طباعة

ـ دليل السنّة على وجود الله جلّ شأنه


    وقد أفاض نبيّ الإسلام وأهل بيته الكرام ، الأنوار اللامعة ، والحِكَم البارعة في إثبات وجود الله تعالى بمتواتر الحديث بل فوق التواتر من الأحاديث المفيدة للعلم واليقين بوجود الله الحقّ المبين كما تلاحظها بكثرتها في جميع كتب التوحيد ، وربّما تزيد على مئة حديث ، ومن ذلك ما نقتطفه من الأحاديث التالية :

    1 ـ الحديث العلوي الشريف المروي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه :
    « ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكنّ القلوب عليلة والأبصار مدخولة (1)، أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر وسوّى له العظم والبشر .
    انظروا إلى النملة في صغر جثّتها ولطافة هيأتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها وضنّت على رزقها (2)، تنقل الحبّة إلى جحرها وتعدّها في مستقرّها ، تجمع في حرّها لبردها وفي ورودها لصدورها ، مكفول برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ولا يحرمها الديّان ، ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس (3)، لو فكّرت في مجاري أكلها ، وفي علوّها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها واُذنها لقضيت من خلقها عجباً ولقيت من وصفها تعباً ، فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لِتبلغ غاياتِه ما دلّتك الدلالة إلاّ على أنّ فاطر النملة هو فاطر النحلة لدقيق تفصيل كلّ شيء ، وغامض إختلاف كلّ حيّ .
    وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء ، كذلك السماء والهواء والريح والماء ، فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر ، وإختلاف هذا الليل والنهار، وتفجّر هذه البحار وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات والألسن المختلفات .
    فالويل لمن أنكر المقدِّر وجحد المدبِّر .
    زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لإختلاف صورهم صانع ، لم يلجأوا إلى حجّة فيما ادّعوا ، ولا تحقيق لما وعوا ، وهل يكون بناءٌ من غير بان أو جنايةٌ من غير جان ؟!
    وإن شئت قلت : في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفيّ ، وفتح لها الفمّ السويّ ، وجعل لها الحسّ القويّ ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ، ترهبها الزرّاع في زرعهم ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم ، حتّى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كلّه لا يكون إصبعاً مستدقّة ، فتبارك الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ، ويعفّر له خدّاً ووجهاً ، ويلقي بالطاعة إليه سلماً وضعفاً ، ويعطي له القياد رهبةً وخوفاً .
    فالطير مسخّرة لأمره ، أحصى عدد الريش منها والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس ، قدَّر أقواتها ، وأحصى أجناسها ، فهذا غراب ، وهذا عقاب ، هذا حمام ، وهذا نعام ، دعا كلّ طائر باسمه ، وكفّل له برزقه .
    وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها ، وعدّد قسمها فبلّ الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها » (4).

    2 ـ عن هشام بن الحكم قال :
    « دخل ابن أبي العوجاء على الصادق (عليه السلام) فقال له الصادق : يابن أبي العوجاء ! أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟
    قال : لست بمصنوع .
    فقال له الصادق (عليه السلام) : فلو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون ؟
    فلم يحر ابن أبي العوجاء جواباً (5) وقام وخرج » (6).

    3 ـ دخل أبو شاكر الديصاني ـ وهو زنديق ـ على أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له : ياجعفر بن محمّد ! دلّني على معبودي ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) :
    « اِجلس ، فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : ناولني ياغلام البيضة ، فناوله إيّاها ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : ياديصاني ! هذا حصن مكنون له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبةٌ مائعة وفضّة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها ، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها لا يدرى للذكر خلقت أم للاُنثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لها مدبّراً ؟
    قال : فأطرق مليّاً ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّك إمامٌ وحجّةٌ من الله على خلقه ، وأنا تائب ممّا كنت فيه » (7).

    4 ـ انّ عبدالله الديصاني أتى باب أبي عبدالله (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له ، فلمّا قعد قال له : ياجعفر بن محمّد ! دلّني على معبودي ، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) :
    « ما اسمك ؟
    فخرج عنه ولم يخبره باسمه .
    فقال له أصحابه : كيف لم تخبره باسمك ؟
    قال : لو كنت قلت له : عبد الله كان يقول : من هذا الّذي أنت له عبد ؟
    فقالوا له : عد إليه فقل يدلّك على معبودك ولا يسألك عن إسمك .
    فرجع إليه فقال : ياجعفر ! دلّني على معبودي ولا تسألني عن إسمي .
فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : إجلس وإذا غلام صغير .. » (8) إلى آخر الخبر الآنف الذكر .

    5 ـ الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) : أنّه دخل عليه رجل فقال له : يابن رسول الله ! ما الدليل على حدوث العالم ؟ فقال :
    « أنت لم تكن ثمَّ كنت ، وقد علمتَ أنّك لم تكوِّن نفسك ، ولا كوّنك من هو مثلك » (9).

    6 ـ هشام بن سالم قال : سُئل أبو عبدالله (عليه السلام) فقيل له : بم عرفت ربّك ؟ قال :
    « بفسخ العزم ونقض الهمّ ، عزمتُ ففسخ عزمي ، وهممتُ فنقض همّي » (10).

    7 ـ هشام بن الحكم قال : قال لي أبو شاكر الديصاني : إنّ لي مسألة تستأذن لي على صاحبك فإنّي قد سألت عنها جماعة من العلماء فما أجابوني بجواب مُشبع ، فقلت : هل لك أن تخبرني بها فلعلّ عندي جواباً ترتضيه ؟
    فقال : إنّي اُحبّ أن ألقي بها أبا عبدالله (عليه السلام) ، فاستأذنتُ له فدخل فقال له :
    « أتأذن لي في السؤال ؟
    فقال له : سل عمّا بدا لك .
    فقال له : ما الدليل على أنّ لك صانعاً ؟
    فقال : وجدتُ نفسي لا تخلو من إحدى جهتين : إمّا أن أكون صنعتُها أنا ، فلا أخلو من أحد معنيين : إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة أو صنعتها وكانت معدومة ، فإن كنتُ صنعتها وكانت موجودةً فقد استغنيتُ بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يُحدث شيئاً ، فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعاً وهو الله ربّ العالمين .
    فقام وما أجاب جواباً » (11).

    8 ـ علي بن منصور قال : قال لي هشام بن الحكم : كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبدالله (عليه السلام) فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، فقيل له : هو بمكّة فخرج الزنديق إلى مكّة ونحن مع أبي عبدالله (عليه السلام) فقاربنا الزنديق ـ ونحن مع أبي عبدالله (عليه السلام) ـ في الطواف فضرب كتفه كتف أبي عبدالله (عليه السلام) ، فقال له جعفر (عليه السلام) :
    « ما اسمك ؟
    قال : اسمي عبدالملك .
    قال : فما كنيتك ؟
    قال : أبو عبدالله .
    قال : فمن الملك الّذي أنت له عبد ، أمن ملوك السماء أم من ملوك الأرض ؟
    وأخبرني عن اسمك ، أعبد إله السماء أم عبد إله الأرض ؟ فسكت .
    فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : قل ما شئت تُخصم .
    قال هشام بن الحكم : قلت للزنديق . أما تردّ عليه ؟ فقبّح قولي .
    فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : إذا فرغت من الطواف فأتنا .
    فلمّا فرغ أبو عبدالله (عليه السلام) أتاه الزنديق فقعد بين يديه ونحن مجتمعون عنده ، فقال للزنديق : أتعلم أنّ للأرض تحتاً وفوقاً ؟
    قال : نعم .
    قال : فدخلت تحتها ؟
    قال : لا ، قال : فما يدريك بما تحتها ؟
    قال : لا أدري إلاّأ نّي أظنُّ أن ليس تحتها شيء .
    قال أبو عبدالله (عليه السلام) : فالظنّ عجز ما لم تستيقن .
    قال أبو عبدالله (عليه السلام) : فصعدتَ إلى السماء ؟
    قال : لا .
    قال : فتدري ما فيها ؟
    قال : لا .
    قال : فعجباً لك لم تبلغ المشرق ، ولم تبلغ المغرب ، ولم تنزل تحت الأرض ، ولم تصعد إلى السماء ، ولم تجز هنالك فتعرف ما خلقهنّ وأنت جاحد ما فيهنّ وهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟
    فقال الزنديق : ما كلّمني بهذا أحد غيرك .
    قال أبو عبدالله (عليه السلام) : فأنت في شكّ من ذلك فلعلّ هو ، أو لعلّ ليس هو .
    قال الزنديق : ولعلّ ذاك .
    فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : أيّها الرجل ! ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ، فلا حجّة للجاهل ، ياأخا أهل مصر ! تفهّم عنّي فإنّا لا نشكّ في الله أبداً ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يَلِجان ليس لهما مكان إلاّ مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا ولا يرجعان فلِمَ يرجعان ؟ وإن لم يكونا مضطرّين فلِمَ لا يصير الليل نهاراً والنهارليلا ؟ اضطرّا ـ والله ياأخا أهل مصر ! ـ إلى دوامهما ، والّذي إضطرّهما أحكم منهما وأكبر منهما .
    قال الزنديق : صدقت .
    ثمّ قال أبو عبدالله (عليه السلام) : ياأخا أهل مصر ! الذي تذهبون إليه وتظنّونه بالوهم فإن كان الدهر يذهب بهم لِمَ لا يردّهم وإن كان يردّهم لِمَ لا يذهب بهم (12)؟
    القوم مضطرّون ياأخا أهل مصر ! السماء مرفوعة ، والأرض موضوعة ، لِمَ لا تسقط السماء على الأرض ؟ ولِمَ لا تنحدر الأرض فوق طباقها فلا يتماسكان ولا يتماسك من عليهما ؟
    فقال الزنديق : أمسكهما والله ربّهما وسيّدهما . فآمن الزنديق على يدي أبي عبدالله (عليه السلام) .
    فقال له حمران بن أعين : جعلت فداك ! إن آمنت الزنادقة على يديك فقد آمنت الكفّار على يدي أبيك .
    فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبدالله (عليه السلام) : إجعلني من تلامذتك.
    فقال أبو عبدالله (عليه السلام) لهشام بن الحكم : خذه إليك فعلّمه . فعلَّمه هشام فكان معلّم أهل مصر وأهل الشام ، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبدالله (عليه السلام) » (13).

________________________________________________________________________________
(1) من الدَخَل ـ بفتحتين ـ بمعنى العيب أي معيوبة .
(2) أي : بخلت به .
(3) الحجر الجامس والجميس : هو اليابس أيضاً .
(4) بحار الأنوار : (ج3 ص36 الباب2 ح1) .
(5) يُقال : لم يحُر جواباً أي لم يَرُدُّ جواباً .
(6) بحار الأنوار : (ج3 ص31 الباب2 ح4) .
(7) بحار الأنوار : (ج3 ص31 الباب2 ح5) .
 (8) بحار الأنوار : (ج3 ص32 الباب2 ح6) .
(9) بحار الأنوار : (ج3 ص36 الباب2 ح11) .
(10) بحار الأنوار : (ج3 ص49 الباب2 ح21) .
(11) بحار الأنوار : (ج3 ص50 الباب2 ح23) .
(12) فإنّ الزنادقة كانوا من الدهرية القائلين بأنّه ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر .
(13) بحار الأنوار : (ج3 ص51 الباب2 ح25) .