طباعة

المبررات الشرعية للصمود والتضحية :

ربـمـا يتساءل البعض ان الشيعة تجيز التقية , فلماذا لم يستخدم حجر و اصحابه التقية , حفاظا على حـيـاتهم , ولماذا صمدوا في موقفهم المعارض الى حدالتضحية بارواحهم ؟ واننا وان كنا لانجرؤ عـلـى تـحديد رايهم وموقفهم , لانهم اعرف منا واكثر علما بالحكم الشرعي والواقع الموضوعي , ولكننا نطرح بعض الاراء التي ربما سلطت الضوء على شرعية الصمود والتضحية في بعض المواقف ودوافعها وآثارها, ولعل البعض منها تجسد في موقف حجر وامثاله من الموالين والمؤمنين الحقيقيين عبر التاريخ الطويل . وذلك خلال ذكر اربعة مبررات : 1 ـ قسمت التقية الى تقية واجبة , وتقية محرمة , وتقية جائزة . ومثل السيدالخوئي في التنقيح للتقية الـمحرمة بموردين احدهما: كما اذا اجبره الجائر بقتل النفس المحترمة فانه لا يجوز له ان يقتلها تـقـيـة , لـما دل على ان التقية انماشرعت لحقن الدماء فاذا بلغت التقية الدم فلا تقية , فاذا مثلها تقية ارتكب محرما ذاتيا لا محالة .
والثاني : كما اذا كانت المفسدة على فعل التقية اشد واعظم من المفسدة المترتبة على تركها, او كانت الـمـصـلحة في ترك التقية اعظم من المصلحة المترتبة على فعلها, كما اذا علم بانه ان عمل بالتقية ترتب عليه اضمحلال الحق واندراس الدين الحنيف وظهور الباطل وترويج الجبت والطاغوت ,واذا تـرك الـتقية ترتب عليه قتله فقط او قتله مع جماعة آخرين , ولا اشكال حينئذ في ان الواجب ترك الـعمل بالتقية وتوطين النفس للقتل , لان المفسدة الناشئة عن التقية اعظم واشد من مفسدة قتله , نعم ربـمـا تـكـون الـمـفـسـدة في قتله اعظم واكثر كما اذا كان العامل بالتقية ممن يترتب على حياته تـرويـج الـحق بعد الاندراس , وانجاء المؤمنين من المحن بعد الابتلاء ونحو ذلك , ولكنه امر آخر والـتـقية بما هي تقية متصفة بالحرمة في تلك الصورة كما عرفت ,ولعله من هنا اقدم الحسين سلام اللّه وصـلـواتـه عليه واصحابه رضوان اللّه عليهم لقتال يزيد بن معاوية وعرضوا انفسهم للشهادة وتـركـوا الـتقية عن يزيد,وكذا بعض اصحاب امير المؤمنين (ع ) بل بعض علمائنا الابرار قدس اللّه ارواحهم وجزاهم عن الاسلام خيرا كالشهيدين وغيرهما) ((204)) .
وسنذكر في المبرر الثالث للتضحية بما له علاقة بهذا القسم من التقية .
ومن موارد (جواز) التقية , ما لو فرض على المؤمن سب الامام (ع ) فهناك بعض الروايات عن ائمتنا تـجيز التقية , والسب . ولكنها لا توجبه وتلزمه ,فيجوز للمؤمن السب تقية , كما يجوز له عدم السب وان يـبـقى صامدا, وان تعرض للتعذيب والشهادة , وربما كان اعلى درجة ومقاما من الاول , لان خير الامور احمزها واشقها.
ونذكر هنا بعض هذه الروايات : (عـن عـبد اللّه بن عطا قال : قلت لابي جعفر(ع ): رجلان من اهل الكوفة اخذافقيل لهما: ابرآ من امـيـر الـمؤمنين (ع ), فبرى واحد منهما, وابى الاخر, فخلي سبيل الذي برى وقتل الاخر, فقال : ((اما الذي برى فرجل فقيه في دينه ,واما الذي لم يبرا فرجل تعجل الى الجنة ))) ((205)) .
اذن , فـكـلا الـرجلين عمل عملا مشروعا يثاب عليه , والمراد من البراءة هنا,هي البراءة باللسان فـحـسب , لا في الاعتقاد القلبي كما هو واضح , فالمراد من البراءة في هذه الرواية ان تشمل السب باللسان ايضا دون ان تسري الى القلب , اضافة الى ان الاعتقاد القلبي لا يقبل الاكراه .
وقـال امـير المؤمنين (ع ): ((ستدعون الى سبي فسبوني , وتدعون الى البراءة مني فمدوا الرقاب , فاني على الفطرة )) ((206)) .
ولـعـل الـمـراد مـن البراءة هنا هي البراءة في الاعتقاد القلبي , بان يتبرا الانسان اعتقادا عن الولاء لـلامام (ع ), وهذا يعني الخروج عن الاسلام . واما السب فهو ما كان باللسان فحسب , وهذا ما اجازه الامام (ع ), واما البراءة الاعتقادية القلبية فلم يجزها, لانها تعني الخروج عن الاسلام .
ومن هذه الروايات , ما رواه الكشي باسناده عن حجر بن عدي قال : ((قال علي (ع ): كيف تصنع انت اذا ضـربـت وامـرت بـلـعـنـي , قـال : قلت له : كيف اصنع ؟ قال : العني ولا تبرا مني فاني على دين اللّه ) ((207)) .
وقد وردت بهذا المعنى عدة روايات , تفرق بين السب واللعن فيجوز,والبراءة فلا تجوز, وقد ذكر العلماء بعض الاراء في الفرق بين البراءة والسب واللعن , تعرض لها الشيخ المجلسي في مرآة العقول مـنـهـا (... واقـول : الـجمع بين تلك الروايات في غاية الاشكال , ويمكن الجمع بينها بحمل البراءة المنهي عنها على البراءة القلبية , والمجوزة على اللفظية ) ((208)) .
وبـهـذا الـجـمع ايضا يجمع بين الروايات التي تدل على جواز البراءة فتحمل على البراءة اللفظية , والـروايات التي تدل على عدم جواز البراءة حيث تحمل على البراءة القلبية , وهناك آراء اخرى في الجمع بين هذه الروايات ذكرتها بعض الكتب ومنها مرآة العقول .
وفـي هامش البحار (ولا يخفى انه لا يستفاد من الرواية جواز التبرؤ مطلقاعند التقية , فان التبرؤ اعـم مـن الـقـلب واللسان , والتبرؤ بالقلب لا يجوز, بل ولا يجبر الانسان بالامر القلبي اصلا, واما التبرؤ باللسان دون القلب فعندالتقية يجوز, وبما ذكرنا يجمع بين روايات الباب الناظرة الى جواز السب والتبرؤ وعدم جوازهما) ((209)) .
وفي التنقيح , يذكر, من موارد جواز التقية , ما اذا اكره على التبرؤ من اميرالمؤمنين (ع ), فقد ورد فـي عـدة من الاخبار من الامر بمد الاعناق والنهي عن التبرؤ منه , ثم يذكر الروايات , التي ذكرنا بـعضها في هذا المجال , ويناقش بعض الروايات التي يستفاد منها وجوب التقية او ترجيحها في هذا الـمـجـال ,واخـيـرا يقول (وعليه فالاخبار انما تدلنا على الجواز في كل من التقية باظهارالتبرؤ منه (ع ) باللسان وتركها باختيار القتل ومد الاعناق ) ((210)) .
ويـذكـر: ان بعض الروايات يستفاد منها وجوب ترك التقية , واختيار القتل ,ولكن يناقشها ان الامر فيها باختيار القتل , في مقام توهم الحضر, فلا تدل على الوجوب ((211)) .
ثـم يـذكر رواية ربما استفاد منها البعض وجوب التقية او ارجحيتها ولكن يناقش هذا التفسير, بما يلقي الضوء على هذا الموضوع : والـرواية هي (ما رواه محمد بن مروان قال : قال لي ابو عبداللّه (ع ) ما منع ميثم , من التقية , فواللّه لقد علم ان هذه الاية نزلت في عمار واصحابه : الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ).
وذكـر فـي تفسير الرواية (لابد من قراءة كلمة منع ) مجهولة ومبنية للمفعول ,هكذا (ما منع ميثم ) اي لم تكن التقية ممنوعة وغير سائغة في حقه , بل كانت مرخصة بالنسبة اليه , وهو ايضا كان عالما بـجـوازهـا ومـع ذلـك اخـتار القتل باختياره , اذا فلا يستفاد منها توبيخ ميثم على عمله , بل معناها احدامرين : احدهما: ان تكون هذه الجملة (ما منع ميثم ) دفعا للاعتراض على ميثم بانه لماذا اختار القتل ولم يتق وهـل كـان مـمنوعا من التقية , فاجاب (ع ) عن ذلك بانه ما كان ممنوعا عن التقية , وانما اختار القتل لتساوي التقية وتركها في الرجحان عند اللّه سبحانه , وحينئذ لا يستفاد منها مدح ميثم ولا قدحه
وثـانـيـهـما: ان تكون الجملة دالة على مدح ميثم وانه مع علمه بالحال وان التقية جائزة في حقه قد اخـتار القتل لعدم طيب نفسه بالتبرؤ من سيده ومولاه ولوبحسب الظاهر واللسان لقوة ايمانه وشدة حبه وعلاقته بمولاه (ع ). اذن تكون الرواية دالة على مدحه رضوان اللّه عليه . وعلى كل لا يستفاد منها ارجحية التقية عن القتل .
ويحتمل ان يكون الوجه في اختيار ميثم القتل على التقية هو علمه بانتفاءموضوع التقية في حقه لانه كان يقتل على كل حال لمعروفيته بالولاءواشتهاره بالتشيع والاخلاص لامير المؤمنين صلوات اللّه عليه .
وعـلى الجملة : فالرواية اما ان تدلنا على ارجحية القتل من التقية , واما ان تدل على تساوي التعرض لـلـقتل والتقية , واما ان التقية بالتبري منه (ع )ارجح من التعرض للقتل فلا يكاد يستفاد من الرواية بوجه فالحكم بارجحية التقية من القتل في نهاية الاشكال ) ((212)) .
ولـعـل ما يدل على سمو الصابر عن السب والبراءة , ومواجهة القتل في هذاالسبيل ما روي عن ميثم قـال : ((دعـاني امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع )وقال : كيف انت يا ميثم اذا دعاك دعي بني امية عـبـيـد اللّه بن زياد الى البراءة مني ؟ فقلت : يا امير المؤمنين انا واللّه لا ابرا منك ؟ اذا واللّه يقتلك ويصلبك ,قلت : اصبر فذاك في اللّه قليل فقال : يا مثيم اذا تكون معي في درجتي )).
وقـد ذكرنا ان البراءة تستعمل ايضا في السب والبراءة اللسانية فحسب ,ولعل المراد من البراءة في حديث ميثم هو هذا المعنى .
وربما يجوز للمسلم ان يظهر كلمة الكفر بلسانه , ولكنه يسر الايمان في قلبه ,كما انه في مثل هذا الموقف يجوز له الصبر والصمود, فلا يظهر الكفر على لسانه , وان قتل في هذا السبيل , كما ورد مـثـل ذلك في قضية عمار بن ياسروابويه , فان عمارا اظهر الكفر على لسانه فحسب , وكان عمله مـشـروعـا,حيث نزلت فيه الاية الشريفة : (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ) ((213)) ,وهذه الايـة الشريفة من ادلة الشيعة على قولهم بمشروعية التقية اسلاميا,واما ياسر وسمية فقد صبرا وصـمـدا, فـقتلا في سبيل اللّه , وعجل بهما الى الجنة , وعن الامام الصادق (ع ): انه ذكر اصحاب الـكـهـف فـقـال : ((لـو كـلـفكم قومكم ما كلفهم قومهم , فقيل له : وما كلفهم قومهم ؟ فقال : كلفوهم الشرك باللّه العظيم , فاظهروا لهم الشرك واسروا الايمان حتى جاءهم الفرج )) ((214)) .
وفـي الـدر الـمنثور للسيوطي : ((اخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن ابي حاتم وابن مـردويه والحاكم وصححه , والبيهقي في الدلائل من طريق ابي عبيدة بن محمد بن عمار عن ابيه , قـال : اخـذ الـمـشـركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي (ص ) وذكر آلهتهم بخير, ثم تـركـوه , فـلـمـا اتـى رسـول اللّه (ص ) قـال : مـا وراءك شي ء؟ قال : شر, ما تركت حتى نلت منك وذكـرت آلهتهم بخير, قال : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئن بالايمان , قال : ان عادوا فعد,فنزلت : (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ) )) ((215)) .
اذن , فـفـي مـثـل هذه الحالات , والمواقف , التي يكره فيها المسلم على السب اواللعن او البراءة في الـلـسـان فحسب , يكون مخيرا بين الفعل تقية والترك وتحمل التعذيب وحتى القتل والشهادة , ولعل الـترك والصبر على البلاءاولى , لان خير الامور احمزها, وخاصة فيما لو كان في صبره وتحمله اعزازللدين , ونشر لشريعة سيد المرسلين , ويتاكد هذا الموقف من رؤساء الدين ,حيث يكون اظهار الكفر, او اللعن والسب منهم , مما له تاثيره السيى على الاخرين , فالاولى لهم الصبر وتحمل التعذيب او القتل في هذا السبيل .ولكن يجوز لهم الاستجابة لسانا وظاهرا لارادة الاعداء.
ذكر في مرآة العقول نقلا عن بعض العلماء: ((فاما اظهار كلمة الكفر وانكارالايمان او انكار كلمته مـع الـخـوف على النفس , مع الامساك عن الاول ,واظهار الثانية , فيختلف الحال فيه , فان كان مظهر الايـمـان والـحـجة به ومنكرالكفر والممتنع من اظهار شعاره في رتبة من يكون ذلك منه اعزازا لـلـديـن كـرؤسـاء الـمـسلمين في العلم والدين والعبادة وتنفيذ الاحكام , فالاولى به اظهار الايمان والامـتـناع من كلمة الكفر, فان قتل فهو شهيد, ويجوز له مااكره عليه , وان كان من اطراف الناس وممن لا يؤثر فعله ما اكره عليه واجتنابه غضاضة في الدين ففرضه مادعي اليه فليور في كلامه ما يخرج به عن الكذب , والا يحل له ماجاز لمن ذكرناه من رؤساء الملة على حال )) ((216)) .
ولـكـن الظاهر. وكما يبدو من اقوال بعض العلماء, ومن بعض الروايات جوازعدم التقية ايضا لغير الـرؤسـاء, وكذلك يظهر منها ايضا جواز التقية ودفع الضرر والقتل للرؤساء ايضا, وان اختلفا في الـدرجـة , ولـكـنهما لايختلفان في الجواز, بل كانت الظروف الموضوعية التي يشخصها الرؤساء الـكـبار, لانهم اعرف من غيرهم بها, وبراي الشريعة فيها, تفرض عليهم استخدام التقية فيها بما لا يـجوز فيه لغيرهم . ربما راوا بان الظروف الموضوعية , وراي الشريعة تفرض عليهم عدم التقية , وعلى كل حال , فالعلماء الابرار هم اعرف من غيرهم بالموضوع وبالحكم الشرعي . ويلخص الشهيد الاول اقسام التقية بحسب الاحكام الخمسة بقوله : ((التقية تنقسم بانقسام الاحكام الخمسة , فالواجب اذا عـلـم او ظـن نـزول الضرر بتركها به او ببعض المؤمنين والمستحب اذا كان لا يخاف ضررا عاجلا او يخاف ضررا سهلا اوكان تقية في المستحب كالترتيب في تسبيح الزهراء3 وترك بعض فـصول الاذان , والمكروه التقية في المستحب حيث لا ضرر عاجلا ولا آجلا ويخاف منه الالتباس على عوام المذهب , والحرام التقية حيث يؤمن الضرر عاجلاوآجلا او في قتل مسلم , والمباح التقية فـي بـعض المباحات التي ترجحهاالعامة ولا يصل بتركها ضرر)) ((217)) , وما ذكره كان امثلة لهذه الاقسام .وهناك امثلة اخرى لها كما ذكرنا بعضها هنا.
ولـعل الموقف الذي تعرض له حجر كان من هذه المواقف التي يجوز فيهاالتقية , والسب , كما يجوز له الصبر, وعدم الاستجابة لارادة الاعداء, ولكن بما ان موقفه كان فيه اعزاز للدين , ووقوف بوجه الانـحراف الاموي ,والجاهلية التي تحاول العودة مرة اخرى الى المسلمين , وبما انه كان من رؤساء المسلمين والشيعة وزعمائهم , كان الاولى به الصمود والصبر, وان قتل في هذا السبيل . او ان موقف حـجـر كـان من موارد عدم جواز التقية ,وذلك لان اعداءه طلبوا منه البراءة من الامام علي (ع ) لا مجرد السب واللعن , كما نقلنا ذلك سابقا, حين طلب منه رسول معاوية التبرؤ من الامام علي لا مجرد الـسـب , وقـد ذكرت الروايات عدم جواز التبرؤ من الامام (ع ) ,وكما طلب الامام (ع ), من حجر نفسه عدم التبرؤ منه في الرواية التي رواهاحجر نفسه عن الامام (ع ).
2 ـ يمكن ان نعتبر موقف حجر وجماعته , من مواقف عدم جدوى التقية وعدم جوازها, لان حجرا واصحابه كانوا يعلمون بانهم مقتولون لا محالة ,فلا جدوى من التقية , او اظهار البراءة والسب , فان الـنـظـام الـحـاكـم قـد اثـبت عدم وفائه بعهوده , وكم اعطى الامان لافراد, ثم نكل بهم او قتلهم , وكـذلـك فان هذا النظام قد صمم على مطاردة الشيعة , والتنكيل بهم وقتلهم ,وخاصة اقطاب الشيعة , الذين كان لهم تاريخ طويل في محاربة الطغاة والحكام المنحرفين عن الاسلام , لذلك كان حجر يعلم بـانـه مقتول على كل حال . ولا جدوى من التقية , وقد ورد في بعض الروايات منع من التقية في امثال هذا المواقف : عن الامام الباقر(ع ) قال : ((انما جعلت التقية ليحقن بها الدم , فاذا بلغ الدم فليس تقية )).
وقـد فـسـر العلماء هذه الروايات بانه لو توجه الضرر الى مسلم , في امواله اواعراضه او نفسه , وكـان يـمـكنه من خلال التقية ان يدفع الضرر عن نفسه ,ويوجهه الى مسلم آخر, بان يقتل المسلم الاخر ليدفع القتل او الضرر عن نفسه , فمثل هذه التقية غير جائزة .
ولـكـن بـعض العلماء فسر الروايات تفسيرا آخر يمكن انطباقه على موقف حجر, قال : ((بل معناه حـصـول سـفـك الـدم لامـحالة ان اتقى او لم يتق , فكان تشريع التقية لغوا بلا غاية , اذ بعد ان كان الـشـخـص مـقـتـولا لا مـحالة له يكن للتقية معنى ومحل , وهذا مما يحكم به العقل بلا حاجة الى ورودالحديث )) ((218)) .
فـمـعـنى هذه الروايات ـ على هذا التفسير ـ ان الانسان لو علم بانه مقتول لامحالة , فلا فائدة من اسـتخدام التقية , لان التقية انما شرعت لدفع القتل اوالضرر عن نفسه , فاذا علم بانه سيصيبه القتل او الضرر فلا جدوى من التقية .
وقد تعرض هذا التفسير للمناقشة ((219)) .
وعـلـى كل حال , سواء انطبقت هذه الروايات على التفسير الثاني , ام لم تنطبق , فان مما يدركه العقل وجـدانـا, ويوافقه الشرع ايضا, ان الانسان المسلم لو كان يواجه مثل هذا الموقف , الذي يحدد فيه الحالة التي يعيشها,وانه لا جدوى من التقية , وانه مقتول لا محالة , لا تشرع له التقية حينئذباظهاره الكفر او البراءة او اللعن , اذ لايدفع بتقيته هذه القتل او الضرر عن نفسه , اذ فيه دعم للاعداء بدون جدوى .
اذن , فـان حجرا وامثاله من اقطاب الشيعة , كانوا يعلمون بانهم معرضون للقتل بيد النظام الحاكم , اذ ان هـذا النظام قد صمم على مطاردة الشيعة الموالين للامام (ع ) وخاصة اولئك المقربين الابطال من اصـحـابه , والذين قاتلوا معه , وقتلوا الكثير من اصحاب معاوية , وخاصة بعد ممارستهم لمهمة الامر بـالمعروف والنهي عن المنكر, واستنكار اعمال معاوية , فسوف يقتلهم النظام الحاكم لا محالة , حتى لـو اظـهروا اللعن , واستجابوا في الظاهر لمتطلباته ,ولكن هذا النظام الغاشم يعلم جيدا بان حجرا, وعـمرو بن الحمق , ورشيدالهجري , وصعصعة بن صوحان , وميثما وامثالهم , ممن يشكلون خطرا عـلـى وجوده , وممن لا يستسلمون و لايتخلون عن مبادئهم , وولائهم , وممن يطلبهم معاوية وامثاله بـالـثـار والانـتقام لمواقفهم الجهادية مع الامام (ع ),ولانهم يمثلون زعماء الشيعة . هذه وغيرها من الـعـوامـل تفرض على المسلم الواعي ان يعلم مسبقا بانه مقتول لا محالة على ايدي هذا النظام , وان لاجدوى من التقية .
وقد ذكرنا بعض النصوص والشواهد التي تدل على تتبع زياد ومعاوية للشيعة وقتلهم , وقد سار على سيرتهم سائر الخلفاء الامويين بل العباسيين .
3 ـ ذكـر الـعلماء انه لو تعرضت بيضة الاسلام وكيانه الى الخطر, فيجب على المسلم الجهاد, او النهي عن هذا المنكر, حتى لو قتل في هذا السبيل .
وقـد فـسـر الـمـراد مـن بـيضة الاسلام , التي تفرض الجهاد والمواجهة : اما المرادمنها الدولة الاسلامية الشرعية الصحيحة , او وجود المسلمين وحياتهم , اومعالم الاسلام ووجوده ومعتقداته , كما لو تعرضت الحكومة الاسلامية الشرعية , الى العدو الذي يستهدف القضاء عليها, او ان المسلمين تـعرضواالى خطر الابادة , بحيث استهدف الاعداء قتلهم وابادتهم , او تعرض كيان الاسلام ومعالمه ومـعـتقداته ووجوده الى خطر الابادة , او التحريف ,والتشويه , بحيث كان الاعداء يستهدفون محو الاسـلام , او تـشـويـهـه وتـحريفه ,بحيث يحاولون تغيير الامة نفسيا وعقائديا, لينسوا اسلامهم الاصيل ,وليتطبعوا على مبادى اخرى , او على اسلام محرف ومشوه ((220)) .
ولعله الى ما ذكرنا يشير المحقق القمي في كتابه جامع الشتات : (الـظاهر ان المراد من الخوف على بيضة الاسلام الخوف من استئصاله وانقطاعه بالمرة , ولما كان يحصل انقطاع كل شي ء بانقطاع اصله وانصرافه كاساس الجدار واصل الشجرة , فاريد بالخوف على بـيضة الاسلام الخوف على مابه قوامه وقيامه , فالمراد ان الكفار يريدون انصراف الاسلام بانصرام السلطان الذي هو يمنزلة الراس لاستلزامه انصرام البدن , ولك ان تجعل البيضة ماخوذة من الحوزة بمعنى الناحية , يعني اذا حصل الخوف على ناحية الاسلام والمسلمين وجانبهم بحيث يخاف انصرامه او انـصـرامـهـم ,فـيجب الدفاع وان لم يكن باذن الامام , والحاصل ان المراد من الخوف على بيضة الاسـلام الخوف على استئصاله وانقطاع رسمه , واما عطف المسلمين على بيضة الاسلام فهو ايضا مما يوجب الدفاع وان لم يخف على انصرام اصل الاسلام اذ قد يكون هجومهم على جماعة خاصة من المسلمين بدون ارادة انصرام اصل الاسلام ) ((221)) .
ويفهم من هذا النص وامثاله , ان الخوف على بيضة الاسلام له ثلاث مجالات : 1 ـ الـخـوف عـلى الحكومة الاسلامية , ويعبر عنه بسلطان المسلمين (اي الخوف من انصرام هذا السلطان ), حيث يستهدف العدو الكافر الاطاحة بالحكومة الاسلامية الصحيحة ليمسك بيده مقدرات المسلمين , ويسيطرعلى زمام حكمهم .
2 ـ الخوف على الاسلام نفسه (الخوف على استئصاله وانقطاع رسمه ), حيث يحاول العدو الكافر ازالـة مـعالم الاسلام وشعائره واحكامه , اي الوجودالاسلامي في ذلك المجتمع ويستخدم في ذلك مـخـتـلف الاساليب من الارهاب والاغراء وغيرهما, من اجل القضاء على الروح الدينية وهدم معالم الاسلام ومحو آثاره واحكامه .
3 ـ الـخـوف عـلى المسلمين انفسهم (اذ قد يكون هجومهم على جماعة خاصة من المسلمين بدون ارادة انـصـرام اصـول الاسـلام ). فيستهدف العدو الكافربهجومه ابادة المسلمين انفسهم وقتلهم , وتشريدهم والتنكيل بهم , وهتك اعراضهم , وغيرها من الممارسات التي تستهدف المسلمين انفسهم .
اذن , في مثل هذه الحالات الثلاث التي تتعرض فيها بيضة الاسلام للخطر,يجب على المسلم مواجهة هذا الخطر, والجهاد, والنهي عن المنكر, مهما بذل من تضحيات .
وقـد حـدد حجر واصحابه الواقع الموضوعي في تلك المرحلة الزمنية , وان معاوية كان يحاول اما ابادة الاسلام وازالة كيانه ومعالمه , او انه يحاول تحريفه وتشويهه , وتطبيع الامة على اسلام مشوه مـنـحـرف , فـحـددوا الـمـرحـلـة بـان كـيـان الاسـلام يـتـعرض فيها الى خطر الابادة , بفعل الاساليب والممارسات التي يستخدمها النظام الاموي , من اجل القضاء على الاسلام الاصيل او تحريفه وتـشويهه , ومن اجل اعادة الجاهلية ومنكراتها,وتقاليدها, وفي مثل هذه الحالة , يجب الجهاد والنهي عن المنكر, حتى لوبذلوا الدماء في هذا السبيل , حتى تثير دماء الشهداء, وصرخات المعذبين ,الخوف فـي قلوب الاعداء والطغاة , ويردعوهم عن مواصلة ممارساتهم العدوانية ضد الاسلام والمسلمين , او الـتـعـرض لـكـيـان الاسلام وبيضته ,وكذلك حتى يبعثوا الوعي , والثورة والجراة , في قلوب المسلمين , وبالفعل كانت لهذه الدماء الثائرة الزكية , هذه المعطيات , فانفجرت الانتفاضات ,والثورات , بـوجه الحكومات الظالمة , ودبت الصحوة والجراة والثورة في النفوس , وتزعزعت عروش الطغاة , واحـلامـهـم , وكـانـت مـبـادى ء اهـل الـبـيـت : وقـادتـهم , وشعاراتهم , وتضحياتهم , وتضحيات اتباعهم وشيعتهم , هي الفتيل الذي الهب الجماهير المسلمة , وقد استغلها العباسيون في تفجير الثورة ضـد الحكم الاموي , حين لم تكن الظروف الموضوعية متوفرة للقادة الحقيقيين , ائمة اهل البيت : من القيام بهذه الثورات , اوقيادتها بانفسهم .
4 ـ الامـر بـالـمعروف والنهي عن المنكر: وهما من اهم الواجبات الدينية ,ويكتسبان الاهمية من الاثـار الـتـي تـترتب عليهما. ونحن نعلم بان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها, فالواجب يـكـتـسـب اهـمـيـته من مصالحه والاثار المترتبة عليه , وقد وردت نصوص كثيرة في معطيات الامربالمعروف والنهي عن المنكر بما يؤكد اهميتهما, ومنها, انه يوفر المناخ الملائم لامتثال سائر الاحكام , ويطهر المجتمع من عوامل الفتنة والانحراف , وفي بعض مراحله , وهو النهي باليد جرحا او قـتلا, يردع الشخص العامل بالمنكروغيره عن ارتكاب المعصية , وبذلك يتوفر المناخ المناسب لاعـمـال الـخيرواقامة الفرائض والتكامل الفردي والاجتماعي وتحسين حالة المجتمع اجتماعيا, وديـنـيـا واخـلاقيا واقتصاديا, وغيرها من الاثار فقد ورد عن المعصومين : (ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الانبياءومنهاج الصلحاء, فريضة عظيمة بها تقام الفرائض , وتامن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الارض وينتصف من الاعداء ويستقيم الامر) ((222)) .
ونـحـن لـو تـامـلنا في هذا النص وامثاله بدقة , لرايناه حافلا بالاثار الدنيوية والاخروية الكثيرة الـمـترتبة على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر, ولعلهاآثار ونتائج طبيعية اضافة للمدد الغيبي الـخـاص الـذي يـفـيضه اللّه تعالى لمن يقوم بهذا الواجب المهم , وهذه هي التي تمثل الملاكات لهذا الحكم .
وهـذه الاثـار تـشـبه الاثار الايجابية التي رتبت في النصوص الاسلامية على فعل الجهاد, والاثار السلبية التي رتبت على تركه , وقد اشير في نهج البلاغة الى بعض هذه الاثار السلبية لتركه (فمن تركه ـ اي الجهاد ـ رغبة , البسه اللّه ثوب الذل , وشمله البلاء, وديث بالصغار والقماء, وضرب على قلبه بالاسداد (بالاسهاب ), واءديل الحق منه بتضييع الجهاد, وسيم الخسف ومنع النصف ) واما آثاره الايجابية فتشير النصوص اليها. منها ان الجهاد (درع اللّه الحصينة , وجنته الوثيقة ) ومنها (جاهدوا تغنموا) وكذلك (ان اللّه فرض الجهاد وجعله نصره وناصره واللّه ما صلحت دنيا ولا دين الا به ).
فان الامة التي تقوم بواجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد, هي امة قوية يمكنها الحفاظ على نفسها ومبادئها ربما لا يفكر الاعداء حتى في محاربتها واما غير القائم بذلك , فلا يمكنها الحفاظ عـلى نفسها ومبادئها, لذلك ربما تموت في مجاهل التاريخ , ويستولي الاعداء على مقدراتها, ويقضون على مبادئها ومن هنا ذكرت الاثار الايجابية لفعل هذا الواجب والاثار السلبية لتركه .
ودراسة هذه الاثار تحتاج الى بحث اوسع .
ونـحـن نـعـلـم ان النهي عن المنكر له مراتب متدرجة , لا ينتقل للمرحلة الاشدالا بعد عدم تاثير الاضـعف , فيبدا من الانكار القلبي , فان امكن ردع العامل وتحقيق الاهداف المنشودة من هذا الواجب بـالاعـراض والانـكـار قـلـبـافـيـكـتفى به , والا انتقل للنهي باللسان والكلمة , فان لم تؤثر هذه المرحلة ايضا, فينهى عن المنكر باليد, بضرب العامل بالمنكر او جرحه , بل حتى لوتوقف على قتله , وفي هذه المرحلة الاخيرة وهي مرحلة اليد يشترط اذن الحاكم الشرعي , ويعلله صاحب الجواهر بـقـولـه (... كل ذلك مضافا الى ما في جواز ذلك لسائر الناس عدولهم وفساقهم , من الفساد العظيم , والـهرج والمرج المعلوم عدمه في الشريعة وخصوصا في مثل هذا الزمان الذي غلب النفاق فيه على الناس فانهما ـ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ انما وجبالمصلحة العالم , فلا يقفان على شرط كـغـيـرهـمـا مـن الـمـصـالـح , بـعـد مـا عرفت من اقتضاء وجوبهما على هذا الوجه فساد نظام العالم ) ((223)) .
والنهي عن المنكر باليد بالجرح او القتل يتم بصورتين : 1 ـ فـيـما لو كان الحاكم الشرعي مبسوط اليد متمكنا من اجراء الحدود, فهنايعاقب العامل بالمنكر بالعقوبات المحددة شرعا.
2 ـ فيما لو لم يمكن اجراء الحدود, بان لم يكن الحاكم متمكنا من اجرائها, فهنايقوم بعض المسلمين الـعـاملين بمحاربة المنكر, واستئصاله من المجتمع ولوبضرب العامل به , فيما لو لم تفلح الاساليب الاخرى من الانكار القلبي واللساني .
وهـذا يـدل عـلى ان القوة هي العلاج الاخير الذي يستخدمه الاسلام لمواجهة الانحراف , وتطهير المجتمع منه حيث لا تثمر الاساليب الاخرى .
وتـدل عـلى المراحل الثلاث للنهي عن المنكر نصوص عديدة , (عن عبدالرحمن بن ابي ليلى , قال : انـي سـمـعـت عليا(ع ) يوم لقينا اهل الشام يقول : ايهاالمؤمنون انه من راى عدوانا يعمل به ومنكرا يـدعـى الـيـه , فـانـكـره بقلبه فقدسلم , ومن انكره بلسانه فقد اجر, وهو افضل من صاحبه , ومن انـكـره بـالـسيف لتكون كلمة اللّه العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك اصاب سبيل الهدى , وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين ).
(وعـن الامـام الباقر(ع ): فانكروا بقلوبكم , والفظوا بالسنتكم وصكوا بهاجباههم , ولا تخافوا في اللّه لومة لائم , فان اتعظوا والى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم , انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويـبـغـون فـي الارض بـغير الحق ,اولئك لهم عذاب اليم , هنالك فجاهدوهم بابدانكم , وابغضوهم بـقلوبكم غير طالبين سلطانا, ولا باغين به مالا, ولامريدين بالظلم ظفرا, حتى يفيئواالى امر اللّه , ويمضوا على طاعته ) ((224)) .
وقـد ذكر العلماء: ان من شروط النهي عن المنكر عدم خوف الضرر بالنسبة للقائم بعملية النهي عن المنكر.
ولـكـن الـمـلاحـظ ان الـفـقـهـاء فرقوا بين ما لو لم يكن المنكر ضررا كبيرا على كيان الاسلام والـمـسـلـمـيـن , فـلا يـجب النهي عن المنكر فيما لو خاف ترتب الضرر عليه , او على غيره من الـمـسلمين , واما لو كان للمنكر ضرر كبير كمالو تهدد بيضة الاسلام وكيان المسلمين , فهنا يلزم النهي عنه حتى لو لزم منه الضرر على القائم بالنهي ولكن فيما اذا احرز تاثير عمله في هذا المجال .
فـقد ذكروا في شروط النهي عن المنكر (ان لا يلزم من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر على النفس او في العرض او في المال على الامر اوعلى غيره من المسلمين , فاذا لزم الضرر عليه او عـلـى غـيـره مـن الـمـسلمين لم يجب , والظاهر انه لا فرق بين العلم بلزوم الضرر والظن به والاحتمال المعتدبه عند العقلاء الموجب لصدق الخوف , هذا فيما اذا لم يحرز تاثير الامر اوالنهي واما اذا احرز ذلك فلابد من رعاية الاهمية , فقد يجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العلم بترتب الضرر ايضا فضلا عن الظن به اواحتماله ) ((225)) .
ومـن هـنا ربما جاز او لزم النهي عن المنكر حتى لو ترتب الضرر على القائم بعملية النهي , فيما لو توفرت المبررات الشرعية لذلك , كما لو كان للمنكرضرر كبير على بيضة الاسلام وكيانه , فيما لو احرز تاثير نهيه والضرر الذي يتعرض له في الدفاع عن بيضة الاسلام , ودفع المنكر, ومن هنا يـلـزم الدقة الشرعية في مجال النهي عن المنكر الذي يترتب عليه الضرر, وان يكون القائم بعملية النهي عالما بالاحكام الشرعية والظروف الموضوعية التي يعيشها ولا يحق لكل احد وفي اي ظرف كان التصدي لذلك , مع عدم علمه بمثل هذه الاحكام والظروف .
وربما يعترض على تحمل الضرر في ذلك بان قاعدة نفي الضرر (لا ضرر ولاضرار في الاسلام ) تـنـفـي الحكم الذي ينشا منه الضرر, او تنفي الموضوع الضرري , الذي يعني نفي الاحكام والاثار الـشرعية الثابتة للموضوع قبل عروض الضرر, حيث ينفيها الضرر, فمثلا الوضوء قبل عروض الـضرر, له حكم الوجوب شرعا, ولكن بعروض الضرر من الوضوء, ينتفي هذا الحكم ,وهكذا هنا, انـمـا يجب النهي عن المنكر فيما لو لم يترتب عليه ضرر, واما لوترتب الضرر فلا وجوب للنهي , وهكذا الامر في وجوب الجهاد.
والجواب عن ذلك : اولا: ان هـذا الـمـورد الذي تتعرض فيه بيضة الاسلام وكيان المسلمين الى الخطر, حيث للمنكر ضـرره وله مفسدة بالغة على الاسلام فان وجوب دفع الضرر عن الاسلام اهم من دفع الضرر عن نـفـسـه , فـهـنـا تـزاحـم بين الضررين , الضرر الشخصي الذي يتعرض له الشخص القائم بالنهي عـن الـمـنـكر, والضرر الكبير الذي تتعرض له بيضة الاسلام , ولا شك بان الضررالثاني اهم من الاول , فـي وجوب دفعه عن الشريعة , حيث ان مفسدته اكبرمن مفسدة الضرر الشخصي , وفي مقام التزاحم بين حكمين , يقدم ما كان معلوما او محتمل الاهمية .
ثـانـيـا: بان قاعدة نفي الضرر انما تجري في غير موارد تعارض الضررين في بعض صوره , لانها قـاعـدة امتنانية شرعت امتنانا على المسلمين , ولا امتنان في دفع الضرر عن شخص فيما لو ترتب عليه ضرر اهم على نفسه او على غيره من المسلمين او الاسلام نفسه , فيتحدد جريان القاعدة في حدود توفرالامتنان .
ثـالـثـا: ذكـر الـعـلماء بان قاعدة نفي الضرر قاعدة ثانوية ناظرة لنفي الاحكام الثابتة للموضوعات بـعناوينها الاولية , وبناء على تفسير نفي الضرر ببعض التفاسير, حيث ان القاعدة تنفي الحكم الثابت لـلـمـوضوع بعنوانه الاولي , فلوكان للموضوع قبل عروض الضرر حكم شرعي , فانه بعروض الـضررينتفي ذلك الحكم , بمفاد قاعدة نفي الضرر, كما مثلناه في الوضوء, وكما هوالامر في حديث الـرفـع , فلو كان للموضوع قبل عروض الاكراه او الخطاعليه حكم ما, فانه بعروض الخطا مثلا عـلـيه , يرتفع ذلك الحكم , واما اذاكان الموضوع بنفسه قد اخذ فيه الخطا, اي ان الحكم لم يترتب عـلـى ذات الـفعل وانما ترتب على الفعل الصادر خطا, فاخذ الخطا في موضوعيته للحكم , كوجوب الـديـة المترتب على القتل خطا, فهنا بحصول الخطا لا ينتفي وجوب الدية , لانه بالقتل خطا يتحقق موضوع هذا الحكم , وكيف يمكن للحكم ان ينتفي عن موضوعه ويتخلف عنه , لان الموضوع بالنسبة لـلحكم مثل العلة بالنسبة للمعلول , ولا يتخلف المعلول عن علته , وهكذا الامر في قاعدة نفي الضرر, فانما تنفي الحكم عن الموضوع الذي لم يؤخذ فيه الضرر,واما اذا ثبت الحكم للموضوع الضرري , اي اخـذ الضرر في موضوع الحكم ,فلا ينتفي بالقاعدة , كما هو الامر في وجوب الخمس والزكاة والـجـهـاد, فـانـه قـداخـذ فـي موضوع هذا الوجوب الضرر المالي او البدني , فلا يمكن القول بـعـدم الوجوب بحجة التعرض لمثل هذا الضرر, وربما يقال بذلك في بعض صورالامر بالمعروف والنهي عن المنكر وانه اخذ في موضوعها الضرر.
نـعـم ربما يقال : ان ما ذكر يصح في مثل وجوب الخمس او الجهاد حيث لايمكن تحقق الجهاد بدون ضـرر وامـا وجـوب النهي عن المنكر فقد اخذ عدم الضرر في موضوعه , فكيف يؤخذ الضرر في موضوعه .
ولـكن يمكن القول : ان بعض صور النهي عن المنكر هي في واقعها من الجهادموضوعيا, كما لو كان الـمنكر يتهدد بيضة الاسلام , ويجب دفعه , فان مثل هذه الصورة مما يلازم الضرر خارجا, ومن هنا يـكتسب النهي عن المنكر في هذاالمورد خصائص الجهاد واحكامه , بالاضافة لما ذكرناه من وقوع التزاحم في بعض الموارد بين الضرر الشخصي , والضرر الذي يترتب على الاسلام والمسلمين .
ومن هنا يمكن تاييد هذه الفكرة بانطباق بعض صفات الجهاد واهدافه وآثاره على بعض هذه المواقف , مما يفرض الوقوف بوجه الانحراف والمنكرات , والمنحرفين , حتى لو استلزم ذلك تحمل الضرر.
ومثل هذه الفكرة يمكن صدقها على مواقف بعض المؤمنين الموالين لاهل البيت : في مواجهة اعدائهم , اعـداء الاسلام الاصيل الذين يريدون اطفاء هذا النور الالهي لتعيش البشرية في ظلمات الانحراف والسقوط.
وقـد ذكـرنـا معطيات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللّه ,حتى لو استلزم الـضـرر منه , وذلك بالدفاع عن بيضة الاسلام وكيان المسلمين ودفع المنكر الشديد وكذلك الاثار التي استعرضناها في بداية هذاالعامل .
وامـا آثار الضرر الذي يتعرض له القائم بعملية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من الاضطهاد, والجرح بل وحتى القتل والشهادة فلها آثارها الكبيرة في الدنيا والاخرة , ذكرت الروايات الشريفة الكثير من هذه الاثار.
فـمـن المسلمات في الشريعة الاسلامية (ان افضل الاعمال احمزها) فكلما كان العمل اكثر مشقة , كـان اكـثـر فضيلة وثوابا لانه يدل على ان صاحبه اكثرتعلقا بمحبوبه بحيث يكون مستعدا للمشقة والتضحية براحته في سبيله ,وكلما كان العمل اكثر مشقة كان اكثر تاثيرا في تكامل الانسان , ولكن يجب ان نعلم ان الضرر الذي يصيبه لا يعد ضررا تجاه المنافع الكبيرة التي تترتب على متاعبه .
وامـا آثاره الاخروية فهي كثيرة وخاصة للشهيد في هذا السبيل , وقدذكرت في الروايات , يضيق الـمـجـال لو تعرضنا لها, منها (عن الامام الصادق (ع ): من قتل في سبيل اللّه لم يعرفه اللّه شيئا من سـيـئاته ) وغيرها ((226)) ,وفي الروايات ما يدل على ان له منزلة سامية في الاخرة , وهي تدل عـلـى مـاوصل اليه في الدنيا من سمو ومكانة , حيث ان المقام في الاخرة , يعبر عن مستوى الانسان ايمانيا في الدنيا.
اضـافـة الـى بـعض آثار هذا الضرر في الدنيا وخاصة الشهادة في سبيل اللّه اذاكانت لها مبرراتها الشرعية , حيث انها تخيف الاعداء, وتبعث روح التضحية والوعي في قلوب الانصار, وتحافظ على الـمـبـدا والامـة , فـانـها تخيف الاعداء وتؤرقهم بوجود امثال هؤلاء الذين يستعدون للتضحية في سبيل مبادئهم والوقوف في وجوههم , ومقاومتهم .
وتبعث روح الوعي في نفوس الانصار: لان الاخرين يدركون ان هناك من هو اكثر اهمية , واعتبارا وربـمـا اكـثر توفرا على المكتسبات الدنيوية وانضرشبابا, قد ضحى في سبيل المبدا, فيقتنع بان الـمـبدا اغلى من كل شي ء, وبذلك يزول الشعور بالخوف من النفوس بالاضافة الى انه يكسر حاجز الـخوف النفسي والاجتماعي من قوى الطواغيت واساليبها حتى يرى تحدي المؤمنين لها, وتزعزع الظلمة من مواجهتهم .
ولو كان الاعداء كما يدعون حقا ملتزمين المبادى الحق والعدالة والاسلام ,اذن لماذا طاردوا هؤلاء الذين لا يطالبون الا بالحق والعدالة والاسلام والمبادى الخيرة , والفضائل والقيم الانسانية , وهذا ما يثير الناس اكثر,ويسقط اعتبار الاعداء.
وكلما كان الانحراف اشد, احتاج الى دم اغلى واكثر اهمية وقداسة لمواجهته ,وليكون اكثر تاثيرا فـي تـحقيق الاهداف التي ينشدها, لذلك كانت دماءالامام الحسين (ع ) والموالين الكبار لاهل البيت : كـحجر بن عدي اكثرتاثيرا ولو لا هذه الجهود والتضحيات من الموالين لاهل البيت : خلال التاريخ ربـمـا لضعفت مبادئهم بتاثير الضربات المتوالية التي وجهت لها عبرالتاريخ , اذن فالذي حافظ على حياة الموالين ومبادئهم , هو ما تملكه هذه المبادى من تعاليم حقة سامية , لانها تمثل الاسلام الاصيل , وللجهودوالتضحيات الكبيرة التي بذلها انصارها في سبيل الحفاظ عليها والدفاع عنها.
وهـنـاك آثـار ومـعـطـيـات كـثيرة , للامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللّه , والاضرار والمشاق التي يتحملها القائم بها, تذكر في النصوص الاسلامية واقوال العلماء والباحثين يضيق المجال لو تعرضنا لها, نكتفي بهذاالعرض الموجز عنها.
وربـمـا كانت المبررات المذكورة هي الدافع لحجر, جميعها, او بعضها, وربماكان الدافع غيرها.
واللّه العالم .
واخـيـرا يـجدر بنا ان نقول : ان ما قام به حجر و امثاله من المؤمنين , والعلماءوالعباد الابطال , هي حـالات موضوعية , وهم اعرف من غيرهم بالواقع الموضوعي , الذي عاشوه , وبالموقف الذي يلزم عـلـيـهـم اتـخاذه تجاه تلك الظروف التي تواجه الاسلام , مع علمنا وعلم الجميع , بما يملكه هؤلاء من ايمان وعلم , ووعي , فان لهم مبرراتهم الاسلامية المشروعة من اتخاذ هذه المواقف .
ويـدل عـلـى مـشروعية تضحيته وحركته ـ والشواهد كثيرة ـ ثناءالرسول (ص ), والامام امير الـمـؤمـنـين (ع ) عليه , وعلى حركته وتضحيته ,وكذلك سائر الائمة :, وثناء الكثير من الصحابة والتابعين والعلماء. وقدنقلنا خلال هذا الكتاب الكثير من هذه الاحاديث والاقوال , ونكتفي هنا بماقاله الامام علي (ع ) لحجر, حيث كان الامام (ع ) على فراش الاحتضار بعدطعن ابن ملجم له , وقد ذكرنا الـخـبـر بـكـامله سابقا, ونذكر هنا ماله علاقة بهذاالموضوع , بحيث يدل ايضا على ما ذكرناه في مـوضـوع التقية . قال الامام (ع )ـله ـ لحجر: ((كيف لي بك اذا دعيت الى البراءة مني فما عساك ان تقول ؟فقال : واللّه يا امير المؤمنين , لو قطعت بالسيف اربا اربا, واضرم لي النار,والقيت فيها, لاثرت ذلـك عـلـى الـبـراءة مـنـك . فـقـال : وفـقـت لـكـل خير يا حجر,جزاك اللّه خيرا عن اهل بيت نبيك )) ((227)) .