طباعة

٥ ـ دوره في علم الأصول :


إنّ الحاجة إلى هذا العلم تكمن في ابتلاء المكلفين بمسائل قد لا تكون هناك أخبار خاصة تجيب عنها ، لبعد الشقة عن الإمام أو لغيبته ، من هنا تصبح قواعد وأصول الفقه المعين الذي يتكفل بتعيين الحكم الذي يحدد وظيفة المكلف العملية وتعين له حكم موضوعه ، وعليه لايمكن أن يحصل المجتهد على ملكة الاجتهاد واستنباط الأحكام حتى يطلع على بحوث هذا العلم ، وكان الإمام الباقر عليه‌السلام الرائد الأول في هذا العلم.
يقول السيد حسن الصدر عن علم الأصول : ان أول من فتح بابه وفتق مسائله ، هو باقر العلوم الإمام أبو جعفر الباقر ، وبعده ابنه أبو عبد اللّه الصادق عليهما‌السلام ، وقد أمليا فيه على جماعة من تلامذتهما قواعده ومسائله ، جمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون على ترتيب مباحثه ، ككتاب أصول آل الرسول ، وكتاب الفصول المهمة في أصول الأئمة ، وكتاب الأصول الأصلية ، كلها بروايات الثقات مسندة متصلة الاسناد إلى أهل البيت عليهم‌السلام. وأول من أفرد بعض مباحثه بالتصنيف هشام بن الحكم شيخ المتكلمين تلميذ أبي عبد اللّه الصادق عليه‌السلام ، صنف كتاب الألفاظ ... (1).
وحفلت كتب الحديث بالأخبار التي أضحت دليلاً على قواعد الأصول ، كقاعدة الاستصحاب ، والترجيح عند تعارض الأخبار ، والتعادل ، والتجاوز ، والفراغ ، والبراءة الشرعية وغيرها ، وانتقد الإمام الباقر عليه‌السلام بعض المباني الأصولية التي اعتمدها بعض أئمة الفقه كمسألة القياس والاستحسان كما قدمنا.
وإنّما أدلى الإمام عليه‌السلام بتلك القواعد إلى طلاّبه ، كي يخلق فيهم القدرة العلمية على الاستقراء والاستنتاج ، فيزود من يراه أهلاً بالمزيد ويأمره بالتفريع على القاعدة ، والتطبيق على مواردها.
ومن أمثلة تلك الأصول والقواعد العامة ، قاعدة الترجيح التي تعين على التمييز بين الصحيح وغيره في حال تعارض الأخبار ، وذلك بالردّ إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يؤخذ إلاّ بما وافق كتاب اللّه أو سنّة رسول اللّه ، لقول أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما‌السلام : «لا تصدق علينا إلاّ ما وافق كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (2).
ومن قواعد الترجيح الأخرى الأخذ بالمشهور ، والنظر إلى حال الراوي من حيث الوثاقة والعدالة ، لرواية زرارة بن أعين قال : «سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال : يا زرارة ، خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر. فقلت : يا سيدي ، إنّهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال عليه‌السلام : خذ بقول أعدلهما عندك ، وأوثقهما في نفسك» (3).
ومنها ما يصطلح عليه قاعدة الفراغ ، وهي الحكم بصحة الفعل فيما لو شك في صحته بعد الفراغ منه ، لحديث محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «كلّما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» (4). ولقوله عليه‌السلام : «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمضِ عليه» (5).
ومنها قاعدة الاستصحاب ، كما في صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك أبداً ، وإنّما تنقضه بيقين آخر» (6).
__________________
(1) الشيعة وفنون الإسلام : ٩٥.
(2) تفسير العياشي ١ : ٩ / ٦.
(3) غوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.
(4) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٤ / ١٤٢٦.
(5) الاستبصار ١ : ٣٥٨ / ١٣٥٩.
(6) التهذيب ١ : ٨ / ١١.