طباعة

أولاً : مراقبة الإمام عليه‌السلام وفرض الإقامة الجبرية عليه

فرض العباسيون المعاصرون للإمام العسكري عليه‌السلام الإقامة الجبرية عليه كما فرضوها على أبيه عليه‌السلام ، وعملوا على الحد من حرية حركته ، سوى أنّهم أوجبوا عليه أن يركب إلى دار الخلافة في كلّ اثنين وخميس (1) ، لكفكفة نشاطاته وليكون تحت مرآى ومسمع الخليفة وجهازه الحاكم.
ولم يكن الركوب إلى دار السلطان برضا الإمام عليه‌السلام كما لم يكن طريقه إليه مأموناً ، فقد جاء في الرواية عن أبي الحسن الموسوي الخيبري قال : « حدثني أبي ، أنه كان يغشي أبا محمد عليه‌السلام بسرّ من رأى كثيراً ، وأنه أتاه يوماً فوجده وقد قدّمت إليه دابته ليركب إلى دار السلطان ، وهو متغير اللون من الغضب ، وكان يجيئه رجل من العامة ، فإذا ركب دعا له وجاء بأشياء يشنّع بها عليه ، فكان عليه‌السلام يكره ذلك ... » (2).
أمّا موقف الإمام العسكري عليه‌السلام إزاء الملاحقة والمحاصرة والمراقبة التي فرضتها السلطة لتقييد تحركاته وشلّ عمله العلمي والحيلولة دون أداء دوره القيادي تجاه قواعده المؤمنة به ، هو إحاطة أعماله بالسرية والكتمان والحيطة إلا بالمقدار الذي تسمح به الظروف ، كما سار على نهج أبيه الإمام أبي الحسن الهادي عليه‌السلام الذي عانى من الحصار والرقابة أيضاً في اتخاذ الوكلاء والقوّام الثقات الذين يمثّلون خط الإمامة الأصيل في أطراف البلاد الشاسعة ، ليكون الإمام عليه‌السلام قادراً على ممارسة دوره في نشر الوعي الديني والعقائدي ، والحفاظ على مفاهيم الرسالة والقيم الاسلامية المقدسة ، والاتصال مع قواعده الشعبية في ظل تلك الظروف العصيبة.
ومن هنا كانت له عليه‌السلام امتدادات واسعة في المواقع الاسلامية ، ويدل على ذلك عملية تنظيم الوكلاء والقوّام ، إذ كان له وكيل في كلّ منطقة له فيها أتباع وشيعة يأتمرون بأمره وينضوون تحت ولايته ، وكانوا يتصلون به عليه‌السلام عن طريق المراسلة أو المكاتبة ، ويجيبهم عن طريق التواقيع الصادرة عنه ، ومن خلالها يمارس أيضاً عملية عزل شخص أو تعيين آخر مكانه ، ويعطي سائر إرشاداته لهذا وذلك من أصحابه.
وكان عليه‌السلام يتبع أقصى إجراءات الحذر والاحتراز في إيصال تلك التواقيع إلى أصحابه ومن بين تلك الاجراءات أنه كان يضع بعض كتبه في خشبة مدورة طويلة ملء الكف كأنّها ( رِجل باب ) ليرسلها إلى العمري (3).
وكان أصحابه أيضاً يدققون في خطّه ويأخذون منه نسخةً لكي لا يقعوا في محذور التزوير ، قال أحمد بن إسحاق : « دخلت إلى أبي محمد عليه‌السلام فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطّه فأعرفه إذا ورد ، فقال : نعم. ثمّ قال : يا أحمد ، إن الخط سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق فلا تشكّن ، ثم دعا بالدواة » (4).
وكان الوكلاء والقيّمون يحتاطون كثيراً في أيصال المال إلى الإمام عليه‌السلام وفي حمل مكاتباته وتواقيعه ، فتجد أوثق وكلائه وأعظمهم شأناً عثمان بن سعيد العمري السمان ، يتجر بالسمن تغطيةً على هذا الأمر يعني على نشاطه في مصلحة الأئمة عليه‌السلام ـ وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمد عليه‌السلام ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلى أبي عمرو ، فيجعله في جراب السمن وزقاقه ، ويحمله إلى أبي محمد عليه‌السلام تقيةً وخوفاً (5).
إن المتتبع لدراسة حياة الإمامين العسكريين عليهما‌السلام يرىٰ أن المكاتيب والتواقيع قد اتخذت حيزاً واسعاً من مساحة تراثهما (6) ، كما يتبين له دورها في تعميق الوعي الاسلامي الأصيل ، وتعزيز مبادي مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، والتمهيد لغيبة ولده الحجة عليه‌السلام من بعده ، فضلاً عن المزيد من المكاتبات المتعلقة بالأبواب الفقهية والمسائل الشرعية المبثوثة في كتب الفقه والمجاميع الحديثية ، وكان للوكلاء دور رئيسي في إيصالها من وإلى الإمام عليه‌السلام.
ومن بين وكلاء الإمام العسكري عليه‌السلام : إبراهيم بن عبدة النيسابوري (7) ، وأيوب بن نوح بن دراج النخعي (8) ، وجعفر بن سهيل الصيقل (9) ، وحفص بن عمرو العمري المعروف بالجمال (10) ، وعلي بن جعفر الهمّاني البركمي (11) ، والقاسم ابن العلاء الهمداني (12) ، وأبو عمرو عثمان بن سعيد العمري ابنه محمد ، اللذان قال فيهما الإمام العسكري عليه‌السلام على ما رواه أحمد بن إسحاق عنه عليه‌السلام : « العمري وابنه ثقتان فما أديّا فعنّي يؤدّيان ، وما قالا فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان » (13). ومنهم أيضاً محمد بن أحمد بن جعفر القمي (14) ، ومحمد بن صالح بن محمد الهمداني (15) ، وغيرهم.
من هنا يتضح أن المراقبة والحصار والإقامة الجبرية وغيرها من الممارسات لم تقطع الإمام عليه‌السلام بشكل كلّي عن المناطق التي يتملك فيها أتباعاً وجماهير تدين بإمامته وتؤمن بمرجعيته ، بل استطاع أن يكسر بعض حاجز الحصار والاحتجاب القسري بالمكاتبة والوكلاء ، وأتاح له هذا الأسلوب أن يمهّد ذهنية شيعته كي تتقبل أمر الغيبة دون مضاعفات وتداعيات قد تكون غير محمودة لولا هذا التمهيد.
__________________
(1) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٦ ، الغيبة / الشيخ الطوسي : ٢١٥ / ١٧٩.
(2) الغيبة للشيخ الطوسي : ٢٠٦ / ١٧٤ ـ مؤسسة المعارف الاسلامية ـ قم ـ ١٤١٧ ه‍ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٧٦ / ٥٠.
(3) راجع الرواية في مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٠.
(4) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٨٦.
(5) الغيبة الطوسي : ٣٥٤ / ٣١٤.
(6) راجع مجلد الثاني من كتاب ( معادن الحكمة في مكاتيب الأئمة عليهم‌السلام ) للمولى محمد علم الهدي ابن الفيض الكاشاني ، المتوفى سنة ١١١٥ ه‍ ، مكتبة الصدوق ـ طهران ـ وبالنظر لكثرة التواقيع والمكاتبات فقد اتخذت مادة للتأليف ، فألف عبد الله بن جعفر الحميري كتاب ( مسائل الرجال ومكاتباتهم أبا الحسن الثالث عليه‌السلام ) وكتاب ( مسائل لأبي الحسن على يد محمد بن عثمان العمري ) و ( مسائل أبي محمد وتوقيعات ). وألف علي بن جعفر الهمّاني مسائل لأبي الحسن عليه‌السلام. راجع : رجال النجاشي : ٢٢٠ / ٥٧٣ ترجمة محمد بن جعفر الحميري ، نشر جماعة المدرسين ـ قم ـ ١٤١٦ ه‍ ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي ١١ : ٢٩٣ / ٧٩٦٨ ـ ترجمة علي بن جعفر الهماني ـ دار الزهراء ـ بيروت ـ ١٤٠٣ ه‍.
(7) معجم رجال الحديث ١ : ٢٥٠ / ٢٠٥.
(8) رجال النجاشي : ١٠٢ / ٢٥٤.
(9) معجم رجال الحديث ٤ : ٧٣ / ٢١٦٩.
(10) معجم رجال الحديث ٦ : ١٤٤ / ٣٨٠٠.
(11) معجم رجال الحديث ١١ : ٢٩٣ / ٧٩٦٨.
(12) راجع : مصباح المجتهد للشيخ الطوسي : ٨٢٦ ـ أعمال شعبان ـ بيروت ـ مؤسسة فقه الشيعة ـ ١٤١١ ه‍.
(13) الغيبة للشيخ الطوسي : ٣٦٠ / ٣٢٢.
(14) معجم رجال الحديث ١٤ : ٣١٨ / ١٠٠٨٠.
(15) معجم رجال الحديث ١٦ : ١٨٤ / ١٠٩٦٧.