طباعة

الإمامة

إذا لم تكن الإمامة من الدين فإنّه ليس لأحد الحقّ أن يدخل في الدين ما ليس فيه، أمّا إذا كانت من الدين ونسكت عنها ونحاول إخفاءها بدوافعنا الدنيوية فإنّنا نكون بذلك قد خالفنا ما أمر به الله، وهو الذي أمر رسوله في بدء الرسالة أن يدعو عشيرته الأقربين من بني هاشم ليوسّع مدار الدعوة قائلاً سبحانه: ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ (1).
استجاب الرسول الكريم لأمر ربّه ودعا عشيرته الأقربين وهيّأ لهم الطعام، فحضر أربعون شخصاً من بني هاشم بادرهم الرسول الكريم بقوله: >يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، قال: فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت: وإنّي لأحدثهم سنّاً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً، أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا<، أخرجه الطبري في تاريخه(2)، ونحوه عن أحمد بن حنبل في مسنده(3)، والنسائي في خصائصه(4)، والثعلبي والطبري في تفسيريهما(5)، وابن إسحاق في السيرة الحلبيّة(6)، وابن الأثير في تاريخه(7) و...
ويعيد الرسول الكريم مكرّراً الدعوة إلى قومه فلا يجيبه منهم أحد إلّا صوت علي عليه السلام الذي لبّى الدعوة، وتعهّد بالمؤازرة والمناصرة، فيلتفت إليه’ قائلاً: >اجلس فأنت أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي<(8).
لقد كان عليٌ عليه السلام سند الدعوة وجدارها القوي الشامخ منذ تباشير فجرها، وبقيت عناية الله تحفّ بهذا الإمام والآيات تنزل بحقّه حتّى جاء الأمر الإلهي بدعوة الرسول إلى الحجّ (حجّة الوداع) يوم دعا الرسول الناس إلى الحجّ.
حتّى وصل عددهم إلى مائة وعشرين ألف صحابي، وبعد الحجّ وفي الرجوع إلى الأوطان أوقف الرسول الناس ليبلّغهم ما أنزل عليه من ربّه استجابة لنداء الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ (9).
فقال في معرض كلامه من خطبة حجّة الوداع: >ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
فأخذ بيد علي فقال: > من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم والي من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من يبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله<(10).
فتقدّم أكثر الصحابة نحو علي بن أبي طالب عليه السلام ، وفيهم عمر بن الخطاب، وخاطب أبا الحسن بقوله: بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم(11).
ممّا تقدم نجد أن أبرز مقصود الولاية هي الخلافة، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ (12).
نزلت هذه الآية الكريمة بحقّ الإمام علي عليه السلام مؤكّدة ولايته على المؤمنين بعد الله ورسوله أمّا آية: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ... ﴾ (13)، فلم تنزل بعدها إلّا آية واحدة، وهي التي يقول فيها سبحانه وتعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ (14).
فكان كمال الدين والتشريع في النبيّ الأُمّيّ محمّد صلى الله عليه و سلم وكان إتمام النعمة بوليّه وخليفته الإمام علي عليه السلام .
وقال الذين في قلوبهم مرض ؛ إنّما نزلت هذه الآية بمعنى إكمال الدين، وأمّا الإمامة بعد الرسول فهي لا تصحّ إلّا بالمشورة بين المسلمين مفسرين ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ (15)، ثمّ ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ (16)، بما ليست فيهما من معنى وهدف، مخالفين بذلك ما يريده وما دعا إليه الرسول’ دعوة واضحة في خطبة حجّة الوداع، بلى لقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ ﴾ ولكنّه أكملها بقوله: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ﴾ .
لأنّ الله سبحانه وتعالى يعرف أنّ الرسول صلى الله عليه و سلم كامل بالوحي، ولا ينطق عن الهوى، وهو المؤيّد والمسدّد من الله، وإنّ خلافةً ينصّ عليها كتابُ الله، ويوضّحها رسوله صلى الله عليه و سلم لا تحتاج إلى بيعة الناس، والناس اختلفوا على قولين مشهورين: فريق قال: علي منصّب بنصّ إلهي، والرسول لا ينطق عن الهوى، والفريق الآخر قال: إنّ الخليفة هو أبو بكر باختيار أهل الشورى، فالفريقان يقرّان أنّه لا يجوز بقاء الأُمّة بدون خليفة أو إمام، فهل يمكن للناس أن يكونوا أحسن اختياراً من ربّ الناس ومن رسوله؟! قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾ (17).
والله سبحانه هو الذي يحسن اختيار الأكثر تقىً وزهداً وعلماً والأكثر جهاداً والأسبق إلى الإسلام، وقد اتّفقت الأُمّة الإسلاميّة بمجموعها على أنّ علي عليه السلام دون غيره يمتلك كلّ هذه الصفات، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه: > أعلم أمّتي من بعدي علي بن أبي طالب<(18)، > أقضاهم علي<(19)، >قد زوّجتك أقدمهم إسلاماً، وأعظمهم حلماً، وأحسنهم خلقاً< (20).
فالإمامة أجلّ قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأوسع جانباً من أن ينالها الناس بعقولهم وبالتالي أن يكون لهم الحقّ في تبديل اختيار الإمام بعد أن اختاره الله ورسوله. والإمامة عميقة عمق تاريخ الخليقة بدءاً من قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ (21).
وبعدها خصّ الله سبحانه نبيّه إبراهيم الخليل بعد الرسالة والنبوّة بالإمامة إذ قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ (22).
لقد طلب إبراهيم عليه السلام من ربّه أن يجعلها في ذريته بقوله بلسان حال القرآن ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾ (23).
فاستجاب له الرحمن: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾ (24).
وقد سنّ تعالى على أُمّة محمّد صلى الله عليه و سلم أن يقولوا في كلّ صلاة: >اللّهم صلِ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللّهم بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد<(25).
نجد في هذا الربط بين الآل والآل إشارة واضحة إلى الإمامة الحقيقية التي استمرت من ذريّة إبراهيم إلى ذريّة محمّد’ الذي قضى عمره وهو يوصي قائلاً: >مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق<(26).
وقال سيدنا محمّد’: >إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما<(27).
فالولاية تكون حصراً في الإمام علي عليه السلام وولده إلى يوم القيامة، إذ إنّ الولاية اختيار من قبل الله عزّ وجلّ ومن قبل رسوله بأمر من الله تعالى، لأنّها زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ (28).
وقد خصّ الله سبحانه هذه الصفوة الطاهرة بالإمامة والولاية.
يقول الإمام الصادق عليه السلام : >إنّ أوّل ما يُسأل عنه العبد إذا وقف بين يدي الله جلّ جلاله، الصلوات المفروضات، وعن الزكاة المفروضة، وعن الصيام المفروض وعن الحجّ المفروض، وعن ولايتنا أهل البيت فإن أقرّ بولايتنا ثمّ مات عليها قبلت منه صلاته وصومه وزكاته، وحجّه، ومن لم يقرّ بولايتنا بين يدي الله جلّ جلاله لم يقبل الله عزّ وجلّ منه شيئاً من أعماله<(29).


____________
1- الشعراء ٢٦: ٢١٤ - ٢١٦.
2- تاريخ الطبري ٢: ٦٣.
3- مسند أحمد ١: ١٥٩.
4- خصائص أمير المؤمنين: ٨٦ .
5- الكشف والبيان ٧: ١٨٢، جامع البيان عن تأويل القرآن ١٩: ١٤٨ - ١٤٩ حديث٢٠٣٧٤.
6- السيرة الحلبيّة ١: ٤٦٠ - ٤٦١.
7- الكامل في التاريخ ٢: ٦٣.
8- السيرة الحلبيّة ١: ٤٦١.
9- المائدة ٥: ٦٧.
10- مجمع الزوائد ٩: ١٠٥.
11- البداية والنهاية ٧: ٣٨٦.
12- المائدة ٥: ٥٥.
13- المائدة ٥: ٦٧.
14- المائدة ٥: ٣.
15- آل عمران ٣: ١٥٩.
16- الشورى ٢٢: ٣٨.
17- القصص٢٨: ٦٨.
18- المناقب للخوارزمي: ٨٢.
19- سنن ابن ماجة ١: ٥٥.
20- نظم درر السمطين: ١٨٧.
21- البقرة ٢: ٣٠.
22- البقرة ٢: ١٢٤.
23- إبراهيم ١٤: ٣٥.
24- الأنبياء ٢١: ٧٢ - ٧٣.
25- صحيح البخاري ٤: ١١٩.
26- المستدرك على الصحيحين ٣: ١٥١.
27- سنن الترمذي ٥: ٣٢٩.
28- الأحزاب ٣٣: ٣٦.
29- الأمالي للشيخ الصدوق: ٣٢٨.