• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

اُسطورة كفر أبي طالب (عليه السلام)

الفصل السادس
اُسطورة كفر أبي طالب (عليه السلام)


تأثّر البعض هذه الأيام بالتيار الذي اقتطع صفحات من التاريخ المزيّفة، واتّخذها ديناً له، مقلّداً النهج الاُموي، بحقده ومظالمه على الرسالة وأصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)، مردّداً بلا ورع ولا بحث عن الحقيقة، تلك الإثارة الاُموية القديمة: (إن أبا طالب مات كافراً).
وللإجابة على هذه الفرية نسلّط الضوء على الجذور التاريخية للحقد الجاهلي على بيت النبوّة، ثم نلخّص الزعم الخبيث للحقائق التاريخية التي مرّ ذكرها، بالإضافة للتصريحات التي تثبت إسلام هذا الرجل وسلوكه ومواقفه الشجاعة من أجل نصرة الرسالة، ثم نناقش ما تقوّله البعض لإثبات كفر أبي طالب مكابرة وعناداً وبغضاً لوصي الرسول(صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب(عليه السلام) .
أولاً: الجذور التاريخية لتكفير أبي طالب
بعد أن تأ لّق نجم عبدالمطلب، سادت له الاُمور، وأصبح السيد المطاع عند قريش، وجاء من بعده ولده أبو طالب، الذي ورث أباه، أصبح هو الآخر شيخاً وسيّداً للبطحاء.
وهذه الرئاسة لا تلغي الزعامات الاُخرى، لأن قريشاً كانت تتوزع على خمسة وعشرين بطناً، وكان بنو هاشم وبنو عبدالمطلب سادة بطون قريش، وكان أبو طالب شيخاً لهما.
أما أبو سفيان صخر بن حرب بن اُمية فقد كان بيده اللواء، وكانت له القيادة الحربية على باقي البطون [26].
ورغم اعتراف قريش جميعاً بسيادة أبي طالب وشرفه وقوّته، إلاّ أن الحسد والمنافسة القديمة بين هاشم واُمية مازالت باقية، تبدو وتتجسّد في حركات الخائف أبي سفيان، لأن شرف الهاشميين وعلوّ مكانتهم واحترامهم داخل مكة وخارجها، كان يقلق الاُمويين فيجعلهم يتحسبون لئلا تتزعزع مكانتهم، وقد زادهم في الأمر قلقاً واضطراباً ماسمعه أبو سفيان من خلال أسفاره بأن نبيّاً سيظهر من ولد عبدمناف ، وطرد الهاجس والقلق الذي أصابه حينما أوحى الى نفسه بأنه هو النبي الذي سيختاره الله; لتمتعه بلياقات وملكات ظنّ أنها تؤهله دون غيره للنبوة، وأنه ليس من المعقول أن تكون النبوّة في البيت الهاشمي مع وجوده بالإضافة الى الخصائص الاُخرى [27].
وترقّب أبو سفيان أن يأتيه نداء السماء ليفرك به اُنوف بني هاشم، وينتقم من تفوّقهم الدائم وبالتالي ينتزع منهم الاعتراف بأنه المدعوم من السماء، وأنه السيّد الوحيد لقريش لا غيره، وارتاح لهذا الشعور الوهمي الى حين [28].
وقد فوجئ عندما سمع بأن في بيت أبي طالب ابن أخيه عبدالله (محمداً) يكلَّم من السماء [29] واستبعد هذا الخبر ولم تطاوعه نفسه في أن يهضمه ، وفسّره بأنه مؤامرة قد حاكها الهاشميون بزعامة أبي طالب.
وإذا صَدَقَ بأن النبوة في بيت أبي طالب فهذا معناه أن الاُمور ستُحسم لصالح بني هاشم الى الأبد، لأن النبوة سوف تأتي بحكم جديد لصالحهم، وسوف تزيح حكم البطون، وتؤدي الى انهياره من الأساس [30].
من هنا بدأ أبو سفيان معارضته انطلاقاً من هذا التصور، ونصّب نفسه زعيماً لهذه المعارضة قبال البيت الهاشمي المتمثل بزعامة أبي طالب [31].
وتحدّى أبو طالب كل رؤساء قريش، وهدّدهم بالقتل إن أحد أقدم على قتل النبي(صلى الله عليه وآله) [32].
وحرّض بني هاشم وبني عبدالمطلب ووحّد صفهم، واجتمع معهم في بيت محمّد(صلى الله عليه وآله)وقرّروا أن لا يفرّطوا بالرسول(صلى الله عليه وآله)، حتى لو قتلوا جميعاً [33].
واستمرّت المعارضة برئاسة أبي سفيان، وانتصرت الرسالة بقيادة محمد(صلى الله عليه وآله)، وقَتَلَ عليّ ابن أبي طالب(عليه السلام) والهاشميون رموز الشرك المتمثّلة في بني اُمية وسائر البطون [34].
ومن جانب آخر فقد تآمر الاُمويون على قتل النبي(صلى الله عليه وآله)، حتّى حاول أبو سفيان نفسه قتله [35]، وأكلت هند اُم معاوية قلب عمّ النبي(صلى الله عليه وآله) حمزة بن عبدالمطلب في واقعة اُحد بعد قتله فيها [36].
وبعد أن تمّ الفتح الإلهي المبين، وهُزمت البطون شرّ هزيمة، وأسلم أبو سفيان رغم أنفه ومعه جمع من البطون التي لم تكن راضية بالنتيجة الإلهية بعد هذا; أخذت تعمل خفية لتعديل الترتيبات بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لإعادة الكرّة والانتقام من الهاشميين، وأثمرت تلك الجهود فجاءت بمعاوية الى سدة الحكم، فانتقم لأبيه من أبي طالب (بحكاية اُسطورة الكفر الظالمة له).
وأنه يقال أيضاً: إن إشاعة اُسطورة كفر أبي طالب لم تكن في العصر الاُموي، بل قد بثّها العباسيون وبالتحديد في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور.
فإنّ التاريخ لم يسجل لنا ـ ولو لمرة واحدة ـ أن معاوية قد طعن في إسلام أبي طالب، مع أنه لم يرعَ عهداً ولا ذمّة في الطعن على علي(عليه السلام)، والادعاء عليه بما ليس فيه والانتقاص منه بنسبة ماهو متأكد من براءته منه.
في الوقت الذي نجد فيه أن علياً(عليه السلام) يهاجمه ـ بما فيه اُمه هند وأبوه أبو سفيان ـ من مذام ومثالب فهل كان معاوية ـ وقد صار الأمر الى الآباء والاُمهات ـ يَعفُّ عن أن يرمي عليّاً في أبيه، تهمة الكفر؟! [37]
إلاّ أن السياسة شاءت ذلك، فكان لها أعوانها وحاشيتها من الكتاب والمؤرخين والرواة وما شاءت . وحق علي (عليه السلام) والأئمة من بعده في ولاية أمر الاُمة سياسياً واجتماعياً دون غيرهم، هو معتقد الشيعة، وقد صار أمر الاُمة الى غيرهم فكانت مصلحة الحاكمين، وخاصة في العصر العباسي، بعد أن خرج كثير من أهل البيت(عليهم السلام) ضد المنصور العباسي، فأطلق هذه الفرية ضد أبي طالب ليوحي الى الناس أن العباسيين هم بنو العم الذي أسلم، بينما الطالبيون هم بنو العم الذي لم يسلم، وبذلك يزكّي ويرجّح موقفه السياسي على خصومه أهل البيت [38].
نعم، مسألة تكفير أبي طالب جاءت بوحي السياسة، لكن أيُّ سياسة هذه، العباسية أم الاُموية؟ لا ضير أن نقول : إن العباسيين قد استثمروا أرضية وجهوداً كان قد أعدّها وأسس لها الاُمويون من قبل، فهي قضية تؤدي خدمات كثيرة للسياستين معاً.
أمّا صمت معاوية وعدم خوضه في مسألة كفر أبي طالب، لم يكن ناشئاً من وضوح إسلام أبي طالب وإحكامه أو حرمته وقدسيته عند الله، أو يفسّر كونه ناتجاً عن ورع وتعقل قد أبداه معاوية إزاء علي(عليه السلام) ; بل من المحتمل أن أقطاب الحكم الاُموي كعمرو بن العاص، هو الذي كان قد تكفّل الأمر لأنه لم ينسَ بعد رسالة أبي طالب للنجاشي، عندما حذّره من كيد عمرو بن العاص ضد المسلمين في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
ثم إن الأجهزة الدعائية ووعّاظ السلاطين التي أنشأها معاوية، تجيد اللعبة، وتعلم حدود ومواطن تحرّكها، وماهي الأساليب التي ترضي معاوية وتحقّق له الثأر من خصومه، فقد تكون هي التي قامت بالأمر آنذاك.
وأخيراً من المعلوم أن الإمام علياً(عليه السلام) والإمام الحسين بن علي(عليه السلام)والإمام السجاد(عليه السلام)والباقر(عليه السلام) ، قد واجهوا هذه الإشاعة وعالجوها على أحسن وجه، وهؤلاء قد عاصروا الحكم الاُموي لا العباسي، فهذا دليل على كونها ظاهرة قبل أيام المنصور.
ثانياً : تصاريح وشهادات بإيمان أبي طالب(عليه السلام)
1 ـ أبو طالب يدعو الله بسقوط المطر:
أصاب مكة قحط شديد في سنة من السنين، فطلبت قريش من أبي طالب أن يستسقي لها، فخرج ومعه غلام ـ وهو رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ كأنه شمس دَجْن تجلّت عنها سحابة قتماء وحوله اُغيلمةٌ ، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بإصبعه (أي أشار بها الى السّماء وما في السّماء قزعة)، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق ، واغرورق وانفجر له الوادي وأخصب البادي والنادي [39].
وفي ذلك يقول أبو طالب في مدح رسول الله(صلى الله عليه وآله) :

• وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه يَلوذ به الهُلاّك من آل هاشم وميزانُ عدل لا يخسُ شعيرة وأوزان صدق وزنُه غير هائل [40]
• ثمال اليتامى عصمة الأرامل فهم عنده في نعمة وفواضل وأوزان صدق وزنُه غير هائل [40] وأوزان صدق وزنُه غير هائل [40]
2 ـ جواب أبي طالب لعلي(عليهما السلام) عندما قال له ذات ليلة وهو في الشعب يفدي بنفسه رسول الله: يا أبتاه! إني مقتول ذات ليلة.
فأجابه أبو طالب:

• اصبرَن يا بُنيّ فالصبر أحجى قد بلوناك والبلاء شديد لِفداء النجيب وابن النجيب
• كُلُ حيٍّ مصيره لشُعُوبِ لِفداء النجيب وابن النجيب لِفداء النجيب وابن النجيب
فأجابه علي(عليه السلام) بكلام أكثر عذوبة قائلاً:

• أتأمرني بالصبر في نصر أحمد ولكنني أحببتُ أن ترى نصرتي وتعلم أني لم أزل لك طائعاً [41]
• ووالله ما قُلتُ الذي قلت جازعاً وتعلم أني لم أزل لك طائعاً [41] وتعلم أني لم أزل لك طائعاً [41]
3 ـ قول أبي طالب(عليه السلام)لجعفر (رضي الله عنه) : صل جناح ابن عمّك وصَلِّ عن يساره [42].
4 ـ لمّا علم أن قريشاً عملت على الدس لدى النجاشي ضد مهاجري المسلمين لها; كتب إليه كتابين من الشعر، نبّهه في أحدهما الى هذا الدس ، وأغراه بأن يكون على الأمل في شهامته وبسط جواره على كل من يلجأ الى حماه، وذلك إذ يقول كما مرّ:

• تَعلَّمْ أبيت اللعن أنك ماجد كريم فلا يشقى لديك المجانب [43]
• كريم فلا يشقى لديك المجانب [43] كريم فلا يشقى لديك المجانب [43]
5 ـ قوله: يا معشر قريش كونوا له ـ لمحمد(صلى الله عليه وآله) ـ ولاةً ولحزبه حماةً، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رَشَدَ، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سَعَدَ [44].
6 ـ تهديده لِرؤساء قريش بالقتل إن لم يعد محمد سالماً [45].
7 ـ ولما حضرته الوفاة; دعا بني عبدالمطلب وقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد، وما اتبعتم أمره، فاتبعوه وأعينوه ترشدوا [46].
8 ـ شجع أبو طالب الهاشميين والمطلبيين على الحضور في أول اجتماع سياسي في دار النبي(صلى الله عليه وآله)،وسُمّي الحديث الذي دار في هذا الاجتماع بحديث الدار [47].
9 ـ حذّر أبو طالب البطون قائلاً: والله لو قتلتموه; لا يبقى فيكم أحد حتى نتفانى نحن وأنتم [48].
10 ـ وقال للنبي(صلى الله عليه وآله) متحديّاً كبرياء البطون: يا ابن أخي! إذا أردت أن تدعو الى ربّك فأعلمنا حتى نخرج بالسلاح [49].
11 ـ قول رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيه: ما نالت مني قريش حتى مات أبوطالب [50].
12 ـ سمّى رسول الله(صلى الله عليه وآله) العام الذي مات فيه أبو طالب وخديجة بعام الحزن [51].
13 ـ عبّر رسول الله(صلى الله عليه وآله) بموت أبي طالب وخديجة بالمصيبتين، فقال: اجتمعت على الاُمة هذه الأيام مصيبتان، لا أدري بأيّهما أنا أشد جزعاً [52].
14 ـ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) في أبي طالب لما مات: وصلتك رحم ياعم، وجزيت خيراً فلقد ربّيت وكفلت صغيراً، ونصرت وآزرت كبيراً وبعد أن تبعه الى حفرته وقف عليه فقال(صلى الله عليه وآله):
أما والله لأستغفرن لك ولأشفعن فيك شفاعة يُعجب لها الثقلان [53].
15 ـ ورد عن أبي طالب شعر كثير يكشف عن إسلامه واعتقاده، بأن محمداً(صلى الله عليه وآله) نبيّ كباقي الأنبياء، منه قوله:

• ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البريّة ديناً [54]
• من خير أديان البريّة ديناً [54] من خير أديان البريّة ديناً [54]

وقوله:

• ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبيّاً كموسى خُطَّ في أول الكتب [55]
• نبيّاً كموسى خُطَّ في أول الكتب [55] نبيّاً كموسى خُطَّ في أول الكتب [55]

وقوله :

• ويا شاهد الخلق عليَّ فاشهد إني على دين النبي أحمد
• إني على دين النبي أحمد إني على دين النبي أحمد

من ضل في الدين فإنّي مهتدي [56]
16 ـ إن أبا طالب كان يرى بطلان عقيدة قومه من حين مبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالإسلام، وقد ثبت أنه كان يدين بالحنيفية، والحنفاء لم يهموا بصنم قطّ ، ولم يسجدوا لوثن أبداً، كما كان على ذلك أبوه عبدالمطلب تماماً [57].
17 ـ حبّ النبيّ ورقّته على أبي طالب، حين أصابت قريشاً أزمة مهلكة وسنة مجدبة، وأصاب أبا طالب ما أصاب قريشاً من الفقر والفاقة، فبادر رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأجل معالجة الأزمة التي مرّ بها عمّه أبو طالب، ففاتح عمّه العباس فقال له: يا أبا الفضل! إن أخاك كثير العيال مختل الحال ضعيف النهضة والعزمة، وقد نزل به ما نزل من هذه الأزمة، وذوو الأرحام أحقّ بالرفد وأولى بالحمل، الكل في ساعة الجهد فانطلق بنا لِنُعِنْهُ على ما هو عليه.
فأخذا عنه أولاده تخفيفاً من ضيق العيش، أخذ رسول الله(صلى الله عليه وآله)عليّاً وأخذ العباس جعفراً [58].
انظر الى هذه الرقّة العميقة من النبي(صلى الله عليه وآله) على أبي طالب والحب له والشفقه عليه، وقد وصف الله المؤمنين بالشدة على الكافرين حيث يقول: (أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم) [59] . وقوله تعالى: (أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين) [60] والنبي أفضل المؤمنين فكيف يجوز لمسلم أن يصف أبا طالب بالكفر وقد اشتهر عن النبي حبّه البالغ له والميل إليه؟
18 ـ قال العباس لرسول الله(صلى الله عليه وآله): أترجو لأبي طالب؟ قال : كل الخير أرجو من ربّي [61].
قال الشيخ المفيد: فلو أنه(رحمه الله)مات على غير الإيمان; لما جاز من رسول الله(صلى الله عليه وآله) رجاء الخير له من الله عزّ وجل، مع ما قطع له تعالى في القرآن من خلود الكفار في النار وحرمان الله لهم سائر الخيرات وتأبيدهم في العذاب على وجه الاستحقاق والهوان [62].
19 ـ تصاريح أئمة أهل البيت(عليهم السلام) كالإمام علي(عليه السلام) والإمام الحسين(عليه السلام) والإمام علي بن الحسين(عليه السلام) والإمام الباقر(عليه السلام)والإمام الصادق(عليه السلام) والإمام الرضا(عليه السلام).
20 ـ تصريحات جمع من الصحابة، كما مرّ بيانه.
21 ـ لا يشك أحد بأنّ فاطمة بنت أسد(رض) من المؤمنات السابقات، فعندما توفيت كفّنها رسول الله(صلى الله عليه وآله) بقميصه ودعا لها بقوله: اللهمّ اغفر لاُمّي... وإنّها بقيت زوجة لأبي طالب حتى ماتت فإذا مات أبو طالب على الكفر فهذا يتعارض مع الخطاب الإلهي القاضي بأن لا يقرن مؤمنة مع كافر وأن يفرّق بينهما، وهذا الاجراء لم يتّخذ في أبي طالب [63].
ثالثاً: مناقشة مزاعم القائلين بكفر أبي طالب.
قالوا: ذهب بعض المعتزلة وأكثر الجمهور من أهل السنّة الى أن أبا طالب مات على غير الإسلام [64]، وأن نصرته ودفاعه عن النبي(صلى الله عليه وآله) كان بدافع القرابة والعصبية ، مستدلّين بجملة من الآيات والروايات والأشعار منها:
ألف ـ قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلاّ أنفسهم وما يشعرون) [65].
أخرج الطبري وغيره من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عمّن سمع ابن عبّاس أنّه قال: إنّها نزلت في أبي طالب، ينهى عن أذى رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن يؤذى، وينأى أن يدخل الإسلام [66].
وقال القرطبي: هو عامٌ في جميع الكفّار أي ينهون عن اتّباع
محمدّ(صلى الله عليه وآله) وينأون عنه، عن ابن عباس والحسن . وقيل: هو خاصٌّ بأبي طالب ينهى الكفار عن أذيّة محمد(صلى الله عليه وآله)ويتباعد عن الإيمان به، عن ابن عباس أيضاً. روى أهل السير قال: كان النبي(صلى الله عليه وآله) قد خرج الى الكعبة يوماً وأراد أن يصلّي، فلمّا دخل في الصلاة قال أبو جهل ـ لعنه الله ـ : من يقوم الى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعري فأخذ فرثاً ودماً فلطّخ به وجه النبي(صلى الله عليه وآله) الى أن قال : فنزلت هذه الآية : (وهم ينهون عنه وينأون عنه). فقال النبي(صلى الله عليه وآله) : ياعم: نزلت فيك آية. قال: وماهي؟ قال: تمنع قريشاً أن تؤذيني ، وتأبى أن تؤمن بي؟ فقال أبوطالب:

• والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفينا
• حتى أوسّد في التراب دفينا حتى أوسّد في التراب دفينا

فقالوا: يا رسول الله! هل تنفع نصرة أبي طالب ؟ قال: نعم دفع عنه بذاك الغلّ، ولم يقرن مع الشياطين، ولم يدخل في جبِّ الحيّات والعقارب، إنّما عذابه في نعلين من نار يغلي منهما دماغه في رأسه، وذلك أهون أهل النار عذاباً [67].
قال العلاّمة الأميني: نزول هذه الآية في أبي طالب باطل لا يصحّ من نواح شتّى :
1 ـ إرسال حديثه بمن بين حبيب بن أبي ثابت وابن عباس، وكم وكم غير ثقة في اُناس رووا عن ابن عبّاس ولعلّ هذا المجهول أحدهم.
2 ـ إنّ حبيب بن أبي ثابت انفرد به ولم يروه أحد غيره، ولا يمكن المتابعة على ما يرويه، ولو فرضناه ثقة في نفسه بعد قول ابن حبّان: إنّه كان مدلِّساً . وقول العقيلي غمزه ابن عون، وله عن عطاء أحاديث لا يتابع عليها. وقول القطّان : له غير حديث عن عطاء لا يتابع عليه وليست بمحفوظة. وقول الآجري عن أبي داود: ليس لحبيب عن عاصم بن ضمرة شيء يصح، وقول ابن خزيمة : كان مدلِّساً [68].
ونحن لا نناقش في السند بمكان سفيان الثوري، ولا نؤاخذه بقول من قال: إنّه يدلِّس ويكتب عن الكذّابين [69].
3 ـ إن الثابت عن ابن عباس بعدّة طرق مسندة يضادّ هذه المزعمة، ففيما رواه الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة وطريق العوفي عنه: أنّها في المشركين الذين كانوا ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به، وينأون عنه ـ يعني ـ يتباعدون عنه [70].
وقد تأكد ذلك بما أخرجه الطبري وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد بن حميد من طريق وكيع عن سالم عن ابن الحنفية، ومن طريق الحسين بن الفرج عن أبي معاذ ، ومن طريق بشر عن قتادة.
وأخرج عبدالرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة والسدي والضحاك، ومن طرق أبي نجيح عن مجاهد، ومن طريق يونس عن ابن زيد قالوا: ينهون عن القرآن وعن النبيّ، وينأون عنه يتباعدون عنه [71].
وليس في هذه الروايات أيّ ذكر لأبي طالب، وإنّما المراد فيها الكفار الذين كانوا ينهون عن اتّباع رسول الله أو القرآن، وينأون عنه بالتباعد والمناكرة، وأنت جدّ عليم بأن ذلك كلّه خلاف ما ثبت من سيرة شيخ الأبطح الذي آواه ونصره وذبّ عنه ودعا إليه الى آخر نفس لفظه.
4 ـ إن المستفاد من سياق الآية الكريمة أ نّه تعالى يريد ذمّ اُناس أحياء ينهون عن اتّباع نبيّه ويتباعدون عنه، وأن ذلك سيرتهم السيئة التي كاشفوا بها رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وهم متلبِّسون بها عند نزول الآية كما هو صريح ما أسلفناه من رواية القرطبي، وأن النبي(صلى الله عليه وآله)أخبر أبا طالب بنزول الآية.
لكن نظراً الى ما نقلوه عن الصحيحين فيما زعموه من أنّ قوله تعالى في سورة القصص: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) نزلت في أبي طالب بعد وفاته، فحينئذ لا يتمّ نزول آية ينهون عنه وينأون ـ النازلة في اُناس أحياء ـ في أبي طالب، فإنّ سورة الأنعام التي فيها الآية المبحوث عنها نزلت جملة واحدة [72]بعد سورة القصص بخمس سور [73].
فكيف يمكن تطبيقها على أبي طالب وهو رهن أطباق الثرى، وقد توفّي قبل نزول الآية ببرهة طويلة؟!
5 ـ إنّ سياق الآيات الكريمة هكذا: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين* وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلاّ أنفسهم وما يشعرون) [74].
وهو كما ترى صريح بأن المراد بالآيات كفّار جاءوا النبي فجادلوه وقذفوا كتابه المبين بأنّه من أساطير الأوّلين، وهؤلاء الذين نهوا عنه (صلى الله عليه وآله) وعن كتابه الكريم، ونأوا وباعدوا عنه، فأين هذه كلّها عن أبي طالب الذي لم يفعل كلّ ذلك طيلة حياته؟!
وذكر ابن كثير في تفسيره القول الأول نقلاً عن ابن الحنفيّة وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد ، فقال: وهذا القول أظهر والله أعلم، وهو اختيار ابن جرير [75].
ب ـ قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم) [76].
ج ـ قوله تعالى: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) [77].
أخرج البخاري في الصحيح في كتاب التفسير في القصص [78]، قال: حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله(صلى الله عليه وآله) فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي اُمية بن المغيرة فقال: أي عمّ! قل: لا إله إلاّ الله . كلمة اُحاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي اُمية: أترغب عن ملّة عبدالمطلب؟ فلم يزل رسول الله(صلى الله عليه وآله) يعرضها عليه ويعيد أنه بتلك المقالة حتىّ قال أبو طالب آخر ما تكلّم : على ملّة عبدالمطلب وأبى أن يقول: لا إله إلاّ الله . فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك. فأنزل الله: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين)وأنزل في أبي طالب فقال لرسول الله(صلى الله عليه وآله) : (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).
وفي مرسلة الطبري: فنزلت: (ما كان للنبي...الآية). ونزلت: (إنّك لا تهدي من أحببت).
وأخرجه مسلم في صحيحه من طريق سعيد بن المسيب، وتبع الشيخين جلّ المفسّرين لحسن ظنّهم بهما وبالصحيحين.

_____________________________

[26] السيرة الحلبية: 1/15 باب نسبه الشريف(صلى الله عليه وآله).
[27] السيرة الحلبية: 1/80 ، الخصائص الكبرى: 1/41.
[28] المصدر السابق : 1/12 ـ 15.
[29] تاريخ اليعقوبي: 1/24.
[30] تاريخ اليعقوبي : 1/31 ـ 32، شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي: 1/143.
[31] شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي: 1/143 ، الصواعق المحرقة: 15.
[32] تاريخ اليعقوبي: 1/345 و 346 ، باب المبعث والاسراء وطبقات ابن سعد: 1/202 باب ممشى قريش الى أبي طالب.
[33] طبقات ابن سعد: 1/186 ، السيرة الحلبية: 1/304.
[34] راجع تاريخ اليعقوبي: 1/ 363 وما بعدها.
[35] طبقات ابن سعد: 2/94 باب سرية عمرو بن اُمية الضمري.
[36] شرح نهج البلاغة: 1/504.
[37] شرح نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 3/471.
[38] عقيدة أبي طالب ، السيد طالب الرفاعي: 50.
[39] بحار الأنوار: 18/3، باب معجزاته(صلى الله عليه وآله) واستجابة دعائه، الغدير: 7/346، سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي: 2/137، عن ابن عساكر.
[40] إرشاد الساري في شرح البخاري للقسطلاني: 2/227 ، المواهب اللدنية : 1/48، السيرة الحلبية: 1/116 باب وفاة عبدالمطلب وكفالة عمّه أبي طالب، السيرة النبوية لابن هشام: 1/272 ـ 280 باب تحيّر الوليد بن المغيرة فيما يصف القرآن، البداية والنهاية لابن كثير: 3/52 ـ 57.
[41] بحار الأنوار : 19/4.
[42] اُسد الغابة: 1/341، ترجمة جعفر بن أبي طالب رقم 759، الإصابة: 4/116 ترجمة أبي طالب رقم 685، السيرة الحلبية: 1/269، باب ذكر أوّل الناس، إيماناً به(صلى الله عليه وآله)، أسنى المطالب: 6.
[43] سيرة ابن هشام: 1/333 ـ 334، باب إرسال قريش الى الحبشة في طلب المهاجرين إليها.
[44] تاريخ الخميس: 1/339، الروض الآنف: 1/259، المواهب: 1/72، بلوغ الأرب: 1/327، السيرة الحلبية: 1/352، باب ذكر وفاة عمّه أبي طالب، السيرة لزيني دحلان هامش الحلبية: 1/351، أسنى المطالب: 5.
[45] الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/203 ، ذكر ممشى قريش الى أبي طالب،والطرائف: 85.
[46] تذكرة السبط: 5، الخصائص الكبرى: 1/87، السيرة الحلبية: 1/352، باب ذكر وفاة عمّه أبي طالب، سيرة زيني دحلان: 1/92.
[47] الكامل لابن الأثير: 2/24.
[48] الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/203، ذكر ممشى قريش الى أبي طالب.
[49] تاريخ اليعقوبي: 1/347، باب النذارة.
[50] الكامل لابن الأثير : 2/21.
[51] تاريخ اليعقوبي: 1/354، وفاة خديجة وأبي طالب.
[52] المصدر السابق : 1 / 355، وفاة خديجة وأبي طالب .
[53] شرح النهج لابن أبي الحديد: 14/76 كتاب 9، من كتاب له(عليه السلام) الى معاوية.
[54] المصدر السابق: 14/72 .
[55] المصدر السابق : 14/55 وما بعدها كتاب 9، من كتاب له(عليه السلام) الى معاوية ، نقلاً عن ديوانه: 176، 177.
[56] غاية المطالب: 75.
[57] القاضي عياض في كتابه (الشّفاء): 1/183 ، إكمال الدّين للصّدوق: 104.
[58] راجع سيرة ابن هشام: 1/245 ـ 246 ذكر أن علي بن أبي طالب(عليه السلام) أوّل من أسلم، وهذه القصة متفق عليها في كتب السِيَر.
[59] الفتح: 29.
[60] المائدة: 54.
[61] الطبقات لابن سعد: 1/125، الخصائص الكبرى: 1/87.
[62] الشيخ المفيد في إيمان أبي طالب: 27 ضمن مجموعة مصنفاته.
[63] التفسير الكبير للفخر الرازي : 3/61، وصحيح البخاري: 6/172 باب إذا أسلمت المشركة.
[64] شرح نهج البلاغة : 14/68 كتاب 9، من كتاب له(عليه السلام) الى معاوية.
[65] الأنعام: 26.
[66] طبقات ابن سعد: 1/105، تاريخ الطبري: 7/110، تفسير ابن كثير: 2/131، فصل في وفاة أبي طالب، الكشاف: 2/14، تفسير الآية (وهم ينهون عنهوينأون...)، تفسير ابن جزى: 2/6، تفسير الخازن: 2/106 تفسير الآية (وهم ينهون عنه وينأون ...).
[67] تفسير القرطبي: 6/406 تفسير الآية 26 من سورة الأنعام.
[68] تهذيب التهذيب: 2/179 ترجمة حبيب بن أبي ثابت.
[69] ميزان الاعتدال: 1/396.
[70] تفسير الطبري: 5/71، تفسير الآية 26 من سورة الأنعام، الدر المنثور: 3/15 ، تفسير الآية 26 من سورة الأنعام.
[71] تفسير الطبري: 5/71، تفسير الآية 26 من سورة الأنعام، ، وتفسير الآلوسي: 7/126.
[72] أخرجه أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والنحاس من طريق ابن عباس والطبراني وابن مردويه من طريق عبدالله بن عمر، راجع تفسير القرطبي: 6/382، 383، تفسير ابن كثير: 2/126، الدر المنثور : 3/2، تفسير الشوكاني:3/91 ، 92.
[73] الإتقان: 1/17.
[74] الأنعام : 25 ـ 26 .
[75] التفسير العظيم لابن كثير: 2/132، تفسير الآية 26 من سورة الأنعام.
[76] التوبة : 113.
[77] القصص : 56.
[78] صحيح البخاري : 6/18، دار الفكر


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page