• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

١٧ - مناظرة الطبيب الهندي في أسرار خلق الإنسان


علل الشرائع، والخصال: روى ابن بابويه، عن الربيع صاحب المنصور، قال: حضر أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) مجلس المنصور يوما وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطب، فجعل أبو عبد الله الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) ينصت لقراءته، فلما فرغ الهندي قال له: يا أبا عبد الله أتريد مما معي شيئا؟ قال: لا، فإن ما معي خير مما معك.
قال: وما هو؟ قال: أداوي الحار بالبارد، والبارد بالحار، والرطب باليابس، واليابس بالرطب، وأرد الأمر كله إلى الله عز وجل، وأستعمل ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" واعلم أن المعدة بيت الداء، والحمية هي الدواء " وأعود البدن ما اعتاد. فقال الهندي: وهل الطب إلا هذا؟ فقال الصادق (عليه السلام): أفتراني عن كتب الطب أخذت؟ قال: نعم.
قال: لا والله ما أخذت إلا عن الله سبحانه، فأخبرني أنا أعلم بالطب أم أنت؟ فقال الهندي: لا بل أنا.
قال الصادق (عليه السلام): فأسألك شيئا. قال: سل. قال: أخبرني يا هندي كم كان في الرأس شؤون؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جعل الشعر عليه من فوقه؟ قال: لا أعلم. قال: فلم خلت الجبهة من الشعر؟ قال: لا أعلم.
قال: فلم كان لها تخطيط وأسارير؟ قال: لا أعلم.
قال: فلم كان الحاجبان من فوق العينين؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جعلت العينان كاللوزتين؟ قال:
لا أعلم. قال: فلم جعل الأنف فيما بينهما؟ قال: لا أعلم.
قال: فلم كان ثقب الأنف في أسفله؟ قال: لا أعلم.
قال: فلم جعلت الشفة والشارب من فوق الفم؟
قال: لا أعلم. قال: فلم احتد السن، وعرض الضرس، وطال الناب؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جعلت اللحية للرجال؟ قال: لا أعلم. قال: فلم خلت الكفان من الشعر؟ قال: لا أعلم. قال: فلم خلا الظفر والشعر من الحياة؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كان القلب كحب الصنوبر؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كانت الرية قطعتين، وجعل حركتها في موضعها؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كانت الكبد حدباء؟ قال: لا أعلم.
قال: فلم كانت الكلية كحب اللوبيا؟ قال: لا أعلم.
قال: فلم جعل طي الركبتين إلى خلف؟ قال: لا أعلم.
قال: فلم تخصرت القدم؟ قال: لا أعلم.
فقال الصادق (عليه السلام): لكني أعلم. قال: فأجب. قال الصادق (عليه السلام): كان في الرأس شؤون لأن المجوف إذا كان بلا فصل أسرع إليه الصداع، فإذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد. وجعل الشعر من فوقه لتوصل بوصوله الأدهان إلى الدماغ، ويخرج بأطرافه البخار منه، ويرد الحر والبرد الواردين عليه. وخلت الجبهة من الشعر لأنها مصب النور إلى العينين، وجعل فيها التخطيط والأسارير ليحتبس العرق الوارد من الرأس عن العين قدر ما يميطه[67]  الإنسان عن نفسه، كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه. وجعل الحاجبان من فوق العينين ليراد عليهما[68] من النور قدر الكفاف، ألا ترى يا هندي أن من غلبه النور جعل يده على عينيه ليرد عليهما قدر كفايتهما منه.
وجعل الأنف فيما بينهما ليقسم النور قسمين إلى كل عين سواء. وكانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء، ويخرج منها الداء، ولو كانت مربعة أو مدورة ما جرى فيها الميل، وما وصل إليها دواء، ولا خرج منها داء. وجعل ثقب الأنف في أسفله لتنزل منه الأدواء المنحدرة من الدماغ، ويصعد فيه الأراييح[69] إلى المشام، ولو كان في أعلاه لما أنزل داء، ولا وجد رائحة. وجعل الشارب والشفة فوق الفم لحبس ما ينزل من الدماغ عن الفم لئلا يتنغص[70] على الإنسان طعامه وشرابه فيميطه عن نفسه. وجعلت اللحية للرجال ليستغني بها عن الكشف في المنظر ويعلم بها الذكر من الأنثى. وجعل السن حادا لأن به يقع العض، وجعل الضرس عريضا لأن به يقع الطحن والمضغ، وكان الناب طويلا ليسند[71] ( ٣) الأضراس والأسنان كالأسطوانة في البناء.
وخلا الكفان من الشعر لأن بهما يقع اللمس، فلو كان فيهما شعر ما درى الإنسان ما يقابله ويلمسه  [72].
وخلا الشعر والظفر من الحياة لأن طولهما سمج  [73] وقصهما حسن، فلو كان فيهما حياة لألم الإنسان لقصهما  [74]. وكان القلب كحب الصنوبر لأنه منكس فجعل رأسه دقيقا ليدخل في الرية فتروح عنه ببردها، لئلا يشيط الدماغ بحره.
وجعلت الرية قطعتين ليدخل بين مضاغطها فيتروح عنه بحركتها. وكانت الكبد حدباء لتثقل المعدة ويقع جميعها عليها فيعصرها ليخرج ما فيها من البخار.
وجعلت الكلية كحب اللوبيا لأن عليها مصب المني نقطة بعد نقطة، فلو كانت مربعة أو مدورة احتبست النقطة الأولى إلى الثانية[75] فلا يلتذ بخروجها الحي، إذ المني ينزل من فقار الظهر إلى الكلية، فهي كالدودة تنقبض وتنبسط، ترميه أولا فأولا إلى المثانة كالبندقة من القوس.
وجعل طي الركبة إلى خلف لأن الإنسان يمشي إلى ما بين يديه فيعتدل الحركات[76] ، ولولا ذلك لسقط في المشي.
وجعل القدم مخصرة لأن الشئ إذا وقع على الأرض جميعه ثقل ثقل حجر الرحى، فإذا كان على حرفه دفعه الصبي[77] وإذا وقع على وجهه صعب نقله على الرجل.
فقال له الهندي: من أين لك هذا العلم؟ فقال (عليه السلام): أخذته عن آبائي (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل، عن رب العالمين جل جلاله الذي خلق الأجساد والأرواح. فقال الهندي: صدقت وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وعبده، وأنك أعلم أهل  زمانك.[78] تصدي الإمام (عليه السلام) لحركة الزندقة من التغييرات الفكرية الطارئة في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) حركة الزندقة ونشاطاتها الفكرية، وبروز الأفكار الخطرة التي تسربت إلى منطلقات الفكر الإسلامي، وأخطر من ذلك تسريبها من قبل الشخصيات التي تحملت مسؤولية البث لهذه الأفكار الفاسدة وإعطاء قوة الثبت والدفع.
ونحن لا نريد أن نتطرق إلى حركة الزندقة ودوافعها السياسية والتأريخية، ولكننا سنحاول عرض شئ موجز من ذلك مما يرتبط بالبحث.
ولم تكن الزندقة بمفهومها الإلحادي بموضوع طارئ وغريب عن واقع الرسالة الإسلامية منذ بدء انطلاقها، ففي الكتاب المجيد آيات كثيرة تطرقت إلى معالجة الإلحاد ووجود الله سبحانه، ووجوب توحيده مما يشعر بأن قضية الإلحاد كانت من أهم المشاكل التي تعرضت الرسالة لمعالجتها وحسمها بما يتناسب وفطرة الإنسان السليمة وبساطة تفكيره، بعيدا عن عقد الشبهات الفلسفية والالتباسات الفكرية، كما ردهم القرآن الكريم بقوله:
* (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون[79]) *
غير أن فكرة الزندقة والإلحاد في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) اتخذت شكلا علميا معمقا، وجعلت من عقيدة التوحيد السهلة اليسيرة مشكلة فكرية معقدة ذات طابع فلسفي غامض.
ولعل من أهم أسباب طروء هذا التغير الفكري هو انتشار البحوث الكلامية المعمقة، والتوسع في جهاتها المنهجية التحليلية بعيدة عن البساطة الفطرية، والصفاء الذهني والوجداني للإنسان.
والسبب المهم الآخر هو الانفتاح العلمي المفاجئ على المدارس الفلسفية اليونانية، والفلسفات الأخرى التي طورت الذهنية العلمية وأعطت للحوار العقائدي بين العلماء والمفكرين مجالا واسعا وعميقا بما تحمله من نظريات غامضة وشبهات وتشكيلات قد تبتعد بالإنسان عن معطيات الفطرة السليمة.
وقد ظهرت الانقسامات الفكرية في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) وتنوعت المذاهب والمدارس الفكرية الإسلامية واختلفت في اتجاهاتها وتباينت عمليات التركيز العام للأسس العقائدية والتشريعية فيما بينها، وانطلقت حركة الجدل الحاد بين مختلف الفرق الكلامية، ما بين المعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج وغيرها من الفرق التي خلفتها عوامل الانحراف الرهيب من سياسية وفكرية وغيرها من مسببات الانقسام والتمزق التي سببها غياب القيادة الإسلامية الملتزمة والمسؤولة، وضعف القيادات القائمة رساليا وفكريا، فضلا عن أن بعض القيادات الحاكمة كانت تشجعها.
وفي خضم هذا المعترك المحموم، كان لا بد من أن يكون للإمام دوره القيادي المسؤول، خصوصا وإنه يمثل القاعدة الفكرية البارزة في المجتمع الإسلامي، والممثل الأصيل للرسالة في شتى منطلقاتها، فقد واجه الإمام مختلف الصراعات القائمة في عصره، ووقف منها موقف الرسالي الهادف، في مناظرات علمية رائعة، دافع فيها بما يملك من قوى إقناع هائلة ومنطق رسالي ثابت، جعلت من الخصوم الجبابرة أقزاما تتضاءل بين يديه وتذوب كما تذوب دمى الشمع عندما تلامسها حرارة النار، وأنى لدمي الباطل أن تصمد أمام إشراقة الحق، وكيف لها أن لا تذوي أمام حرارة الإيمان.
كما أن كثيرا من مناظرات الإمام (عليه السلام) قد أغفلها التأريخ مثل ما أغفل أخباره، وليس من المعقول أن تقتصر مناظراته على هذا القدر المحدود الذي نقلته لنا كتب الكلام والسيرة، مع ملاحظة ما كان يتمتع به الإمام (عليه السلام) من مركز علمي قيادي، والذي كانت حلقته الدراسية تمثل نقطة تحول وانطلاق ولقاء بين جميع عناصر المذاهب الفقهية والكلامية على اختلاف نزعاتها ومنطلقاتها المتنوعة، فمنها ما يتعلق بالتوحيد والجهات التي ترجع إلى بدء الخلق ومتفرعاتها، ومنها ما يتعلق بالإمامة والخلافة، ومنها ما يتعلق بالصراع الدائر بين مختلف المذاهب الإسلامية وغيرها من الملل والنحل، ومنها ما يتعلق بقضايا التشريع والفقه مما يمس نقاط الاختلاف القائم بين مختلف المدارس الفقهية في ذلك العصر، وغيرها من قضايا الساعة والشؤون التي تتعلق بالجوانب المتنوعة لجهات الفكر والمعرفة.
أما مناظراته (عليه السلام) في مجال التوحيد، فقد نقلت كتب السيرة والكلام بعض نماذج الحوار مع الزنادقة في عصر الإمام (عليه السلام) وعرض بعض مناظراته في التوحيد مع بعض زنادقة زمانه الذين وجدوا في الإمام عنصر الكفاءة العلمية في أعمق معطياتها، فكان الإمام الإنسان الوحيد في عصره الذي انفتحوا عليه بجدية، بما يحملون من أفكار التشكيك والتلبيس، فمنهم من استسلم عن قناعة وإيمان، حينما كانت الحقيقة رائدهم في البحث والمناظرة، ومنهم من أصر على عناده على رغم اعترافه بالانهزام أمام منطق الإمام وحجته الدامغة.
وقد التزم الإمام (عليه السلام) في مناظراته مع خصومه بالمنطق السليم وأسلوبه السلس ونهجه المتميز في المناظرات، فهو يبسط الفكرة بسهولة فائقة، ويعرضها ببساطة متناهية يقترب بها حتى من الأذهان الساذجة، رغم العمق الذي يتسم به مضمونها، مما يكشف عن المقدرة البيانية الرائعة التي يمتلكها الإمام في التعبير والعرض، وهذا الأسلوب هو الأسلوب الرسالي الذي تميز به القرآن الكريم في عرضه لدلائل التوحيد، والاحتجاج على المشركين في قضايا العقيدة والإيمان.
كما أن الإمام الصادق (عليه السلام) اعتمد الحوار الهادئ الموضوعي في تقريب الفكرة من الخصم والعمق في مضمونها مع مراعاة بعض التأثيرات النفسية في بعض الحالات التي تبعد الخصم عفويا عن أجواء الشك والعناد والريبة الطارئة، وتضعه في الجو الفطري البرئ المجرد من كل ما هو غريب عن إنسانيته وفطرته.
لقد وجد الزنادقة في الإمام الصادق (عليه السلام) أخطر خصم يواجهونه في حربهم مع الإسلام، فكانوا يحاولون إثارته بجدلهم المتعنت وتحدياتهم المثيرة، لكنه (عليه السلام) كان يواجه كل تلكم التحديات بهدوء وبروح العالم المطمئن لموقفه، والواثق بحجته، ووضوح الرؤيا في مسلكه، وبروح المسؤولية الرسالية التي اعتمدت الكلمة الهادئة الهادفة والبيان، المؤمن في قضيته، الوديع في نقاشه، دون أن يفسح المجال للإثارة أن تمتلك عليه مواقفه، لتحقق للخصم الانتصار نفسيا عليه ليكون منفذا للتحدي، ودعما لمواقف الخصم المعادي للإيمان.
وقد أمسك الإمام بهذا الأسلوب الرسالي زمام المبادرة، وأوقف الخصم عند حده، وألزم الزنادقة الرهبة والتقدير والاحترام في نفوسهم.
ويستوقفنا مشهد الحوار الطريف الذي جرى بين قطبين من أقطاب الزندقة، هما ابن المقفع وزميله ابن أبي العوجاء، والذي يدلل بصراحة على مدى الشعور بالخطر لدى هؤلاء وأمثالهم من منازلة الإمام الصادق في أي مجال من مجالات الجدل والحوار.
فقد اجتمع بعض الزنادقة في حلقة في المسجد الحرام وفيهم ابن المقفع وابن أبي العوجاء، فقال ابن المقفع: ترون هذا الخلق - وأومأ بيده إلى موضع الطواف -، ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس - يعني الإمام الصادق - وأما الباقون  فرعاع وبهائم[80] .
ويتساءل عبد الكريم بن أبي العوجاء، وهو كذلك من أقطاب الإلحاد والزندقة: كيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ قال ابن المقفع: لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم!!
ولم يكن يطيب لابن المقفع أن يقر للإمام (عليه السلام) بمثل هذا الواقع، لولا انهزامه نفسيا وفكريا أمام منطق الإمام الصائب وشخصيته الفذة، على رغم اعتداده بنفسه وما عرف به من عتو وغرور، والتي تدلل عليه كلمته هذه في التعريف بالإمام (عليه السلام) وبالناس.
ومن المؤسف أن التأريخ لم يسجل لنا أيا من المناظرات العلمية التي جرت بين الإمام وابن المقفع، والذي يكشف عنها حواره هنا مع ابن أبي العوجاء.
وفيما يلي بقية الحوار.
فقال ابن أبي العوجاء: لا بد من اختبار ما قلت فيه منه.
فقال له ابن المقفع: لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك.
فقال: ليس ذا رأيك، ولكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إياه المحل الذي وصفت.
فقال ابن المقفع: أما إذا توهمت على هذا فقم إليه وتحفظ ما استطعت من الزلل، ولا تثني عنانك إلى استرسال فيسلمك إلى عقال، وسمه ما لك وما عليك.
ويذهب ابن أبي العوجاء ليلتقي بالإمام ثم لا يلبث أن رجع مخاطبا ابن المقفع قائلا: ويلك يا ابن المقفع ما هذا بشر، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهرا، ويتروح إذا شاء باطنا فهو هذا.
فقال له ابن المقفع: وكيف ذلك؟
قال ابن أبي العوجاء: جلست إليه فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني، فقال:
إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء - مشيرا لمن في المطاف - وهو كما يقولون - يعني أهل الطواف -، فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم.
فقلت له: يرحمك الله، وأي شئ نقول، وأي شئ يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحد.
فقال الإمام: وكيف يكون قولك وقولهم واحدا، وهم يقولون إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن في السماء إلها وإنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد.
قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف عليه منهم اثنان؟ ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟
فقال الإمام: ويلك يا عبد الكريم، كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك، نشوؤك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد أناتك، وأناتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وغروب ما أنت معتقده في ذهنك، وما زال يعدد علي قدرته التي هي في نفسي حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه[81] .
وينهزم ابن أبي العوجاء أمام هذا المنطق الفطري الرائع، ويؤخذ لا شعوريا ببساطة الحجة التي أغلقت على نفسه منافذ الشك والاعتراض، فتعقد الحيرة لسانه، ويختلط عليه موقف الحوار، وتصور أن الذي يحاوره إنسان ولكن ليس من جنس البشر.
وقد حاول الإمام في حواره أن يحتكم إلى رؤيا واقع مصيري، تنعكس على مصير الإنسان، فسلوك سبيل الإيمان على أي وجه افترضناه، يبقى الوجه الأسلم الذي يضمن به الإنسان سلامة مصيره، وهو أمر من مسلمات الفطرة السليمة وبديهيات العقل.
ولم يكن بيان الإمام بصدد إثبات شئ أو نفيه، وإنما هو تصوير لرؤيا المصير الذي سينتهي إليه الإنسان المؤمن والكافر، عند انتهاء وجوده في هذه الحياة، وفي نفس الوقت تهيئة الأرضية الصالحة للحوار الجدي الذي يعتمد القناعة كهدف فيما يلقي من حجة، وما يعرض من حلول، بعيدا عن العناد والمكابرة واللجاج، الذي يفتقد الحوار معه دوره في البناء والتقييم.
وحاول ابن أبي العوجاء أن يستثير مشاعر الإمام مرة ثانية بتحدياته، فتساءل: لماذا لم يظهر الله لخلقه وينهي مشكلة الخلاف بين الكفر والإيمان؟ فكانت إجابة الإمام في بساطتها، كما سبق، بمثابة عملية تطهير لنفسه.
ولم يكن ابن أبي العوجاء مناظرا موضوعيا في بحثه عن الحقيقة وتطلعه نحو المعرفة، بل كان يتعمد في حواره الجدل العقيم لتغطية انهزامه وفشله.
عاد ابن أبي العوجاء في اليوم الثاني إلى الإمام ليستأنف الحوار، وقد ذهل ولم يعرف من أين يبدأ الحديث.
وأدرك الإمام ما كان يتخبط به من موقف حائر، فيبادره قائلا: كأنك جئت تعيد بعض ما كنا فيه؟
فقال: نعم، أردت ذلك يا ابن رسول الله.
فقال له الإمام مستغربا: ما أعجب هذا! تنكر الله وتشهد أني ابن رسول الله؟!
فقال: العادة تحملني على ذلك.
فقال له الإمام: ما يمنعك من الكلام؟
قال: إجلالا لك ومهابة، ما ينطلق لساني بين يديك، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين،
فما تداخلني هيبة قط مثل ما تداخلني من هيبتك.
قال الإمام: يكون ذلك، ولكن أفتح عليك بسؤال.
وأقبل عليه فقال له: أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟
فقال ابن أبي العوجاء: بل أنا غير مصنوع.
فقال له الإمام: فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ فبقي ابن أبي العوجاء مليا لا يحير جوابا، وولع بخشبة كانت في يديه وهو يقول: طويل، عريض، عميق، قصير، متحرك، ساكن، كل ذلك صفة خلقه.
فقال له الإمام: فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة غيرها، فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك يحدث من هذه الأمور.
فقال له: سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها.
فقال له الإمام: يا عبد الكريم[82] ، هبك علمت أنك لم تسأل فيما مضى، فما علمك أنك لا تسأل عنها فيما بعد، على إنك يا عبد الكريم نقضت قولك، لأنك تزعم أن الأشياء من الأول سواء فكيف قدمت وأخرت.
ثم أردف الإمام وقال: يا عبد الكريم، أزيدك وضوحا، أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر فقال لك قائل: هل في الكيس دينار؟ فنفيت كون الدينار في الكيس، فقال لك: صف لي الدينار، وكنت غير عالم بصفته، هل كان لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم؟
قال: لا.
قال الإمام: فالعالم أكبر وأطول وأعرض من الكيس، فلعل في العالم صنعة من حيث لا تعلم صفة
الصنعة من غير الصنعة؟
فانقطع ابن أبي العوجاء وأجاب إلى الإسلام بعض أصحابه وبقي معه بعض المعاندين[83] غير أن ابن أبي العوجاء لا يريد أن ينهزم أمام منطق الحق والإيمان ولو ظاهرا، رغم قناعته بالهزيمة على أرض الواقع، ووقوفه في الحوار أمام باب مغلق لا يبدو أنه ينفتح عليه بشئ، فيعاود الحوار في اليوم الثالث، ولكنه في هذه المرة يبدو متماسكا في حديثه، فيفرض مبدأ الحوار ويقف موقف المتسائل الذي يملك الحجة لنفسه بعد أن وجد من الإمام انبساطا وانفتاحا وسهولة في الحوار والمناظرة.
قال ابن أبي العوجاء: أقلب السؤال.
فقال الإمام: سل ما شئت.
فقال الزنديق: ما الدليل على حدوث الأجسام؟
فقال الإمام: إني ما وجدت شيئا صغيرا ولا كبيرا إلا وإذا ضم إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى، ولو كان قديما ما زال ولا حال، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدم دخوله في الحدث، وفي كونه في الأزل دخوله في العدم، ولن تجتمع صفة الأزل والعدم والحدوث والقدم في شئ واحد.
ولكن ابن أبي العوجاء لا يريد التخلي عن جدليته، لأن الفشل والانهزام منوط بالتخلي عن ذلك.
والواقع أن انتقال ابن أبي العوجاء في حديثه من الواقع إلى الافتراض، هو تسليم منه بثبوت الحدوث للأجسام مما هو ثابت وواقع، واعترافه بالعجز عن إثبات خلافه، وقد شعر بالهزيمة تهز كيانه وموقفه، وبالخلط والحيرة يلفان تصوراته، ويمزقان نفسه كلما اتسع الحوار بينه وبين الإمام، فانقطع عن مواجهة الإمام حتى التقى به في الحرم الشريف فقيل للإمام إنه أسلم، فقال: هو أعمى من ذلك ولا يسلم، لما عرف من عناده للحق وإصراره على الكفر والضلال، ورغم هذا فقد بادره الإمام متسائلا بغرابة: ما جاء بك إلى هذا الموضع؟ فقال: عادة الجسد وسنة البلد، ولننظر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة.
فقال له الإمام: أنت بعد على عتوك وضلالك؟ فذهب يتكلم فقال له الإمام: لا جدال في الحج، ونفض ردائه، وقال: إن يكن الأمر كما تقول، وليس كما تقول، فقد نجونا ونجوت، وإن كان الأمر كما نقول، وهو كما نقول، فقد نجونا وهلكت.
وكأن الإمام أراد بذلك أن ينهي حواره معه، بعد أن دلل هذا على لجاجته في العناد وإغراقه في المكابرة، وانتهاء الإمام في حواره بما ابتدأ به سابقا.
وقبل ذلك حاول ابن أبي العوجاء إثارة هدوء الإمام بتحدياته، ولم يكن على ما يبدو قد التقى به قبل ذلك.
فقد حدث عيسى بن يونس[84] قائلا: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة.
قال: إن صاحبي كان مخلطا، يقول طورا بالقدر، وطورا بالجبر، فما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه.
فقدم مكة متمردا وإنكارا على من يحجه، وكانت العلماء تكره مجالسته لخبث لسانه وفساد ضميره، فأتى أبا عبد الله فجلس إليه في جماعة من نظرائه، فقال: يا أبا عبد الله، إن المجالس بالأمانات ولا بد لكل من به سعال أن يسعل، أفتأذن لي بالكلام؟
فقال: تكلم.
فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله كهرولة البعير إذا نفر، إن من فكر في هذا وقدر علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه، وأبوك أسه ونظامه.
فقال الإمام: إن من أضله الله وأعمى قلبه واستوخم العواقب ولم يستعذبه، وصار الشيطان وليه،
يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله به عباده، ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محل أنبيائه، وقبلة للمصلين له، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، مجمع العظمة والجلال، خلقه الله
قبل دحو الأرض بألفي عام، فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما نهي عنه وزجر، الله المنشئ للأرواح والصور.
فقال ابن أبي العوجاء: ذكرت الله فأحلت على الغائب.
فقال الإمام: كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد، وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم، ويرى أشخاصهم، ويعلم أسرارهم؟
فقال الزنديق: فهو في كل مكان، أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض؟ وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟
فقال الإمام: إنما وصفت المخلوق، الذي إذا انتقل من مكان اشتغل به مكان وخلا منه مكان، فلا يدري في مكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه، فأما الله العظيم الشأن الملك الديان، فلا يخلو منه مكان ولا يشغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب إلى مكان[85] فسكت الزنديق ولم يحر جوابا وخرج مرغما مهزوما.
ومن ابن أبي العوجاء وابن المقفع ننتقل بالحديث إلى زنديق آخر، هو أبو شاكر عبد الله الديصاني، الذي افتتح الحوار مع الإمام الصادق (عليه السلام) من خلال هشام بن الحكم، فقد التقى به وسأله: ألك رب؟
فقال هشام: بلى.
قال الديصاني: أقادر هو؟
قال هشام: نعم، قادر قاهر.
قال الديصاني: يقدر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة، لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟
قال هشام: النظرة.
قال الديصاني: قد أنظرتك حولا.
وكان هذا السؤال من الديصاني مفاجأة لهشام، وهو المتكلم الجدلي البارع، إذ لم يكن قد عرض له مثل هذا السؤال فيما سبق، فيتجه إلى الإمام مستفهما، فيجيبه الإمام بمنطق الجدل الذي ينسجم مع طبيعة السؤال لا بمنطق الحجة القاطعة.
قال الإمام: يا هشام، كم حواسك؟
قال هشام: خمسة.
قال الإمام: أيهما أصغر؟
قال هشام: الناظر.
قال الإمام: وكم قدر الناظر؟
قال هشام: مثل العدسة أو أقل منها.
قال الإمام: يا هشام انظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى.
قال هشام: أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا.
قال الإمام: إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه في العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة.
فأكب هشام عليه يقبل يديه ورأسه وقال: حسبي يا ابن رسول الله، وانصرف إلى منزله.
وكأن الإمام أراد أن يقطع الحجة على الديصاني بالنقض جدلا بشئ يدرسه بالحس البديهي، بعد أن لم يكن الديصاني جديا في البحث عن الحل الواقعي.
ويدخل الديصاني بعدها على الإمام ويستأذنه في المناظرة فيأذن له، فقال له: يا جعفر بن محمد، دلني على معبودي، فتناول الإمام بيضة كانت في يد غلام له في المجلس يلعب بها وقال: يا ديصاني، هذا حصن له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة، وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط مع الفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط مع الذهبة المائعة، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها، ولا دخل لها داخل مفسد فيخبر عن فسادها، لا يدري للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبرا؟
فأطرق الديصاني مليا وأسلم كما قيل[86] .وفي احتجاج الطبرسي: فأطرق مليا ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه، وأنا تائب مما كنت فيه.
لقد كانت وقفة متأملة رائعة من الإمام، أمام الإعجاز المحير في خلق البيضة وتكوينها، فوجئ بها الديصاني، وفوجئت بها نوازع الشك في نفسه، وكيف له أن ينكر أن لها مدبرا، وهي بهذه الدقة من التكوين والإبداع، إلا أن يتناسى في نفسه موازين إنسانيته التي تعتمد الوجدان قاعدة لها في التسليم والفهم.
مناظراته (عليه السلام) مع الديصاني روى المفيد: أن أبا شاكر الديصاني وقف ذات يوم في مجلس أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: إنك لأحد النجوم الزواهر، وكان آباؤك بدورا بواهر، وأمهاتك عقيلات عباهر، وعنصرك من أكرم العناصر، وإذا ذكر العلماء فعليك تثنى الخناصر، خبرنا أيها الحبر الزاهر، ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): من أقرب الدليل على ذلك ما أظهره لك، ثم دعا ببيضة فوضعها في راحته وقال: هذا حصن ملموم داخله غرقئ رقيق يطيف به كالفضة السائلة والذهبة المائعة، أتشك في ذلك؟ قال أبو شاكر: لا شك فيه، قال أبو عبد الله (عليه السلام): ثم إنه ينفلق عن صورة كالطاووس، أدخله شئ غير ما عرفت؟ قال: لا. قال (عليه السلام): فهذا دليل على حدوث العالم. فقال أبو شاكر الديصاني: دللت يا أبا عبد الله فأوضحت، وقلت فأحسنت، وذكرت فأوجزت، وقد علمت أنا لا نقبل إلا ما أدركناه بأبصارنا، أو سمعناه بآذاننا، أو ذقناه بأفواهنا، أو شممناه بأنوفنا، أو لمسناه ببشرتنا، فقال (عليه السلام): ذكرت الحواس الخمس وهي لا تنفع في الاستنباط إلا بدليل كما لا تقطع الظلمة بغير مصباح، يريد بذلك (عليه السلام) أن الحواس الخمس بغير عقل لا توصل إلى معرفة الغائبات وأن الذي أراه من حدوث الصور معقول، بني العلم به على محسوس.
ومن مناظراته في التوحيد مع الزنادقة، ما ورد في حوار طويل مع أحد الزنادقة يشتمل على متنوعات كثيرة من الأسئلة التعجيزية، فقد سأله زنديق: كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟
قال الإمام: رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب، وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء ما رأت من عظمته دون رؤيته.
قال الزنديق: أليس هو القادر أن يظهر حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين؟
قال الإمام: ليس للمحال جواب.
يقول العلامة المظفر في كتابه الإمام الصادق (عليه السلام)،:  إنما الرؤية تثبت للأجسام، وإذا لم يكن تعالى جسما استحالت رؤيته، والمحال غير مقدور، لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور.
وسأله الزنديق: من أي شئ خلق الأشياء؟
قال الإمام: لا من شئ.
قال الزنديق: كيف يجئ من لا شئ شئ؟
قال الإمام: إن الأشياء لا تخلو إما أن تكون خلقت من شئ أو من غير شئ، فإن كانت خلقت من شئ كان معه، فإن ذلك الشئ قديم، والقدم يكون حديثا، ولا يتغير... إلى آخر المناظرة المذكورة في الكافي.
والذي أراد الإمام إثباته من خلال عملية الحصر في هذه الموجودات التي نشاهدها لا بد وأن تكون مسبوقة بالعدم.
وبعد أن جرى الحوار في منوعات من القضايا والمواضيع إلى أن قال الزنديق: فأخبرني عن الله، أله شريك في ملكه، أو مضاد في تدبيره؟
قال الإمام: لا.
قال الزنديق: فما هذا الفساد في العالم؟ من سباع ضارية وهوام مخوفة وخلق كثير مشوهة ودود وبعوض وحيات، وزعمت أنه لا يخلق شيئا إلا لعلة لأنه لا يعبث؟
قال الإمام: ألست تزعم أن العقارب تنفع من وجع المثانة والحصاة ومن يبول على الفراش، وأن أفضل الترياق ما عولج من لحوم الأفاعي، فإن لحومها إذا أكلها المجذوم بشب نفعه، وتزعم أن الدود الأحمر الذي يصاب تحت الأرض نافع للآكلة؟
قال الزنديق: نعم.
قال الإمام: فأما البعوض والبق فبعض سببه أنه جعله بعض أرزاق الطير، وأهان به جبارا تمرد على الله وتجبر وأنكر ربوبيته، فسلط الله عليه أضعف خلقه، ليريه قدرته وعظمته وهي البعوض، فدخل في منخره حتى وصلت إلى دماغه فقتلته، واعلم أنا لو وقفنا على كل شئ خلقه الله تعالى لم خلقه؟ ولأي شئ أنشأه؟ لكنا قد ساويناه في علمه، وعلمنا كل ما يعلم، واستغنينا عنه وكنا وهو في العلم سواء.
ومن جملة ما طرحه الزنديق من الأسئلة، قال: أخبرني أيها الحكيم، ما بال السماء لا ينزل منها إلى الأرض أحد ولا يصعد إليها من الأرض بشر، ولا طريق إليها ولا مسلك، فلو نظر العباد في كل دهر مرة من يصعد إليها وينزل لكان ذلك أثبت للربوبية، وأنفى للشك وأقوى لليقين، وأجدر أن يعلم العباد أن هناك مدبرا، إليه يصعد الصاعد ومن عنده يهبط الهابط.
قال الإمام: إن كل ما ترى في الأرض من التدبير إنما هو ينزل من السماء ومنها يظهر، أما ترى الشمس منها تطلع وهي نور النهار وفيها قوام الدنيا ولو حبست حار من عليها وهلك، والقمر منها يطلع وهو نور الليل، وبه يعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، ولو حبس لحار من عليها وفسد التدبير، وفي النجوم التي تهتدي بها في ظلمات البر والبحر، ومن السماء ينزل الغيث الذي فيه حياة كل شئ من الزرع والنبات والأنعام وكل الخلق، لو حبس عنهم لما عاشوا، والريح لو حبست إياه لفسدت الأشياء جميعا وتغيرت، ثم الغيم والرعد والبرق والصواعق كل ذلك إنما هو دليل على أن هناك مدبرا يدبر كل شئ ومن عنده ينزل، وقد كلم الله موسى وناجاه، ورفع عيسى بن مريم، والملائكة تنزل من عنده، غير أنك لا تؤمن بما لم تره بعينك، وفيما تراه بعينك كفاية.
والذي نلاحظه هنا، أن طرح الأسئلة من المناظر كان بدافع التعجيز والجدل غير المنطقي، وهو نظير أسئلة بني إسرائيل لموسى (عليه السلام).
ويدخل ابن أبي العوجاء مرة على الإمام (عليه السلام)، وفي كلماته سخرية ومكر، فيسأله: أليس تزعم أن الله خالق كل شئ؟
فقال الإمام: بلى.
قال ابن أبي العوجاء: أنا أخلق.
فقال الإمام: كيف تخلق؟
قال: أحدث في الموضع ثم ألبث عنه فيصير دوابا فكنت أنا الذي خلقتها.
وكان ابن أبي العوجاء أراد أن يثير الإمام بأسلوبه النابي البعيد عن لياقة التهذيب وآداب السؤال ليثير مشاعر الإمام، ويستفزه من موقعه الجدي، ولكن الإمام كان في إجابته متماسكا في جديته، بعيدا عن موجبات الانفعال والتأثير، شأنه شأن أصحاب الرسالات الذين لا يتطلعون إلا إلى الهدف، غير عابئين باللسعات الطائشة التي تعترضهم من أشواك الطريق، وقد فاجأ الإمام مناظره بسؤاله: أليس خالق كل شئ يعرف لم خلقه؟
قال ابن أبي العوجاء: بلى.
قال الإمام: فتعرف الذكر من الأنثى وتعرف عمرها؟ فسكت الذي كفر. وقد ذوي فيه زهو سخريته
ومكره، بعد أن عرف ضياع نفسه في متاهات الجهل والعناد.
ولابن أبي العوجاء مع الإمام مناظرات في التوحيد عديدة ذكرنا بعضها بصورة موجزة روما للاختصار.
وجرى نظير ذلك للإمام (عليه السلام) مع الجعدي بن درهم، فقد قيل: إنه وضع في قارورة ماء وترابا فاستحال دودا وهواما، فقال لأصحابه: أنا خلقت ذلك لأني سبب كونه. فبلغ قوله للإمام فقال: ليقل كم هي؟ وكم الذكران منه والإناث إن كان خلقه؟ وكم وزن كل واحدة منهن؟
وليأمر الذي سعى إلى هذا الوجه أن يرجع إلى غيره.
فبهت الذي كفر، فانقطع وهرب[87] .
_____________________
[67]  أي ينحاه ويبعده عن نفسه. )
[68]  في نسخة: ليرد عليهما. وفي أخرى: ليوردا. )
[69]  في نسخة: ويصعد فيه الروائح. وفي أخرى وكذا العلل: ) الأرياح.
[70]  أي لئلا يتكدر على الإنسان طعامه وشرابه. وفي نسخة: ) لكيلا يتنغص
[71] في نسخة: ليشد الأضراس. وفي العلل: ليشتد الأضراس. ) وفي الخصال: ليشيد الأضراس.
[72]  في نسخة: ما درى الإنسان ما يعالجه ويلمسه. )
[73]  في نسخة: لأن طولهما وسخ. وفي العلل: لأن طولهما وسخ ) يقبح.
[74]  في نسخة: لألم الإنسان بقصهما. )
[75]  في نسخة وفي الخصال: احتبست النطفة الأولى إلى الثانية. )
[76]  في نسخة: فيعتدل الحركتان. )
[77]  في نسخة وفي الخصال: رفعه الصبي. )
[78] .٩٧ : ٣) علل الشرائع: ٤٤ . الخصال ٢ )
[79]  البقرة: ٢٨ )
[80] .٧٤ : ١) الكافي ١ )
[81] .٧٥ - ٧٤ : ١) الكافي ١ )
[82]  وهو الاسم الأول لابن أبي العوجاء. )
[83] .٧٨ - ٧٦ : ١) الكافي ١ )
[84] عيسى بن يونس، ذكره الشيخ في رجاله: ٢٥٨ في أصحاب ) الصادق (عليه السلام) وفي أصحاب الكاظم (عليه السلام): ٣٥٥ فقال: عيسى بن يونس بزرج له كتاب.
[85] .١٢٦ - ١٢٥ : ١) الكافي ١ )
[86] .٨٠ : ١) الكافي ١ )
[87] .١٠٥ : ١) لسان الميزان، لابن حجر ٢ )


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page