طباعة

تعقيب على الروّاد من الشيعة

تعقيب على الروّاد من الشيعة

هذه الاُمور التي ذكرت أنّي سأعرض لها تعقيباً على نوعية الروّاد الأوائل، هي:

أولا: أنّ هؤلاء الشيعة الذين مرّ ذكرهم مع أنّهم كانوا من الذاهبين إلى أولوية الإمام عليٍّ(عليه السلام) بالخلافة، لأنّه الإمام المفترض الطاعة المنصوص عليه، ومع اعتقادهم بأنّ مَن تقدّم عليه أخذ ما ليس له، ومع امتناع كثير منهم من البيعة للخليفة الأوّل واعتصامهم ببيت الإمام عليٍّ(عليه السلام)، مع كل ذلك لم يُعرف عن أحد منهم أنّه شتم فرداً من الصحابة أو تناوله بطريقة غير مستساغة، بل كانوا أكبر من ذلك وأصلب عوداً من خصومهم ـ ممّا يدلّ على أنّ بعض من عرف بظاهرة شتم الصحابة إنّما صدر منه ذلك كعملية ردّ فعل لأفعال متعددة وسنمرّ على ذلك قريباً ـ إنّهم مع اختلافهم مع الحكم لم يلجؤوا إلى شتم أو بذاء، لأنهم يعرفون أنّ الحقوق لا يوصل إليها بالشتم، وليس الشتم، من شيم الأبطال، والذي يريد أن يسجّل ظلامة، أو يشير إلى حقّ سليب فإنّ طرق ذلك ليس منها الشتم في شيء، وإنّما هناك مناهج سليمة في الوصول لذلك . وقد حرص أميرالمؤمنين(عليه السلام) على تربية أتباعه على المنهج السليم .

ومن مواقفه في ذلك: ما رواه نصر بن مزاحم، قال: مرّ أمير المؤمنين(عليه السلام) على بعض من كان في جيشه بصفِّين، فسمعهم يشتمون معاوية وأصحابه، فقال لابن عدي ولعمرو بن الحمق وغيرهما: «كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين تشتمون وتبرؤون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقلتم من سيرتهم كذا وكذا، ومن أعمالهم كذا وكذا، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان لعنكم إيّاهم وبراءتكم منهم: اللهم احقن دماءهم ودماءنا، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدِهم من ضَلالهم حتى يُعرف الحقّ من جهله منهم، ويرعوي عن الغيّ والعدوان منهم من لهج به، لكان أحبَّ إليَّ وخيراً لكم»، فقالوا: يا أميرالمؤمنين، نقبل عظتك ونتأدّب بأدبك([1]) .

إنّ هذا الموقف منه(عليه السلام) ليشعرهم أنّ الشتم وسيلة نابية، وليست كريمة، ثم هي بعد ذلك تنفيس عن طاقة يمكن الاستفادة منها بادِّخارها وصرفها في عمل إيجابي، يضاف لذلك أنّ الشتم مدعاة للإساءة لمقدسات الشاتم نفسه، ومن هنا حرّم الفقهاء شتم الصنم إذا أدّى إلى شتم الله تعالى، مستفيدين ذلك من قوله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم)([2]). من أجل ذلك كلّه كان الشيعة أطهر ألسِنةً من أن يشتموا وأبعد عن هذا الموقف النابي، ولذلك رأينا كثيراً من الباحثين يؤكدون هذا الجانب في حياة الروّاد الأوائل من الشيعة، مع أنهم يثبتون عقيدتهم بتقديم الإمام عليٍّ(عليه السلام)، ومن هؤلاء:

أ ـ الدكتور أحمد أمين:

يقول عن هؤلاء: إنّهم قسم المقتصد الذي يرى بأنّ أبا بكر وعمر وعثمان ومن شايعهم أخطؤوا إذ رضوا أن يكونوا خلفاء، مع علمهم بفضل عليٍّ وإنّه خير منهم([3]) .

ب ـ ابن خلدون:

يقول: كان جماعة من الصحابة يتشيَّعون لعليٍّ ويرون استحقاقه على غيره، ولمّا عُدِلَ به إلى سواه تأفّفوا من ذلك وأسفوا له، إلاّ أنّ القوم لرسوخ قدمهم في الدين، وحرصهم على الإلفة لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفّف والأسف([4]) .

جـ  ـ ابن حجر في الاستيعاب:

يقول في ترجمة أبي الطفيل: عامر بن واثلة بن كنانة الليثي أبو الطفيل أدرك من حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ثمان سنين، وكان مولده عام اُحد، ومات سنة مائة، ويقال: إنّه آخر من مات ممّن رأى النبيّ، وقد روى نحو أربعة أحاديث، وكان محبّاً لعليٍّ، وكان من أصحابه في مشاهده، وكان ثقة مأموناً، يعترف بفضل الشيخين إلاّ أنّه يقدِّم عليّاً . انتهى باختصار([5]) .

وبعد هذه المقتطفات أودّ أن اُلفت النظر إلى أنّي خلال مراجعاتي كتب التأريخ لم أرَ في الفترة التي تمتدّ من بعد وفاة النبيّ حتى نهاية خلافة الخلفاء من عمد إلى الشتم من أصحاب الإمام، وإنّما هناك من قوّم الخلفاء وقوّم الإمام، وحتى في أشدّ جمحات عاطفة الولاء لم نجد من يشتم أحداً ممّن تقدم الإمام بالخلافة. يقول أبو الأسود الدؤلي:

اُحبّ محمّداً حباً شديداً***وعباساً وحمزة والوصيّا

يقول الأرذلون بنو قشير***طوال الدهر ما تنسى عليّا

اُحبّهمُ لحبِّ الله حتى***أجيء إذا بعثت على هويا

بنو عمّ النبيّ وأقربوه***أحبّ الناس كلّهم إليّا

فإن يك حبّهم رشداً أصبه***ولست بمخطئ إن كان غيّاً([6])

يضاف لذلك أنّه حتى في الفترة الثانية ـ أي في عهود الاُمويين ـ كان معظم الشيعة يتورّعون عن شتم أحد من الصحابة أو التابعين، يقول ابن خلكان في ترجمة يحيى بن يعمر: كان شيعياً من القائلين بتفضيل أهل البيت من غير تنقيص لغيرهم([7]) .

__________________________
[1] . صفين ، لنصر بن مزاحم : 115 .

[2] . الأنعام : 108 .

[3] . فجر الإسلام : 268 .

[4] . تاريخ ابن خلدون : 3/364 .

[5] . الاستيعاب : 2/452 .

[6] . الكامل للمبرد هامش رغبة الأمل ج7 .

[7] . وفيات الأعيان : 2/269 .