• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

دور علي عليه السلام و تلاميذه في الفتوحات

 العلامة الشيخ علي الكوراني
فتح فارس و الروم كان وعداً نبوياً
كان النبي صلى الله عليه و آله يدعو الناس في مكة إلى الإسلام و يخبرهم بأن الله تعالى وعده أن يورِّث أمته ملك كسرى و قيصر ! فكل من قرأ سيرته صلى الله عليه و آله يجد أن فتح فارس و الروم كانا وعداً نبوياً من أول إعلان الدعوة ، و كان المشركون يسخرون من ذلك ! و استمر هذا الوعد عنصراً ثابتاً في مراحل دعوته صلى الله عليه و آله ، فكان برنامجاً إلزامياً للسلطة الجديدة بعد وفاته صلى الله عليه و آله ، أيّاً كانت تلك السلطة .
ففي سنن البيهقي : 7 / 283 : ( فو الذي نفس محمد بيده ليفتحن عليكم فارس و الروم )
و في الكافي : 8 / 216 : ( عن أبي عبد الله عليه السلام : لما حفر رسول الله صلى الله عليه و آله الخندق مروا بكدية فتناول رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) المعول من يد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أو من يد سلمان رضي الله عنه ، فضرب بها ضربة فتفرقت بثلاث فرق ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : لقد فتح علي في ضربتي هذه كنوز كسرى و قيصر ، فقال أحدهما لصاحبه : يعدنا بكنوز كسرى و قيصر و ما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلى ) 1 .
و عندما جاءته رسالة تهديد من كسرى أخبره الله تعالى بأنه سيقتله في اليوم الفلاني :
في سيرة ابن هشام : 1 / 45 : ( كتب كسرى إلى باذان : إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه بني فسر إليه فاستتبه ، فإن تاب و إلا فابعث إليَّ برأسه ، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فكتب إليه رسول صلى الله عليه و سلم : إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا ، فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر ، و قال : إن كان نبيا فسيكون ما قال ، فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال ابن هشام : قتل على يدي ابنه شيرويه ) .
و هذا يدل ، على أن الإتجاه إلى الفتوحات خطة نبوية و عقيدة معروفة عند المسلمين ، و أنه كان من الواجب على أي سلطة تأتي بعد النبي صلى الله عليه و آله أن تتبنى هذ ( الستراتيجية ) و تسير فيها .
دور علي عليه السلام و شيعته في الفتوحات
في رأيي أن السلطة بعد النبي صلى الله عليه و آله خافت من حرب مسيلمة و الأسود العنسي التي يسمونها حروب الردة ، كما خافت من التوجه إلى فتح بلاد فارس و الشام ، و أن الذي دفعها إلى الفتوحات هو علي عليه السلام و الذين قادوا أهم الفتوحات هم تلاميذه الفرسان ، الذين لم تعطهم السلطة مناصب قيادية ، لكنهم كانوا القادة الميدانيين الذين خاضوا غمار المعارك و حققوا الإنتصارات الواسعة ، كانوا من شيعة علي عليه السلام و هم :
حذيفة بن اليمان ، و سلمان الفارسي ، و عمار بن ياسر ، و أبي ذر الغفاري ، و خالد بن سعيد بن العاص الأموي و أخواه أبان و عمرو ، و هاشم بن أبي وقاص الأموي المعروف بالمرقال و أولاده خاصة عبد الله و عتبة . و بريدة الأسلمي ، و عبادة بن الصامت ، و أبي أيوب الأنصاري ، و عثمان بن حنيف و إخوته، و عبد الرحمن بن سهل الأنصاري ، و مالك بن الحارث الأشتر و إخوته ، و عدد من القادة النخعيين معه ، و صعصعة بن صوحان العبدي و إخوته ، و الأحنف بن قيس ، و حجر بن عدي الكندي ، و عمرو بن الحمق الخزاعي ، و أبي الهيثم بن التيهان ، و جعدة بن هبيرة ابن أخت أمير المؤمنين عليه السلام ، و النعمان بن مقرن ، و بديل بن ورقاء الخزاعي ، و جرير بن عبدالله البجلي ، و محمد بن أبي حذيفة الأنصاري ، و أبي رافع و أولاده ، و المقداد بن عمرو ، و واثلة بن الأسقع الكناني ، و البراء بن عازب ، و أبي أيوب الأنصاري ، و بلال بن رباح مؤذن النبي صلى الله عليه و آله ، و عبدالله بن خليفة البجلي ، و عدي بن حاتم الطائي ، و أبو عبيد بن مسعود الثقفي ، و أبي الدرداء .. و يليهم : جارية بن قدامة السعدي ، و أبي الأسود الدؤلي ، و محمد بن أبي بكر ، و المهاجر بن خالد بن الوليد.. و غيرهم من القادة الميدانيين !
و لكل واحد من هؤلاء الأبطال أدوار مهمة ، عتَّم عليها إعلام الخلافة و رواتها ، و أبرزوا بدلها أصحاب الأدوار الشكلية أو الثانوية أو المسروقة !
إني أدعو الباحثين خاصة في تاريخ الفتوحات الإسلامية ، لأن يكشفوا هذه الحقيقة الضخمة التي غطت عليها حكومات الخلافة القرشية ، و رواتها الذين كتبوا التاريخ بحبر الحكام .
علي عليه السلام يشكو ظلامته و تعمد نسيان دوره في الفتوحات
تعامل علي و أهل البيت عليهم السلام مع الموجة القرشية ضدهم بعد النبي صلى الله عليه و آله بنبل رسالي ، و نفذوا ما أمرهم به حبيبهم النبي صلى الله عليه و آله ، و سجلوا صبراً لا نظير له ، فكظموا غيظهم و صبَّروا أنصارهم ، و ارتفعوا على جراحهم ، فعملوا مخلصين في تسيير سفينة الإسلام و فتوحاته !
قال عليٌّ عليه السلام في كتابه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها : ( أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه و آله نذيراً للعالمين ، و مهيمناً على المرسلين ، فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ماكان يلقى في روعي و لا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه و آله عن أهل بيته و لا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده ، ( يقصد عليه السلام أن هذا كان أمراً غير معقول لا يتصور ) فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه و آله ! فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث ، حتى زاح الباطل و زهق ، و اطمأن الدين و تَنَهْنَهْ ) 2 .
و قام أمير المؤمنين عليه السلام بمهمته العظيمة في التخطيط و التوجيه و غرس الثقة و القوة في نفوس القادة و الجنود ، حتى امتدت الدولة الإسلامية فشملت إيران و بلاد الشام و مصر و غيرها .
و لكن التاريخ الإسلامي نسب تلك الفتوحات إلى أبي بكر و عمر و عثمان و خلفاء بني أمية و تعمد أن يغطي على دور علي عليه السلام ، لذلك نراه يشكو ظلامته و يسجلها للتاريخ :
قال شرح النهج : 20 / 298 : ( قال له قائل : يا أمير المؤمنين أرأيت لوكان رسول الله صلى الله عليه و آله ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم ، و آنس منه الرشد ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها ؟ قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت ، و لو لا أن قريشاً جعلت إسمه ذريعة إلى الرياسة ، و سلماً إلى العز و الأمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، و لارتدت في حافرتها ، و عاد قارحها جذعاً ، و بازلها بكرًا ، ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة ، و تمولت بعد الجَهد و المخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، و ثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، و قالت : لو لا أنه حق لما كان كذا ، ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها و حسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكد عند الناس نباهة قوم و خمول آخرين ، فكنا نحن ممن خمل ذكره ، و خبت ناره ، و انقطع صوت وصيته ، حتى أكل الدهر علينا و شرب ، و مضت السنون و الأحقاب بما فيها ، و مات كثير ممن يعرف ، و نشأ كثير ممن لا يعرف.
و ما عسى أن يكون الولد لو كان ! إن رسول الله صلى الله عليه و آله لم يقربني بما تعلمونه من القُرْب للنسب و اللحمة ، بل للجهاد و النصيحة ، أفتراه لوكان له ولد هل كان يفعل ما فعلت ! و كذاك لم يكن يَقْرُب ما قَرُبْتُ ، ثم لم يكن عند قريش و العرب سبباً للحظوة و المنزلة ، بل للحرمان و الجفوة .
اللهم إنك تعلم أني لم أرد الأمرة ، و لا علو الملك و الرياسة ، و إنما أردت القيام بحدودك ، و الأداء لشرعك ، و وضع الأمور في مواضعها ، و توفير الحقوق على أهلها و المضي على منهاج نبيك ، و إرشاد الضال إلى أنوار هدايتك ) . انتهى .
ثلاثة عناصر تشكل دور علي عليه السلام في الفتوحات
العنصر الأول : في دور علي عليه السلام في الفتوحات أن تلاميذه تصدوا لقيادة معاركها ، حتى لو تعطهم السلطة دوراً القيادة العليا . كما نرى في خالد بن سعيد بن العاص و أبي ذر و حذيفة بن اليمان و هاشم المرقال و الأشتر و حجر بن عدي و غيرهم . و كل واحد منهم يحتاج إلى دراسة خاصة .
أما العنصر الثاني : فهو أن عمر بن الخطاب بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر مع القوات الإيرانية ، أعطى علياً عليه السلام الدور الأساسي في إدارة الفتوحات !
ذلك أن الفرس طمعوا في استرجاع المناطق التي فتحوها ، و هي البصرة و الكوفة و المدائن و جلولاء و خانقين و قسم من الأهواز ، فاستجمعوا قواهم و جمعوا مائة و خمسين ألف مقاتل في نهاوند ، و قرروا أن يجتاحوا هذه المناطق ثم يزحفوا إلى المدينة المنورة ، لاستئصال أصل دين العرب بزعمهم !
فهذه المرحلة كانت سبباً في أن الخليفة عمر أطلق يد علي عليه السلام في إدارة الفتوحات ، فقد روت المصادر أن عمر خاف خوفاً شديداً ، فاستشار كبار الصحابة ، و عمل برأي علي عليه السلام و أطلق يده في إدارة الفتح و إرسال القادة الذين يختارهم ، فاختار النعمان بن مقرن ، فإن قتل فحذيفة ، فإن قتل فجرير بن عبد الله البجلي ، و كانت معركة نهاوند الفاصلة التي قصمت قوة فارس !
قال ابن الأعثم في الفتوح : 2 / 290 : ( ذكر كتاب عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمار بن ياسر ، سلام عليك . أما بعد فإن ذا السطوات و النقمات المنتقم من أعدائه ، المنعم على أوليائه ، هو الناصر لأهل طاعته على أهل الإنكار و الجحود من أهل عداوته ، و مما حدث يا أمير المؤمنين أن أهل الري و سمنان و ساوه و همذان و نهاوند و أصفهان و قم و قاشان و راوند و اسفندهان و فارس و كرمان و ضواحي أذربيجان قد اجتمعوا بأرض نهاوند ، في خمسين و مائة ألف من فارس و راجل من الكفار ، و قد كانوا أمَّروا عليهم أربعة من ملوك الأعاجم ، منهم ذو الحاجب خرزاد بن هرمز ، و سنفاد بن حشروا ، و خهانيل بن فيروز ن و شروميان بن اسفنديار ، و أنهم قد تعاهدوا و تعاقدوا و تحالفوا و تكاتبوا و تواصوا و تواثقوا ، على أنهم يخرجوننا من أرضنا ، و يأتونكم من بعدنا ، و هم جمع عتيد و بأس شديد ، و دواب فَرِهٌ و سلاح شاك ، و يد الله فوق أيديهم . فإني أخبرك يا أمير المؤمنين أنهم قد قتلوا كل من كان منا في مدنهم ، و قد تقاربوا مما كنا فتحناه من أرضهم ، و قد عزموا أن يقصدوا المدائن ، و يصيروا منها إلى الكوفة ، و قد والله هالنا ذلك و ما أتانا من أمرهم و خبرهم ، و كتبت هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين ليكون هو الذي يرشدنا و على الأمور يدلنا ، و الله الموفق الصانع بحول و قوته ، و هو حسبنا و نعم الوكيل ، فرأي أمير المؤمنين أسعده الله فيما كتبته . و السلام .
قال : فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه و قرأه و فهم ما فيه وقعت عليه الرعدة و النفضة ، حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه ! ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد و جعل ينادي : أين المهاجرون و الأنصار ! ألا فاجتمعوا رحمكم الله ، و أعينوني أعانكم الله ! ). انتهى . و في تاريخ الطبري : 3 / 209 : ( و كتب إليه أيضاً عبد الله و غيره بأنه قد تجمع منهم خمسون و مائة ألف مقاتل ، فإن جاؤونا قبل أن نبادرهم الشدة ، ازدادوا جرأة و قوة... ثم نقل الطبري مشورة عمر للصحابة و قوله : ( أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي و من قدرت عليه ، حتى أنزل منزلا واسطاً بين هذين المصرين فأستنفرهم ، ثم أكون لهم رداء حتى يفتح الله عليهم و يقضى ما أحب ، فإن فتح الله عليهم أن أضربهم عليهم في بلادهم و ليتنازعوا ملكهم ... ؟
فقام طلحة ابن عبيد الله و كان من خطباء أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) فتشهد ثم قال : أما بعد يا أمير المؤمنين فقد أحكمتك الأمور و عجمتك البلايا و احتنكتك التجارب ، و أنت و شأنك و أنت و رأيك ، لا ننبو في يديك و لا نكل عليك . إليك هذا الأمر فمرنا نطع و ادعنا نجب ، و احملنا نركب ، و أوفدنا نفد ، و قدنا ننقد ، فإنك ولي هذا الأمر ، و قد بلوت و جربت و اختبرت ، فلم ينكشف شئ من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار . ثم جلس .
فعاد عمر فقال : إن هذا يوم له ما بعده من الأيام فتكلموا . فقام عثمان بن عفان فتشهد و قال : أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم ، و تكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ، ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين الكوفة و البصرة ، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين ، فإنك إذا سرت بمن معك و عندك ، قل في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم ، و كنت أعز عزاً و أكثر... ثم جلس .
فعاد عمر فقال : إن هذا يوم له ما بعده من الأيام فتكلموا . فقام علي بن أبي طالب فقال : أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم ، و إن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم ، و إنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك الأرض من أطرافها و أقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات و العيالات ! أقْرِرْ هؤلاء في أمصارهم ، و اكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق : فلتقم فرقة لهم في حرمهم و ذراريهم ، و لتقم فرقة في أهل عهدهم لئلا ينتقضوا عليهم ، و لتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم . إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا هذا أمير العرب و أصل العرب ، فكان ذلك أشد لكلبهم و ألبتهم على نفسك . و أما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك ، و هو أقدر على تغيير ما يكره . و أما ما ذكرت من عددهم ، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة و لكنا كنا نقاتل بالنصر . فقال عمر : أجل والله لئن شخصت من البلدة لتنتقضن عليَّ الأرض من أطرافها و أكنافها ، و لئن نظرت إلى الأعاجم لا يفارقن العرصة ، و ليمدنهم من لم يمدهم و ليقولن هذا أصل العرب ، فإذا اقتطعتموه اقتطعتم أصل العرب ) . انتهى .
و في نهج البلاغة : 2 / 29 : ( و قد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه : إن هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا قلة ، و هو دين الله الذي أظهره ، و جنده الذي أعده و أمده ، حتى بلغ ما بلغ و طلع حيث طلع . و نحن على موعود من الله ، و الله منجز وعده و ناصر جنده .
و مكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمه ، فإن انقطع النظام تفرق و ذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً . و العرب اليوم و إن كانوا قليلاً ، فهم كثيرون بالإسلام و عزيزون بالإجتماع ، فكن قطباً ، و استدر الرحى بالعرب ، و أصلهم دونك نار الحرب ، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك !
إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا أصل العرب ، فإذا قطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك و طمعهم فيك . فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين ، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك ، و هو أقدر على تغيير ما يكره . و أما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، و إنما كنا نقاتل بالنصر و المعونة ) .
و وصف ابن الأعثم في الفتوح : 2 / 291 ، مشاورة عمر للصحابة فقال : ( أيها الناس : هذا يوم غم و حزن فاستمعوا ما ورد عليَّ من العراق ، فقالوا : و ما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إن الفرس أمم مختلفة أسماؤها و ملوكها و أهواؤها و قد نفخهم الشيطان نفخة فتحزبوا علينا ، و قتلوا من في أرضهم من رجالنا ، و هذا كتاب عمار بن ياسر من الكوفة يخبرني بأنهم قد اجتمعوا بأرض نهاوند ، في خمسين و مائة ألف ، و قد سربوا عسكرهم إلى حلوان و خانقين و جلولاء ، و ليست لهم همة إلا المدائن و الكوفة ، و لئن وصلوا إلى ذلك فإنها بلية على الإسلام و ثلمة لا تسد أبداً ، و هذا يوم له ما بعده من الأيام ، فالله الله يا معشر المسلمين ! أشيروا عليَّ رحمكم الله ، فإني قد رأيت رأياً ، غير أني أحب أن لا أقدم عليه إلا بمشورة منكم ، لأنكم شركائي في المحبوب و المكروه .
ذكر ما أشار به المسلمون على عمر رضي الله عنه :
و كان أول من وثب على عمر بن الخطاب و تكلم : طلحة بن عبيد الله فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك بحمد الله رجل قد حنكته الدهور و أحكمته الأمور و راضته التجارب في جميع المقانب ، فلم ينكشف لك رأي إلا عن رضى ، و أنت مبارك الأمر ميمون النقيبة ، فنفذنا ننفذ ، و احملنا نركب ، و ادعنا نجب .
قال : ثم وثب الزبير بن العوام فقال : يا أمير المؤمنين إن الله تبارك و تعالى قد جعلك عزاً للدين.... و بعد فأنت بالمشورة أبصر من كل من في المسجد ، فاعمل برأيك فرأيك أفضل ، و مرنا بأمرك فها نحن بين يديك .
فقال عمر : أريد غير هذين الرأيين ، قال : فوثب عبد الرحمن بن عوف الزهري فقال : يا أمير المؤمنين ، إن كل متكلم يتكلم برأيه ، و رأيك أفضل من رأينا ، لما قد فضلك الله عز و جل علينا ، و أجرى على يديك من موعود ربنا ، فاعمل برأيك و اعتمد على خالقك ، و توكل على رازقك و سر إلى أعداء الله بنفسك ، و نحن معك ، فإن الله عز و جل ناصرك بعزه و سلطانه كما عودك من فضله و إحسانه .
فقال عمر : أريد غير هذا الرأي ، فتكلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إنك قد علمت و علمنا أنا كنا بأجمعنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله منها بنبيه محمد ( صلى الله عليه و آله ) ، و قد اختارك لنا خليفة نبينا محمد ، و قد رضيك الأخيار و خافك الكفار ، و نفر عنك الأشرار ، و أنا أشير عليك أن تسير أنت بنفسك إلى هؤلاء الفجار بجميع من معك من المهاجرين و الأنصار ، فتحصد شوكتهم و تستأصل جرثومتهم . فقال عمر رضي الله عنه : و كيف أسير أنا بنفسي إلى عدوي و ليس بالمدينة خيل و لا رجل ، فإنما هم متفرقون في جميع الأمصار ؟
فقال عثمان : صدقت يا أمير المؤمنين ، و لكني أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيقبلوا عليك من شامهم ، و إلى أهل اليمن فيقبلوا إليك من يمنهم ، ثم تسير بأهل الحرمين مكة و المدينة إلى أهل المصرين البصرة و الكوفة ، فتكون في جمع كثير و جيش كبير ، فتلقى عدوك بالحد و الحديد و الخيل و الجنود .
قال فقال عمر : هذا أيضاً رأي ليس يأخذ بالقلب ، أريد غير هذا الرأي .
قال : فسكت الناس ، و التفت عمر رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه فقال : يا أبا الحسن ! لم لا تشير بشئ كما أشار غيرك ؟
ذكر مشورة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه :
قال : فقال علي : يا أمير المؤمنين ، إنك قد علمت أن الله تبارك و تعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه و آله و ليس معه ثان و لا له في الأرض من ناصر و لا له من عدوه مانع ، ثم لطف تبارك و تعالى بحوله و قوته و طوله ، فجعل له أعواناً أعز بهم دينه ، و شد أزره و شيد بهم أمره ، و قصم بهم كل جبار عنيد و شيطان مريد ، و أرى موازريه و ناصريه من الفتوح و الظهور على الأعداء ما دام به سرورهم و قرت به أعينهم ، و قد تكفل الله تبارك و تعالى لأهل هذا الدين بالنصر و الظفر و الاعزاز . و الذي نصرهم مع نبيهم و هم قليلون ، هو الذي ينصرهم اليوم إذ هم كثيرون....
و بعد فقد رأيت قوماً أشاروا عليك بمشورة بعد مشورة فلم تقبل ذلك منهم ، ولم يأخذ بقلبك شئ مما أشاروا به عليك ، لأن كل مشير إنما يشير بما يدركه عقله ، و أعملك يا أمير المؤمنين أنك إن كتبت إلى الشام أن يقبلوا إليك من شامهم لم تأمن من أن يأتي هرقل في جميع النصرانية فيغير على بلادهم ، و يهدم مساجدهم ، و يقتل رجالهم ، و يأخذ أموالهم ، و يسبي نساءهم و ذريتهم !
و إن كتبت إلى أهل اليمن أن يقبلوا من يمنهم ، أغارت الحبشة أيضاً على ديارهم و نسائهم و أموالهم و أولادهم ! و إن سرت بنفسك مع أهل مكة و المدينة إلى أهل البصرة و الكوفة ، ثم قصدت بهم قصد عدوك ، انتقضت عليك الأرض من أقطارها و أطرافها ، حتى إنك تريد بأن يكون من خلفته و راءك أهم إليك مما تريد أن تقصده ، و لا يكون للمسلمين كانفة تكنفهم ، و لا كهف يلجؤون إليه ، و ليس بعدك مرجع و لا موئل ، إذ كنت أنت الغاية و المفزع و الملجأ . فأقم بالمدينة و لا تبرحها ، فإنه أهيب لك في عدوك ، و أرعب لقلوبهم ، فإنك متى غزوت الأعاجم بنفسك يقول بعضهم لبعض : إن ملك العرب قد غزانا بنفسه ، لقلة أتباعه و أنصاره ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك و على المسلمين ، فأقم بمكانك الذي أنت فيه ، و ابعث من يكفيك هذا الأمر . و السلام .
قال : فقال عمر رضي الله عنه : يا أبا الحسن ! فما الحيلة في ذلك و قد اجتمعت الأعاجم عن بكرة أبيها بنهاوند في خمسين و مائة ألف ، يريدون استئصال المسلمين ؟
فقال له علي بن أبي طالب : الحيلة أن تبعث إليهم رجلاً مجرباً قد عرفته بالبأس و الشدة ، فإنك أبصر بجندك و أعرف برجالك ، و استعن بالله و توكل عليه و استنصره للمسلمين ، فإن استنصاره لهم خير من فئة عظيمة تمدهم بها ، فإن أظفر الله المسلمين فذلك الذي تحب و تريد ، و إن يكن الأخرى و أعوذ بالله من ذلك ، تكون ردءا للمسلمين و كهفاً يلجؤون إليه و فئة ينحازون إليها .
قال فقال له عمر : نعم ما قلت يا أبا الحسن ! و لكني أحببت أن يكون أهل البصرة و أهل الكوفة هم الذين يتولون حرب هؤلاء الأعاجم ، فإنهم قد ذاقوا حربهم و جربوهم و مارسوهم في غير موطن . قال فقال له علي رضي الله عنه :
إن أحببت ذلك فاكتب إلى أهل البصرة أن يفترقوا على ثلاث فرق : فرقة تقيم في ديارهم فيكونوا حرساً لهم يدفعون عن حريمهم . و الفرقة الثانية يقيمون في المساجد يعمرونها بالأذان و الصلاة لكيلا تعطل الصلاة ، و يأخذون الجزية من أهل العهد لكيلا ينتقضوا عليك . و الفرقة الثالثة يسيرون إلى إخوانهم من أهل الكوفة . و يصنع أهل الكوفة أيضاً كصنع أهل البصرة ، ثم يجتمعون و يسيرون إلى عدوهم ، فإن الله عز و جل ناصرهم عليهم و مظفرهم بهم ، فثق بالله و لا تيأس من روح الله ﴿ ... إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ 3 .
قال : فلما سمع عمر مقالة علي كرم الله وجهه و مشورته ، أقبل على الناس و قال : ويحكم ! عجزتم كلكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو الحسن ! والله لقد كان رأيه رأيي الذي رأيته في نفسي ، ثم أقبل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا أبا الحسن ! فأشر عليَّ الآن برجل ترتضيه و يرتضيه المسلمون أجعله أميراً ، و أستكفيه من هؤلاء الفرس .
فقال علي رضي الله عنه : قد أصبته ، قال عمر : و من هو ؟ قال : النعمان بن مقرن المزني ، فقال عمر و جميع المسلمين : أصبت يا أبا الحسن ! و ما لها من سواه . قال : ثم نزل عمر رضي الله عنه عن المنبر و دعا بالسائب بن الأقرع بن عوف الثقفي فقال : يا سائب ! إني أريد أن أوجهك إلى العراق فإن نشطت لذلك فتهيأ ، فقال له السائب : ما أنشطني لذلك ... ). انتهى .
أما العنصر الثالث : فهو دور أمير المؤمنين عليه السلام في استكمال الفتوحات في خلافته بالرغم من ثلاثة حروب داخلية فتحوها عليه ! و قد سجل التاريخ منها فتح قسم من إيران كان مستعصياً ، و فتح قسم من الهند :
أمير المؤمنين عليه السلام يرتب وضع البصرة و يواصل فتح إيران و الهند
في تاريخ اليعقوبي : 2 / 183 : ( و لما فرغ من حرب أصحاب الجمل ، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان ) .
و في شرح نهج البلاغة : 18 / 308 : ( هبيرة بن أبي وهب ، كان من الفرسان المذكورين ، و ابنه جعدة بن هبيرة ، و هو ابن أخت علي بن أبي طالب ، أمه أم هاني بنت أبي طالب ، و ابنه عبد الله بن جعدة بن هبيرة ، هو الذي فتح القهندر و كثيراً من خراسان ، فقال فيه الشاعر :
لولا ابن جعدةَ لم تُفتح قهندركم *** و لا خراسانُ حتى ينفخ الصور . انتهى 4 .
و قال الطبري في تاريخه : 4 / 46 : ( فانتهى إلى أبرشهر و قد كفروا و امتنعوا فقدم على علي فبعث خليد بن قرة اليربوعي فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه و صالحه أهل مرو ، و أصاب جاريتين من أبناء الملوك نزلتا بأمان فبعث بهما إلى علي فعرض عليهما الإسلام و أن يزوجهما ، قالتا زوجنا ابنيك فأبى ، فقال له بعض الدهاقين إدفعهما إليَّ فإنه كرامة تكرمني بها ، فدفعهما إليه فكانتا عنده يفرش لهما الديباج و يطعمهما في آنية الذهب ، ثم رجعتا إلى خراسان ). انتهى .
و قال ابن خياط في تاريخه : 143، في حوادث سنة 36 : ( و فيها ندب الحارث بن مرة العبدي ( من البحرين ) الناس إلى غزو الهند ، فجاوز مكران إلى بلاد قندابيل و وغل في جبال الفيقان ... ) .
وفي فتوح البلدان للبلاذري : 3 / 531 : ( فلما كان آخر سنة ثمان و ثلاثين و أول سنة تسع و ثلاثين في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، توجه إلى ذلك الثغر الحارث بن مرة العبدي متطوعاً بإذن علي ، فظفر و أصاب مغنماً و سبياً ، و قسم في يوم واحد ألف رأس ) . انتهى .
نماذج من أدوار تلاميذ علي عليه السلام في الفتوحات !
سلمان في فتح الأهواز و إسلام الهرمزان ، و فتح المدائن ، و بقية إيران ،
حجر بن عدي في القادسية و المدائن و جلولاء ، و أرمينية ، و بيروت .
عمار بن ياسر في فتح العراق و فارس .
هاشم المرقال في جلولاء و خانقين و غيرها .
خالد بن سعيد بن العاص و إخوته في فتح الشام
الأشتر في القادسية و اليرموك .
أبو ذر في فتح الشام و قبرص و مصر .
حذيفة في القادسية و فتوح العراق و فارس و أرمينية .
محمد بن أبي بكر و محمد بن أبي حذيفة في معركة ذات الصواري مع الروم .
رأيت رواية ألفتتني ، لأنها تدل على أن أبا ذر رحمه الله كان موجوداً في فتح الشام ، فتتبعت خيوطها ، ففتحت عليَّ باباً و كشفت لي حقائق عن الفتوحات الإسلامية ، تخالف روايات الحكومات الرسمية ما هو مشهور غير أن
قال القاضي النعمان في شرح الأخبار : 2 / 156 : ( غزا يزيد بن أبي سفيان بالناس و هو أمير على الشام ، فغنموا و قسموا الغنائم ، فوقعت جارية في سهم رجل من المسلمين و كانت جميلة ، فذكرت ليزيد فانتزعها من الرجل ! و كان أبو ذر يومئذ بالشام ، فأتاه الرجل فشكا إليه و استعان به على يزيد ليرد الجارية إليه ، فانطلق إليه معه و سأله ذلك فتلكأ عليه ! فقال له أبو ذر : أما والله لئن فعلت ذلك ، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول : إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية ، ثم قام ! فلحقه يزيد فقال له : أذكرك الله عز و جل أنا ذلك الرجل ؟! قال : لا . فرد عليه الجارية ) . انتهى .
و في سير أعلام النبلاء : 1 / 329 ، و تاريخ دمشق : 65 / 250 : ( فوقعت جارية نفيسة في سهم رجل فاغتصبها يزيد ) . انتهى . و قد روت هذا الحديث أكثر مصادرهم ، و غطى أكثرها على آل أبي سفيان ، فلم يذكروا أن مناسبة الحديث غصب ابن أبي سفيان للجارية ، و قد رأيت في آخر الفصل السابق تصحيح الألباني للحديث ، دون أن يذكر مناسبته ! كما أنهم لم يذكروا شيئاً عن سلوك أخيه معاوية ، لكنه كان في جوه ! و ممن غطى على بني أمية و حاول تكذيب الرواية بخاري ، فقال في تاريخه : 1 / 45 : ( كان أبو ذر بالشام و عليها يزيد بن أبي سفيان فغزا الناس فغنموا ... و هنا بتر بخاري القصة ، وق ال : ( و المعروف أن أبا ذر كان بالشام زمن عثمان و عليها معاوية و مات يزيد في زمن عمر ، و لا يعرف لأبي ذر قدوم الشام زمن عمر ) . انتهى . و إن أحسنا الظن ، فالبخاري غير مطلع ، و إلا فهو متعصب لبني أمية !
و قد روى ابن كثير في النهاية : 8 / 254 ، قصة هذه الجارية ، ثم قال : ( و كذا رواه البخاري في التاريخ و أبو يعلى عن محمد بن المثنى ، عن عبد الوهاب ، ثم قال البخاري : و الحديث معلول و لا نعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب ) .
أقول : لكن بخاري لم يروها كاملة ، و لا قال كما نقل عنه ابن كثير !
يدل الحديث المتقدم على أن أبا ذر رضوان الله عليه شارك في فتح الشام ، و كان له نفوذ على قادة جيش الفتح ! و هو ما تحرص مصادر دولة الخلافة على إخفائه ، حتى لا تُنسب الفتوحات إلى شيعة علي عليه السلام ، و حتى لايظهر انحراف خلفائها و أمرائها ، و إدانة الصحابة الأجلاء لهم !
إني أدعو الباحثين خاصة في تاريخ الفتوحات الإسلامية ، لأن يفتحوا الباب على هذه الحقيقة الضخمة التي غطت عليها حكومات الخلافة القرشية ، و التي يشكو علي عليه السلام من ظلامتها !
دور أبي ذر رحمه الله في الفتوحات
و دور أبي ذر رحمه الله في الفتوحات واحدٌ مما طمسه تاريخ الخلافة الرسمي ! فقد صوروا أبا ذر رحمه الله كأنه بدوي ساذج متزمت سيء الخلق ، و كأنه صغير الجثة ضعيف البنية عن الجهاد ! بينما نطقت ثنايا مصادرهم بالحقائق ، و أنه كان رجلاً جسيماً طويلاً ، و قائداً شجاعاً ذكياً ! ( و كان أبو ذر طويلاً عظيماً رضي الله عنه و كان زاهداً متقللاً من الدنيا ... و كان قوالاً بالحق ) 5 .
( و كان أبو ذر طويلاً عظيماً ) 6 .
( رجلاً طويلاً آدم أبيض الرأس و اللحية ) . 7 .
( فجلس ... فرجف به السرير ، و كان عظيماً طويلاً ) 8 .
و كان له فرس أصيل يقال له : الأجدل 9 . و مضافاً إلى الرواية المتقدمة في استنكاره على الأمير الأموي لغصبه الجارية التي تدل على أنه كان في فتح الشام 10 .
فقد قالت رواية الواقدي في فتوح الشام : 2 / 254 : ( ثم حمل من بعده العباس بن مرداس ، ثم من بعده أبو ذر الغفاري ، ثم تبارد المسلمون بالحملة ، فلما رأى الروم ذلك أيقظوا أنفسهم في عددهم و عديدهم و تظاهروا البيض و الدرع ، ولم يزل القتال بينهم حتى توسطت الشمس في قبة الفلك ) .
و قال الواقدي أيضاً : 2 / 583 : ( ثم استدعى من بعده أبا ذر الغفاري ، و أمَّره على خمسمائة فارس ، و سلمه الراية فتوجه و هو يقول :
سأمضي للعداة بلا اكتئاب و قلبي للِّقا و الحرب صابي
و إن صال الجميع بيوم حرب لكان الكلُّ عندي كالكلاب
أذلهمُ بأبيض جوهريٍّ طليقِ الحدِّ فيهم غيرُ آبي ) . انتهى .
بل تدل عدة روايات كما يأتي على أن أبا ذر رحمه الله سكن الشام من أول حكم عمر ، للمشاركة في الفتوحات ، و عاد منها في زمن عثمان ، ثم نفاه اليها عثمان لمدة سنة ، ثم أعاده و نفاه إلى الربذة فبقي فيها سنتين أو أكثر حتى توفي غريباً سنة 32 هجرية . و هذا يعني أنه قضى نحو عشرين سنة في الشام .
أما دور أبي ذر في فتح مصر فقد روت أكثر مصادر الحديث أنه كان يمرِّغ فرسه و يروِّضه ، فسألوه عن حبه له فقال : ( ليس من ليلة إلا و الفرس يدعو فيها ربه فيقول : رب إنك سخرتني لابن آدم و جعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله و ولده ، فمنها المستجاب و منها غير المستجاب ، و لا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً ) 11 روته هذه المصادر و غيرها ولم تذكر مناسبته مع أنه حديث نبوي ! إلا ثلاثة منها كشفت ربما عن غير قصد دور أبي ذر في فتح مصر !
قال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 197 : ( و أخرج أبو عبيدة في كتاب الخيل عن معاوية بن خديج ، أنه لما افتتحت مصر كان لكل قوم مراغة يمرِّغون فيها خيولهم ، فمر معاوية ( يقصد ابن حديج التميمي ) بأبي ذر رضي الله عنه و هو يمرغ فرساً له فسلم عليه و وقف ، ثم قال : يا أبا ذر ما هذا الفرس ؟ قال فرس لي ، لا أراه الا مستجاباً ! قال : و هل تدعو الخيل و تجاب ؟ قال : نعم ، ليس من ليلة إلا و الفرس يدعو فيها ربه فيقول : رب إنك سخرتني لابن آدم و جعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله و ولده ، فمنها المستجاب و منها غير المستجاب ، و لا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً ) .12 . و في نهاية الإرب : 2036 : ( لما نزل المسلمون مصر كانت لهم مراغة للخيل ، فمر حديج بن صومي بأبي ذر رضي الله عنه و هو يمرغ فرسه الأجدل ، فقال ...
و أما دوره في فتح قبرص ، فقال البلاذري في فتوح البلدان : 1 / 182 : ( لما غُزيَت قبرس الغزوة الأولى ، ركبت أم حرام بنت ملحان مع زوجها عبادة بن الصامت ، فلما انتهوا إلى قبرس خرجت من المركب و قدمت إليها دابة لتركبها فعثرت بها فقتلتها ، فقبرها بقبرس يدعى قبر المرأة الصالحة .
قالوا : و غزا مع معاوية أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، و أبو الدرداء ، و أبو ذر الغفاري ، و عبادة بن الصامت ، و فضالة بن عبيد الأنصاري ، و عمير بن سعد بن عبيد الأنصاري ، و واثلة بن الأسقع الكناني ، و عبد الله بن بشر المازني ، و شداد بن أوس بن ثابت ، و هو ابن أخي حسان بن ثابت ، و المقداد ، و كعب الحبر بن ماتع ، و جبير بن نفير الحضرمي ) . انتهى .
أقول : حشروا إسم كعب الأحبار معهم ، لإعطائه لقب المسلم المجاهد ! و كذلك حشروا إسم معاوية بعبارة مبهمة فيها تدليس ( و غزا مع معاوية ) ، مع أن تاريخ كعب و معاوية لم يسجل أنهما حملا سلاحاً و حاربا يوماً ، أو غزيا حتى لمرة واحدة ! و لذا قال في الإستيعاب : 4 / 1931 : ( و يقال إن معاوية غزا تلك الغزاة بنفسه ، و معه أيضاً امرأته فاختة بنت قرظة ) . انتهى .
و يشير النص التالي إلى أن معاوية كان ينتظر الجيش في الساحل بطرسوس !
ففي مسند الشاميين للطبراني : 2 / 73 ، عن جبير بن نفير قال : ( أخرج معاوية غنائم قبرس إلى الطرسوس من ساحل حمص ، ثم جعلها هناك في كنيسة يقال لها كنيسة معاوية ، ثم قام في الناس فقال : إني قاسم غنائمكم على ثلاثة أسهم : سهم لكم ، و سهم للسفن ، و سهم للقبط ، فإنه لم يكن لكم قوة على غزو البحر إلا بالسفن و القبط . فقام أبو ذر فقال : بايعت رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم : أتقسم يا معاوية للسفن سهماً و إنما هي فيؤنا ، و تقسم للقبط سهماً و إنما هم أجراؤنا ، فقسمها معاوية على قول أبي ذر ) 13 .
أما البخاري فروى الحديث بدون ذكر أبي ذر ، و لا أبي أيوب ، و لا غيرهما من الصحابة ! لأن غرضه فقط أن يمدح معاوية بأنه أول من ركب البحر للغزو ، و يروي حديثاً يحتمل أن يكون مدحاً لمعاوية !
قال بخاري في : 3 / 203 : ( أم حرام بنت ملحان قالت نام النبي ( صلى الله عليه و آله ) يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم ، فقلت ما أضحكك ؟ قال أناس من أمتي عرضوا على يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة ! قالت : فادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم نام الثانية ففعل مثلها ، فقالت مثل قولها فأجابها مثلها ، فقالت ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت من الأولين ! فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام ، فقربت إليها دابة لتركبها ، فصرعتها فماتت ) . انتهى. و قد صحح ابن حجر و غيره خطأ البخاري في روايته ولم يذكروا معاوية ! قال في تهذيب التهذيب : 12 / 411 : ( و الصحيح العكس ، فقد قال غير واحد و ثبت غير واحد أنها خرجت مع زوجها عبادة في بعض غزوات البحر ، و ماتت في غزاتها وَ قَصَتْها بغلتها عندما نقلوا ، و ذلك أول ما ركب المسلمون في البحر في زمن معاوية في خلافة عثمان . زاد أبو نعيم الأصبهاني و قبرت بقبرس . قلت : و الإسماعيلي في مستخرجه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن عمار قال : رأيت قبرها و وقفت عليها بقبرس ) . 14 و في تهذيب التهذيب : 12 / 82 : ( ركبتْ البحر عام قبرس ، مع ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة ، منهم أبو ذر ) .
أقول : يصعب تصديق حديث بنت ملحان و أمثاله ، الذي يذكر أن النبي صلى الله عليه و آله كان يزورها كأنها والدته أو خالته ، و ينام في بيتها و يرى رؤية تتعلق بها ! و أنها كانت تفلي رأسه كابنها أو أخيها ، و كأن رأس النبي صلى الله عليه و آله فيه قمل كرؤوس رجالهم ! 15 .

********************************

1. و نحوه في سيرة ابن هشام : 2 / 365 .
2. نهج البلاغة : 3 / 118 .
3. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 87 ، الصفحة : 246 .
4. أقول : في معجم البلدان : 4 / 419 ، و صحاح الجوهري : 1 / 433 : قهندز بالزاي .
5. تهذيب الأسماء للنووي : 2 / 513 .
6. أسد الغابة : 5 / 188 ، و مستدرك الحاكم : 3 / 51 .
7. الطبقات : 4 / 230 .
8. سير أعلام النبلاء للذهبي : 2 / 69 .
9. أنساب الخيل لابن الكلبي : 6 ، و أسماء خيل العرب و فرسانها لابن الأعرابي : 2 .
10. سير أعلام النبلاء : 1 / 329 ، و تاريخ دمشق : 65 / 250 .
11. رواه أحمد : 5 / 162 ، و 170 ، و النسائي : 6 / 223 ، و في الكبرى : 3 / 36 ، و البيهقي في سننه : 6 / 330 ، و علل أحمد بن حنبل : 3 / 404 ، و علل الدارقطني : 6 / 266 ، و سنن سعيد بن منصور : 2 / 204 ، و العظمة لأبي الشيخ : 5 / 1780 ، و حلية الأولياء : 8 / 387 ، و الفردوس بمأثور الخطاب : 4 / 53 ، و تفسير ابن كثير : 2 / 334 ، و الفروسية لابن قيم الجوزية : 130، و كنز العمال : 6 / 321 ... الخ .
12. و حياة الحيوان للدميري : 930 .
13. و نحوه في : 2 / 120 ، و تاريخ دمشق : 66 / 193 ، و حلية الأولياء : 5 / 134 .
14. و نحوه في صحيح ابن حبان : 10 / 468 ، و طبقات ابن سعد : 8 / 435 ، و رجال صحيح البخاري للكلاباذي : 2 / 851 ، و تاريخ دمشق : 70 / 217، و غيرها .
15. الكتاب : دور علي عليه السلام و تلاميذه في الفتوحات .
المصدر : المركز الاشعاع الاسلامي


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page