طباعة

هل الذين قتلوا الحسين (عليهم السّلام) كانوا شيعة ؟

جاؤوا بسبعين ألفاً سلْ بقيَّتهُمْ       هل قابلونا وقدْ جئنا بسبعينا

لقد تعدّدت الروايات واختلفت الأخبار في عدد أفراد الجيش الذي خرج إلى حرب الحسين (عليه السّلام) بكربلاء ، والأشهر الأصح منها يتفاوت و يتراوح بين الثلاثين ألفاً والسبعين ألف مقاتل . وقد أجمع المؤرّخون على أنّهم جميعاً كانوا من أهل الكوفة خاصّة ، ليس فيهم شامي ولا حجازي ولا بصري . والمعروف عن أهل الكوفة أنّهم شيعة ، أو يغلب عليهم التشيّع لأهل البيت (عليهم السّلام) .
و من هنا استنتج بعض الذين كتبوا في الحسين (عليه السّلام) أنّ الشيعة هم الذين قتلوا الحسين (عليه السّلام) بكربلاء ، و يفسّرون أيضاً زيارة الشيعة لمرقد الحسين (عليه السّلام) بكربلاء ، و بكاءهم عليه أيّام عاشوراء و غيرها مِنْ مظاهر الحداد التي يقيمونها عليه بأنّه ندم وتكفير لما فعله سلفهم وآبائهم مِنْ قبل ، و تعبير منهم عن مدى إحساسهم بقبح الجريمة التي ارتكبها الأجداد .
أقول : هكذا قال بعض المعاصرين من الذين كتبوا عن الحسين (عليه السّلام) فهل هذا صحيح ؟!
الجواب : كلا ، لمْ يكن في ذلك الجيش الذي اجتمع على حرب الحسين (عليه السّلام) بكربلاء يوم العاشر من المحرّم ولا شيعي واحد ؛ بل كان ذلك الجيش خليطاً مؤلّفاً من الخوارج ، و من الحزب الاُموي ، و من المنافقين الذين عانى منهم الإمام علي والإمام الحسن (عليهما السّلام) من المحن والأذى . و أيضاً كان فيهم كثير من المرتزقة الذين كانوا يشكلّون جيشاً نظامياً أقامه الولاة للاستعانة بهم على قمع الفتن والحركات الداخلية ، وكان أكثرهم من الحمر ـ أي غير العرب ـ لمْ يعرف لهم نسب ولا حسب ولا مبدأ . و بكلمة واحدة : ما كان فيهم شيعي قط .
و دليلنا على ذلك هو :
أولاً : إنّ الكوفة كانت علوية النزعة ، و يغلب عليها التشيّع في عهد الإمام علي (عليه السّلام) ، ولكنّها لمْ تبقَ على ذلك بعده ؛ لأنّ معاوية و ولاته عندما استولوا على الكوفة بعد مقتل الإمام علي (عليه السّلام) قتلوا الشيعة فيها وشرّدوهم حتّى لمْ يبقَ فيها في عصر زياد ونجله شيعي بارز معروف إلاّ و هو مقتول أو مسجون أو مشرّد .
و إنْ أردت تفصيل ما فعله معاوية بالشيعة في الكوفة وغيرها في عهد خلافته فاقرأ كتب التاريخ والسيرة ؛ لتعرف كيف قامت المجازر البشرية ونصبت المشانق ، وفتحت السجون لإبادة الشيعة والتشيّع في ذلك العصر المشؤوم حتّى بلغ الحال أنّ الرجل كان يتّهم بالكفر والإلحاد والزندقة فلا خوف عليه ، ولكن إذا اتّهم بالتشيع لعلي (عليه السّلام) سفك دمه و نهب ماله و هدمت داره .
كتب معاوية بن أبي سفيان بنسخة واحدة إلى جميع عمّاله و ولاته في الأقطار : أن انظروا إلى مَنْ يُتّهم بحبّ علي فامسحوا اسمه من الديوان ( أي مِنْ كافة الحقوق المدنية والمالية ) ، و مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه مِنْ شيعة علي فاقتلوه وانهبوا ماله واهدموا داره .
ولقد حار الخبراء والمتتبعون للتأريخ كيف بقي في العالم شيعة مع تلك الحملات الإبادية والاضطهادات والمطاردات التي قامت ضدّهم طيلة مئة عام أو أكثر فترة الحكم الاُموي و بعده ؛ في حين أنّ بعض الطوائف التي ظهرت في تلك الفترة قد أُبيدت وزالت كلّياً لمّا وجّه إليها بعض ما وجّه إلى الشيعة من الضغط والتنكيل ؟!
أجل ، إنّ المقتضى الطبيعي لما لاقاه الشيعة مِنْ أعدائهم إبّان الحكم الاُموي هو أنْ لا يبقى لهم عين في العالم ولا أثر ، ولكن بما أنّ التشيّع هو دين الله الكامل و نوره المبين والحق الذي لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه ولا مِنْ خلفه ، و شريعة قرآنه المنزل على خاتم أنبيائه محمد (صلّى الله عليه وآله) ، فقد تعهّد الله سبحانه و تعالى أنْ يحفظ دينه و يتمّ نوره ، و يحفظ قرآنه ويظهر الحقّ على الباطل ولو كره الكافرون : ( أَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ).
وها هو التشيّع اليوم يعمّ أقطار الأرض ، ولا يكاد يخلو منه مكان في العالم ، والذين ينتمون إليه اليوم يبلغون مئة مليون أو أكثر من المسلمين ، و هذا علي بن أبي طالب الذي كان يشتم و يسبّ على المنابر الإسلاميّة طيلة الحكم الاُموي ، اسمه اليوم على المآذن مقروناً باسم الله و باسم رسوله : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .
والخلاصة : لمْ يبقَ في عصر الحسين (عليه السّلام) في الكوفة من الشيعة سوى أقلّيّة قليلة هم بقية حملات الإبادة والسيف والتنكيل الاُموي ، وكانوا لا يتجاوزون الأربعة أو الخمسة آلاف رجلاً ، و هم الذين كان ابن زياد (لعنه الله) قد ملأ بهم سجون الكوفة و معتقلاتها قبل قدوم الحسين (عليه السّلام) إلى العراق ، و هؤلاء هم كلّ الشيعة في الكوفة يومئذ ، و هم الذين كسروا السجون بعد أنْ ترك ابن زياد العراق والتحق بالشام .
كسروا السجون و خرجوا ثائرين بدم الحسين (عليه السّلام) بعد قتله بما يقرب مِنْ أربع سنوات ، و قبل ثورة المختار ، و توجّهوا نحو الشام والتقوا بجيوش الاُمويِّين على نهر الزاب في شمال العراق و قاتلوا حتّى قتلوا .
و عرفوا في التاريخ بالتوابين ، و هي تسمية غير حقيقية ؛ حيث لمْ تصدر منهم خطيئة بالنسبة إلى الحسين (عليه السّلام) حتّى يكون قتلهم في الثأر له توبة عنها ، بل هم الآسفون على الأصح ؛ حيث أسفوا أنْ يقتل الحسين (عليه السّلام) ولمْ يستطيعوا الدفاع عنه ، و قالوا : لا خير في العيش بعده .
فإذاً اتّهام الشيعة بأنّهم قتلوا الحسين ؛ لأنّ أهل الكوفة كانوا في وقت من الأوقات شيعة بمجموعهم أو بأكثريتهم ، اتّهام باطل لا أساس له ، وقد عرفت وجه البطلان فيه .
و أمّا ما نراه اليوم من الأكثرية الشيعية في العراق فإنّه حدث بعد ذلك ، و بعد زوال السلطان الاُموي الجائر عن العراق والعالم الإسلامي ، و على أثر الحريات التي نالها الشيعة في أكثر فترات الدولة العباسية ، و ببركة العتبات المقدّسة و مراقد أهل البيت (عليهم السّلام) المنتشرة في أنحاء كثيرة من العراق .
ولا تنسى أنّ الجامعة العلميّة التي أسسها شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (أعلا الله مقامه) في النجف الشرف قبل أكثر مِنْ ألف عام كان لها الأثر الكبير في نشر التشيّع في العراق ، وفي أنحاء اُخرى من البلاد الإسلاميّة ؛ و ذلك بما خرّجته هذه الجامعة مِنْ فحول العلماء و رجال العلم ، و أعلام الدعوة و كبار الفلاسفة والمجتهدين و مراجع الدين ، حتّى صارت النجف الأشرف مهوى أفئدة طلاب العلم والمعرفة ، و موطن العلماء العظام ، و عاصمة العالم الشيعي ، ولا تزال كذلك إلى اليوم وستبقى كذلك إلى الأبد إنْ شاء الله رغم كلّ المحاولات التي تبذل للقضاء على قدسية هذه المدينة العلميّة المقدّسة .
هذا كلّه بيان لبطلان هذا الاتّهام من الناحية التاريخية و على صعيد الواقع القائم آنذاك . و أمّا إذا نظرنا إلى هذه التهمة من الناحية الفكرية ، و ناقشناها على الصعيد العقائدي فإنّا نجد التناقض الصريح في مؤدّاها ؛ لأنّ التشيّع و قتل الحسين (عليه السّلام) ضدان لا يجتمعان .
فقولهم إنّ الشيعة قتلوا الحسين (عليه السّلام) نظير القول مثلاً بأنّ المسلمين قتلوا النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ، أو قولنا مثلاً بأنّ الشيوعيين قتلوا ماركس أو لينين . فهل هذا يمكن عادة ؟! طبعاً كلاّ ؛ لأنّ معنى مسلم يعني مَنْ يقدّس محمداً (صلّى الله عليه وآله) و يحترمه و يضحّي بكلّ غالٍ وعزيز دفاعاًً عنه ، و إنّ الشيوعي يعني ذلك الشخص الذي يقدّس ماركس ولينين و يحترمهما إلى أبعد الحدود ، و ينقاد لأوامرهما وتعاليمهما ، فكيف يمكن أنْ يقدم على قتلهما مع الاحتفاظ بشيوعيته ؟! و هل يعقل أنْ يقدم إنسان على قتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) و هو في نفس الوقت مسلم و يصدق عليه صفة الإسلام ؟! هذا مستحيل و غير معقول .
نعم ، شخص كان مسلماً ثمّ ارتدّ و كفر و قتل محمداًَ (صلّى الله عليه وآله) مثلاً ، هذا يجوز و يعقل ،
و هكذا الحال بالنسبة إلى الشيعي ؛ لأنّ التشيّع عبارة عن تقديس الحسين (عليه السّلام) بشكل ليس فوقه تقديس إلاّ قدسية الله و رسوله ، والإنسان الشيعي هو الذي يؤمن بإمامة الحسين و يعتقد بخلافته عن رسول الله نصاً و عقلاً ، و يرى الحسين (عليه السّلام) حجّة الله على خلقه و وليّه في عباده ، و إنّه أولى بالمؤمنين مِنْ أنفسهم ، و إنّ مخالفته و عصيان أوامره كفر و مروق عن الدين فضلاً عن قتله وسفك دمه . فكيف يجتمع هذا المعنى في نفس إنسان مع إقدامه على قتل الحسين (عليه السّلام) متعمداً ؟! وأيّ تضاد و تهافت و تناقض أقبح من هذا ؟!
ولكن ويا للأسف ! إنّ الحقد على الشيعة والتعصّب ضدّهم أعمى البصائر و ذهب بالعقول من هؤلاء حتّى صاروا لا يتعقّلون ما يقولون ، و إنّي لأتحدى أيّ أحد يثبت وجود شخص واحد شيعي بهذا المعنى في صفوف جيش عمر بن سعد الذي حارب الحسين بكربلاء .
نعم ، كان فيهم أناس كانوا سابقاً من الشيعة ، أي أنّهم حضروا مع الإمام (عليه السّلام) في معركة الجمل وفي معركة صفين ، مثل : الشمر بن ذي الجوشن الضبابي ، و شبث بن ربعى ، و قيس بن الأشعث ، و محمد بن الأشعث و غيرهم (لعنهم الله) ، ولكنّهم ارتدّوا بعد ذلك و صاروا خوارج ، و كفّروا علياً في فتنة رفع المصاحف التي أثارها ابن العاص حسب ما هو معروف .
وهؤلاء الخوارج هم الذين قاتلهم الإمام علي (عليه السّلام) في معركة النهروان ، فقتل مَنْ قُتل منهم ، و انهزم مَنْ انهزم ، وألّف الخوارج طائفة مِنْ طوائف المسلمين بعد ذلك ، و تآمروا على قتل الإمام وقتلوه في الصلاة ، وهجموا على ابنه الحسن (عليه السّلام) يوم ساباط وطعنوه ، و إلى غير ذلك من مظاهر عدائهم لعلي (عليه السّلام) وأبنائه الطاهرين .
والحاصل : إنّ التشيّع عقيدة وعمل ، و إنّ إطاعة الحسين (عليه السّلام) و احترامه والدفاع عنه مِنْ صميم تلك العقيدة وقوام ذلك العمل ، كالذي فعله اُولئك النفر من الشيعة أصحاب الحسين (عليه السّلام) يوم كربلاء ؛ الذين بذلوا أنفسهم وضحّوا بأبنائهم وعوائلهم وكلّ ما يملكون دفاعاً عن الحسين وآله (عليهم السّلام) ،
فسلام عليهم بما صبروا ونعم عقبى الدار . و رحم الله السيّد رضا الهندي حيث قال فيهم :

عنه و النبـل وقفـة الأشبـاح     و قفوا يـدرءون سمـر العوالـي
 البيض و النبـل بـالوجـوه الصبـاح     فوقوه بيض الضبا بالنحور
 أطلعوا في سمـاه شهب الرماح     فئـة ان تعـاور الـنقـع لـيـلاً
 أكؤس الموت و إنتشى كل صاح     و إذا غنـت السيـوف وطـافـت
 و جـسـوم الأعـداء والأرواح     باعدوا بيـن قربهـم و المواظـي
 فغدوا فـي منى الطفوف اضاح     أدركـوا بالحسيـن أكبـر عيـد

و بعد هذا كله نعود فنقول: وأما بكاء الشيعة على الحسين و زيارتهم لقبره الشريف وغيرهما فليس هو بدافع الندم ولا لغرض تكفير جرمة الآباء كما زعم الخصم. بل هو بدوافع ولأغراض(1).
---------------------------------------------------------------------------
1-مأساة الحسين عليه السلام بين السائل والمجيب