طباعة

( أحمد النمر . السعودية . ... ) في النقد العلمي

السؤال : السلام عليكم ، وجزاكم الله خيراً .
قرأت إجاباتكم حول كتاب لله ثمّ للتاريخ ، وكانت إجابات جيّدة ومقنعة ، ولكن أُريد إجابة وافية ، وتوسعة في الردّ .
الجواب : لقد كان القلم وما زال أداةً طالما ركبت صهوة المجد ، وتسنّمت ذرى الرفعة والكمال ، حتّى فضّل الله تعالى مداد العلماء على دماء الشهداء ، وجعلهم ورثة الأنبياء ، وبه اقسم ربّ العزّة فقال : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } (1) .
لكن وا أسفاه عندما يهبط برمح الحقّ هذا إلى وهاد الزور والكذب ، وا أسفاه حينما يُجرُّ رغماً عنه إلى مهاوي الخداع والتضليل ، فنحن في زمن صارت الكلمة الصادقة فيه أندر وأعزُّ من الكبريت الأحمر ، زمن غدت به الأكاذيب حذّاقة ، والتزوير والخداع فطنة ، فالغاية صارت تبرّر الوسيلة ، حتّى كأنّ الله تعالى لم يقل في كتابه المجيد : { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } (2).
لله ... ثمّ للتاريخ : هكذا جاء هذا العنوان المزوق برّاقاً موهماً ، كتاب أساسه الكذب ، ودعائمه البهتان ، وسقفه الزور .
لقد كانت العرب قبل الإسلام تحترم الكلمة ، وتعطي أرواحها كي تصون كلمتها ، فما بال المؤلّف ـ إن كان يدّعي أنّه عربي ـ لم يلتزم بأدنى قواعد الجاهلية ، فضلاً عن قواعد الإسلام ؟ فأين شرف الكلمة ؟! أين أمر الله بوجوب الصدق ؟!
كتابٌ حاول النيل من عقائد الشيعة ـ وليست هذه أوّل ولا آخر محاولة ، ولكن هيهات ، فالجبال لا تزيلها الرياح ـ فلم يجد إلاّ طريقاً مفضوحاً ساذجاً ، لا ينطلي إلاّ على البسطاء من الناس ، وتغافل أنّنا نعيش في عصر الكمبيوتر والإنترنت ، وأنّه ممكن للقارئ وبضغطة زر واحد أن يحصل على ما شاء من المعلومات الدقيقة والعميقة .
وإليك أيّها المسلم الغيور نكت حول الكتاب ، اختصرناها من كتاب كامل في الردّ على مثل هذه الترهات ، فاضحك إن شئت تضحك ، وأبك أن شئت ، فنحن في زمن مضحك مبك ، يرتكب فيه بعض من يدّعي الإسلام أبشع الكبائر ، وأكبر الذنوب لضرب أخيه المسلم ، فلخدمة مَن ؟ وكم هو الأجر ؟!
1ـ مؤلّف الكتاب عمره 200 سنة أو أكثر :
لقد قيل في المثل : إذا كنت كذوباً فكن ذكوراً ، لكن المؤلّف نسي هذا المثل ، وهذا طبيعي فحبل الكذب قصير ، فقد ذكر في كتابه ص 104 ما نصّه : في زيارتنا للهند التقينا بالسيّد دلدار علي النقوي فأهداني كتابه أساس الأُصول ... .
ومعلوم جزماً : أنّ السيّد دلدار علي النقوي ـ وهو مؤلّف وعالم شيعي ـ توفّي سنة 1820 م ـ كما هو مذكور في كتاب الأعلام للزركلي (3) ، ولنفرض أنّ هذا المؤلّف كان عمره آنذاك حين التقى بدلدار علي النقوي 20 سنة ـ على أقل تقدير ـ إذاً ستكون ولادة هذا المؤلّف سنة 1800 م ، هذا بالنسبة لولادته .
أمّا وفاته ، فهو لم يتوفّ بعد ، لأنّه قال في مقدّمة كتابه ص 6 : أمّا أنا فما زلت حيّاً داخل العراق ، وفي النجف بالذات ... ، كما أنّه يدّعي أنّه كان حاضراً حينما توفّي السيّد الخوئي ، ومعلوم أنّ السيّد الخوئي توفّي سنة 1992 م ، فإذا طرحنا 1992 من 1800 سيكون عمره إلى حين وفاة السيّد الخوئي 192 سنة ، أمّا عمره إلى الآن فهو 203 سنوات !! فاضحك فقد راق الضحك .
2ـ يقول أنّه مجتهد ، وأنّه نال الاجتهاد من الشيخ كاشف الغطاء :
ومعلوم أنّ الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) ـ وهو مرجع شيعي كبير ـ ولد سنة 1877 م (4) ، أي إنّ المؤلّف حينما ولد كاشف الغطاء كان عمره 77 سنة ، كما أنّ الشيخ كاشف الغطاء بدأ بتدريس بحوث الخارج سنة 1898 م ، أي كان عمر المؤلّف 98 سنة ، على أنّ الطالب يحضر هذه الدروس لا أقل مدّة 5 سنوات كي يجتهد ، فيكون عمر المؤلّف 103 سنوات حينما حصل على إجازة الاجتهاد ، ويقول في ص 5 : أنّه حصل عليها بتفوّق ... .
فأي تفوّق هذا يا ترى ؟ وما حال الطلاّب غير المتفوّقين ؟ لابدّ أنّ أعمارهم تصل إلى 200 أو 300 سنة ، حتّى ينالوا الاجتهاد !!
3ـ المؤلّف لا يعرف مصطلح السيّد ومصطلح الشيخ ، ولا يميّز بينهما ، وإليكها :
الأُولى : قال في ص 5 : أنهيت الدراسة بتفوّق حتّى حصلت على إجازتي العلمية في نيل درجة الاجتهاد من أوحد زمانه سماحة السيّد محمّد الحسين آل كاشف الغطاء ... .
وقال في ص 9 : وسألت السيّد محمّد حسين آل كاشف الغطاء ... .
الثانية : قال في ص 13 : والسيّد محمّد جواد مغنية ... .
الثالثة : قال في ص 21 : قال السيّد علي الغروي ... .
الرابعة : قال في ص 48 : السيّد لطف الله الصافي ... .
الخامسة : وكان صديقنا الحجّة السيّد أحمد الوائلي ... .
السادسة : قال في ص 102 : بينما يقول السيّد أبو جعفر الطوسي المتوفّي 460 هـ ... .
السابعة : بل وصل به الحال إلى الجمع بين المتناقضين ، فقال في ص 102 : قال الشيخ الثقة السيّد حسين بن السيّد حيدر الكركي العاملي المتوفّى 1076 هـ .. .
وهناك موارد أُخرى لم نذكرها اختصاراً .
ومن الواضح البيّن عند الشيعة ، يعرفه صغيرهم وكبيرهم : أنّ هناك فرقاً بين السيّد والشيخ ، فالسيّد يطلق على مَن ينتسب إلى السلالة العلوية ، والشيخ يطلق على كُلّ من لم يكن من السلالة العلوية ، فكيف غاب عن هذا الشخص ، والذي يدّعي الاجتهاد ، أنّ هؤلاء الذين ذكرهم في كلامه ، وأطلق عليهم لفظ السيّد ، أنّهم من المشايخ وليسوا من السادة ؟!
مع أنّ هذا الأمر يعرفه أطفال الشيعة فضلاً عن عوامّهم ، فما بالك بفقهائهم ؟ وكيف غاب عنه أنّ محمّد حسين آل كاشف الغطاء شيخاً ، وليس سيّداً ؟ مع أنّه يقول : حضرت عنده وحصلت على درجة الاجتهاد منه ، فكيف غاب عنه خلال هذه الفترة من الحضور عنده أنّه شيخاً ، وليس سيّداً ، بحيث أطلق عليه في ثلاث موارد : ص 5 و 9 و 52 لفظ السيّد ؟!
فالمؤلّف المذكور ألّف مسرحية ، ولم يتّقن أداء الدور فيها ، فلبس لباس التشيّع ، وأخذ يكتب بعنوان كونه شيعياً ، لكنّه لم يفلح بذلك ، فوقع في أغلاط فاضحة .
4ـ زعم هذا الكذّاب في  14 من كتابه المذكور : أنّ الشيعة يسمّون إخوانهم أهل السنّة بالنواصب .
وهذا هو الخبث بعينه ، والفتنة بعينها ، والله تعالى يقول : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } (5) ، فهو يريد الوقيعة بين الشيعة وإخوانهم من أهل السنّة ، ويريد للمسلم أن يكفّر أخاه المسلم ، ويلعنه ويقاتله ، وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : " أُمرت أن أُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله ، فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه وحسابه على الله " (6) .
وإليك قارئي الكريم حقيقة الحال في لفظ النواصب ، ومن أُمّهات كتب الشيعة ، لتعرف حقيقة الحال ، ولكي لا تنطلي عليك مثل هذه الألاعيب الخبيثة ، فالنواصب عند الشيعة : هم جماعة خاصّة تبغض أهل البيت (عليهم السلام) وتكرههم ، وتنصب لهم العداوة ، مخالفةً بذلك أمر الله تعالى حيث يقول في كتابه المجيد : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } (7) ، أي قل يا محمّد لقومك : لا سألكم على الرسالة ، وعلى أتعابي ، وما لقيت من جهد ، أيّ أجر سوى أجراً واحداً ، وهو أن تودّوا أهل قرباي .
ومعلوم لدى كُلّ مسلم من هم قرابة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فكُلّ من يعاديهم ـ والعياذ بالله ـ فهو ناصبي ، وإليك كلمات علمائنا في ذلك :
أ ـ الشهيد الثاني زين الدين العاملي الجبعي ـ وهو من كبار فقهاء الشيعة ـ في كتابه مسالك الإفهام : النواصب : وهم المعلنون بعداوة أهل البيت (عليهم السلام) أو أحدهم صريحاً أو لزوماً (8) .
ب ـ الشيخ رضا الهمداني في كتابه مصباح الفقيه : النواصب : الذين اظهروا عداوة أهل البيت ، الذين أوجب الله مودّتهم وولايتهم ، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً (9) .
ج ـ السيّد محمّد رضا الكلبايكاني في هداية العباد : النواصب : وهم المعلنون بعداوة أهل البيت (عليهم السلام) وإن اظهروا الإسلام (10) .
د ـ السيّد أبو القاسم الخوئي في كتابه تنقيح العروة الوثقى : وهم الفرقة الملعونة التي تنصب العداوة ، وتظهر البغضاء لأهل البيت (عليهم السلام) (11) .
فاتضحّ لك الأمر قارئي الكريم : أنّ الشيعة تطلق لفظ النواصب على فرقة خاصّة كرهت أهل البيت ، مثل : الخوارج الذين حاربوا إمام زمانهم ، وسيّد أهل بيت النبيّ ، وهو الإمام علي (عليه السلام) ، أو من قاتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، فهؤلاء نواصب .
أمّا عامّة أهل السنّة ، فإنّهم محبّون لأهل البيت (عليهم السلام) ، بل إنّ كثيراً منهم يذرفون الدمع عند سماعهم بمصيبة الحسين وأهل بيته ، فكيف نسمّيهم نواصب ؟! وما هذا الكذب الذي افتراه هذا المفتري إلاّ كيداً للإسلام ، وضرباً لأتباع النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) من سنّة أو شيعة ، فأخزى الله كُلّ متآمر على الإسلام .
5ـ في ص 14 من كتابه المذكور ـ والكتاب كُلّه عبارة عن كذب ومغالطات رخيصة ـ ذكر عدّة مفتريات توالت بنسق واحد ، ومصبّها وهدفها إلصاق كُلّ ما يمكن إلصاقه من المفتريات بالشيعة والتشيّع ، محاولاً أن يجمع فيها كُلّ كلمة ذمّ وتوبيخ وعتاب ، قيلت من قبل الأئمّة في أي جماعة كانت ، ولصقها بالشيعة ، بل زاد ـ وبشكل مفضوح ـ الأمر بأن جعل كلام الإمام الحسين (عليه السلام) الذي قاله بحقّ أعدائه وقتلته ـ الذين قاتلوه في يوم عاشوراء ـ جعل هذا الكلام موجّهٌ إلى الشيعة ، ولكن لا عجب ، فقد قال الشاعر :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى    حتّى يراق على جوانبه الدم (12)
وقبل البدء بالجواب نستعرض لك ـ أيّها القارئ اللبيب ـ قسماً من تلك المفتريات المخزية ، ثمّ نجيب عليها إن شاء الله :
أ ـ في ص 14 : نقل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الموجّه لأهل الكوفة : " يا أشباه الرجال ولا رجال ، حلوم الأطفال ، وعقول ربّات الحجال ... " (13) .
ب ـ في ص 15 أورد خطبة الإمام علي (عليه السلام) ـ وقد حذف منها كلمتين ـ فغيّر المخاطب وهذا أُسلوب قذر ، إذ قد يرد الذمّ والتوبيخ لزيد ، لكن الناقل للذمّ يغيّره ويقول : إنّ الذمّ ورد في عمرو ـ فقد أورد الكاتب الخطبة هكذا : " صمٌ ذوو أسماع ، وبكم ذوو كلام ، وعمي ذوو أبصار ، لا أحرار صدق عند اللقاء ... " (14) ، وقد حذف أوّل الخطبة ، وهي قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : " يا أهل الكوفة ، منيت منكم بثلاث واثنتين : صمٌ ذوو أسماع ... " .
فتلاحظ كم تغيّر الخطاب ، وكم هو الفرق بين أن يدّعي هذا الكاذب أنّ الخطاب مقصود به الشيعة ، وبين حقيقة الحال ، وأنّ المقصود به هم أهل الكوفة ، وسنثبت للقارئ الفرق الكبير والبون العظيم الشاسع بين اللفظتين : الشيعة وأهل الكوفة .
ج ـ في ص 18 لخَّص مطالبه بأُمور ، وكان أهمّها قولـه : ملل وضجر أمير المؤمنين من " شيعتهم أهل الكوفة " ، وأرجو من القارئ أن يتنبّه جيّداً للتعبير الذي بين القوسين ، ففيه تمام المغالطة على ما سنبيّنه لاحقاً .
الجواب : تلاحظ ـ عزيزي القارئ ـ أنّه استخدم لفظ " أهل الكوفة " ليضرب به الشيعة والتشيّع ، محاولاً إيهام القرّاء أنّ لفظ " الكوفة = الشيعة " والعكس بالعكس ، وهذا كذب عظيم ، سنجيب عليه بالنقاط التالية :
أ ـ إنّ المتتبّع لتاريخ الكوفة تتبّعاً علمياً دقيقاً يجد : أنّ الكوفة من المدن التي أحدثها الإسلام ، فقد بناها سعد بن أبي وقاص ، بأمر من الخليفة الثاني عمر ابن الخطّاب سنة 17 هـ ، حتّى سمّيت بـ " كوفة الجند " (15) ، وعندما تأسّست هذه المدينة ، تسابق لها المسلمون بشتّى مشاربهم واتجاهاتهم السياسية والفكرية ، حتّى أحصى ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى ، في باب طبقات الكوفيين ، ما يقارب (150) صحابياً ، ممّن نزل الكوفة ، وقد سكنها العرب واليهود والنصارى والفرس .
أمّا العرب فقد كان تعدادهم على ما أخبر به الشعبي فقال : كنّا نعدّ أهل اليمن اثني عشر ألفاً ، وكانت نزار ثمانية آلاف (16) .
إذاً ، فالعرب في الكوفة أيّام علي (عليه السلام) وولده الحسن والحسين ، يربوا عددهم على العشرين ألف ، فهل من العقل والمنطق أن نقول : أنّ عشرين ألف عربي ، و150 صحابياً كُلّهم شيعة لعلي (عليه السلام) ؟!
ب ـ الفرس في الكوفة : وكان عددهم 4000 رجلاً ، تحالفوا مع قبيلة تميم ، وسمّوا بالحمراء أو حمراء ديلم ، لأنّ قائدهم يدعى ديلم ، وهم بقايا فلول الجيش الفارسي المنهزم من معركة القادسية ، استوطنوا الكوفة (17) ، فهل هؤلاء أيضاً هم شيعة أو يمكن أن يكونوا شيعة ؟!
ج ـ الأديان في الكوفة :
أوّلاً : النصارى : قال ياقوت الحموي في وصف الكوفة : أمّا ظاهر الكوفة فإنّها منازل النعمان بن المنذر ... وما هناك من المتنزّهات والديرة الكبيرة (18) .
والديرة : جمع دير وهو مكان عبادة النصارى .
كما ذكر لنا المؤرّخ الشهير الطبري في تاريخه ، كيف أنّ نصارى العرب من قبيلة تغلب ، كانوا ممّن ساهموا في اعمار الكوفة واستيطانها في زمان الخليفة الثاني ، وإليك النصّ : فعاقدوا عمر على بني تغلب فعقد لهم على أنّ من أسلم منهم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، ومن أبى فعليه الجزاء ـ أي أن يدفع الجزية ـ ... فقالوا : إذاً يهربون وينقطعون فيصيرون عجماً ... فهاجر هؤلاء التغلبيون ومن أطاعهم من النمريين والأياديين إلى سعد بالمدائن ، وخطّوا معه بعد بالكوفة ... (19) ، فلا أدري هل هؤلاء النصارى الذين سكنوا الكوفة هم من الشيعة ؟!
د ـ اليهود في الكوفة : لقد تواجد اليهود في الكوفة منذ زمن بعيد ، يرجع إلى 597 قبل الميلاد ، منذ أن سباهم الملك الكلداني نبوخذ نصّر ، وحافظوا على وجودهم في المنطقة على مرّ العصور ، كما انظمّ إلى يهود العراق يهود المدينة حين تمّ جلاؤهم منها ، فاستوطنوا الكوفة منذ عام 20 للهجرة .
وقد سيطر اليهود في الكوفة على التجارة والصياغة ، ولهم معابد ومزارات لا تزال موجودة إلى اليوم ، ومن كان من أهل الكوفة يعرف ذلك جيّداً ، فنسأل هل اليهود أيضاً من شيعة علي (عليه السلام) ؟!
هـ ـ المسلمون ومشاربهم السياسية في الكوفة : وأخيراً ننهي الجواب بالتعرّف إلى أمر مهمّ ، وهو أنّ المسلمين الذين استوطنوا الكوفة أنفسهم لم يكن لهم رأي واحد ، أو مشرب سياسي واجتماعي واحد ، فقد كان كثير منهم ، بل الأغلبية الغالبة ، كانوا يرون أفضلية أبي بكر وعمر وعثمان على علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وهذا واضح لمن له أدنى تأمّل .
ويكفينا هنا شاهد واحد من أدلّة وشواهد لا تحصى ، لكنّ المقام مقام اختصار ، فقد قال ابن أبي الحديد المعتزلي : " وقد روي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا اجتمعوا إليه بالكوفة ، فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلّي بهم نافلة شهر رمضان ـ وهي صلاة التراويح عند أهل السنّة ، وهي بدعة عندنا ، بل أنّ عمر نفسه سمّاها بدعة ، واستحسنها قائلاً : نعمت البدعة هذه ـ فزجرهم ـ أي أمير المؤمنين ـ وعرّفهم أنّ ذلك خلاف السنّة ، فتركوه واجتمعوا لأنفسهم ، وقدّموا بعضهم ـ أي أنّهم عصوا أميرهم وسيّدهم ـ فبعث إليهم ابنه الحسن (عليه السلام) ، فدخل عليهم المسجد ومعه الدرّة ، فلمّا رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا : وا عمراه " (20) .
وأوّل من صاح بها قاضي الكوفة شريح ، كما نقل ذلك التستري (22)، فهل هؤلاء شيعة علي (عليه السلام) ؟!
أم هل يمكن أنّ أبا موسى الأشعري ، الذي وقف يخاطب جموع أهل الكوفة ، ويثبّطهم عن نصرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في حرب الجمل ، ويقول لهم : " أنّ علياً ـ لاحظ أنّه حتّى لم يقل أمير المؤمنين وقاحةً وصلفاً ـ إنّما يستنفركم لجهاد أُمّكم عائشة ... أشيموا سيوفكم ، وقصروا رماحكم ، وقطعوا أوتاركم ، وألزموا البيوت " (22).
فهل هذا ومن لفَّ لفّه يمكن أن نعدّهم من شيعة علي (عليه السلام) ؟
وأخيراً : هذين شذرتين صغناها لك قارئي الكريم لتكتمل معرفتك ، وهناك شذرات لا عدَّ لها لمن أراد الاستزادة ، وهي موجودة في بطون الكتب ، فمن أراد فليتابع البحث بنفسه :
1ـ قال الحسين (عليه السلام) مخاطباً الجيش الذي جاء لقتاله في يوم عاشوراء : " ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون " (23).
2ـ في كتاب اختيار معرفة الرجال ـ المعروف برجال الكشي ـ للشيخ الطوسي، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : " كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندكم بالعراق يقاتل عدّوه ومعه أصحابه ، وما كان منهم خمسون رجلاً يعرفونه حقّ معرفته ، وحقّ معرفته إمامته " (24).
فيتبيّن لك ـ قارئي الكريم ـ من هم قتلة الحسين (عليه السلام) ؟ وكم هم الشيعة الواقعيون في ذاك الزمان .
6ـ جهل المؤلّف بالمصطلحات الشرعية التي يعرفها عوام الناس ومنها :
جهله بمعنى التقية عند الشيعة والسنّة ، وجاء بكلام حولها لا يتفوّه به إلاّ الجهّال ، ومن لا معرفة عندهم ، فقد قال في ص 9 : وسألت السيّد محمّد الحسين آل كاشف الغطاء عن ابن سبأ ؟ فقال : إنّ ابن سبأ خرافة وضعها الأمويون والعباسيون حقداً منهم على آل البيت الأطهار ، فينبغي للعاقل أن لا يشغل نفسه بهذه الشخصية ... ، ويتابع المؤلّف كلامه فيقول : ولكنّي وجدت في كتابه ـ أي كتاب كاشف الغطاء ـ المعروف بأصل الشيعة وأُصولها : 40 ـ 41 ، ما يدلّ على وجود هذه الشخصية وثبوتها ، حيث قال : أمّا عبد الله ابن سبأ ، الذي يلصقونه بالشيعة ، ويلصقون الشيعة به ، فهذه كتب الشيعة بأجمعها تعلن بلعنه والبراءة منه ... ، ثمّ يقول المؤلّف : ولاشكّ أنّ هذا تصريح بوجود هذه الشخصية ، فلمّا راجعته في ذلك قال : إنّما قلت هذا تقية ، فالكتاب مقصود به أهل السنّة .
وملخّص ما ذكره المؤلّف : أنّ كاشف الغطاء ذكر رأيين في كتاب واحد في صفحة واحدة حول عبد الله بن سبأ ، فلمّا سأله الكاتب عن ذلك أجاب : إنّ ذلك تقية !
وهذا جهل فضيع من المؤلّف بمعنى التقية ، التي يؤمن بها الشيعة والسنّة ، لا يصدر من متعلّم فضلاً عن عالم يدّعي الاجتهاد والعلم ، وإليك معنى التقية الشرعية عند الشيعة بإجماع فقهائهم ، لترى هل ينطبق عليها كلام المؤلّف أم لا ؟
معنى التقية : أنّ الإنسان إذا خاف على نفسه أو عياله أو على مؤمن من عدوّ أو ظالم ، فله أن يخالف الشريعة في حدود ما يرتفع به الخوف والإكراه (25).
وقال بشرعيتها الشيعة والسنّة ، كما أنّ القرآن والسنّة النبوية نطقا بذلك : قال تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ... } (26).
وأمّا السنّة النبوية : فارجع إلى الحاكم ، وابن سعد ، وابن عساكر ، والذهبي وغيرهم في قضية عمّار بن ياسر ، حينما قال له الرسول (صلى الله عليه وآله) : " ما وراءك " ؟ قال : شرّ يا رسول الله ، ما تُرِكتُ حتّى نِلتُ منك ، وذكرتُ آلهتهم بخير ، فقال : " كيف تجد قلبك " ؟ قال : مطمئن بالإيمان ، قال (صلى الله عليه وآله) : " إن عادوا فعد " (27).
وذكر الشوكاني ـ وكان قاضي القضاة ، وإمام أهل السنّة ـ : أنّ تسمية زياد بن سفيان ، الذي ورد في كلام المحدّثين ، كان في زمن بني أُمية خوفاً واتقاءً منهم ، مخالفين بذلك الإجماع على تحريم نسبته إلى أبي سفيان ، قال : وقد أجمع أهل العلم على تحريم نسبته إلى أبي سفيان ، وما وقع من أهل العلم في زمان بني أُمية فإنّما هو تقية (28)، فهل التقية حلال على أهل السنّة ، حرام على أهل الشيعة ؟
وأخرج البخاري قول أبي هريرة : " حفظت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعاءين ، فأمّا أحدهما فبثثته ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم " (29)، أي أنّه أخفاه تقيةً وخوفاً .
وقد علّق العلاّمة شعيب الأرنؤوط على ذلك بقوله : " وقد حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثّه على الأحاديث التي فيها تبيين أمراء السوء وأحوالهم ... ولا يصرّح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان ، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية ، لأنّها كانت على رأس سنة ستين من الهجرة " (30).
وقال الفخر الرازي : " روى عوف عن الحسن : أنّه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وهذا القول أولى ، لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان " (31).
إذا عرفنا معنى التقية عند الشيعة والسنّة أنّها تجوز عند الضرورة ، لا فرق بين أن تكون مع الكفّار أو المسلمين ، نأتي إلى كلام المؤلّف فنقول : إذا كان الشيخ كاشف الغطاء يتّقي في كتابه أصل الشيعة وأُصولها ، فلماذا لم يقتصر على إنكار وجود عبد الله بن سبأ فقط ، ولا حاجة لأن يثبت وجوده ؟!
بينما نجده يقول في ص 40 ـ 41 : أمّا عبد الله بن سبأ ، الذي يلصقونه بالشيعة ، أو يلصقون الشيعة به ، فهذه كتب الشيعة بأجمعها تعلن بلعنه والبراءة منه ، وأخف كلمة تقولها كتب الشيعة في حقّه ، ويكتفون بها عن ترجمة حاله عند ذكره في العين هكذا : عبد الله بن سبأ العن من أن يذكر ، على أنّه ليس من البعيد رأي القائل أنّ عبد الله بن سبأ وأمثاله كُلّها أحاديث خرافة ، وضعها القصّاصون وأرباب السمر والمجون ؟!
فالشيخ يقول : أوّلاً : أنّ الشيعة تتبرّأ من عبد الله بن سبأ ، ولا ربط لعقيدة الشيعة به ، سواء كان موجوداً أو غير موجود .
ثانياً : أنّ عبد الله بن سبأ لعلّه شخصية وهمية ، وضعها أعداء الشيعة للنيل منهم .
فأين التقية في هذا الكلام ؟ وما هي الضرورة ـ التي عندها يجوز التقية ـ التي دعت الشيخ إلى ذلك ؟ وإذا كان يريد الاتقاء ومداراة أبناء السنّة ، لكان من المضحك أن يقول هذا الكلام ، إذ فيه الإقرار بوجود عبد الله بن سبأ ، فكيف يتّقي وينكره ؟!
وكيف يأتي بأمرين في آن واحد وهو يتّقي ، فهذا يكون حاله كحال من اضطره الكفّار إلى الكفر ، فيقول : كفرت ، ثمّ يتبع كلامه بالقول : لا أنا باق على الإسلام ولم أكفر ، في نفس الوقت ، وفي نفس الموقف ، فهل هذا إلاّ ضحك ولعب ؟!
7ـ جهل المؤلّف بالمعنى الشرعي لنكاح المتعة :
قال المؤلّف الذي يدّعي العلم ـ كما زعم ـ في ص 38 : إنّ المتعة كانت مباحة في العصر الجاهلي ، ولمّا جاء الإسلام أبقى عليها مدّة ، ثمّ حرّمت يوم خيبر .
وأخذ يفسّرها بما شاء من الأكاذيب والأباطيل ، ولكن إذا رجعنا إلى المصادر الروائية والتاريخية ، لا نجد ذكراً لنكاح المتعة في الأنكحة الجاهلية ، فارجع إلى صحيح البخاري ، تجد أنّ عائشة ذكرت أنّ نكاح الجاهلية أربعة أقسام :
1ـ النكاح المعروف في زماننا من الخطبة والمهر والتزويج .
2ـ المرأة المتزوّجة يطلب منها زوجها أن تذهب ، وتستبضع من رجل آخر ، كي تحمل بحمل من ذلك الشخص ، طلباً لنجابة الولد .
3ـ أن يجتمع عشرة أنفار على امرأة ، فإذا حملت أرسلت إليهم ، وهي تعيّن من الأب لهذا الحمل .
4ـ نكاح البغايا وحاملات الرايات (32).
ونقل سيّد سابق نوعين آخرين :
1ـ نكاح البدل : وهو أن يبدل الرجل مع الرجل الآخر زوجة كُلّ منهما .
2ـ الخدن : وهي المتزوّجة التي تصادق شخص سرّاً يزني بها (33).
وسواء كانت الأقسام أربعة أم ستّة ، لا نجد نكاح المتعة في أنكحة الجاهلية ، فكيف يدّعي أنّه نكاح جاهلي ؟!
والمؤلّف بما أنّه ليس شيعياً ، فقد أخذ هذا القول من الوهّابي المتشدّد موسى جار الله صاحب كتاب الوشيعة في نقض عقائد الشيعة ، حيث قال هناك ص3: أرى أنّ المتعة من بقايا الأنكحة الجاهلية .
فلاحظ أنّه قال : أرى ، ولم يكن لديه أيّ دليل ، والمؤلّف لمّا كان وهّابي ، ولمّا كان ينقل من غيره ، وقع في هذا الخطأ الفضيع نفسه .
8 ـ قال في ص 42 عند كلامه عن مفاسد المتعة : " إنّ المتعة ليس فيها إشهاد ولا إعلان ، ولا رضى ولي أمر المخطوبة ، ولا يقع شيء من ميراث المتمتِّع للمتمتَّع بها ، فكيف يمكن إباحتها وإشاعتها ... " .
إنّ أيّ شخص شيعي يقرأ هذا الكلام يتّضح له وضوح الشمس في رائعة النهار : أنّ هذا المؤلّف ليس شيعياً ، وكذلك يتّضح حتّى لغير الشيعة ممّن لهم معرفة بالشيعة وفقههم ، فضلاً عن شخص يدّعي الفقاهة ، كالمؤلّف المزعوم ، وذلك :
أ ـ قال : " المتعة ليس فيها إشهاد " ، ونحن نقول : إنّ الشيعة قاطبة قديماً وحديثاً ، لا تشترط الإشهاد في عقد النكاح ، لا فرق في ذلك بين الدائم والمنقطع ـ المتعة ـ ، أي أنّ حضور شاهدين عند العقد ليس شرطاً في صحّة العقد ، بل يصحّ العقد من دون حضور شهود ، وإنّما يشترط الشهود في عقد النكاح عند المذاهب الأربعة الأُخرى ـ المالكية ، والحنفية ، والحنبلية ، والشافعية ـ فمن هذا يتّضح أنّ المؤلّف ليس شيعياً ، فضلاً عن أن يكون عالماً ، إذ لم يميّز بين الفقه الشيعي ، وفقه المذاهب السنّية ، فأخذه قلمه وفضحه .
ب ـ قال : " ولا إعلان " ، وهذا أيضاً كسابقه ، إذ الشيعة لا تشترط الإعلان في النكاح دوماً أو متعة ، وإنّما يشترطه بقية المذاهب السنّية الأُخرى (34).
فكيف غاب عن المؤلّف الذي يدّعي العلم ، أنّ الشيعة لا تشترط الإعلان في العقد بإجماعهم قديماً وحديثاً ، والذي يشترطه غيرهم ، حتّى جاء وعدّ ذلك من مفاسد المتعة ؟!
فهذا يدلّ على أنّ المؤلّف لا يعرف المصطلحات الشرعية في المذهب الشيعي ، فضلاً عن أن يكون عالماً شيعياً عمره 200 سنة ويزيد .
ج ـ قال في ص 40 : " إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي روى تحريم المتعة في نقله عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فكيف يفتي هنا بأن نكاح متعة ... " .
المؤلّف هنا لا يميّز بين كلام الإمام المعصوم (عليه السلام) ، وبين فتوى الفقيه ، فالشيعة قاطبة تؤمن بأنّ المعصوم هو المصدر للحكم الشرعي ، ولا تطلق عليه أنّه يفتي ، وإنّما كلامه كلام الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ، وليس مفتياً ، والفقيه هو الذي يفتي لأنّ الفتوى معرّضة للصواب والخطأ ، فلذلك لا يقال : أفتى علي (عليه السلام) بحلّية المتعة مثلاً ، لأنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) معصوم ، وكلامه مطابق للواقع ، ولا يكون فيه خطأ ، فلذلك لا يقال : أفتى علي (عليه السلام) ، وإنّما يقال : أفتى السيّد الخوئي ـ مثلاً ـ بحلّية المتعة ، لأنّ السيّد الخوئي فقيه غير معصوم ، فكلامه يحتمل الإصابة وعدم الإصابة .
ولكن المؤلّف باعتباره سنّياً ، فيرى علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليس معصوماً ، وإنّما هو أحد الصحابة الذين يفتون ، فلذلك ظهر هنا بلباسه الواقعي ، وقال : " فكيف يفتي هنا بأنّ هذا نكاح متعة ... " ، وجهل بأنّ علياً معصوماً ، ولا يطلق عليه أنّه مفتىً ، وإنّما هو مصدر من مصادر التشريع .
فهو جاهل باصطلاح المفتي ، واصطلاح المشرّع ، ومصدر الشرع .
9ـ الجهل بمعنى لفظ الجارية :
قال في ص 46 : " إنّ انتشار العمل بالمتعة جرّ إلى إعارة الفروج ، وإعارة الفروج معناها : أن يعطي الرجل امرأته ... إلى رجل آخر ، فيحلّ له أن يتمتّع بها ، أو أن يصنع بها ما يريد ، فإذا ما أراد الرجل أن يسافر أودع امرأته عند جاره أو صديقه ، أو أي شخص يختاره ، فيبيح له أن يصنع بها ما يشاء ... ، وهناك طريقة ثانية لإعارة الفروج ، إذا نزل أحد ضيفاً عند قوم ، وأرادوا إكرامه ، فإنّ صاحب الدار يعير امرأته للضيف طيلة مدّة الإقامة ... " .
واستدلّ لكلامه بما روي عن الصادق (عليه السلام) : " يا محمّد خذ هذه الجارية تخدمك وتصيب منها ، فإذا خرجت فارددها إلينا " (35).
إنّ من يقرأ هذا الكلام ـ بغضّ النظر عن الكذب والافتراء الذي فيه ، إذ إنّ ما ذكره ليس هو نكاح متعة ، بل زنا تحرّمه الشيعة ـ يعجب من المؤلّف المذكور ، ويتحيّر في كيفية فهم كونه فقيهاً ، عمره أكثر من مائتين سنة ، فهو لا يفرّق بين الزوجة الحرّة وبين الجارية ، والتي تعني الأمة المملوكة !
إذ كيف يكون بهذا العمر ويدّعي الفقاهة ، وهو لا يعرف معنى لفظ الجارية ؟ سبحانك اللهم ، فإذا كان حال العالم هكذا ، فماذا نقول عن الجاهل ؟! بل وأي معنىً يبقى لتعريف الجاهل ؟! فهذا المؤلّف بعيد عن العلم ، بل هو بعيد عن الدين الإسلامي بمذاهبه المختلفة .
هناك في الفقه الإسلامي باب يسمّى : باب الإماء والعبيد ، ويُعنى به أنّ الأسير المشرك إذا وقع بيد المسلمين في حرب إسلامية مع الكفّار ، يكون عبداً لهم ، ويحقّ لهم تملّكه ، سواء كان امرأة أو رجلاً ، ويطلق على الأمة المملوكة لفظ الجارية أيضاً ، لأنّ لفظ الجارية مشترك بين المرأة الحرّة والأمة المملوكة ، وبين الصغيرة والكبيرة ، والمؤلّف هنا خلط ـ جهلاً أو تجاهلاً ـ بين المرأة الحرّة والمرأة الأمة .
وهذه الروايات التي أوردها ، والتي ذكرنا منها واحدة ـ اختصاراً ـ أوردها الشيخ الطوسي في التهذيب والاستبصار تحت باب نكاح الإماء (36)، أي النساء الجواري المملوكات ، والمؤلّف لا يعرف معنى الجارية ، ولا يعرف عنوان الباب الذي نقل منه الرواية ، واستخدام لفظ الجارية في المرأة المملوكة أمر معروف ومشهور في كتب الشيعة والسنّة على السواء ، فكيف لم يستطع المؤلّف معرفته ، وجعل الروايات واردة في جواز التمتّع بالزوجة الحرّة ؟!
هذا بغضّ النظر عن أنّ المتعة هي قسم من أقسام النكاح ، ومن شروط النكاح عند عموم المسلمين ـ شيعة وسنّة وظاهرية وغيرهم ـ أن تكون المرأة غير متزوّجة ، ولا يقع نكاح بامرأة متزوّجة ، لأنّه لا ينعقد نكاح مع نكاح آخر ، مع أنّ الروايات واردة في نكاح الجواري ـ أي النساء المملوكات ـ ولا ربط لذلك بنكاح المتعة ، ولا بنكاح المرأة الحرّة المتزوجة ؟!
ويمكن القارئ مراجعة الكتب الفقهية الشيعية لمعرفة ذلك ، ونقتصر هنا على نقل بعض ما ورد حول الجارية من كتب أهل السنّة :
1ـ قال ابن حجر : " إنّ عطاء بن أبي رباح كان يجوّز وطئ الجارية المرهونة بإذن مالكها " (37) .
2ـ قال محمّد الشربيني : " وللمشتري وطئ الجارية المبيعة حال النزاع وقبل التحالف على الأصح " (38).
3ـ قال النووي : " إذا علم البائع أنّ المشتري يطأ الجارية ، وسكت عليه ، هل يكون مجيزاً " ؟ (39).
4ـ قال الحجّاوي : " إن كان الشريك المستولد أصلاً لشريكه يسري كما لو استولد الجارية التي كانت كُلّها له ، وعليه قيمة نصيب شريكه " (40).
والمؤلّف فضح نفسه حينما قال في ص 6 : " فقرأت كُلّ ما وقفت عليه من المصادر المعتبرة ، وحتّى غير المعتبرة ، بل قرأت كُلّ كتاب وقع في يدي ... " .
مع أنّه لا يميّز بين الجارية التي تعني الأمة المملوكة ، وبين المرأة الحرّة ، ولا يميّز بين نكاح الإماء ، وبين التزوّج متعة ؟! ولم يرجع إلى كتاب " الأُم " للشافعي ، ولا إلى " الدرّ المختار " للحصفكي ، و " حاشية المختار " لابن عابدين ، و " البحر الرائق " لابن نجيم المصري ، و " الموطّأ " للإمام مالك ، و" تنوير الحوالك " لجلال الدين السيوطي ، و " المبسوط " للسرخسي ، ولا إلى المصادر المتقدّمة ، فأيّ المصادر المعتبرة قرأها ؟ وأيّ مصدر غير معتبر قرأه ؟
وأيّ كتب قرأها من غير المصادر المعتبرة وغير المعتبرة ؟! وأين تقع الكتب التي ذكرناها ممّا قرأه المؤلّف ؟
إنّ القارئ عندما يلحظ جهل الكاتب بأبسط الأُمور ، بحيث لا يعرف معنى لفظ الجارية ، ويقرأ عبارته في ص 6 يقطع بكذبه وجهله ، وأنّه لم يكن شيعياً في يوم من أيّامه ، وأنّه لم يقرأ إلاّ الكتب التي كتبها أعداء الشيعة ، كإحسان إلهي ظهير ، وموسى جار الله ، وناصر القفاري ، ومحمّد مال الله ، وعبد الله الغفاري ، وقام بتجميع ما فيها من تهم وأباطيل وجمعها في كتابه.
10ـ لا يعرف الكتب التي تدرّس في الحوزة :
لعلّ القارئ يتفاجأ من العنوان ويندهش ، إذ كيف يكون المؤلّف غير عارف بمنهج الدراسة الحوزوية ، وما هي الكتب التي تدرّس فيها ؟ مع أنّه ذكر في أوّل الكتاب ، بأنّه حضر عند السيّد محمّد حسين آل كاشف الغطاء ، ونال درجة الاجتهاد منه ، وله من العمر الآن أكثر من مائتين سنة ، وقضى عمره في الحوزة العلمية ـ كما زعم ـ فكيف لا يعرف ماذا يدرّس في الحوزة العلمية من كتب ؟
لكن هذا الاستغراب يزول عندما يأتي المؤلّف في ص 20 ، ويقول : " كنّا نقرأ أُصول الكافي مرّة مع بعض طلبة الحوزة العلمية في النجف على الإمام الخوئي ... " .
وإذا سألنا أيّ طالب علم في الحوزة العلمية : بأنّ أُصول الكافي هل يدرّس في الحوزة أم لا ؟
كان الجواب : بأنّ أُصول الكافي لا يدرّس في الحوزة العلمية ، وليس من مناهج التدريس فيها ، والمناهج التدريسية في الحوزة العلمية واضحة ، وهي الفقه والأُصول ، والعقائد والتفسير ، والنحو ... ، وليس أُصول الكافي واحداً من هذه الأُمور ، وإنّما هو مصدر روائي يرجع إليه لأخذ الروايات فقط ، فأُنظر إلى سفاهة عقل المؤلّف ، يأخذ الاجتهاد بتفوّق في عمر 103 سنة !
وله من العمر أكثر من مائتين سنة ، ولا يعرف ما يُدرّس في الحوزة العلمية من كتب ؟!
والمؤلّف بما أنّه ليس شيعياً صدر منه هذا الخطأ المضحك ، وبما أنّ الكتب الروائية ـ كصحيح مسلم والبخاري ـ يدرسونها في المدارس الدينية ، فتصوّر أنّ الشيعة أيضاً تدرّس كتبها الروائية في المعاهد الدينية ، فلذلك وقع في هذا الخبط الأعمى وفضح نفسه .
ثمّ إنّه قال : أخذت الاجتهاد من السيّد محمّد الحسين آل كاشف الغطاء ، والشيخ كاشف الغطاء ولد 1877 م ، وفرضنا على أقلّ تقدير أنّه أخذ إجازة الاجتهاد من كاشف الغطاء ، حينما كان عمره 25 سنة ، أي في سنة 1902م ، وعمر المؤلّف حينما أخذ إجازة الاجتهاد 103 سنة على أقلّ حساب ، والسيّد الخوئي ولد عام 1899 م (41)، أي أنّ المؤلّف قبل ولادة السيّد الخوئي بسبع سنين مجتهداً ، فيكون عمر المؤلّف حينما ولد السيّد الخوئي 110 سنة ، ولنفرض أنّ السيّد الخوئي في سنّ الثلاثين من عمره الشريف درّس المؤلّف المذكور ـ كتاب أُصول الكافي ـ فيكون عمر المؤلّف حينما حضر درس أُصول الكافي عند السيّد الخوئي 140 سنة ، وهذا من المضحكات :
1ـ أنت مجتهد قبل ولادة السيّد الخوئي ، فكيف لم تطّلع على أُصول الكافي وترجع إليه ؟!
2ـ كيف تحضر بعد أربعين سنة من اجتهادك ـ كما زعمت ـ وتدرس أُصول الكافي ؟ إذاً أين كنت في الفترة الماضية ؟!
3ـ إذا كان الإنسان في سن 140 سنة يحضر درس أُصول الكافي ، فكم عمره إذا أراد أن يصير مجتهداً ؟!
إنّ من يسمع هذا الكلام يضحك ويهزأ بعقل المؤلّف ـ إن كان له عقل ـ إذ جعل من نفسه أضحوكة يتسلّى بها الأطفال لا الكبار ، فعميت عيونٌ أصمّها التعصّب ، وأزلّها الشيطان حتّى أصبحت من جنوده ، تدافع عن الباطل بالكذب والخرافات ، وتريد طمس الحقّ بمثل هذه الترهات ، ولكن { وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (42).

____________
1- القلم : 1 .
2- الحجّ : 30 .
3- الأعلام 2 / 340 .
4- العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية : 12 .
5- البقرة : 191 .
6- صحيح البخاري 2 / 110 و 4 / 6 .
7- الشورى : 23 .
8- مسالك الأفهام 1 / 24 .
9- مصباح الفقيه 1 / 564 .
10- هداية العباد 2 / 217 .
11- تنقيح العروة الوثقى 2 / 75 .
12- شرح نهج البلاغة 3 / 268 .
13- المصدر السابق 2 / 75 .
14- المصدر السابق 7 / 71 .
15- معجم البلدان 4 / 491 .
16- المصدر السابق 4 / 492 .
17- فتوح البلدان 2 / 344 .
18- معجم البلدان 4 / 493 .
19- تاريخ الأُمم والملوك 3 / 145 .
20- نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق ليوسف رزق الله : 103 .
21- شرح نهج البلاغة 12 / 283 .
22- قاموس الرجال 5 / 405 .
23- الجمل : 134 ، شرح نهج البلاغة 14 / 15 .
24- اللهوف في قتلى الطفوف : 71 .
25- اختيار معرفة الرجال 1 / 26 .
26- الموسوعة الفقهية الميسّرة 1 / 19 .
27- آل عمران : 28 ، النحل : 106 ، غافر : 28 .
28- المستدرك 2 / 357 ، الطبقات الكبرى 3 / 249 ، سير أعلام النبلاء 1 / 411 ، تاريخ مدينة دمشق 43 / 373 ، السنن الكبرى للبيهقي 8 / 209 ، شرح نهج البلاغة 10 / 102 ، جامع البيان 14 / 237 ، أحكام القرآن للجصّاص 2 / 13 ، الجامع لأحكام القرآن 10 / 180 ، تفسير القرآن العظيم 2 / 609 ، الدرّ المنثور 4 / 132 ، تفسير الثعالبي 3 / 443 .
29- نيل الأوطار 5 / 194 .
30- صحيح البخاري 1 / 38 ، الطبقات الكبرى 2 / 362 .
31- سير أعلام النبلاء 2 / 597 .
32- التفسير الكبير 3 / 194 .
33- صحيح البخاري 6 / 132 .
34- فقه السنّة 2 / 8 .
35- بداية المجتهد 2 / 15 .
36- تهذيب الأحكام 7 / 242 ، الاستبصار 3 / 136 .
37- التلخيص الحبير 10 / 194 .
38- مغني المحتاج 2 / 96 .
39- روضة الطالبين 3 / 118 .
40- الإقناع 2 / 291 .
41- مجلّة الموسم 17 / 13 .
42- الصف : 8 .