذاك ولكن الحب يعمي ويصم، وإنك تجد من نظاير هذه شيئا كثيرا، وإليك جملة منه مضافا على ما مر في الجزء الخامس مما وضعته يد الغلو في فضائله.
____________
(1) جبل بناحية مكة.
(2) الاستيعاب 2: 428، الرياض النضرة 2: 50، تاريخ أبي الفدا ج 1: 165، الخلفاء للنجار ص 113، وأوعز إلى حديثه ابن منظور في لسان العرب 17: 112، والزبيدي في تاج العروس 9: 262.
(3) النمرة في القاموس: بردة من صوف تلبسها الأعراب. وفي الفائق للزمخشري: بردة تلبسها الإماء فيها تخطيط.
(4) الرسغ: مفصل ما بين الساعد والكتف، والساق والقدم.
(5) العقد الفريد 1: 91، شرح ابن أبي الحديد 1: 58، فائق الزمخشري 2: 28.
(6) الاستيعاب هامش الإصابة 4: 291، الإصابة 4: 29، الفتوحات الإسلامية 2: 423، وفيه تحريف نلفت إليه الأنظار.
(7) مر تفصيله في الجزء السادس ص 146، 287، 302 ط 1.
(8) راجع ما أسلفناه في الجزء السادس ص 303 ط 2.
(9) وذكر ابن عساكر ما رواه أبو عمر وابن الجوزي في تاريخه 6: 432.
الغلو في فضايل عمر
- الزيارات: 1939