طباعة

النبي يدعو وقريش تراوغ

النبي يدعو وقريش تراوغ

عرض رسول الله محمد(ص) دعوته على زوجه خديجة (رض) وعلى ابن عمه علي بن أبي طالب، فآمنا بها، وتابع النبي دعوته، فآمن معه أربعون شخصاً، أغلبهم من الشباب. فاتخذ النبي(ص) دار الأرقم المخزومي، مركزاً يعلّم فيه المؤمنين القرآن.
وبعد ثلاث سنوات أمر الله سبحانه حبيبه محمداً (ص) بأن {أنذر عشيرتك الأقربين} فدعا النبي عشيرته إلى طعام، وما أن أراد محمد (ص) أن يحدثهم، وكانوا قد علموا بأمره، حتى قاطعه عمه أبو لهب، وحذره من الإستمرار في دعوته.
وانفضّ الاجتماع، قبل أن يتم محمد كلامه، فعاد الأمر الالهي: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} فأعاد (ص) الكرة ثانية فدعا عشيرته وأولم لهم، وماكادوا يفرغون من الطعام، حتى بادرهم عليه الصلاة والسلام بقوله: "يابني عبد المطلب، إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة... وأنا أدعوكم الى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون من النار: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله... أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقونني؟ قالوا: بلى. قال(ص): فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد... أنقذوا أنفسكم من النار".
وقاطعة أبو لهب ثانية، وقال له: تباً لك، ألهذا دعوتنا! فأنزل الله سبحانه على حبيبه: {تبّت يدا أبي لهبٍ وتب. ماأغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى ناراً ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب. في جيدها حبل من مسد}.
دخل جماعة من قريش في الاسلام، واخذت الدعوة المحمدية تشق طريقها في المجتمع، وراح أنصارها يزدادون يوماً بعد يوم، فاعتبر زعماء قريش أنّ ذلك خطر يتهدد مصالحهم الذاتية وزعاماتهم، وجاهروا بعدائهم للنبي وللإسلام، وسلكوا سبيل الحطّ من شأن الرسول وتكذيب دعوته، وراحوا يهزؤون به قائلين: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وأعناب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء}.
ولم يكن هذا الأسلوب اللئيم في المحاربة، ليثني النبي العظيم عن تبليغ رسالة ربه، وواصل دعوته بإصرار غير مكترث بسخرية زعماء قريش، فعمدوا، كما يعمد أعداء الله اليوم، إلى التضليل الاعلامي، وترويج الاشاعات الكاذبة، ضد النبي وأتباعه، فمرة يصفونه بالكذاب، وأخرى بالشاعر، وثالثة بالساحر، حتى بلغت إشاعاتهم الحبشة وسواها، وهم يهدفون إلى عزل جبيب الله عن المجتمع، وإبعاد القاعدة الشعبية عنه وعن الدين الجديد.
ولم تنفع كل تلك الإشاعات والإفتراءات وأساليب التضليل، وظلَّ الناس يتهافتون على النبي(ص) تهافت الفراش على النور، فلجأ زعماء قريش إلى أسلوب الإغراء والمساومة، فأرسلوا عتبة بن ربيعة ليقول للنبي(ص): يابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد بما جئت به شرفاً، سودناك علينا، حتى لاينقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا.
وجاء الردّ من النبي(ص) فقال: "أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. فقال(ص): فاسمع مني: {حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لايسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل فاننا عاملون}.
وتابع النبي(ص) حتى بلغ موضع السجدة فسجد، وعتبة يسمع ويرى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: قد سمعت يا أبا الوليد ماسمعت، فأنت وذاك".
عاد عتبة مرتبكاً، فرآه أصحابه فقالوا: لقد عاد أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال لهم: "إني قد سمعت وقولاً، والله ماسمعت مثله قط... والله ماهو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة". وراح عتبة يدعوهم إلى التخلي عن مواجهة النبي، وتركه وشأنه، فقالوا له: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
ثم إنّ زعماء قريش أرسلوا إلى النبي(ص) وفداً منهم، ليعرضوا عليه المغريات فما كان قوله إلا أن قال: "ماجئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم".