كانت القافلة تطوي الطريق الممتد بين مكة والكوفة بسرعة لاستباق الاحداث التي تنذر بها الظروف .
موت معاوية ، واستخلاف يزيد ، وتململ الامة الاسلامية من لحظة تحول الخلافـة الـى ملك عضـوض ، ذلك التحول الذي حذّر منـه الرسول (صلى الله عليه وآله) ..
لقد خرج الامام الحسين ( عليه السلام ) من مكة يوم الثامن من ذي الحجة حيث يتجه وفود الرحمن الى منى فعرفات لاداء الحج الأكبر . وكانت حركته صدمة هائلة للنظام السياسي الذي بناه الحزب الأموي طيلة اربعين سنة . كما كانت فرصة كبيرة للمؤمنين للجهاد من اجل اعادة الأمة ونظامها السياسي الى الصراط المستقيم ذلك الصراط الذي رسمه الوحي وبيّنه الرسول . ومضى عليه الامام علي وأيده المخلصون من قادة المسلمين .
تتوهج شمس الظهيرة في أيام الربيع في ذلك الطريق الصحراوي والامام الحسين ( عليه السلام ) قد بانت على وجهه الشريف قسوة الأحداث . فاسرع اليه الشيب ، والحركة السريعة تجهد الانسان فمن الطبيعي ان يغفو الامام فوق قربوس فرسه ..
انتبه مرعباً ، وهو يقول انا لله وانـا اليه راجعــون ..
كان ولده علي الأكبر ومرافقه غير بعيد عنه . انه كان يلاحـظ والـده . ولعله كان يحرسه ، بينمـا كان العباس ( عليه السلام ) يحرس قافلة النساء .
فاسرع اليه قائلاً ممَّ استرجعت يا أبه ؟ لم يخف الامام عن ولده حقيقة نومه بالرغم من معرفته بايمان علي الأكبر بامامة والده وعصمته وان منامه حق .
ولكنـه لـم يخف عنه منامــه علمــاً منه بمدى رسوخ الايمان عند ولده فقال له : رأيت كأن هاتفاً يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير وراءهم .
فالرحلة ليست - في واقعها - الى الكوفة . واقامـة حكم اسلامي فيها . وازاحة الطاغوت يزيـد ، وحزبه الأموي . بالرغم من ان ذلك هو المخطط المرسوم والمرتقب عند الناس بل وحتى عنـد الكثير ممن يرافق قافلة الحسيـن ( عليه السلام ) .
كلاّ انما هي رحلة الشهادة .. رحلة المنايا التي تلاحق الركب كله . استمع علي الأكبر الى والده بأدب جم فلما سكت بادره قائــلاً : يا أبه أفلسنا علـى حق ؟
قال : بلى . يا بني والذي اليه مرجع العباد .
قال : إذاً لا نبالي بالموت اوقعنا على الموت او وقع الموت علينا . (1)
تلك الكلمة كانت منتظرة من سلالة الرسالة حفيد أميـر المؤمنيـن علي ( عليه السلام ) وكانت - في ذات الوقت - هدية ثمينة قدمها الولد لوالده في مقابل أتعابه عليه وجهده في تربيته .
انها كانت صدى لصـوت الحسين ( عليـه السلام ) . ذلك الصوت الالهي الذي آنس علياً منذ ولادته . صـوت الحق ، صوت الايمان بالله لا بالطاغوت ، والتسليم للوحـي لا للهوى ، وحب الحق لا المصالـح ..
تلك الكلمة كانت مرآة للروح الأيمانية التي انسابت من ضمير سبط رسول الله ابن فاطمة الزهراء وربيب أمير المؤمنين ، إنسابت تلك الروح في وعي سلالة الرسالة ، علـي الأكبر منذ استهلالـه .
بلى الانسان سيرة ورسالة . سيرة الانسان تمتد عبر حيـاته بينما تتجلى رسالته في موقف واحد او بضعة مواقف في حياتـه . ورسالــة الانسان هـي خلاصة سيرتـه .. ولأن سيرة علي الأكبر كانت الهية جاءت رسالته الهية ايضاً . وتجلت في تلك الكلمة الرائعـة التي اشبهت كلمة جده الامام علـي ( عليه السلام ) في ليلة المبيت إذ سأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حينما أمره بالمبيت على فراشه المحاط بسيوف قريـش ، سأله أنت تسلم قال : بلى ، إنه لم يسأل عن سلامة نفسه بل عن سلامة الرسول .
وكما اشبهت كلمة جده الامام علي ( عليـه السـلام ) عندمــا أخبره النبي بشهادته . حين سأله أفي سلامـة مـن
ديني قال : بلى ، فحمد الله .
وهي بالتالي صدى لكلمة والده الامام الحسين ( عليه السلام ) حينما قـال :
" إني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برمــا " .
---------------------------------------------------------------------------------
(1) بحار الأنوار / ج 44 / ص 367 .
المنايا تسير وراءهم
- الزيارات: 3512