طباعة

١٦ - مناظرة سفيان الثوري وبعض المتصوفة في الزهد


دخل سفيان الثوري على أبي عبد الله (عليه السلام) فرأى عليه ثيابا بيضا كأنها غرقئ البيض[57] فقال له: إن هذا ليس من لباسك. فقال (عليه السلام) له: اسمع مني وع ما أقول لك فإنه خير لك عاجلا وآجلا إن كنت أنت مت على السنة والحق ولم تمت على بدعة، أخبرك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في زمان مقفر جشب[58] فإذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها بها أبرارها لا فجارها، ومؤمنوها لا منافقوها، ومسلموها لا كفارها. فما أنكرت يا ثوري، فوالله - إني لمع ما ترى -ما أتى علي مذ عقلت صباح ولا مساء ولله في مالي حق أمرني أن أضعه موضعا إلا وضعته.
فقال: ثم أتاه قوم ممن يظهر التزهد ويدعون الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشف، فقالوا: إن صاحبنا حصر من كلامك ولم تحضره حجة.
فقال (عليه السلام) لهم: هاتوا حججكم. فقالوا: إن حججنا من كتاب الله.
قال (عليه السلام) لهم: فأدلوا بها، فإنها أحق ما اتبع وعمل به. فقالوا: يقول الله تبارك وتعالى مخبرا عن قوم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان ،( بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون[59]) *   فمدح فعلهم، وقال في موضع آخر: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *  [60] فنحن نكتفي بهذا.
فقال رجل من الجلساء: إنا ما رأيناكم تزهدون في الأطعمة الطيبة، ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتى تتمتعوا أنتم بها.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): دعوا عنكم ما لا ينتفع به، أخبروني أيها النفر، ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه، ومحكمه من متشابهه، الذي في مثله ضل من ضل وهلك من هلك من هذه الأمة؟ فقالوا له: بعضه، فأما كله فلا.
فقال (عليه السلام) لهم: من هاهنا أوتيتم. وكذلك أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأما ما ذكرتم من إخبار الله إيانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم ليحسن فعالهم فقد كان مباحا جائزا، ولم يكونوا نهوا عنه، وثوابهم منه على الله، وذلك أن الله عز وجل وتقدس أمر بخلاف ما عملوا به فصار أمره ناسخا لفعلهم.
وكان نهى تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين ونظرا لكيلا يضروا بأنفسهم وعيالاتهم، منهم الضعفة الصغار والولدان والشيخ الفان والعجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع، فإن تصدقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعا، فمن ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الإنسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الإنسان على والديه، ثم الثانية على نفسه وعياله، ثم الثالثة على القرابة وإخوانه المؤمنين، ثم الرابعة على جيرانه الفقراء، ثم الخامسة في سبيل الله وهو أخسها أجرا ".
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للأنصاري - حيث أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق، ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار -: " لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنونه مع المسلمين، ترك صبية صغارا يتكففون الناس ".
ثم قال: حدثني أبي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " ابدأ بمن تعول، الأدنى فالأدنى ".
ثم هذا ما نطق به الكتاب ردا لقولكم ونهيا عنه مفروض من الله العزيز الحكيم قال: * (الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما[61]) *، أفلا ترون أن الله تبارك وتعالى غير ما أراكم تدعون إليه والمسرفين، وفي غير آية من كتاب الله يقول: * (إنه لا يحب المسرفين[62]) * فنهاهم عن الإسراف ونهاهم عن التقتير، لكن أمر بين أمرين، لا يعطي جميع ما عنده، ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له، للحديث الذي جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن أصنافا من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم:  رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على ثم علم الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف ينفق، وذلك أنه كانت عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) أوقية من ذهب فكره أن يبيت عنده شئ فتصدق وأصبح ليس عنده شئ. وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه، فلامه السائل، واغتم هو (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيما رقيقا، فأدب الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره إياه فقال: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) *  [63] ، يقول: إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك، فإذا أعطيت جميع ما عندك كنت قد خسرت من المال. فهذه أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصدقها الكتاب، والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين.
وقال أبو بكر عند موته حيث قيل له: أوص، فقال: أوصي بالخمس، والخمس كثير، فإن الله قد رضي بالخمس، فأوصى بالخمس، وقد جعل الله عز وجل له الثلث عند موته، ولو علم أن الثلث خير له أوصى به.
ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما، فأما سلمان (رضي الله عنه) فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته حتى يحضره عطاؤه من قابل.
فقيل له: يا أبا عبد الله، أنت في زهدك تصنع هذا، وإنك لا تدري لعلك تموت اليوم أو غدا. فكان جوابه أن قال: ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء، أو ما علمتم يا جهلة أن النفس تلتات[64] على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت.
فأما أبو ذر (رضي الله عنه) فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم أو نزل به ضيف أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة، نحر لهم الجزور أو من الشياه، على قدر ما يذهب عنهم قرم اللحم فيقسمه بينهم، ويأخذ كنصيب أحدهم لا يفضل عليهم.
ومن أزهد من هؤلاء؟ وقد قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قال، ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئا البتة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون به على أنفسهم وعيالاتهم.
وأعلموا أيها النفر أني سمعت أبي يروي عن آبائه (عليهم السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوما: " ما عجبت من شئ كعجبي من المؤمن أنه إن قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له، وإن ملك ما بين مشارق الأرض ومغاربها كان خيرا له، فكل ما يصنع الله عز وجل به فهو خير له " فليت شعري هل يحيق فيكم اليوم ما قد شرحت لكم أم أزيدكم؟
أو ما علمتم أن الله جل اسمه قد فرض على المؤمنين في أول الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين، ليس له أن يولي وجهه عنهم، ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوأ مقعده من النار، ثم حولهم من حالهم رحمة منه فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من الله عز وجل عن المؤمنين، فنسخ الرجلان العشرة.
وأخبروني أيضا عن القضاة أجور منهم حيث يفرضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال: أنا زاهد وإنه لا شئ لي؟ فإن قلتم: جور، ظلمتم أهل الإسلام وإن قلتم: بل عدل، خصمتم أنفسكم. وحيث تريدون صدقة من تصدق على المساكين عند الموت بأكثر من الثلث.
أخبروني لو كان الناس كلهم كما تريدون زهدا لا حاجة لهم في متاع غيرهم، فعلى من كان يتصدق بكفارات الأيمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة من الإبل والغنم والبقر وغير ذلك من الذهب والفضة والنخل والزبيب وسائر ما قد وجبت فيه الزكاة؟
إذا كان الأمر على ما تقولون لا ينبغي لأحد أن يحبس شيئا من عرض الدنيا إلا قدمه وإن كان به خصاصة، فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل، أوردكم إياها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ والمحكم والمتشابه والأمر والنهي.
وأخبروني أنتم عن سليمان بن داود (عليه السلام) حيث سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه الله جل اسمه ذلك، وكان (عليه السلام) يقول الحق ويعمل به ثم لم تجد الله عاب ذلك عليه ولا أحدا من المؤمنين. وداود (عليه السلام) قبله في ملكه وشدة سلطانه.
ثم يوسف النبي (عليه السلام) حيث قال لملك مصر: * (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم[65]) *  ) فكان أمره الذي كان، اختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن، فكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم، وكان (عليه السلام) يقول الحق ويعمل به فلم نجد أحدا عاب ذلك عليه.
ثم ذو القرنين عبد أحب الله فأحبه، طوى له الأسباب وملكه مشارق الأرض ومغاربها، وكان يقول بالحق ويعمل به، ثم لم نجد أحدا عاب ذلك عليه.
فتأدبوا أيها النفر بآداب الله عز وجل للمؤمنين واقتصروا على أمر الله ونهيه، ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به، وردوا العلم إلى أهله تؤجروا وتعذروا عند الله تبارك وتعالى، وكونوا في طلب علم الناسخ من القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه، وما أحل الله فيه مما حرم، فإنه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل، ودعوا الجهالة لأهلها فإن أهل الجهل كثير، وأهل العلم قليل، وقد قال الله: * (وفوق كل ذي علم عليم[66]) *
_____________________
[57]  غرقئ البيض: القشرة الرقيقة الملتصقة ببياض البيض.
[58]  القفر: خلو الأرض من الماء والكلأ.
[59]  سورة الحشر، الآية ٩
[60]  سورة الإنسان، الآية ٨
[61]  سورة الفرقان، الآية ٦٧
[62]  سورة الأنعام، الآية ١٤١ ، وسورة الأعراف، الآية ٣١
[63]  سورة الأسرى، الآية ٣١
[64]  أي تبطئ وتحتبس عن الطاعات.
[65]  سورة يوسف، الآية ٥٦
[66] . ٣٥٣ ، والآية من سورة يوسف: ٧٦ -  تحف العقول: ٣٤٨