مفاد الشبهة
يقول البعض: إنَّ آلية الجمع والتوزيع التي تعتمد عليها المؤسَّسة الدينية طريقة غير تخصُّصية، ولا تخضع للرقابة المالية، وهي أشبه بالعملية الاستحواذية التفرّدية.
ردُّ الشبهة
وفيها أُمور عدَّة:
الأمر الأوَّل:
إنَّ الملاحظ في جميع الأديان أنَّها تفرض ضرائب مالية دينية، وإنَّ طريقة التوزيع في كلِّ هذه الأديان -بعد غياب النبيِّ أو وصيِّه- لا تخلو إمَّا أن يُصار إلى تعطيل التوزيع أو يُسلَّم إلى الدولة الحاكمة أو يُناط بجهة مشروطة بوثاقتها وعدالتها وأمانتها وإمكانية إيصالها إلى مستحقِّيها.
أمَّا التعطيل، فهذا غير ممكن بحدِّ نفسه؛ لأنَّه يخالف مبدأ تشريع هذه الضريبة المالية. وأمَّا تسليمه إلى الدولة الحاكمة، فهذا لا يمكن تحقُّقه وبكلِّ وضوح؛ حيث عندما نتتبَّع الحكومات التي تسلَّطت على الأُمم والمجتمعات فإنَّ غالبيتها تفقد عنصر الثقة والأمانة والعدالة، وهذا ممَّا لا يختلف فيه اثنان.
وعليه فإنَّ أفضل الطُّرُق وأيسرها على المكلَّف هو إيصال هذه الأموال إلى الجهة الشرعية التي اكتسبت شرعيتها الدينية من الشرع المقدَّس، إضافةً إلى وثاقتها وعدالتها على طول الخطِّ والمسيرة وهي الأقرب إلى معرفة ملاكات التشريع وفقه التزاحم والخبرة العملية العالية ودقَّة الصرف، حيث إنَّنا نرى وبكلِّ وضوح أنَّ العلماء الأعلام منذ عصر الغيبة الكبرى وإلى وقتنا المعاصر قد حافظوا على تلك الأموال وأوصلوها إلى مستحقِّيها وتمَّ صرفها في مواردها المقرَّرة شرعاً من دون أنَّ يُسجَّل عليهم أنَّهم قد استخدموا هذه الأموال في أغراضهم الشخصية ومنافعهم الاجتماعية، فليس لأحد من الفقهاء الحقُّ بأن يأخذ درهماً واحداً من هذه الأموال إلَّا إذا كان مصداقاً لأحد الأصناف التي ذُكِرَت في الآية الشريفة، وإذا كان مصداقاً فهو يأخذ بقدر حاجته شأنه شأن سائر المستحقِّين، فهذا ما يُفتي به علماء الطائفة، وهذه سيرة الفقهاء الأعلام بين يديك الذين تصدَّوا إلى مقام المرجعية العليا فإنَّهم عاشوا فقراء وماتوا على ذلك، ومن شاء فليذهب بنفسه ليطَّلع على أحوالهم في حاضرة النجف الأشرف أو قم المقدَّسة فإنَّه سيجد أنَّ مسكن الفقهاء ومأكلهم ومشربهم هو نفس ما عليه عامَّة الناس في المجتمع.
الأمر الثاني:
إنَّ مسألة التوزيع لم تنحصر بالجهة الشرعية (المرجعية)، فقد أفتى بعض الفقهاء أنَّ للمكلَّف نفسه الحقَّ في توزيع الأسهم الثلاثة الأُولى على مستحقِّيها بدون الحاجة إلى مراجعة الفقيه، بشرط أن يُحرز الشروط التي ينبغي أن تتوفَّر فيمن يستحقُّ هذا الحقَّ.
وهذا الأمر بحدِّ نفسه يدلُّ على عدم تفكير الجهة الشرعية بالاستحواذ على هذه الضريبة المالية، وإنَّما دور الفقيه فيها هو النظارة والإشراف على صرف هذا الحقِّ.
الأمر الثالث:
إنَّ شبهة عدم العدالة في التوزيع تأتي عند إيصال هذا الحقِّ إلى من لم يُوثَق بعدالته، فإنَّ ما يجب على المكلَّف بنظر الإماميَّة هو إيصاله إلى الفقيه الحاصل على ملكة العدالة والتقوى والأمانة، وكذا المعتمد أو الوكيل المخوَّل في استلام الحقوق، فإنَّ هذا كلَّه من واجبات المكلَّف نفسه، فإنَّه عليه ممارسة الفحص في اختيار الفقيه وتسليم أمواله له، وإحراز الجهة المأمونة الموثوقة العادلة، فإنَّ المكلَّف يتحمَّل جزءاً من الخطأ عند عدم إيصال هذا الحقِّ إلى الفقيه العادل المأمون، وعلى أقلّ التقادير فإنَّه يجب عليه العمل بالاحتياط في المال كما عليه الاتِّفاق ولو كانت الشبهة موضوعية.
الأمر الرابع:
إنَّ الأصل في التوزيع يكون بيد الدولة العادلة الصالحة التي تملك الإمكانيات والمؤسَّسات التي من خلالها تستطيع تغطية كلِّ حاجات المجتمع، وحيث إنَّ المجتمعات تعيش أزمة فقدان الحاكم العادل والدولة الصالحة أُنيط أمر توزيع هذه الضرائب إلى مرجعية أُخرى كالقوّامين على المجتمع، وحيث إنَّ هذه الجهة لا تملك إمكانيات الدولة ومؤسَّساتها وأياديها العاملة ممَّا يتعثَّر أمر التطبيق.
الأمر الخامس:
يتصوَّر البعض أنَّ هذه الضريبة المالية معدَّة فقط للقضاء على الفقر، مع أنَّها معدَّة لسدِّ جميع حاجات المجتمع، كالأهداف الروحية والتعليم والعلاج وبناء المشاريع الاستراتيجية كالاستقلالية الدينية ومواجهة المحتلِّ وسدِّ حاجات المجاهدين عند تعرُّض المذهب للخطر والتعامل مع الظروف الطارئة، فهذا كلُّه ممَّا تلحظه المرجعية العليا، وقد يغفل البعض عن هذه الأُمور، ولم يلتفت إلى أهمّيتها ودورها في بناء المجتمع، والحفاظ على المذهب والمقدَّسات، حيث نشهد في وقتنا المعاصر أنَّه لولا الدعم المالي من قِبَل المرجعية العليا عن طريق هذه الحقوق والأموال في توفير وتلبية احتياجات المقاتلين في سوح الجهاد من السلاح والعتاد والطعام والشراب ورعاية عوائل الشهداء والجرحى والمصابين وكلّ ما يحتاجه المجاهدون لم نصل إلى هذه الانتصارات التي حفظت الناس والمؤمنين والمذهب من أخطار العدوِّ والإرهاب.
الأمر السادس:
إنَّ الميزان في العدالة الاجتماعية هو النظر إلى المصلحة العامَّة للمجتمع والفرد وتقديم الأهمّ على المهمّ، من دون النظر إلى الجنبة العاطفية والمزاجية والغايات الشخصية التي قد تصحب بعض الأفراد، فإنَّ المهمَّ في عملية التوزيع هو سدُّ حاجات المجتمع بصورة عامَّة لا فردية مشخصنة.
الأمر السابع:
إنَّ ما يحصل من الأخطاء في التطبيق لا يعني اتِّهام الجهة الدينية بعدم العدالة، حيث إنَّ المنظور هو العدالة النسبية لا المطلقة في كلِّ عمليات التوزيع المتعارفة، فإنَّنا نرى في الدولة المدنية تكثر الأخطاء في التطبيق كما تصيب في البعض، وبالاتِّفاق إمكان تفادي مثل هذه الأخطاء مع عدم التشكيك بالجهة التي تتصدَّر عملية التوزيع.
الأمر الثامن:
إنَّ الإسلام لم يحصر مورد التطبيق بيد الحاكم في كلِّ الموارد المالية، فهنالك مجموعة من الموارد المالية منوطة بيد المكلَّف، من قبيل الصدقات والوقفيات وغيرها كالمشاريع المالية، مع أنَّها لم تسلم من سوء التطبيق أيضاً.
الشبهة الثامنة: آلية جمع وتوزيع فريضة الخُمُس غير تخصُّصية
- الزيارات: 290