• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

هذا أبو ذر

وفضايله وفواضله وعلمه وتقواه وإسلامه وإيمانه ومكارمه وكرائمه ونفسياته وملكاته الفاضلة وسابقته ولاحقته وبدء أمره ومنتهاه، فأيا منها كان ينقمه الخليفة عليها فطفق يعاقبه ويطارده من معتقل إلى منفي، ويستجلبه على قتب بغير وطاء، يطير مركبه خمسة من الصقالبة الأشداء حتى أتوا به المدينة وقد تسلخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف، ولم يفتأ يسومه سوء العذاب حتى سالت نفسه في منفاه الأخير " الربذة " على غير ماء ولا كلاء يلفحه حر الهجير، وليس له من ولي حميم يمرضه، ولا أحد من قومه يواري جثمانه الطاهر، مات رحمه الله وحده، وسيحشر وحده كما أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي خوله بتلكم الفضائل، والله سبحانه من فوقهما نعم الخصيم للمظلوم، فانظر لمن الفلج يومئذ.

لقد كان الخليفة يباري الريح في العطاء لحامته ومن ازدلف إليه ممن يجري مجراهم، فملكوا من عطاياه وسماحه الملايين، وليس فيهم من يبلغ شأوابي ذر في السوابق والفضائل، ولا يشق له غبارا في أكرومة، فماذا الذي أخر أبا ذر عنهم حتى قطعوا عنه عطائه الجاري؟ ومنعوه الحظوة بشئ من الدعة، وأجفلوه عن عقر داره وجوار النبي الأعظم، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولماذا نودي عليه في الشام أن لا يجالسه أحد (1)؟ ولماذا يفر الناس منه في المدينة؟ ولماذا حظر عثمان على الناس أن يقاعدوه ويكلموه؟ ولماذا يمنع الخليفة عن تشييعه ويأمر مروان أن لا يدع أحدا يكلمه؟

فلم يحل ذلك الصحابي العظيم إلا محلا وعرا، ولم يرتحل إلا إلى متبوأ الارهاب كأنما خلق أبو ذر للعقوبة فحسب، وهو من عرفته الأحاديث التي ذكرناها، وقصته لعمر الله وصمة على الاسلام وعلى خليفته لا تنسى مع الأبد.
نعم إن أبا ذر ينقم ما كان مطردا عند ذاك من السرف في العطاء من دون أي كفائة في المعطى (بالفتح) ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وفي كلما يخالف السنة الشريفة واضطهاد أهل السوابق من الأمة بيد أمراء البيت الأموي رجال العيث والعبث، وكانوا يحسبون عرش ذلك اليوم قد استقر على تلكم الأعمال، فرأوا أن في الاصاخة إلى قيل أبي ذر وشاكلته من صلحاء الصحابة تزحزحا لذلك العرش عن مستقره، أو أن مهملجة الجشع الذين حصلوا على تلكم الثروات الطائلة خافوه أن يسلب ما في أيديهم إن وعى واع إلى هتافه، فتألبوا عليه وأغروا خليفة الوقت به بتسويلات متنوعة حتى وقع ما وقع، والخليفة أسير هوى قومه، ومسير بشهواتهم، مدفوع بحب بني أبيه وإن كانوا من الشجرة المنعوتة في القرآن.

وما كان أبو ذر يمنعهم عن جلب الثروة من حقها، ولا يبغي سلب السلطة عمن ملك شيئا ملكا مشروعا، لكنه كان ينقم أهل الأثرة على اغتصابهم حقوق المسلمين، وخضمهم مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، وما كان يتحرى إلا ما أراد الله سبحانه بقوله عز من قائل: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله في الجهات المالية.

أخرج أحمد في مسنده 5: 164، 176 من طريق الأحنف بن قيس قال: كنت بالمدينة فإذا أنا برجل يفر الناس منه حين يرونه قال: قلت: من أنت؟ قال: أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله قال: قلت: ما يفر الناس منك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله.

وفي لفظ مسلم في صحيحه 3: 77 قال الأحنف بن قيس: كنت في نفر من قريش فمر أبو ذر رضي الله عنه وهو يقول: بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي من أقفيتهم بخرج من جباههم قال: ثم تنحى فقعد إلى سارية فقلت: من هذا؟

قالوا: هذا أبو ذر فقمت إليه فقلت: ما شئ سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إ شيئا سمعته من نبيهم صلى الله عليه وآله قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه فإن فيه اليوم معونة فإذا كان ثمنا لدينك فدعه. " سنن البيهقي 6: 359 ".

وأخرج أبو نعيم في الحلية 1: 162 من طريق سفيان بن عيينة بإسناده عن أبي ذر قال: إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل، ولبطن الأرض أحب إلي من ظهرها، وللفقر أحب إلي من الغنى، فقال له رجل: يا أبا ذر! مالك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز.

وفي فتح الباري 3: 213 نقلا عن غيره: الصحيح إن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه. وتعقبه النووي بالابطال لأن السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وهؤلاء لم يخونوا. ا ه‍.

وفي هذا التعقيب تدجيل ظاهر فإن يوم هتاف أبي ذر بمناويه لم يكن العهد لأبي بكر وعمر، وإنما كان ذلك يوم عثمان المخالف لهما في السيرة مخالفة واضحة، والمبائن للسيرة النبوية في كل ما ذكرناه، ولذلك كله كان سلام الله عليه ساكتا عن هتافه في العهدين وكان يقول لعثمان: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله؟

ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنك تبطش بي بطش الجبار. ويقول: إتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. راجع ص 298 و 306.

ولم يكن لأبي ذر منتدح من نداءه والدعوة إلى المعروف الضايع، والنهي عن المنكر الشايع وهو يتلو آناء الليل وأطراف النهار قوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (2). قال ابن خراش: وجدت أبا ذر بالربذة في مظلة شعر فقال: ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يترك الحق لي صديقا (3).

وكان ينكر مع ذلك على معاوية المتخذ شناشن الأكاسرة والقياصرة بالترفه والتوسع والاستيثار بالأموال وكان في العهد النبوي صعلوكا لا مال له ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وآله (4) وفي لفظ: إن معاوية ترب خفيف الحال (5) فما واجب أبي ذر عندئذ؟ وقد أمره النبي الأعظم في حديث (6) السبعة التي أوصاه بها، بأن يقول الحق وإن كان مرا، وأمره بأن لا يخاف في الله لومة لائم. وما الذي يجديه قول عثمان: مالك وذلك؟ لا أم لك؟ ولأبي ذر أن يقول له كما قال: والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولم تكن لما رفع به أبو ذر عقيرته جدة ليس لها سلف من العهد النبوي، فلم يهتف إلا بما تعلمه من الكتاب والسنة، وقد أخذه من الصادع الكريم من فلق فيه، ولم يكن صلى الله عليه وآله يسلب ثروة أحد من أصحابه وكان فيهم تجار وملاك ذوو يسار، ولم يأخذ منهم زيادة على ما عليهم من الحقوق الإلهية، وعلى حذوه حذا أبو ذر في الدعوة والتبليغ.

كان صلى الله عليه وآله أخبره بما يجري عليه من البلاء والعناء وما يصنع به من طرده من الحواضر الإسلامية: مكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة. ووصفه عند ذلك بالصلاح وأمره بالصبر وأن ما يصيبه في الله، فقال أبو ذر: مرحبا بأمر الله. فصلاح أبي ذر يمنعه عن الأمر بخلاف السنة بما يخل نظام المجتمع، وكون بلاءه في الله يأبى أن يكون ما جر إليه ذلك البلاء غير مشروع.

وإن كان ذلك خلاف الصالح العام ولم تكن فيه مرضاة الله ورسوله لوجب عليه صلى الله عليه وآله أن ينهاه عما سينوء به من الإنكار وهو يعلم أن تلك الدعوة تجر عليه الأذى والبلاء الفادح، وتشوه سمعة خليفة المسلمين، وتسود صحيفة تاريخه، وتبقى وصمة عليه مع الأبد.

وما كانت الشريعة السمحاء تأتي بذلك الحكم الشاق الذي اتهم به أبو ذر، ولم يكن قط يقصده وهو شبيه عيسى في أمة محمد صلى الله عليه وآله زهدا ونسكا وبرا وهديا وصدقا وجدا وخلقا.

هكذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله غير أن عثمان قال لما غضب عليه: أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن اضربه أو أحبسه أو اقتله. وكذبه حين رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله حديث بني العاص، عجبا هذا جزاء من نصح لله ورسوله وبلغ عنهما صادقا؟

لاها الله هذا أدب يخص بالخليفة. وأعجب من هذا جواب عثمان لمولانا أمير المؤمنين لما دافع عن أبي ذر بقوله: أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون. أجابه بجواب غليظ أخفاه الواقدي وما أحب أن يذكره ونحن وإن وقفنا عليه من طريق آخر لكن ننزه الكتاب عن ذكره.

وقد تجهم عثمان مرة أخرى إمام المؤمنين عليه السلام بكلام فظ لما شيع هو و ولداه السبطان أبا ذر في سبيله إلى المنفى ومروان يراقبه وقد مر تفصيله ص 294، 297 وفيه قوله لعلي عليه السلام: ما أنت بأفضل عندي من مروان.

إن من هوان الدنيا على الله أن يقع التفاضل بين علي ومروان الوزغ ابن الوزغ اللعين ابن اللعين، أنا لا أدري هل كان الخليفة في معزل عن النصوص النبوية في مروان؟

أو لم يكن مروان ونزعاته الفاسدة بمرأى منه ومسمع؟ أو القرابة والرحم بعثته إلى الاغضاء عنها فرأى ابن الحكم عدلا لمن طهره الجليل ورآه نفس النبي الأعظم في الذكر الحكيم. كبرت كلمة تخرج من أفواهم..


أفحكم
الجاهلية يبغون؟
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟

____________

(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات 4: 168.
(2) سورة آل عمران 104.
(3) الأنساب 5: 55، ومر مثله من طريق آخر ص 301.
(4) صحيح مسلم كتاب النكاح والطلاق 4: 195، سنن النسائي 6: 75، سنن البيهقي 7: 135.
(5) صحيح مسلم 4: 199.
(6) أخرجه ابن سعد في الطبقات 164 من طريق عبادة بن الصامت عن أبي ذر قال: أوصاني خليلي بسبع: بحب المساكين والدنو منهم. وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي. وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا. وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت. وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا. وأمرني أن لا أخاف لومة لائم. وأمرني أن أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله. فإنهن من كنز تحت العرش.



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page