• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

ترتيب نزول القرآن وانتشاره(1)

 

 

ترتيب نزول القرآن وانتشاره(1)

كيف نزلت الآيات؟
لم تنزل سور القرآن وآياته دفعة واحدة. وبالاضافة إلى اتضاح الموضوع من التاريخ الذي يشهد بالمنزول طيلة ثلاث وعشرين سنة، فان الآيات نفسها شاهدة على ذلك، قال تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)(1).
وفي القرآن الناسخ والمنسوخ بلا شك، وفيه أيضا آيات تدل على قصص وأحداث لايمكن جمعها في زمن واحد لنذهب إلى وحدة زمن النزول.
والآيات والسور القرآنية لم تنزل قطعا على الترتيب الذي نقرأه في القرآن اليوم، بأن تكون أولا سورة الفاتحة ثم سورة البقرة ثم سورة آل عمران ثم سورة النساء وهكذا.. لأنه بالاضافةالى الشواهد التاريخية على ذلك فان مضامين الآيات نفسها تشهد عليه، لأن بعض السور والآيات لها مضامين تناسب اوائل زمن البعثة وهي واقعة في أواخر القرآن كسورة العلق والنون، وبعضها تناسب ما بعد الهجرة وأواخر عصر الرسول وهي واقعة في أواخر القرآن كسورة البقرة وآل عمران والنساء والانفال والتوبة.
ان اختلاف مضامين السور والآيات وارتباطها الكامل بالاحداث والحوادث التي وقعت طيلة ايام الدعوة، يفرض علينا القول بأن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة عصر الدعوة النبوية.
فمثلا الآيات التي تدعو المشركين إلى الاسلام ونبذ عبادة الأوثان تناسب مع عصر قبل هجرة الرسول من مكة حيث ابتلي الرسول بالوثنيين. وأما آيات القتال وآيات الأحكام فقد نزلت في المدينة المنورة حيث أخذ الاسلام ينتشر وأصبحت المدينة تشكل حكومة اسلامية كبرى.
بعد البحث السابق:
بناء على البحث السابق تنقسم الآيات والسور القرآنية إلى أقسام حسب اختلاف محل النزول وزمانه وأسبابه وشروطه وهي:
1- بعض السور والآيات مكية وبعضها مدنية، فان ما نزل قبل هجرة الرسول من مكة يعتبر مكيا، وهو القسم الاكبر من السور وعلى الأخص السور القصيرة، ومانزل بعد هجرة الرسول يسمى مدنيا ولو كان نزولها خارج المدنية وحتى لو كان في مكة نفسها.
2- بعض السور والآيات نزلت في السفر وبعضها في الحضر، وهكذا تنقسم إلى مانزل بالليل أو بالنهار، أو مانزل في الحرب أو في السلم، أو ما نزل في الأرض أو في السماء، أو ما نزل بين الناس أو في حال الانفراد. وسنبحث عن فائد معرفة هذه الأقسام في فصل «أسباب النزول».
3- نزلت بعض السور مكررا كما يقال في سورة الفاتحة حيث نزلت في مكة والمدينة، كما أن بعض الآيات نزلت مكررا كآية (فبأي آلاء ربكما تكذبان) حيث كررت في سورة الرحمن ثلاثون مرة، وآية (ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وان ربك لهو العزيز الرحيم)حيث كررت في سورة الشعراء ثمان مرات. وقد تكررت بعض الآيات في اكثر من سورة واحدة كآية (ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين) حيث كررت في ست سور مختلفة.
وهكذا نجد جملة خاصة هي آية كاملة في مكان وجزء آية في مكان آخر، نحو (الله لا اله الا هو الحي القيوم) فحصي في أول سورة آل عمران آية كاملة، وفي سورة البقرة جزء من آية الكرسي.
ولكن مع هذا كله أكثر السور والآيات نزلت مرة واحدة فقط.
وعلة هذا الاختلاف هي اختلاف مايقتضيه البيان، ففي موضع يقتضي تكرار الجملة للتنبيه مثلا، وفي موضع لايقتضي ذلك.
ويشبه هذا الاختلاف الاختلاف الموجود بين السور والآيات في الطول والقصر، فالى جانب سورة الكوثر أقصر السور نجد سورة البقرة أطولها، كما نرى آية «مدهامتان» أقصر آية إلى جانب آية الدين وهي الآية 282 من سورة البقرة  أطول آية في القرآن.
كل هذه الاختلافات لمقتضيات بيانية، وربما نجدها في آيتين متصلتين أيضا، كالآيتين 20 و21 من سورة المدثر مثلا، فان الأولى جملة واحدة والثانية أكثر من خمس عشرة جملة.
ومن وجوه الاختلاف أيضا ما نجده عند المقارنة بين السور والآيات في الايجاز والاطناب، كما يتبين ذلك عند مقابلة أمثال سورة الفجر وسورة الليل بأمثال سورة البقرة والمائدة، والغالب في السور المكية الايجاز كما أن الغالب في السور المدنية الاطناب.
ومن هذا القبيل مايقال بأن أول مانزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو سورة العلق او خمس آيات الأولى منها بالقياس إلى آخر ما نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو قوله تعالى: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لايظلمون)(2).
أسباب النزول:
لقد قلنا ان كثيرا من السور والآيات ترتبط بالحوادث والاحداث التي وقعت ايام الدعوة كسورة البقرة والحشر العاديات(3)، او نزلت لحاجات ضرورية من الأحكام والقوانين الاسلامية كسورة النساء والأنفال والطلاق وأشباهها(4).
هذه القضايا التي سببت نزول السور أو الآية هي المسماة بـ«أسباب النزول»، ومعرفتها تساعد إلى حد كبير في معرفة الآية المباركة وما فيها من المعاني والاسرار.
ومن هنا اهتم جماعة من محدثي الصحابة والتابعين بأحاديث أسباب النزول، فنقلوا احاديث كثيرة من هذا القبيل.
هذه الأحاديث من طرق أهل السنة كثيرة جدا ربما تبلغ عدة آلاف حديثا، وأما من طريق الشيعة فهي قليلة وربما لا تبلغ الا عدة مئات. ويلاحظ أن كل هذه الأحاديث ليست مسندة وصحيحة بل فيها المرسل الضعيف أيضا، والنظر والتأمل فيها يدعو الانسان إلى الشك فيها، لأنها:
أولا - سياق كثير منها يدل على أن الراوي لاينقل السبب من طريق المشافهة والتحمل والحفاظ، بل ينقل قصة ما ثم يحمل الآيات عليها حملا ويربطها بها ربطا، وفي الحقيقة سبب النزول الذي يذكره انما هو سبب اجتهادي نظري وليس بسبب شاهده بالعيان وضبطه بحدوده الدقيقة.
و الشاهد على مانقول التناقض الكثير في هذه الأحاديث ونعني به أن الآية الواحدة يذكر فيها عدة أحاديث في أسباب النزول يناقض بعضها بعضا ولايمكن جمعها بشكل من الأشكال حتى في بعض الآيات يذكر عن شخص واحد كابن عباس مثلا أسبابا للنزول لايمكن الجمع بينها.
ان ورود هذه الأحاديث المتناقضة المتهافتة لايمكن حمله الا على أحد محملين: اما أن نقول ان اسباب النزول هذه نظرية اجتهادية وليست بنقلية وكان كل محدث يحاول أن يربط بين قصة ما والآية ربطا لاحقيقة له في الخارج، أو نقول بأن هذه الأحاديث كلها أو جلها مدسوسة ليس لها ظل من الواقع.
مع ورود هذه الاحتمالات تسقط أحاديث أسباب النزول عن الاعتبار، ولهذا لايمكن الاطمئنان حتى على الأحاديث التي أسانيدها صحيحة، لأن صحة السند يرفع الكذب عن رجال السند أو عدم تضعيفهم، ولكن احتمال الدس أو أعمال النظر الخاص يبقى بحاله.
وثانيا- ثبت تاريخيا أن الخلافة كانت تمنع عن كتابة الحديث، وكلما كانوا يعثرون على ورقة أو لوحة كتب فيها الحديث كانت تحرق، وبقي هذا المنع إلى آخر القرن الأول الهجري، أي لمدة تسعين سنة تقريبا.
هذا المنع فتح للرواة طريق النقل بالمعنى، وكان الحديث يمنى بتغييرات كلما حدث راو إلى راو آخر حتى أصبحت الأحاديث تروى على غير وجهها. وهذا واضح بين لمن راجع قصة ورد فيها أحاديث طرق مختلفة، فان الانسان ربما يشاهد حديثين في قصة واحدة لايمكن اجتماعهما في نقطة من النقاط وشيوع النقل بالمعنى بهذا الشكل المريب هو أحد الأشياء التي تسبب عدم الوزن لأحاديث أسباب النزول وقلة اعتبارها.
ان شيوع الدس في الحديث والكذب على الرسول ودخول الاسرائيليات في الروايات وما صنعه المنافقون وذوو الاغراض بالاضافة إلى النقل بالمعنى وماقيل في الوجه الاول.. كل هذا قلل من قيمة أحاديث أسباب النزول وأسقطها عن الاعتبار.
المنهج الذي لابد ان يتخذ في أسباب النزول:
لقد ذكرنا في الفصول السابقة أن الحديث يحتاج إلى التأييد القرآني، وعلى هذا يجب عرض الحديث على القرآن كما ورد في أحاديث عن الرسول واهل بيته عليهم السلام.
وعليه سبب النزول الوارد حول آية من الآيات لو لم يكن متواترا أو قطعي الصدور يجب عرضه علىالقرآن، مما وافقه مضمونه مضمون الآية يؤخذ به ويعمل عليه. ومعنى هذا أن الحديث هو الذي يعرض دائما على القرآن لا القرآن يعرض على الحديث.
وهذه الطريقة تسقط اكثر أحاديث أسباب النزول عن الاعتبار، الا أن الباقي منها يكسب كل الاعتبار والوثوق.
وليعلم أن الأهداف القرآنية العالية التي هي المعارف العالمية الدائمة (كما سنفصل ذلك فيما سيأتي) لاتحتاج كثيرا أو لاتحتاج أبدا إلى أسباب النزول.
ترتيب نزول السور:
لاشك ان السور والآيات القرآنية لم تثبت في القرآن على ترتيب نزولها على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وعلماء الاسلام الماضون وخاصة أهل السنة منهم كانوا يعتمدون في ترتيب السور والآيات على الحديث، ومن الأحاديث المذكورة بهذا الشأن حديث مروي عن ابن عباس حيث يقول(5).
كانت اذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ماشاء، وكان أول مانزل من القرآن:
1-أقرأ باسك ربك 2-ثم «ن» 3-ثم أيها المزمل 4-ثم يا أيها المدثر5-ثم تبت يدا أبى لهب6-ثم اذا الشمس كورت7-ثم سبح اسم ربك الأعلى8-ثم والليل اذا يغشى9-ثم والفجر 10-ثم والضحى 11-ثم ألم نشرح 12-ثم والعصر 13-ثم والعاديات14-ثم انا أعطيناك 15-ثم ألهاكم التكاثر 16-ثم أرايت الذي يكذب 17-ثم قل يا أيها الكافرون 18-ثم ألم تر كيف فعل ربك19- ثم قل أعوذ برب الفلق20-ثم قل أعوذ برب الناس21- ثم قل هو الله أحد22-ثم والنجم23-ثم عبس24-ثم انا أنزلناه في ليلة القدر25-ثم والشمس وضحاها26--ثم والسماء ذات البروج27-ثم والتين28-ثم لأيلاف قريش29-ثم القارعة30-ثم لا أقسم بيوم القيامة31-ثم ويل لكل همزة لمزة32-ثم والمرسلات33-ثم «ق»34-ثم لاأقسم بهذا البلد35-ثم والسماء والطارق 36-ثم اقتربت الساعة 37-ثم (ص) 38-ثم الأعراف 58-ثم الزمر39-ثم قل أوحي40-ثم يس 41-ثم الفرقان 42--ثم الملائكة 43-ثم كهيعص 44-ثم طه 45-ثم الواقعة 46-ثم طسم الشعراء 47-ثم طس48-ثم القصص 49-ثم بني اسرائيل 50-ثم يونس 51-ثم هود 52-ثم يوسف 53-ثم الحجر 54-ثم الانعام 55-ثم الصافات 56- ثم لقمان57-ثم سبأ59-ثم حم المؤمن60-ثم حم السجدة61-ثم حمعق62-ثم حم الزخرف63-ثم الدخان64-ثم الجاثية65-ثم الأحقاف66-ثم الذاريات67-ثم الغاشية68-ثم الكهف69-ثم النحل70-ثم انا أرسلنا نوحا71-ثم ابراهيم72-ثم الأنبياء73-ثم المؤمنين74-ثم تنزيل السجدة75-ثم الطور 76-ثم تبارك الملك 77-ثم الحاقة 78-ثم سأل 79-ثم عم يتساءلون 80-ثم النازعات 81-ثم اذا السماء انفطرت 82-ثم اذا السماء انشقت 83-ثم الروم 84-ثم العنكبوت 85-ثم ويل للمطففين
قال ابن عباس: فهذا ما أنزل الله بمكة، ثم أنزل بالمدينة:
86-سورة البقرة 87-ثم الانفال 88-ثم آل عمران 89-ثم الأحزاب 90-ثم الممتحنة 91-ثم النساء92-ثم اذا زلزلت 93-ثم الحديد 94-ثم القتال 95-ثم الرعد 96-ثم الرحمن 97-ثم الانسان 98-ثم الطلاق 99-ثم لم يكن 100-ثم الحشر 101-ثم اذا جاء نصر الله 102-ثم النور 103-ثم الحج  104-ثم المنافقون  105-ثم المجادلة 106-ثم الحجرات 107-ثم التحريم 108-ثم الجمعة 109-ثم التغابن  110-ثم الصف 111- ثم الفتح  112- ثم المائدة 113-ثم البراءة
نظرة في الحديث والاحاديث الاخرى:
الحديث المنقول عن ابن عباس عدد السور (113) سورة كما رأيت ولم يذكر سورة الفاتحة.
وفي حديث رواه البيهقي(6) عن عكرمة عدد السور(111) سورة ولم يذكر سورة الفاتحة والأعراف والشورى، كما أنه روى حديثا آخر عن ابن عباس ذكر فيه (114) سورة، الا ان الراويتين: أولا اعتبرتا سورة المطففين من السور المدنية بخلاف الحديث السابق الذي ذكر سورة المطففين أنها مكية وثانيا تغاير ترتيب السور فيها مع ماذكرنا سابقا.
وروي حديث آخر عن علي بن ابي طلحة(7) يقول فيه: نزلت بالمدينة سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانفال والتوبة والحج والنور والأحزاب والذين كفروا والفتح والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والحوريين يريد الصف والتغابن ويا أيها النبي اذا طلقتم النساء ويا أيها النبي لم تحرم والفجر والليل وانا أنزلناه في ليلة القدر ولم يكن واذا زلزلت واذا جاء نصر الله، وسائر ذلك بمكة.
الظاهر أن هذا الحديث يريد التفرقة والتمييز بين السور المكية والمدنية من دون نظر إلى ترتيب النزول، لأن سورتي المائدة والتوبة بلا شك تقعان في الترتيب بعد ما هو مذكور بكثير، وقد عدد سورة الفجر والليل والقدر من السور المدنية بينما الأحاديث السابقة عدتها من السور المكية، كما أنه جعل سورة الرعد والرحمن والانسان والجمعة والحجرات مكية وهي مدنية في الاحاديث السابقة.
وفي حديث عن قتادة(8) انه قال: نزل في المدينة من القرآن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وبراءة والرعد والنحل والحج والنور والاحزاب ومحمد والفتح والحجرات والحديد والرحمن والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والطلاق ويا أيها النبي لم تحرم إلى رأس العشر. واذا زلزلت واذا جاء نصر الله، وسائر القرآن نزل بمكة.
هذا الحديث يخالف الأحاديث السابقة وخاصة  حديث آخر مروي عن قتادة نفسه  في سورة المطففين والانسان ولم يكن.
والذي يمكن ان يقال في هذه الاحاديث انه لايمكن الاعتماد عليها بوجه من الوجوه، لانه ليس لها قيمة الاحاديث الدينية ولاقيمة النقول التاريخية. أما أنها ليس لها قيمة الاحاديث الدينية فلأنها لم يتصل سندها بالنبي صلى الله عليه واله وسلم ولم يعلم ان ابن عباس مثلا تعلم الترتيب من النبي أو من انسان آخر أو هو اجتهادي نظري. وأما من الوجهة التاريخية فلأن ابن عباس مثلا ادرك مدة قصيرة من حياة الرسول ولم يكن معه دائما حتى يشاهد كيفية نزول كل السور والآيات، فلو لم يكن اجتهد في هذا التريب فلابد أنه نقله من انسان آخر لم نعلم شخصه، فهذا نقل تاريخي لم يذكر فيه المصدر فليس له قيمة في سوق التحقيق.
وعلى فرض صحة هذه الأحاديث واستقامتها فهي من قبيل الخبر الواحد، وقد ثبت في أصول الفقه ان الخبر الواحد غير حجة في ماعدا الفقه.
فاذا الطريقة الوحيدة لمعرفة المكي والمدني هو التدبر في الآيات والنظر في مدى موافقتها لما جرى قبل الهجرة أو بعدها هذه الطريقة مفيدة إلى حد ما للتمييز بين المكي والمدني، فان مضامين سورة الانسان والعاديات والمطففين تشهد بأنها مدنية بالرغم من أنها ذكرت في بعض الأحاديث على انها مكية.
جمع القرآن في مصحف:
(أ) القرآن قبل الرحلة:
كان القرآن الكريم ينزل آية آية وسورة سورة، ولما كان يتمتع بالفصاحة الخارقة والبلاغة الفائقة كان ينتشر بسرعة هائلة وكان العرب عشاق الفصاحة والبلاغة ينجذبون اليه فيأتون من بلاد بعيدة لاستماع بعض آياته من شفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وعظماء مكة وأهل النفوذ من قريش كانوا عباد الأوثان وألد أعداء الدعوة الاسلامية، وكانت محاولاتهم شديدة في ابعاد الناس عن النبي وعدم اعطاء الفرصة لاستماع القرآن بحجة أنه سحر يلقى عليهم.
ومع هذا كله كانوا يأتون في الليالي الظلماء خفية إلى قرب بيت النبي ويستمعون إلى الآيات التي كان يقرأها صلى الله عليه وآله وسلم.
وجدّ المسلمون أيضا في حفظ القرآن وضبطه، لأن النبي أمر تبعليم القرآن اياهم(9)، ولأنهم كانوا يعتقدون أنه كلام الله تعالى، وهو السند الأول لعقائدهم الدينية، ويفرض عليهم في الصلاة قراءة سورة الفاتحة ومقدار آخر من القرآن.
ولما هاجر النبي إلى المدينة وانتظمت أمور المسلمين أمر الرسول جماعة من أصحابه بالاهتمام في شأن القرآن وتعليمه وتعلمه ونشر الأحكام الدينية وماينزل عليه من الوحي، فكانت تسجل هذه يوما فيوما حتى لاتضيع ، وأعفي هؤلاء عن الحضور في جبهات الجهاد كما هو صريح القرآن الكريم(10).
ونظرا إلى ان الصحابة المهاجرين من مكة إلى المدينة كان اكثرهم استفاد الرسول من الأسراء اليهود وأمر كل أسير أن يعلم عددا من أصحابه، وبهذه الطريقة وجد في الصحابة جماعة متعلمين يعرفون الكتابة والقراءة.
ومن هؤلاء الجماعة اشتغل أناس بقراءة القرآن وحفظه وضبط سوره وآياته، وهم الذين عرفوا فيما بعد بـ«القراء» ومنهم استشهد في واقعة بئر معونة أربعون أو سبعون شخصا.
وكان كلما نزل من القرآن أو ينزل تدريجا، يكتب في الألواح او اكتاف الشاة أو جريد النخل ويحفظ.
والذي لايقبل الشك ولايمكن انكاره هو أن اكثر السور القرآنية كانت منتشرة دائرة على السنة الصحابة قبل رحلة الرسول، وقد وردت اسماء كثير من السور في أحاديث جمة منقولة من طرق الشيعة والسنة تصف كيفية تبليغ النبي الدعوة الاسلامية و الصلوات التي كان يصليها وسيرته في قراءة القرآن.
وهكذا نجد في الأحاديث أسماء خاصة قبل رحلة الرسول لطائفة طائفة من السور كالطول والمئين والمثاني والمفصلات.
بعد رحلة الرسول:
بعدما ارتحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى جلس علي عليه السلام الذي كان بنص من النبي أعلم الناس بالقرآن  في بيته حتى جمع القرآن في مصحف على ترتيب النزول، ولم يمض ستة أشهر من وفاة الرسول الا كان علي قد فرغ من عمل الجمع وحمله للناس على بعير(11).
وبعد الرحلة بسنة واحدة(12) حدثت حرب اليمامة التي قتل فيها سبعون من القراء، ففكرت الخلافة في جمع السور والآيات في مصحف خوفا من حدوث حرب أخرى وفناء القراء وذهاب القرآن على أثر موتهم.
أمرت الخلافة جماعة من قراء الصحابة تحت قيادة زيد بن ثابت الصحابي بالجمع، فجمعوا القرآن من الالواح وجريد النخل والاكتاف التي كانت في بيت النبي بخطوط كتاب الوحي والتي كانت عند بقية الصحابة. وعندما كملت عملية الجمع استنسخوا عدة من النسخ وأرسلت إلى الأقطار الاسلامية.
وبعد مدة علم الخليفة الثالث(13) أن القرآن مهدد بالتحريف والتبديل على اثر المساهلة في أمر الاستنساخ والضبط، فأمر بأخذ مصحف حفصة  وهي اول نسخة من نسخ الخليفة الأول  وأمر خمسة من الصحابة منهم زيد بن ثابت أن يستنسخوا من ذلك المصحف، كما أمر أن تجمع كل النسخ الموجودة في الامصار وترسل إلى المدينة، وكانت تحرق عندما تصل نسخة من تلك النسخ.
كتبوا خمس نسخ من القرآن، فجعلوا نسخة منها في المدينة وأرسلوا نسخة إلى مكة ونسخة إلى الشام ونسخة إلى الكوفة ونسخة إلى البصرة. ويقال ان غير هذه النسخ الخمس أرسلت نسخة أيضا إلى اليمين ونسخة إلى البحرين. وهذه النسخة هي التي تعرف بـ«مصحف الامام»، وجميع نسخ القرآن مكتوبة على احدى هذه النسخ.
الاختلاف الموجود(14) بين هذه النسخ والمصحف الأول أن في المصحف الأول كانت سورة البراءة بين المئين وسورة الأنفال في المثاني، وفي مصحف الامام وضعت سورة الأنفال والبراءة في مكان واحد بين سورة الأعراف وسورة يونس.
اهتمام المسلمين بالقرآن:
لقد قلنا ان الآيات والسور كانت موزعة عند المسلمين قبل الجمع الأول والثاني، وكانوا يهتمون بشأنها بالغ الاهتمام. وبالاضافة إلى هذا كان جماعة من الصحابة والتابعين من القراء وجمع القرآن تم بحضور هؤلاء وهم كلهم قد قبلوا المصحف إلى وضع تحت تصرفهم واستنسخوا بلا رد ولا ايراد.
وحتى في الجمع الثاني (جمع عثمان) ارادوا حذف الواو من آية (والذين يكنزون الذهب والفضة)(15) فمنعوهم من هذا وهددهم أبي بن كعب الصحابي باعمال السيف لو لم يثبتوا الواو فاثبتوها(16).
قرأ الخليفة الثاني(17) في أيام خلافته جملة (والذين اتبعوهم باحسان) من آية (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان)(18) بدون واو العطف فخاصموه حتى ألزموه بقراءتها مع الواو.
والامام امير المؤمنين عليه السلام بالرغم من أنه كان اول من جمع القرآن على ترتيب النزول وردوا جمعه ولم يشركوه في الجمع الاول والثاني، مع هذا لم يبد أية مخالفة أو معارضة وقبل المصحف ولم يقل شيئا عن هذا الموضوع حتى في أيام خلافته.
وهكذا أئمة اهل البيت عليهم السلام أولاد علي وخلفاؤه لم يخالفوا في الموضوع ولم يقولوا شيئا حتى لأخص أصحابهم، بل كانوا دائما يستشهدون بما في هذا المصحف ويأمرون الشيعة بالقراءة كما يقرأ الناس(19).
ويمكننا القول بجرأة أن سكوت علي عليه السلام الذي كان مصحفه يخالف في الترتيب المصحف المنتشر، كان لأن ترتيب النزول لم يكن ذا أهمية في تفسير القرآن بالقرآن الذي يهتم به أهل البيت عليهم السلام، بل المهم فيه هو ملاحظة مجموع الآيات ومقارنة بعضها ببعض، لأن القرآن الذي هو الكتاب الدائم لكل الأزمان والعصور والأقوام والشعوب لايمكن حصر مقاصده في خصوصية زمنية أو مكانية أو حوادث النزول وأشباهها.
نعم، بمعرفة هذه الخصوصيات يمكن استفادة بعض الفوائد كالعلم بتاريخ ظهور بعض المعارف والأحكام والقصص التي كانت مقارنة لنزول الآيات، وهكذا معرفة كيفية تقدم الدعوة الاسلامية في ثلاث وعشرين سنة وأمثالها.. ولكن المحافظة على الوحدة الاسلامية التي كانت الهدف الدائم لأهل البيت هي أهم من هذه الفوائد الجزئية.
القرآن مصون من التحريف:
تاريخ القرآن واضح بين من حين نزوله حتى هذا اليوم كانت الآيات والسور دائرة على ألسنة المسلمين يتداولونها بينهم. وكلنا نعلم أن هذا القرآن الذي بأيدينا اليوم هو القرآن الذي نزل تدريجا على الرسول قبل أربعة عشر قرنا.
فاذا لايحتاج القرآن في ثبوته واعتباره إلى التاريخ مع وضوح تاريخه، لأن الكتاب الذي يدعي أنه كلام الله تعالى ويستدل على دعواه بآياته ويتحدى الجن والانس على أن يأتوا بمثله، لايمكن لاثباته ونفي التغيير والتحريف عنه التثبت بالادلة والشواهد أو تأييد شخص أو فئة لاثبات مدعاه.
نعم، أوضح دليل على أن القرآن الذي هو بأيدينا اليوم هو القرآن الذي نزل على النبي الكريم ولم يطرأ عليه أي تحريف أو تغيير، أن الأوصاف التي ذكرها القرآن نفسه موجودة اليوم كما كانت في السابق.
يقول القرآن: انني نور وهداية وأرشد الناس إلى الحق والحقيقة.
ويقول: انني أبين ما يحتاج اليه الانسان ويتفق مع فطرته السليمة.
ويقول: انني كلام الله تعالى، ولو لم تصدقوا فليجتمع الانس والجن للاتيان بمثله، أو ليأتوا بمثل محمد الامي الذي لم يدرس طيلة حايته وليقل لهم مثل مانطق به محمد، أو انظروا في هل تجدون اختلافا في اسلوبي أو معارفي أو أحكامي.
ان هذه الاوصاف والمميزات باقية في القرآن الكريم.
أما الارشاد إلى الحق والحقيقة ففي القرآن الذي بأيدينا بيان تام للاسرار الكوينة بأدق البراهين العقلية، وهو الملجأ الوحيد لدستور الحياة السعيدة الهانئة، ويدعو الانسان بمنتهى الدقة إلى الايمان طالبا خيره وحسن مآله.
وأما بيان ما يحتاج اليه الانسان في حياته فان القرآن بنظراته الصائبة جعل التوحيد الأساس الأصلي له، واستنتج بقية المعارف الاعتقادية منه ولم يغفل في هذا عن أصغر نكتة ثم استنتج منه الأخلاق الفاضلة وبينها بطرق واضحة جلية ثم بين أعمال الأنسان وأفعاله الفردية والاجتماعية وذكر وظائفه حسب ماتدل عليه الفطرة الانسانية، محيلا التفاصيل إلى السنة النبوية.
ومن مجموع الكتاب والسنة نستحصل على الدين الاسلامي بأبعاده البعيدة، الدين الذي حسب لكل الجهات الفردية والاجتماعية في كل الأزمان والعصور حسابها الدقيق المتقن وأعطى حكمها خاليا عن التضاد والتدافع في أجزائه ومواده.
الاسلام الدين الذي يعجز عن تصور فهرس مسائله اكبر حقوقي في العالم طيلة حياته.
وأما اعجاز القرآن في أسلوبه البياني، فان اسلوب القرآن البياني كان من نسخ اللغة العربية في عصرها الذهبي الذي كانت الأمة العربية تتمتع فيه بالفصاحة والبلاغة، وأسلوب القرآن كان شعلة وهاجة تسطع في ذلك العصر. والعرب فقدت الفصاحة والبلاغة في القرن الأول الهجري على أثر الفتوحات الاسلامية وخلط العرب بغيرهم من الأعاجم والبعيدين عن اللغة واصبحت لغة التخاطب العربية كبقية اللغات فاقدة ذلك الاشراق البلاغي وتلك اللمعة المضيئة. ولكن اعجاز القرآن ليس في أسلوبه الخطابي اللفظي فقط، فانه يتحدى الناس في أسلوبه اللفظي والمعنوي.
ومع ذلك فان الذين لهم المام باللغة العربية شعرها ونثرها لايمكن الشك في أن لغة القرآن لغة في منتهى العذوبة والفصاحة تتحير فيها الافهام ولايمكن وصفها بالالسن. ليس القرآن بشعر ولا نثر، بل أسلوب خاص يجذب جذب الشعر الرفيع وهو سلس سلاسة النثر العالي، لوضعت آية من آياته أو جملة من جمله في خطبة من خطب البلغاء أو صفحة من كتابة الفصحاء لأشرق كاشراق المصباح في الارض المظلمة.
ومن الجهات المعنوية غير اللفظية احتفظ القرآن على اعجاز فان البرامج الاسلامية الواسعة الشاملة للمعارف الاعتقادية والأخلاقية والقوانين العملية الفردية والاجتماعية، والتي نجد أسسها وأصولها في القرآن الكريم خارجة عن نطاق قدرة الانسان، وخاصة في انسان عاش كحياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيئته وأمته.
محال نزول كتاب كالقرآن على وتيرة واحدة ومتشابهة الأجزاء في مدة ثلاث وعشرين سنة في ظروف مختلفة وأحوال متفاوتة، في الخوف والاضطراب والأمن والسلامة، في الحرب و السلم، في الخلوة والوحدة والازدحام والاجتماع، في السفر والحضر.. تنزل سورة سورة وآية آية ولايوجد بينها اختلاف وتناقض وتهافت.
والخلاصة كل الأوصاف التي كانت متوفرة في قرآن محمد موجودة في هذا القرآن بلا تغيير ولا تحريف ولاتبديل بالاضافةالى أن الله تعالى أخبر أن القرآن مصون عن كل تغيير فقال: (انا نزلنا الذكر وانا له لحافظون)(20).
وقال: (وانه لكتاب عزيز لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(21).
بمقتضى هذه الآيات القرآنية مصون عن كل مايخدش بكرامته والله تعالى هو الحافظ له، وخاصة انه الهادي إلى المعارف الحقة فيجب أن يكون مصونا كذلك.. ولأن الله تعالى وعد بحفظه نجده محفوظا عن كل عيب ونقص بالرغم من مرور أربعة عشر قرنا من نزوله وترصد ملايين الأعداء الألداء للحط من كرامته، وهو الكتاب السماوي الوحيد الذي دام هذا الزمن الطويل ولم يطرأ عليه التغيير والتبديل.

______________________________
(1) سورة الاسراء: 106.
(2) سورة البقرة: 281.
(3) نزلت سورة البقرة في السنة الأولى من الهجرة، كثير من آياتها في تقريع اليهود الذين كانوا يقفون دون التقدم الاسلامي، وبقية آياتها في تشريع بعض الأحكام كتغيير القبلة وتشريع الصوم والحج وغيرها. وسورة الحشر نزلت في خصوص جلاء يهود بني النضير، وسورة العاديات نزلت في خصوص أعراب وادي يابس أو غيرهم.
(4) سورة النساء تتحدث عن أحكام الزواج وارث المرأة، وسورة الأنفال تتحدث عن غنائم الحرب والأسراء، وسورة الطلاق تتحدث عن خصوص أحكام الطلاق.
(5) الاتقان1/10، نقلا عن فضائل القرآن لابن ضريس.
(6) الاتقان1/10.
(7) المصدر السابق.
(8) الاتقان1/11.
(9) سورة النحل: 44، وآيات كثيرة أخرى.
(10) سورة التوبة: 122.
(11) المصحف للسجستاني.
(12) الاتقان1/59 ¬ 60.
(13) المصدر السابق1/61.
(14) الاتقان1/62.
(15) سورة التوبة: 34.
(16) الدر المنثور3/232.
(17) الدر المنثور3/369.
(18) سورة التوبة:100.
(19) الوافي5/273.
(20) سورة الحجر:9.
(21) سورة السجدة:42.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page