• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

علي عليه السلام مع الخلفاء

 1- الافتيات على الإمام
لا يشك التأريخ إن عليا عليه السلام - كما قدمنا - لم يكن على علم من اجتماع الأنصار في سقيفتهم ، حتى بعد ذهاب الثلاثة من حزب المهاجرين متكتمين ، وهم أبو بكر وعمر إذ ذهبا يتقاودان - على حد تعبير الطبري في تاريخه - وتبعهما أبو عبيدة .
بل لم يعلم الإمام بما تم في السقيفة إلا بعد خروجهم إلى المسجد في ضجيجهم " وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب وبيده عسيب نخل وهو محتجز يحث الناس على البيعة " ، فبلغه تكبيرهم ، وهو مشغول - لا يزال - في جهاز النبي . ولم يخرج إليهم إلا في اليوم الثاني .
وأول شئ يبدو دليلا على افتيات القوم عليه بالمشهورة ، وهم يشعرون بأنهم في مقام الخصومية له أنهم لم يخبروه بحادث اجتماع الأنصار عندما أسر عمر إلى أبي بكر وهو في بيت الرسول بالخبر ، وهما أيضا لم يخبرا أحدا غير أبي عبيدة الذي تبعهما وحده حيث الاجتماع السري ، مع أن مثل الإمام أولى الناس بتدارك هذا الموقف الدقيق إن كان في اجتماع الأنصار خطر على الإسلام أو فتنة ، والأمور جارية على ظواهرها الطبيعية بين الإمام وبين هذه الجماعة .
ثم الأغرب أنهم لم يدعوه للمشاورة بل حتى للبيعة قبل أن يتم كل شئ ينتظر لبيعة أبي بكر .
ولا ينتهي التساؤل عما إذا ينبغي أن يرسلوا إليه من يخبره بالأمر على الأقل ! أما كانوا على حسن نية معه أو ثقة بموافقته لهم ورضاه ؟
نعم ! لقد وجدناهم قد قضوا أمرهم بينهم ، ودعوا الناس إلى البيعة أشتاتا ومجتمعين ، مستشعرين الكفاح والخصومة بل الخوف أمام حزب علي . ولذا انتهزوا فرصة انشغاله وانشغال أصحابه وبني هاشم بجهاز سيدهم .
ويشهد لهذا قول الطبري في تاريخه : " وجاءت أسلم فبايعت فقوي بهم جانب أبي بكر وبايعه الناس " ، تأمل كلمة ( فقوي بهم جانب أبي بكر ) ، لتفهم أن هناك جانبين متخاصمين يقوي أحدهما ويضعف الآخر ، وليس المراد بالجانب الآخر الأنصار لأنهم قد بايعوا في السقيفة ولم يبق إلا سعد بن عبادة وابنه ، وليس له كبير اهتمام وقد أهملت بيعته حسب إشارة بعض أبناء عمه .
أما علي فقد قلنا إنه جاءه الخبر عفوا لما سمع تكبير القوم في المسجد وهو حول النبي مشغول بجهازه . ولما بلغته حجتهم على الأنصار لم يكتم نقدها ، فقال كما في نهج البلاغة : " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة "

2 - رأيه في بيعة السقيفة
قلنا في آخر الفصل الأول إنه لماذا لم يطالب الإمام صراحة بالنص عليه بالخلافة ، وهنا نقول : إنه مع ذلك لم يكتم رأيه في بيعة السقيفة ، فإن التأريخ لا يشك ، عند من ينظر إليه نظرة فحص وتمحيص ، أنه كان ناقما على ما أسرعوا إليه من بيعة أبي بكر ، وكان يعدها غضبا لحقه ، فلم يلاق الحادث إلا بالاستغراب والاستنكار كما يبدو من كلمته السابقة التي قرأتها أخيرا ، ومن كلمات كثيرة منبثة في نهج البلاغة وغيره وأهمها الخطبة الشقشقية . وأقل ما يقال في إنكاره تخلفه عن البيعة حتى ماتت فاطمة الزهراء عليها السلام .
على أن من الظلم نقول : إن الإمام تخلف عن البيعة ، وهو صاحب الأمر الذي يجب أن يؤتى إليه ، وإنما الحق أن نقول : إن الناس هم الذين تخلفوا عنه .
وأول إعلان له عن رأيه كان عند خروجه في اليوم الثاني من السقيفة بعد البيعة العامة - كما في مروج الذهب - فقال لأبي بكر : " أفسدت علينا أمرنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقا " .
وهذا القول صرخة في وجه الاستئثار عليه ، وتصريح بعدم الرضى بما تم ، وليس علي ممن يداجي أو يخاتل ولا ممن تأخذه في الله لومة لائم . ولذلك هم كانوا يفرون من التحرش به قبل تمام البيعة خوف إعلان خصومتهم ، فنرى أبا بكر في جواب كلامه السابق يعترف له ويقول : " بلى ! ولكن خشيت الفتنة " .
ويسكت التأريخ عن ذكر جواب الإمام ، أفتراه اقتنع بكلمة أبي بكر أو أغضى عن جوابها أو التأريخ أهمل الجواب .
ولكن عليا نفسه يقول من خطبة له عن هذه الحادثة : " فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه لا يدري ما يجيبني به " .
ولئن فرض إنه سكت هذه المرة فإنه لم يترك الدعوة إلى نفسه واستنكار حادث السقيفة ، وإن بايع بعد ذلك فلم يبايع عن طيبة خاطر واطمئنان إلى الوضع ، وهو الذي يقول بالصراحة في الشقشقية : " فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا " .
ثم التأريخ يحدثنا إنه لم يبايع إلا بعد أن صرفت عنه وجوه الناس بموت فاطمة الزهراء . وكم تذمر وتظلم من دفعه عن حقه مثل قوله من كلام له في النهج : " فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا " ويشير بهذا اليوم إلى عصره في خلافته * * *
هذا هو الصريح الواضح من رأي الإمام في بيعة السقيفة وما وقع بعدها . ويكفي النظر في الشقشقية وحدها ، غير أن التأريخ قد يحاول أن يكتم هذه الصراحة ، لأنه لا ينكر على كل حال أن عليا مع الحق والحق مع علي ، فلا يمكنه أن يتهمه بالحيدة عن طريق الحق إذا اعترف بهذا الرأي منه ، وهو - أعني التأريخ - يريد أن يصحح ما وقع يوم السقيفة الذي لا يصح من دون رضى صاحب الحق وموافقته ، فيركن إلى المداورة .
ولكن في الحقيقة لا بد أن تتم على نفسها ، فإنه جاء في صحيحي البخاري ومسلم عدا كتب التأريخ والسير ما لا يخرج عن هذا القول : " إن وجوه الناس كانت إليه وفاطمة باقية فلما ماتت انصرفت وجوه الناس عنه وخرج من بيته فبايع أبا بكر وكانت مدة بقائها بعد أبيها ستة أشهر " .
وجاء ما هو أصرح من كل ذلك في جوابه لكتاب لمعاوية ، إذ يتهمه معاوية بالبغي على الخلفاء والإبطاء عنهم وكراهية أمرهم ، فيقول الإمام منكرا لبعض التهم ومعترفا بالبعض الآخر : " فأما البغي فمعاذ الله أن يكون وأما الابطاء والكراهية لأمرهم فلست اعتذر إلى الناس في ذلك ) (1) .   

3 - الموقف الدقيق
يظهر للمتتبع أن الإمام كان يرى - عطفا على رأيه السابق - وجوب مناهضة القوم حتى يأخذ حقه منهم .
ويستشعر ذلك من سيرته معهم ومن كثير من أقواله التي منها قوله في الشقشقية عن حربه لأهل الجمل ومعاوية : " أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها " .
فانظر إلى موقع كلمته : " لسقيت آخرها بكأس أولها " ، فإنه يريد أن يقول : إن زهدي بالدنيا يدعو إلى أن أترك حقي في المرة الأخيرة كما تركته في المرة الأولى ، ولكن الفرق كبير بين الحالين : ففي الأولى لم تقم علي الحجة في القتال لفقدان الناصر دون هذه المرة ، فلا يسعني أن أعرض عنها هذه المرة وأسقيها بالكأس الذي سقيت به أولها يوم طويت عنها كشحا وصبرت على القذى .
وأصرح من ذلك ما كان يقوله : " لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم " وهذا ما عده معاوية من ذنوبه ، وذلك فيما كتب إليه من قوله : " فمهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك وهيجك لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم ، فما يوم المسلمين منك بواحد " ، ولم ينكر أمير المؤمنين عليه السلام هذا القول في جوابه على هذا الكتاب . وفي التاريخ مقتطفات تؤيد ذلك ، كما في تأريخ اليعقوبي : إن أصحابه الذين كانوا يجتمعون إليه طالبوه بمناهضة القوم وتعهدوا بالنصرة ، وكأنهم ظنوا أن قد بلغوا العدد المطلوب " 40 ذوي عزم " فقال لهم : اغدوا على هذا محلقي الرؤس ، وهو إنما يريد أن يريهم أنهم لم يبلغوا المنزلة التي تقام بها الحجة ، فلم يعد عليه إلا ثلاثة نفر .
وإذا كان هذا رأيه في المناهضة للقوم يبلغ - يا سبحان الله - هذه الشدة والصرامة فماذا تراه صانعا ؟ لنتركه الآن يحدثنا هو عن نفسه وموقفه الدقيق ، إذ يقول من الشقشقية : " وطفت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه " .
ثم يبين لنا كيف أن يده جذاء من خطبة ثانية . " نظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فظننت بهم على ا ت ؟ ؟ " .
فهو إذن بين أمرين لا ثالث لهما : إما المغامرة بما عنده من أهل بيته ، وإما الرضوخ للأمر الواقع ، أما الحالة الأولى ففيها خطر على الإسلام لا يتدارك فإنه إذا قتل هو وآل بيته ارتفع الثقل الثاني من الأرض " عترة الرسول " وافترق عن عديله القرآن الكريم وهناك الضلالة التي لا هداية معها ، وقد قال النبي : " لا تضلوا ما أن تمسكتم بهما أبدا " أو " لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " وأما الحالة الثانية فإن في الصبر على هضم حقوقه إضاعة لوصية النبي ، وتعطيل لنصبه إياه إماما وخليفة من بعده .
فأي الأمرين هو أولى بالرعاية لحفظ بيضة الإسلام ؟
وأنى لنا أن نتحكم في ترجيح أحد الأمرين ، ونعرف الإمام واجبه في هذا الأمر ؟ !
وما بالنا نذهب بعيدا ، فإنا نعرف ما صنع الإمام ، إنه استسلم للقوم وبايع كما بايع الناس بالأخير ، وقد قرر الرأي الأخير بعد أن طفق يرتئي بين أن يصول بيد جذاء أو يصبر على طخية عمياء عندما قال : " فرأيت الصبر على هاتا أحجى " فسدل دونها حينئذ ثوبا وطوى عنها كشحا .
على أنه لا يضيع وجه الرأي على الناظر في هذا الأمر ليعرف كيف كان الصبر أحجى ، لأنه لو نهض في وجه القوم مع قلة الناصر وحسد العرب له وترات قريش عنده ، لكان المغلوب على أمره ، وعندئذ يصبح نسيا منسيا ، ولربما لا يحفظه التأريخ إلا باغيا بغى على الدين كأولئك أصحاب الردة ، فقتل " بسيف الإسلام " وأضيع مع ذلك النص على خلافته .
وقد رأيناه مع بقائه حيا وانتهاء الأمر إليه بعد ذلك كيف غمط حقه وأعلن سبه وبقي الشك فيه إلى يوم الناس هذا ! وقد أشار إلى ذلك في كلامه لعمه العباس وأبي سفيان لما طلبا بيعته ، إذ قال لهما : " أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح . . . ثم قال : ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه " حقا ، لا ينهض في هذا الموقف إلا من لا يبالي إلا بالحرص على الملك ومطاولة الناس مهما كانت النتائج على الدين والصالح العام ، وأمير المؤمنين أحرص على الإسلام من أن يغرر به لأمر يقول عنه : " إنه ماء آجن ولقمة يغص بها آكلها " .
ولا يساوي عنده نعله التي لا تسوى درهما ، إلا إذا كان يقيم حقا أو يدحض باطلا . ولذلك ، ينصح الناس في كلامه الذي أشرنا إليه مع العباس وأبي سفيان ، وهما يحثانه على قبول البيعة ، فيقول : " شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا عن طريق المناظرة ، وضعوا عن تيجان المفاخرة " .
وكأنه في كلامه هذا يحس منهما إذ دعواه لهذا الأمر الآنفة من الخضوع لأخي تيم ، و ( تيم ) على حد تعبير أبي سفيان أقل حي في قريش ، فهما ينظران إلى الأمر من ناحيته القبلية ، والعصبية الجاهلية . أما فقهه هو فكما قال من كتاب له في جواب معاوية في خصوص هذا الأمر : " وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه " ، وهو غير فقههما فإن العباس مشى إليه أبو بكر وجماعة ليلا ، لما عرفوا موقفه ، فأطمع في الخلافة له ولولده ، بعد نقاش انتهى بالإعراض عن النزاع .
وأما أبو سفيان فقد نقل ابن أبي الحديد ( 1 : 30 ) وغيره أن عمر كلم أبا بكر فقال إن أبا سفيان قد قدم وإنا لا نأمن شره ، فدفع له ما في يده فتركه ، وكان أبو سفيان قد بعث قبل وفاة النبي على الصدقات .
ثم لنفترض ثانيا أنه ما كان ليقتل لو ناهض القوم ولكن مع ذلك فالصبر على ترك حقه كان أحجى وأجدر لأن منازعتهم كانت - لا شك - تجر إلى الفتنة وتبعث على الفرقة ، والإسلام بعد لم يتغلغل في نفوس العرب ولم يضرب جرانه في الجزيرة ، وقد اشرأبت الأعناق للانتقاض عليه .
فهو إذ وطن نفسه على ما هو أمر من طعم العلقم كما يقول بالتنازل عن حقه ، كان يخاف ويخشى ، ولكن لا على الحياة - وهو هو ابن أبي طالب في شجاعته واستهانته بالحياة ، الذي كان يقول : والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها - بل كان خوفه على الدين من التصدع وعلى جامعته من التفرق ، فسالم إبقاء لكلمة الإسلام واتقاء للخلاف والشقاق في صفوف المسلمين فيرتدوا جميعا على أعقابهم ، والمفروض ليس عنده القوة الكافية لا ظهار كلمة الحق وإقامة السلطان .
وهو يشير إلى هذا الخوف فيما يقول في هذا الصدد من خطبته في النهج : " ما شككت في الحق مذ رأيته . لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه . أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال . اليوم توافقنا على سبيل الحق والباطل من وثق بماء لم يظمأ " . فهو في هذه الكلمة يتأسى بموسى عليه السلام إذ رموه بالخيفة ولكن فرقا بين الخوف على الحياة والخوف من غلبة الباطل : وهذا أفضل تفسير لقوله تعالى : " فأوجس في نفسه خيفة " وفيه تبرئة لنبي الله من الوهن والشك وما أدق معنى كلمة " من وثق بماء لم يظمأ " بعد تقديم قوله : " ما شككت في الحق مذ رأيته " وقد رأى الحق وهو ابن عشر سنين ! .
ويوضح لنا ذلك جوابه المشهور لأبي سفيان لما جاءه مستفزا على أبي بكر وهو يقول : " فوالله لئن شئت لأملؤها خيلا ورجلا " وأنت تعرف ما قال له الإمام أنه قال : " أنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة وأنك والله طالما بغيب للإسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك " ما أعظم هذه الصرامة والصراحة منه لمن يريد أن يبذل نفسه وقومه في ظاهر الحال ناصرا ومعينا على خصومه وهو يشكو فقد الناصر .
نعم أن الدين الذي بذل له مهجته كان عنده فوق جميع الاعتبارات ، وإن استهان به غيره ، وقد رأينا أبا سفيان كيف أسرع في الرجوع عن وعده ووعيده لما تركوا له ما في يده .
وأمير المؤمنين قد صرح بغرضه هذا بعد ذلك في جوابه الذي أشرنا إليه عن كتاب معاوية كما في النهج والعقد الفريد إذ قال عن إبائه على أبي سفيان : " حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإسلام " .

 4 - سلوكه مع الخلفاء
أما وقد تركنا الإمام يغضي عن حقه ويقرر بالأخير خطة الصبر على ما فيها من قذى وشجى فماذا تراه يتخذ من خطة في سياسته وسلوكه مع الخلفاء : أيستسلم فيسرع إلى بيعتهم كسائر الناس ويعمل لهم كما يعمل باق المسلمين أم يسلك بقدر ما تسمح به الضرورة وتقتضيه المصلحة للدين ؟
قد أبى بعض المؤرخين من القدماء والمحدثين إلا أن يصور الإمام مسالما إلى أبعد حدود المسالمة ، فيسرع إلى البيعة عن طيبة خاطر ورضى بمن نصب لها ، ولكن البحث الصحيح يأبى علينا أن نسلم بهذا التسرع في النقل أو الحكم : فقد ثبت تأريخيا أن عليا لم يبايع أبا بكر إلا بعد موت فاطمة بضعة الرسول ، وفي تقدير ابن الأثير في تاريخه والبخاري ومسلم في صحيحهما وغيرهم أنه ستة أشهر ، وفي كل هذه المدة هو جليس بيته لم يشترك في جماعة ولا جمعة ولا أمر ولا نهي ولم يسمع له صوت في حروب الردة وغيرها . وأكثر من ذلك كان يطرق أبواب الأنصار وأهل السوابق ليلا حاملا معه فاطمة والحسنين يدعوهم إلى نفسه ويذكرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهذا ما جعله معاوية من ذنوبه في كتابه السابق الذكر ، ثم إنه كان يقرعهم بالحجة وينير لهم طريق المحجة ذلك قوله المتقدم : " فلما قرعته بالحجة " . وهل يظن الظان أنه كان يحاول في هذا العمل أن يتحولوا في البيعة وأن يتركوا ما أبرموه وهو الذي أسدل دونها ثوبا وطوى عنها كشحا ورأى الصبر على ذلك أحجى وهو الذي يدعوه العباس وأبو سفيان إلى البيعة فيأبى ؟ إن هذا الإباء وذاك الصبر لا يجتمعان مع تلكم المحاولة والدعوة إلى نفسه ما لم يكن يرمي الإمام من وراء ذلك إلى غرض أسمى مما يظن ، إنه كان يقيم الحجة في عمله على أولئك الناس ويفهمهم خطأهم فيما ارتكبوا وتنكبهم عن الحق فيما أسرعوا وإلى ذلك يشير فيما قال : " اللهم أنت تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شئ من فضول الطعام ولكن لنرد المعالم في دينك ونظر الصلاح في بلادك " .
ويؤخذ من طيات التأريخ أنه لم تأخذه هوادة في الدعاية والدعوة إلى مبدئه إظهارا لحقه وإقامة للحجة على سواه ، فلا ينكر التأريخ اجتماع أصحابه عنده طيلة أيام انعزاله ، فيعتبره الطرف الآخر كمؤامرة يحاول إبطالها خشية توسعها ، فيرسل من يفرق القوم المجتمعين فيجتمعون .
ولا ينكر التأريخ أيضا تطوافه على الأنصار وأهل السوابق كما قدمنا . ولا ينكر عدم اشتراكه في جمعة ولا جماعة ، وهو أحرص على الشعائر الدينية والواجبات الإلهية من أن يجرأ مجترئ على اتهامه بالمسامحة فيها .
وهذه المقاطعة وما إليها إعلان صريح برأيه فيما عليه القوم ولذا نرى الخليفة أبا بكر يتذمر من موقف الإمام فعرض فيه من خطبة : " يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء كأم طحال أحب أهلها إليها البغي إلا أني لو أشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت . إني ساكت ما تركت " . وفي هذا تخوف مما يظن أنه سيقع وتهديد بإذاعة أمر مكتوم .
ما أدري - ولا أظن أحد يدري اليوم - أي شئ هذا الأمر الذي يهدد الخليفة بإفشائه ، والظنون تذهب ولا تقف على شئ معين ! وزبدة المخض : إنا نفهم من كل ذلك أن خطة الإمام في حياة فاطمة كانت المقاطعة والدعوة إلى مبدئه وأن يقعد حجزة الضنين - على تعبير فاطمة نفسها - معتزا بوجودها ، وقد جاهدت معه في هذا المضمار جهادا له الأثر فيما بعد في تركيز مقام الإمام في ذهنية المجتمع الإسلامي . ولا ننسى خطبتها البليغة التي يرن صداها إلى اليوم .
ولذا نراه بعد وفاتها يبدل خطته ، فبايع ، ويبايع معه أهل بيته وأصحابه ، ويدخل فيما يدخل فيه القوم . ولكن إلى حد محدود بقدر ما تحكم به الضرورة الدينية للاحتفاظ بالجامعة الإسلامية .
لنسمعه يحدثنا هو عن تبديل خطته في كتابه إلى أهل مصر : " فأمسكت يدي ، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم . . " .
ولم تكن نصرته للإسلام وأهل إلا بسكوته عن حقه ومتابعته للقوم ، ونصيحته لهم في مواقع النصح ، وإلا فلم يشترك معهم في طعنة رمح ولا ضربة سيف في جميع المواقف إلى يوم بويع بالخلافة .
وماذا يظن الظان في من جاهد وجالد في سبيل الإسلام عشرين عاما ، وفي كل هذه المدة كان سيفه يقطر من دماء المشركين ، ولم تثر حرب إلا وهو ابن بجدتها ، وحامل لوائها ، ومقطر أبطالها والمقذوف في لهواتها ؟
ماذا يظن الظان فيه عندما يجلس جلس البيت عن هذا الدين الذي قام بسيفه ، وقد تألبت العرب عليه واشرأبت أعناق النفاق ؟
والجهاد فرض من فروض الإسلام ، أكان ذلك زهدا في الجهاد وتواكلا عن الواجب ، أم ماذا ؟
أهناك غير ما نقول من رأيه في المقاطعة إلا ما تدعو إليها ضرورة المحافظة على الجامعة . وقد يقول القائل : إن الخلفاء هم الذين لم يدعوه إلى الدخول معهم في الحروب والاشتراك في الحكم لمصلحة يرونها ، وما كان يجب عليه أن يقدم نفسه متبرعا ، كما لم يدع إلى ذلك جميع الهاشميين ، ولم يسمع أن هاشميا اشترك قائدا في حرب أو حكم في عهد الخلفاء الثلاثة . ويشهد لذلك المحاورة (2) بين الخليفة عمر بن الخطاب وابن عباس حينما يدعوه إلى العمل في حمص ، فيقل لابن عباس : " وفي نفسي شئ لم أره منك وأعياني ذلك " ثم يصرح بذلك الشئ : " إني خشيت أن يأتي علي الذي هو آت وأنت في عملك فتقول : هلم إلينا ولا هلم إليكم دون غيركم أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل الناس وترككم " .
فيقول ابن عباس : فلم نراه فعل ذلك ؟ فقال عمر : والله ما أدري أضن بكم عن العمل ، فأهل ذلك أنتم ، أم أخشى أن تبايعوا بمنزلتكم منه ، فيقع العقاب ولا بد من عتاب ؟ وعندئذ يمتنع ابن عباس عن قبول العمل ويقول : إن أعمل لك وفي نفسك ما فيها لم أبرح قذى في عينيك .
أليست هذه المحاورة شاهدة على أن الخلفاء هم الذين كانوا يمتنعون عن استعمال بني هاشم خوف أن يستغلوا مناصبهم للدعوة إلى أنفسهم ؟ وللمجيب أن يجيب ، فيقول : إن امتناع الخلفاء عن استعمال علي وبني هاشم - إن صح - فهو دليل آخر على سيرة الإمام معهم ، واستعماله خطة يخشون معها أن يأخذ وقومه ناصية الأمر إن تولوا عملا من الأعمال . على إنا لا نعدم شاهدا على أن عليا هو الذي كان يمتنع عن قبول أعمالهم ، فلنستمع إلى الحديث الذي جرى بين الخليفتين عمر وعثمان . يشير عثمان على عمر : " ابعث رجلا - أي لحرب فارس - له تجربة بالحرب ومضر بها . عمر : من هو ؟ عثمان : علي بن أبي طالب ! عمر : فالقه وكلمه وذاكره ذلك ، فهل تراه مسرعا إليه ؟ فيخرج عثمان . ويلقى عليا ، فيذاكره فيأبى علي ذلك ويكرهه " . تأمل استفهام عمر وشكه في قبول علي ، ثم امتناع علي وكراهته للأمر ! وما نستنتج من ذلك ؟
من هذا وأمثاله نعرف ماذا كان علي عليه السلام يتبع في سيرته مع القوم ، وما كان يجري عليه في معاملته معهم ، حتى كان يخفت صوته في جميع الحروب والمواقف ، وكأنه ليس من المسلمين أو ليس موجودا بينهم ، وهو منهم في الرعيل الأول ، اللهم إلا صوته إذا استشير ونبراس علمه إذا استفتي ، حتى اشتهر عن عمر كلمته " لولا علي لهلك عمر " أو " لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن " . وتتبع استشاراته وأحكامه في كثير من الوقائع يخرج بنا إلى موضوع آخر يحتاج إلى كتاب آخر انتهى 29 جمادى الأولى 1368 ه‍ .

هامش
--------------------------------------------------------   
(1) راجع شرح النهج (3 : 409) .
(2) راجع مروج الذهب (1 : 427) .

الشيخ محمد رضا المظفر 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page