طباعة

رسالة نقض فتاوي الوهابية ورد كلية مذهبهم 2

رسالة نقض فتاوي الوهابية ورد كلية مذهبهم 2

 

ولكن القسطلاني أحد المشاهير من شارحي البخاري ، شرحه في عشر مجلدات طبعت في مصر القاهرة ، قال ما نصه : ( مسنما ) بضم الميم وتشديد النون المفتوحة أي : مرتفعا ، زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبي بكر وعمر كذلك ، واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور ، وهو قول أبي حنيفة ( 18 ) ومالك ( 19 ) وأحمد ( 20 ) والمزني وكثير من الشافعية :
وقال أكثر الشافعية ( 21 ) ونص عليه الشافعي : التسطيح أفضل من التسنيم لأنه - صلى الله عليه وآله - سطح قبر إبراهيم وفعله حجة لافعل غيره ( 22 ) ، وقول سفيان التمار لا حجة فيه - كما قال البيهقي - لاحتمال أن قبره - صلى الله عليه وآله - وقبري صاحبيه لم تكن في الأزمنة الماضية مسنمة ( 23 ) .
وقد روى أبو داود بإسناد صحيح أن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال : دخلت على عائشة فقلت لها : اكشفي لي عن قبر النبي - صلى الله عليه وآله - وصاحبيه فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء ، أي لا مرتفعة كثيرا ولا لاصقة بالأرض ( 24 ) ، إلى أن قال القسطلاني الشارح : ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعار الروافض لأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها ! ولا يخالف ذلك قول علي - رضي الله عنه – أمرني رسول الله - صلى الله عليه وآله - أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ، لأنه لم يرد تسويته بالأرض وإنما أراد تسطيحه جمعا بين الأخبار ، ونقله في المجموع عن الأصحاب ( 25 ) .
إنتهى ما أردنا نقله من شرح البخاري ، وأنت ترى من جميع ما أحضرناه لديك وتلوناه عليك من كلمات أعاظم المسلمين وأساطين الدين من مراجع الحديث كالبخاري ومسلم ، وأئمة المذاهب كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ، وأعلام العلماء وأهل الاجتهاد كالنووي وأمثاله ، كلهم متفقون على مشروعية بناء القبور في زمن الوحي والرسالة ، بل النبي - صلى الله عليه وآله - بذاته بنى قبر ولده إبراهيم ، إنما الخلاف والنزاع فيما بينهم في أن الأفضل والأرجح تسطيح القبر أو تسنيمه ، فالذاهبون إلى التسنيم يحتجون بحديث البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وآله - مسنما ، والعادلون إلى التسطيح يحتجون بتسطيح النبي قبر ولده إبراهيم ، وصحيح القاسم بن محمد بن أبي بكر شاهد له ، ولعل هذا الدليل هو الأرجح في ميزان الترجيح والتعديل ، ولا يقدح فيه أنه صار من شعار الروافض وأهل البدع - كما قال شارح البخاري - فيما مر عليك نقله .
ولا يعنينا الآن الخوض في حديث الروافض وأنهم من أهل البدع أم لا ، إنما الشأن في حديث ( لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته ) واحسب أنه قد تجلى لك بحيث يوشك أن يلمس بالأنامل ، ويرى بباصرة العين أن معنى ( سويته ) عدلته وسطحته في قبال سنمته وحدبته ويناسب هذا المعنى كل المناسبة التقييد بقوله ( مشرفا ) فإن أصل الشرف لغة هو العلو بتسنيم مأخوذ من سنام البعير ، وعليه فيحسن ذلك القيد ، بل يلزم ويكون بلسان أهل العلم ( قيدا احترازيا ) .
أما على معنى ساويته فالقيد لغو صرف ، بل مخل بالغرض المقصود .
وبعد هذا كله فهل من قائل لذلك المفتي ، مفتي علماء المدينة الذي أفتى بجواز هدم القبور أو وجوبه استنادا إلى ذلك الحديث : يا هذا ! من أين جئت بتلك النظرية الحمقاء ، والحجة العوجاء ، والبرهنة المعكوسة ، والمزعمة المقلوبة التي
ما همها وأهم ، ولا خطرت على ذهن جاهل فكيف بالعالم ؟ !
اللهم إلا أن يكون ( ابن تيمية ) أو بعض ذناباته فإن الرجل ترويجا لأباطيله ، وتمشية لأضاليله ، حيث تعوزه الحجة والسند قمين بتحوير الحقائق ، وقلب الأدلة ، والتلاعب بالحجج والبراهين تلاعبه بالدين ( كما تلاعبت الصبيان بالأكر ) .
لا يا هذا ، إن الشمس لا تستر بالأكمام ، وإن الحق لا يسحق بزخارف الكلام وسفائف الأوهام . . . إن الحديث ( لا تدع قبرا إلا سويته ) دليل عليك لا لك ، وحجة قاطعة لأضاليلك وقالعة لجذور أباطيلك ، فإن معناه الذي لا يشك فيه إنسان من أهل اللسان ( سويته أي : عدلته وسطحته ، لا ساويته وهدمته ) ، وبهذا المعنى لا يكون معارضا لشئ من الأحاديث حتى يحوج من له حظ من صناعة الاستنباط إلى الجمع والتأويل ، وهذا هو معناه بذاته وظاهر من نفس مفرداته وتركيبه ، لا الذي يحصل بعد الجمع كما يظهر من عبارة شارح البخاري المتقدمة .
نعم ، لو أبيت إلا عن حمل ( سويته ) على معنى ساويته بالأرض وجاملناك على الفرض والتقدير ، حينئذ تجئ نوبة المعارضة ويلزم الصرف والتأويل ، وحيث إن هذا الخبر بانفراده لا يكافئ الأخبار الصحيحة الصريحة الواردة في فضل زيارة القبور ومشروعية بنائها ، حتى أن النبي - صلى الله عليه وآله - سطح قبر إبراهيم ، فاللازم صرفه إلى أن المراد : لا تدع قبرا مشرفا قد اتخذوه للعبادة إلا سويته وهدمته .
ويدل على هذا المعنى الأخبار الكثيرة الواردة في الصحيحين - البخاري ( 26 ) ومسلم - من ذم اليهود والنصاري والحبشة حيث كانوا يتخذون على قبور صلحائهم تمثالا لصاحب القبر فعبدونه من دون الله ، ولعله إشارة إلى بعض طوائف اليهود والنصارى والحبشة حيث كانوا كذلك في القديم فعدلوا واعتدلوا .
أما المسلمون من عهد النبي - صلى الله عليه وآله - إلى اليوم فليس منهم من يعيد صاحب القبر ، وإنما يعبدون الله وحده لا شريك له في تلك البقاع الكريمة المتضمنة لتلك الأجساد الشريفة ، وبكل فرض وتقدير فالحديث يتملص ويتبرأ أشد البراءة من الدلالة على جواز هدم القبور فكيف بالوجوب ، والأخبار التي ما عليها غبار ومما لم نذكره ناطقة بمشروعية بنائها وإشادتها وأنها من تعظيم شعائر الله ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) ( 26 ) .
تتمة : في العام الماضي طبعت في النجف الأشرف رسالة موسومة ب‍ ( منهج الرشاد ) لأسطوانة من أساطين الدين - الشيخ الأكبر كاشف الغطاء - الذي يعرف كل عارف أنه كان فاتحة السور من فرقان العزائم ، وكوكب السحر في سماء العظائم ، هو من أفذاذ الأعاظم الذين لا تنفلق بيضة الدهر إلا عن واحد منهم ، ثم تعقم عن الإتيان بثانيه إلا بعد مخض طويل من الأحقاب ، من غر أياديه – وكم له في العلم من أياد غرر - تلك الرسالة التي رتبها على مقدمة وفصول ، عقد كل فصل منها لدفع شبهة من شبهات الوهابية ودحضها بالأدلة القطعية ، والأحاديث النبوية الثابتة من الطرق الصحيحة عند أهل السنة ، على أن المقدمة وحدها كافية في قمع شبهاتهم ، وقلع جذوم مذهبهم ، وهدم أساس طريقتهم ، وقد أبدع فيها غاية الابداع .
ومن بعض أبواب الرسالة : ( الباب الرابع : في بناء قبور الأنبياء والأولياء ) وأفاض في البيان إلى أن قال :
والأصل في بناء القباب وتعميرها ما رواه التباني واعظ أهل الحجاز عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده الحسين ، عن أبيه علي - عليه السلام – أن رسول الله صلى الله عليه وآله - قال له : ( لتقتلن في أرض العراق وتدفن بها ، فقلت : يا رسول الله ، ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها ؟
فقال : يا أبا الحسن ، إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعا من بقاع الجنة ، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه ، وصفوة من عباده تحن إليكم ، وتعمر قبوركم ، ويكثرون زيارتها تقربا إلى الله تعالى ومودة منهم لرسوله ) ( 28 ) .
ثم قال - قدس سره - بعد إيراد تمام الحديث : ونقل نحو ذلك أيضا في حديثين معتبرين نقل أحدهما الوزير السعيد بسند ، وثانيهما بسند آخر غير ذلك السند ، ورواه أيضا محمد بن علي بن الفضل ، انتهي .
والقصارى : أن النزاع بيننا معاشر المسلمين أجمع وبين سلطان نجد وأتباعه الذين يحكمون بضلالة سائر المسلمين أو بتكفيرهم ، لو كان ينحسم وينتهي بإقامة الحجج والبراهين لجئنا بالقول المقنع المفيد ! ولكان عندنا زيادة للمستزيد ، بل لو كنا نعلم أنهم يقنعون بالحجة البالغة ، ويخضعون للأدلة القاطعة ، لملأنا الطوامير من الحجج الباهرة التي تترك الحق أضحى من ذكاء ، وأجلى من صفحة السماء ، ولكن سلطان نجد له حجتان قاطعتان عليهما يعتمد ، وإليهما يستند ، ولا فائدة إلا بمقابلتهما بمثلهما أو بأقوى منها ، وهما : الحسام البتار ، والدرهم والدينار ، السيف والسنان ، والأحمر الرنان هذا لقوم وذاك لآخرين :
أحدهما لأهل الصحف والمجلات في مصر وسوريا ونحوهما ليحبذوا أعماله الوحشية ويحسنوا همجيته التي تضعضع أركان كل مدنية .
والآخر لأعراب البوادي ولشرفاء الحجاز وأمثالهم من أمراء العرب حيث تساعده الظروف لا قدر الله . إذن فأي فائدة في إطالة الكلام ، وسرد الأحاديث ونضد الأدلة . نعم ، فيها تبصرة وتبيان لطالب الحقيقة المجردة عن كل خوف ورجاء ، وتحامل وتزلف ، ولكن أين هو ذلك الرجل الطالب للحق المجرد عن كل غرض ؟ ! ولئن كان لوح الوجود غير خال منه ففيما ذكرناه غنى له وكفاية .
أما أمير نجد وأجناده وقضاته ومن لف لفهم الذين اتخذوا لتلك الدعوى والديانة وسيلة لامتداد سلطتهم ، واتساع سطوتهم ، وضخامة ملكهم ، فلسنا معهم في الخصام وإقامة الحجج إلا كإشراق الشمس على المستنقعات العميقة ، في الأودية السحيقة ، لا تزيدها تلك الأشعة إلا سخونة وعفونة وانتشار وباء في الهواء .
ليت قائلا يقول لقاضي القضاة - ابن بليهد - ولمفتي علماء المدينة : أتراكم تعتقدون وتعتمدون على كل ما في صحيح مسلم ، وتعملون بكل ما ورد من النصوص فيه ؟ فإن كنتم كذلك فقد عقد مسلم في صحيحه بابا وأورد عدة أحاديث في أن الخلافة لا تكون إلا في قريش ، وأن الأئمة من قريش ( 29 ) ،
بأساليب من البيان ، وأفانين من التعبير ، وكلها صريحة في أن الخلافة الحقة المشروعة مخصوصة بتلك القبيلة . . ومثله ، بل وأكثر منه في صحيح البخاري ، وعليه فأين تكون خلافة أميركم ابن سعود ؟ وكيف حال إمامته ؟ أهي من قوله تعالى : ( وجعلنا منهم أئمة ) ( 0 3 ) ؟ ! أم من قوله تعالى لإبراهيم : ( إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) ( 31 ) ؟ ! وحسبنا هذا القدر إن اللبيب من الإشارة يفهم !
وأما حديث لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( 32 ) فهو نهي للنساء عن التبرج والخروج إلى المجتمعات وعن السجود على القبر وهو مما لا يصدر من أحد من المسلمين ، وعن إيقاد السرج عبثا وتعظيما لذات القبر ، أما الإسراج لقراءة القرآن والدعاء فلا منع ولا نهي ، بل في بعض الأحاديث جوازه ( 33 ) .
هذا كله في الجواب عن حديث مسلم في شأن هدم القبور وزيارتها والاسراج عليها ، أما فتاوي مفتي علماء المدينة الأخرى المتعلقة بشأن التبرك بالقبور ، والتمسح بها ، وزيارتها ونحو ذلك ، فقد أفتى ذلك المفتي بالمنع منها مطلقا ، ولكن أرسل أكثر الفتاوى إرسالا من غير أن يسندها إلى حجة أو يعمدها على دليل حتى نتصدى للجواب عنه .
نعم ، قال في آخرها - وما أصدق ما قال - : هذا ما أدى إليه نظري السقيم . انتهى .
والسقيم - لا محالة - إنما جاء من إحدى العلتين اللتين مر ذكرهما أو من كليهما ، نسأله تعالى العافية لنا ولجميع المسلمين .
وفي الرسالة - المنوه بذكرها من أمم - لكل واحدة من تلك المسائل فصل مستقل أثبت فيه من الطرق الصحيحة المعتبرة عند القوم مشروعيتها ورجحانها وعمل الصحابة والتابعين بها ، فمن أراد فليراجع . وعلى هذا الحد فلتقف الأقلام ، وينتهي الكلام ، فقد تجلى الصبح لذي عينين ، والسلام . تمت بحمد الله تعالى .
___________________________________
( 18 ) المبسوط للسرخسي 2 / 62 .
( 19 ) المنتقى 2 \ 22 .
( 20 ) المغني لابن قدامة 2 / 380 .
( 21 ) المجموع 5 / 295 .
( 22 ) الأم 1 / 273 .
( 23 ) سنن البيهقي 4 / 4 وفيه - بعد أن نقل حديث التمار - : وحديث القاسم أصح وأولى أن يكون محفوظا .
( 24 ) سنن أبي داود 3 / 215 ح 3220 .
( 25 ) إرشاد الساري 2 / 477 .
( 26 ) صحيح البخاري 2 / 114 .
( 27 ) الحج : 32 .
( 28 ) فرحة الغري : 77 .
( 29 ) صحيح البخاري 9 / 77 باب ( 1 ) كتاب الأحكام ، صحيح مسلم 3 / 1451 - 1454 باب ( 1 ) كتاب الإمارة .
( 30 ) السجدة : 24 .
( 31 ) البقرة : 124 .
( 32 ) سنن أبي داود 3 / 218 ح 3236 .
( 33 ) مستدرك الحاكم 1 / 374 .