طباعة

في الطريق الى يثرب

مركز القيادة الإسلامية المتمثّلة بالقائد محمد ( صلى الله عليه وآله ) قد حلّ في أرض جديدة هي يثرب ، وهي بدورها قد احتضنت محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو كذلك قد وجد فيها المنطلق الحيويّ لبثّ تعاليم السّماء إلى الآفاق شرقاً وغرباً ، ومكّة ـ الآن ـ قد اختفى فيها صوت محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فهو لم ير في شارع يدعو ، ولا في وادٍ يعدو يبشر ، ولا في سوق يندّد بالأوثان ، ولا في نادٍ يوجّه أتباعه ويدلّهم على معالم رسالته المباركة ، ولا يرى محمد ( صلى الله عليه وآله ) حتى في بيته ، وقريش تأكدت من هجرته إلى يثرب بعد أن فشل المأجورون في قتله والوحي هو الآخر قد انتقل إلى يثرب ليواصل حلقات الرّسالة الإلهية المتسلسلة ، وقريش امتلأت حقداً يصحبه طابع من الخوف بعد أن رأت أن أحياء مكة قد اختفت عنها نشاطات الصّفوة المؤمنة ، وأنّها قد هاجرت إلى أرض جديدة أكثر قدرة على احتضان الدّعوة المباركة ، بعيدة عن ضغط قريش ومكائدها وسلطانها ولم يبق في مكّة إلا عليُّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ونفر من النساء في طليعتهنّ فاطمة الزهراء بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) وبعض من عجزة المؤمنين وشيوخهم ، وعليٌّ هو الآخر عازم على الرّحيل ليحمل بقايا الدعاة الصابرين إلى مركز قيادتهم ، ولكنّه غير فاعل ذلك ما لم يؤدّ أمانات أخيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) الذي اعتاد الناس أن يودعوا حاجاتهم لديه ، وسمّوه بالأمين.
ويسرع عليٌّ ( عليه السلام ) بتنفيذ هذه المهمة ، وبعد مضي ثلاثة أيّام على هجرة القائد محمد ( صلى الله عليه وآله ) يعلن عليٌّ ( عليه السلام ) نبأ رحيله إلى يثرب ، ويهيىء هوادج لحمل النساء الهاشميات.
ويحمل : فاطمة الزّهراء ( عليها السلام ) وأُمه فاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب وفاطمة بنت حمزة ، وغيرهنَّ ، ويودع مكّة المكرمة ، ونفسه ممتلئة عزّة وكبرياء على طواغيت وأوضار الجاهلية ، وهو غير آبهٍ بما وراءه من عصاة الخالق مهما دبّروا ومهما خطّطوا لإيقاف الزّحف المقدس والمسدد بقوة السماء.
ولكن قريشاً فزعت لهذا الحدث الجديد ، وحملها حنقها الشديد على مواجهة الموقف بعملية عسكرية لتدرك ثأرها من محمّد وأتباعه بقتلها عليّاً ( عليه السلام ) لأنّها رأت في خروج عليٌّ ( عليه السلام ) والتحاقه بابن عمه في يثرب على مسمع ومرأى منها تأكيداً لاهانتها ، وهي بالأمس قد ذاقت مرارة فشل ذريع بعد أن فشت المؤامرة الأثيمة التي صمّم أدوارها صناديدها وكبراؤها ، فلا بد ـ والحالة هذه ـ أن تقوم بعملية صارمة لغسل العار الذي لحقها على يد محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ولكن ما هو السبيل الناجع الذي تسلكه قريش لتدرك ثأرها من محمد ... ؟
ها هي قافلة عليّ والزهراء ( عليهما السلام ) ومن معهم تبدو من بعيد ، وهي تحت السير قاصدة يثرب...
وما هي إلاّ ساعاتٍ سوف تختفي القافلة المهاجرة ، تاركة خلفها عاراً وشناراً جديداً يلحق صناديد قريش وأسياد العرب ـ يومذاك ـ
كلُّ هذه الأوهام راحت تدور في ذهنية الزعماء من قريش ، فحملتهم على وضع حلّ حاسم للحادث الجديد قبل أن يفلت الزّمام من أيديهم ـ كليّاً ـ
واجتمعت الكلمة بعد مناقشات واجتماعات عاجلة فرضتها الحادثة الجديدة ، وانفضّ الجمع بإعلان قرار يقضي بإلقاء القبض على عليّ ( عليه السلام ) وقافلته ومنعها من الهجرة.
ويسرع ثمانية فرسان يقودهم مولى لأبي جهل ، وتسرع خيولهم لقافلة المجاهدين ، وبعد أن أدركوها واجه قائدهم عليّاً ( عليه السلام ) بكلمات نابية نابعة من صميم الحضارة الجاهلية العفنة ، ويسرع إلى ضرب عليًّ ( عليه السلام ) ولكنّ عليّاً يميل عن ضربته ويصدُّه بضربة لن يفلت منها فيفارق الحياة بعدها . وما أن يرى الغزاة المتآمرون هذا الحدث إلاّ ويعمهم الجزع والخوف ، فيلوذون بالفرار من الموقف الحاسم يجرّون خلفهم أذيال الهزيمة لقريش لتضيفها إلى سجلّ مخازيها وعارها كما اعتادت.
ويستولي على قريش الذُّهول وتعود إلى أصنامها الواهية تسألها النّصر على محمد ، ويقيني أنّ قريشاً ـ فضلاً عن حقدها على محمد وأتباعه ـ أرادت من محاولتها لصدّ عليًّ ( عليه السلام ) عن الهجرة : إخضاع محمد وإجباره على العودة بعد أن يحاط علماً بعمليّة إلقاء القبض على أعزّ الناس لديه ( عليًّ وفاطمة ) ولكن مساعيها أُحبطت بتسديد من الله على يد عليّ ( عليه السلام ) المعروف برباطة الجأش وصلابة اليقين...
وتستمر القافلة يحدوها النّصر ، ويهزُّها الشوق إلى قائدها محمد ( صلى الله عليه وآله ) وتتغنى بآيات الله الكريمة.
وما هي إلا أيام حتى يستقبل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ومعسكره الفتي الوفد المهاجر بابتساماتٍ ملؤها الإكبار والإجلال ، والمودة.
ولم تكن الهجرة ـ هجرة عليًّ وفاطمة والوفد المرافق لهما ـ مجرّد هجرة ، وإنّما صحبتها عواطف كريمة ومواقف نبيلة كان في طليعتها اهتمام عليّ ( عليه السلام ) بالنّسوة اللائي رافقنه ، فكان يسير بهنّ سيراً وئيداً خشية تعريضهنّ لنوع من المشقة ، ويتفقدهنّ بين آونة وأُخرى للإطلاع على حاجاتهنّ ومتطلباتهنّ ، وإن شئن سبيلاً للرّاحة بذل لهن من وسائل الراحة من إيقاف للمسير أو تهيئة لطعام أو شراب .
وإن دلّت هذه المساعي الحميدة التي يزاولها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع وفده المهاجر من النّسوة على شيء ، فإنّما تدلُّ على مدى اهتمام الإسلام الحنيف بالعنصر النسائي من المجموعة البشرية ، وكيف يسهر الرجل على راحتهنّ وتوفير السعادة لهنّ ، وعليُّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) أولى من غيره بتطبيق معالم الرّسالة الإسلامية المقدسة ، سيّما وهو قد نبت لحمه وشحمه على أساس منهج الله سبحانه ، بل إنّه بمثابة الصورة التجسيدية لكلّ معالم التشريع الإسلامي الرصين ، ولذا فقد دعاه الرّسول ( صلى الله عليه وآله ) بالقرآن الناطق لأنّه ـ لعمر الحق ـ صورة حيّة متحرّكة للقرآن الكريم.
وتصل قافلة المجاهدين ، وهي آخر موكب من مواكب النُّور المتّجهة صوب يثرب لتُطلّ على العالم ـ فيما بعد ـ دولة وحضارة تمد يدها لانتشال هذا الكوكب من ظلامات الجاهليّة وأدناسها.