• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الشبهة الرابعة عشر: ابتلاء الخُمُس بمخالفة المنظومة الأخلاقية والعقل العملي

 مفاد الشبهة
إنَّ المنظومة الأخلاقية قائمة على أساس نظام الحقّيَّة، بينما المنظومة الفقهية قائمة على أساس المنظومة التكليفية القهرية، فإنَّه من الواضح أنَّ هناك علاقة التضادِّ بين الفقه والأخلاق، فالفقه هو عبارة عن فتاوى تتكوَّن من أوامر ونواهي، والأخلاق عبارة عن رياضة روحية باطنية، فلا توجد أيُّ علاقة بينهما، ولذا نجد أنَّ هناك بعض المسائل بعيدة عن القِيَم الأخلاقية والإنسانية، فعلى سبيل المثال حكم الخُمُس فهو تكليف فقهي قهري، وقد يكون من منظار أخلاقي وإنساني فيه إجحاف وظلم، فالشخص الذي يعمل ويكدُّ ليله ونهاره ويجمع الأموال ثمّ بعد ذلك يُطالَب بدفع هذه الضريبة لأشخاص غير عاملين ويعيشون على هذه الضرائب، أليس هذا إجحافاً وظلماً بحقِّه؟ وهكذا العديد من المسائل الفقهية التي لو لوحظت من جهة أخلاقية لكانت متناقضة مع تلك القِيَم.
ردُّ الشبهة
إنَّ هذه الشبهة ليست بجديدة، وأوَّل من تعرَّض لها أبو حامد الغزالي في كتابه (إحياء العلوم)، حيث تعرَّض الغزالي إلى مسألة علاقة الفقه بعلم الأخلاق، وقسَّم العلم إلى محمود ومذموم، ثمّ قسَّم المحمود إلى واجب عيني وواجب كفائي، ويقصد بالواجب العيني هو علم الأخلاق، وأما الواجب الكفائي فيقصد به علم الفقه. ونعت الغزالي القسم الثاني -أي الفقه- بالعلم الدنيوي، ووصف علماء الفقه بأنَّهم علماء الدنيا، وأمَّا العلم الأُخروي فهو علم الأخلاق. وبدأ الغزالي بطرح الشبهات في هذا المجال، وأثار شبهة التناقض والتضادِّ بين المنظومة الفقهية والأخلاقية، ووصف علم الفقه بأنَّه ضرورة ناشئة من الخصومات والشهوات. وقال الغزالي بأنَّ الفقه لا يعتني بباطن الإنسان وروحه، فهو يعتني بمباحث الطهارة والنجاسة الظاهرتين، ولا يعتني بحقيقتهما الباطنية. وكذلك إنَّ الفقه في بعض حالاته يعتمد على الحيل الشرعية، وذلك من قبيل تضييق الزوج على زوجته ممَّا يجعلها تهبه صداقها ومهرها، وكذا التهرُّب من دفع الخُمُس أو الزكاة بأن يهب الزوج ذلك الحقَّ لزوجته. وسرت هذه الشبهة عند مجموعة من الصوفية، وغيرهم حتَّى وقتنا المعاصر، وللإجابة عليها والوقوف على معالمها نذكر أُموراً عدَّة:
الأمر الأوَّل:
إنَّ الإجابة على هذه الشبهة سيكون بمنظار المنظومة الفقهية الشيعية؛ لأنَّنا نعتقد أنَّ فقه العامَّة لا يصلح لأن يُعَدَّ علماً حتَّى يقال: إنَّه من علوم الدنيا؛ وذلك لاختلاطه بالبدع والجهالات والأهواء المخترعة التي شُرِّعت برعاية السلطات الحاكمة آنذاك، فهذا موطأ مالك بين يديك فإنَّه كان لا يكتب شيئاً فيه لا تقبل به السلطات العبّاسية، ممَّا جعل الحاكم العبّاسي آنذاك يجعله القانون الرسمي للدولة، وعليه لا بدَّ من جعل الميزان في ردِّ هذه الشبهة المنظومة الفقهية التابعة لمدرسة القرآن الكريم والعترة الطاهرة من أهل البيت (عليهم السلام).
الأمر الثاني:
إنَّ العلاقة بين الفقه والأخلاق ليس كما تصوَّره الغزالي وغيره ممَّن تبعه وهي علاقة التناقض، وإنَّما العلاقة تكاملية، فإنَّ المنظومة الفقهية الشيعية فيها مراتب كسائر القوانين، ففي بعض مراتبه فقه إلزامي وفقه استحبابي، وثالث أخلاقي، بمعنى أنَّ المخاطب في المنظومة الفقهية لا بدَّ أن يلحظ هذه المراتب الثلاث، فليس الفقه على مرتبة واحدة.
المرتبة الأُولى: ما يُصطَلح عليه بـ (الفقه الإلزامي)، وهو المخاطَب به جميع الناس، ويكفي في تحصيله وتحقُّقه أداء ذلك اللزوم، سواء كان أمراً أو نهياً، وهو أدنى مراتب الفقه من حيث الوصول إلى الكمالات والرقيِّ الروحي، وإنَّ أغلب المستشكلين ركَّزوا إشكالاتهم على هذه المرتبة.
المرتبة الثانية: الفقه الاستحبابي، فهنالك بعض الأوامر والنواهي لوحظ فيه جهة الاستحباب أي جواز الترك والعمل، وأنَّ جهة العمل متروكة بيد المكلَّف نفسه إن أراد الوصول إلى بعض الكمالات الروحية والقرب من الله تعالى، فعليه أداء هذا التكليف الاستحبابي. ولم يصل هذا الصنف إلى مرحلة الإلزام تيسيراً للمكلَّف من الوقوع بالحرج والعسر، فإنَّ الشريعة المقدَّسة تلحظ دائماً جانب الاعتدال في العبادة وتترك جهة الوصول إلى الرقيِّ الروحي بيد نفس المكلَّف وتُعطيه طُرُقها وكيفياتها.
المرتبة الثالثة: الفقه الأخلاقي، إنَّ كلَّ حكم من أحكام الشارع المقدَّس سواء كان إلزامياً أو استحبابياً وغيره من الأحكام الفقهية، يعتبره الشارع أحد أهمّ العوامل في تحقيق كثير من الكمالات الأخلاقية والروحية، فالفقه في معناه الاصطلاحي المتداول يدخل في الحكمة العملية، فهو أحد أهمّ العوامل في زيادة التقوى لدى الإنسان وأحد العوامل التي تربط المكلَّف بالله (عزَّ وجلَّ).
ومن هنا فإنَّ الأحكام الشرعية لا بدَّ أن تُلحَظ من جهتين: من جهة الفقه الإلزامي أو الاستحبابي، ومن جهة الفلسفة الروحية لذلك الحكم، فعلى سبيل المثال قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ (البقرة: ٤٣)، فهذا حكم إلزامي يدلُّ على وجوب الصلاة على المكلَّف، هذا من زاوية الفقه الإلزامي الذي يكفي فيه أداء هذا الواجب، ولكن في نفس الوقت إنَّ هذه الصلاة وإن كان تأديتها تُسقِط الوجوب والإلزام، ولكن لو لوحظت من جهة أخلاقية روحية، فإنَّ هذه الصلاة فيها جنبة التكامل، وهي في عهدة المكلَّف، فكيف يمكن له أن يجعل هذه الصلاة محلّ رقيِّه الروحي، وهذا ما نصَّ عليه القرآن الكريم حيث قال: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: ٤٥)، فهنا القرآن الكريم يُبيِّن وبكلِّ وضوح العلاقة بين الفقه الإلزامي والفقه الأخلاقي، فإنَّ الصلاة وإن كانت إلزامية إلَّا أنَّ فيها جنبة أخلاقية روحية ينبغي على المكلَّف أن يلتفت إليها. وعليه فإنَّ أداء الواجبات والنهي عن المحرَّمات ليس عبارة عن منظومة مستقلَّة، وإنَّما فيها لحاظات لا بدَّ أن يُلتَفت إليها، وهي فلسفة تلك الإلزامات ومقاصدها، فهنالك علاقة وثيقة بين العلمين، سواء من حيث الموضوع -فإنَّ كلّاً من المنظومة الفقهية والأخلاقية محورها واحد وهو (فعل المكلَّف)- أو من حيث الهدف، فما يُطلَق عليه في الفقه من تكاليف سواء كانت إلزامية أو استحبابية فهي بنظر علم الفقه عبارة عن وصايا أخلاقية يبلغ من خلالها الفرد إلى نيل الدرجات والكمالات، لذلك لا يوجد تكليف عبادي مثلاً لم يُلحَظ فيه الجانب الروحي.
ولذا فإنَّ مسألة صفاء النفس وتهذيبها وتطهير الباطن التي هي هدف الأخلاق لا يمكن بلوغها إلَّا عن طريق الشريعة، فهي التي تُؤمِّن لنا التكاليف المطلوبة من قِبَل الحقِّ تعالى، وهذه التكاليف لا تقتصر على الوجوب أو الحرمة وإنَّما تتعدّاها في كثير من الموارد، وذلك ببيان المستحبّات والمكروهات والآداب التي هي من أهمّ أُسس المنظومة الأخلاقية، حيث إنَّها تعتمد في الوصول إلى الكمال النفسي على ذلك، وهذا واضح لمن يتتبَّع المصنَّفات التي تختصُّ بذلك.
الأمر الثالث:
من المبادئ الأساسية في المنظومة الإسلاميَّة هو مبدأ التكافل الاجتماعي، ويُراد منه التحام الأفراد فيما بينهم في إطار الودِّ والرحمة، يشدُّ بعضهم بعضاً، كما ورد في الحديث الشريف: «المؤمن للمؤمن بمنزلة البنيان يشدُّ بعضه بعضاً»(١٤٠)، وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «والله لا يكون المؤمن مؤمناً حتَّى يكون لأخيه مثل الجسد إذا ضرب عليه عرق واحد تداعت له سائر عروقه»(١٤١). وربط القرآن الكريم هذا المبدأ بالإيمان، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: ١٠)، وقال تعالى أيضاً: ﴿وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ﴾ (المائدة: ٢).
وهناك في المنظومة الإسلاميَّة مظاهر عدَّة للتكافل، فالجهاد في سبيل الله تعالى أحد مظاهر التكافل حيث ينضمُّ فيه الأفراد بعضهم إلى البعض للدفاع عن الإسلام والمسلمين، وكذا التكافل العلمي حيث حثَّ الإسلام على التعلُّم والتعليم، وأن يُعلِّم العالم الجاهل، وهكذا، فالإسلام وإن لحظ جانب الفرد، ولكن الأساس هو المجتمع وكيفية إيجاد حالة التوازن فيه، وذلك عن طريق مبدأ التكافل والإعانة بين أفراد المجتمع، لذلك أصبحت هنالك حاجة ماسَّة للاختصاصات، فالمهندس والطبيب وكلُّ ذي حرفة فإنَّهم يُقدِّمون الخدمات وفق هذا المبدأ ولحاجة المجتمع لذلك، فالحياة الاجتماعية لا يمكن أن تسير وفق جهود الأفراد والفردية، بل لا بدَّ من انضمام جهود الأفراد بعضهم للبعض لكي يحصل التعايش السليم بين طبقات المجتمع، وهذا النوع أكَّد عليه الإسلام كثيراً، فالإنسان هو الصورة المثالية لتحقيق الطمأنينة في المجتمع ورفع الاحتقان الذي قد يحصل بين أفراده، فعلى ضوء هذا المبدأ تزدهر الحياة، وبدونه لا يمكن للفرد أن يُحقِّق الحياة السعيدة.
ومن ظواهر التكافل الاجتماعي المهمَّة هي ظاهرة الإنفاق، وظاهرة الضرائب المالية التي تقرُّها جميع الديانات والمذاهب والدول على اختلاف مسمّياتها، فإنَّ هذه الضرائب إن لوحظت من جهة فردية قد يُتصوَّر فيها أنَّها ظلم وإجحاف في حقِّ الباذل، ولكن في الحقيقة ليس كذلك لو لوحظت من جهة مبدأ التكافل، والتوازن في المعيشة، والمداراة والرحمة بين بني البشر، فإنَّها تكون من أسمى ظواهر التكافل والقِيَم الأخلاقية، ففريضة الخُمُس مثلاً أو الزكاة أو غيرها من الضرائب ليست إجحافاً وظلماً بحقِّ الفرد، لأنَّ الفرد يعيش ضمن مجتمع لا بدَّ أن يُلحَظ فيه جهة التوزان والتكافل حالها حال بقيَّة القِيَم المتقدِّمة، والشارع المقدَّس قد أعطى ضمانات لذلك الفرد، وعدَّ ذلك طريق وسبيل إلى البرِّ والخير ونيل الدرجات الأُخروية، وجعلها من علائم التقوى والإيمان وغيرها من الدرجات العليا.
إشكال ودفع:
لماذا لم يمنح الله تعالى الفقير ما يُغنيه وجعله يعتمد على هذه الضرائب؟ أليس الرزق على الله تعالى؟ فلماذا لم يرزق ذلك الفقير ما يكفيه ليرفع عنه الاتِّكالية؟
الجواب يكون من خلال جهات عدَّة:
الجهة الأُولى: أنَّ الله سبحانه وتعالى غير عاجز على أن يجعل عباده في مستوى واحد من حيث الغناء المالي، وقد أُشير إلى ذلك في آيات كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ (يونس: ٣١)، وقوله تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ﴾ (فاطر: ٣)، وقوله تعالى: ﴿وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ (هود: ٦)، ولكن السبب في هذا التمايز لأنَّ الحاجة أساس العمل، فبلا عمل لا يوجد إنتاج، وهذه هي طبيعة الحياة البشرية، فإذا كان كلُّ أفراد المجتمع في صفٍّ واحدٍ من الغنى، فهذا معناه لا حاجة للعمل ولا يوجد إنتاج في جانب من جوانب الحياة، فعلى سبيل المثال لو فرضنا أنَّ هناك بلداً كلُّ أفراده أغنياء، ويتمتَّع بثروات مالية، فمن منهم الذي ينزل إلى الحقل ليحرث؟ ومن منهم يبني ويُعمِّر؟ ومن منهم يُحرِّك الآلة؟ ومن منهم يعمل ليسدَّ حاجات المجتمع؟ فإنَّ الحاجة هي التي تدعو ربَّ العمل إلى أن يُنشِد العامل ليتمَّ عمله، والحاجة هي التي تدعو إلى ممارسة الأعمال لكي يسكن الإنسان ويأكل ويشرب ويمارس حياته الطبيعية.
الجهة الثانية: قد أوضح القرآن الكريم بعض علل عدم بسط الرزق لبعض الناس، قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ (الشورى: ٢٧)، وهذا معنى جميل يُبرزه القرآن الكريم، حيث يُبيِّن لنا أنَّ تقدير الرزق لبني البشر نابع عن خبرة وبصيرة من قِبَل الحقِّ تعالى بشؤون عباده، فإنَّه يعلم لو وسَّع على العباد الرزق بحسب ما يريدونه ويبغونه لبغوا في الأرض، والبغي يعني الظلم والجرم والجناية، ولكن الله تعالى يُنزِّل الرزق على البشر بقدر ما يشاء وما يراه من مصلحة لذلك الفرد، فكم نرى في واقعنا المعاصر أنَّ هناك أُناساً كانوا فقراء وعندما أصبحوا أغنياء بذلوا هذه الأموال في طريق الإفساد والمعاصي والظلم وتوغَّلوا في المحرَّمات والعياذ بالله.
الجهة الثالثة: أنَّ الملاحظ أنَّ هناك بعض القِيَم بينها تلازم لا يمكن تصوُّر أحدها بدون الآخر، فمثلاً العلم إن لم يكن هناك جهل فلا قيمة للعلم، وكذا الغنى لا يمكن الشعور به إن لم يكن هناك فقر، فلا يوجد في سُلَّم الحياة أُناس كلُّهم علماء وكلُّهم عدول وثقاة، فهذا معناه إلغاء لمسيرة الحياة والتنافس والرقيِّ في جميع المجالات، فالفقير لا بدَّ أن يسعى ويكدَّ، والغنيُّ لا بدَّ أن يُعطي ويبذل، كما أنَّ الجاهل عليه أن يتعلَّم، والعالم عليه أن يُعلِّم، وبهذا حتَّى تتكون الحياة وتزدهر، ويكون لها قيمة وهدفية، وإلَّا أصبحت اتِّكالية عبثية.
الأمر الرابع:
هنالك في المنظومة الإسلاميَّة ما يُطلَق عليه بالنظرية النسبية، هنالك بعض الأُمور قد يتصوَّر البعض أنَّ فيها مضرَّة، ولكن بلحاظ ومنظار آخر فيها منفعة، فلا يوجد عندنا مضرَّة مطلقة أو منفعة مطلقة، والإسلام ينظر إلى مثل هذه القضايا بكونها أُموراً نسبية، فيراعي الأصلح فيها ويُؤكِّد عليه، فنظام الضرائب نظام عامٌّ موجود في كلِّ المجتمعات، وهذا النظام إن لوحظ من جهة الفرد قد يُتصوَّر أنَّ فيه مضرَّة وإجحافاً وظلماً، ولكن من اللحاظ الجمعي والاجتماعي ليس فيه مضرَّة أو إجحاف، فبحسب السُّلَّم الاجتماعي ليس هنالك ظلم؛ وذلك لأنَّ مسألة الضرائب وإن كان فيها ضرر بنظر الفرد، ولكن في نفس الوقت فيها منفعة وتكامل من ناحية النظم الاجتماعي، فالفقه فيه اعتباران: أحدهما مخاطبة الفرد، والآخر لحاظ الجانب الروحي فيه الذي يُلحَظ فيه فاعليته بالنسبة للمجموع لا إلى الفرد فحسب، فالإشكال الذي سُجِّل على الفقه الشرعي بميزان الفقه يلحظ الفرد، ولكن لم يلتفت لزاوية المجموع والمجتمع والناحية الاجتماعية وما فيه من منافع، فهذه مسألة الزكاة بين يديك إن لوحظت من جهة فردية قد يعدُّها البعض إجحافاً، ولكنَّها من الناحية الاجتماعية والإيمانية والمجموعية فإنَّ فيها منفعة كبيرة، وهي رفع الفقر والعوز عن كثير من الأفراد، وإيجاد نوع من التوازن بين أصناف المجتمع.
الأمر الخامس:
إنَّ المنظومة الفقهية يُلحَظ فيها عدم الجمود على النصِّ، فهي غير منعزلة عن المنظومة الأخلاقية، وهذا واضح لمن يتتبَّع كلمات وفتاوى الفقهاء، فإنَّ الفقيه لا يجمد على النصِّ، بل لا بدَّ من مراعاة المنظومة الأخلاقية والجنبة العملية وتأثير عامل الزمان والمكان -إن كان من المتغيَّرات التي يمكن أن يدخل فيها عامل الزمان والمكان-، فكلُّ هذا ملحوظ لدى الفقيه، فكم عندنا من الأحكام اكتسبت عنواناً ثانوياً لأجل أنَّ الحكم الأوَّلي يتصادم مع المنظومة الأخلاقية، وعليه فلا يمكن تأسيس فقه إسلامي بدون أن ينظر الفقيه إلى الفقه الأخلاقي.
الأمر السادس:
يتصوَّر البعض أنَّ الفقه يقوم في بعض موارده على ما يُسمّى بـ (الحيل الشرعية)، وهذا منافٍ للمنظومة الأخلاقية، وفي الحقيقة إنَّ أوَّل من أطلق هذا المصطلح كُتُب أهل السُّنَّة، حيث نقل الغزالي أنَّ الفقيه الذي كان يتهرَّب من الزكاة بنقل هذا الحقِّ إلى زوجته هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري تلميذ أبي حنيفة، وأوَّل قاضي للقضاة في العالم الإسلامي والفقيه السُّنّي المبرز في القرن الثاني الهجري، حيث قال في ذلك: (وحكي أنَّ أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ويستوهب مالها إسقاطاً للزكاة)، ثمّ أضاف قائلاً: (وحكي ذلك لأبي حنيفة)، وقال: (وذلك من فقهه)(١٤٢)، ولم يرد هذا المصطلح في كلمات الأئمَّة (عليهم السلام) ولا في عبائر المتقدِّمين من علمائنا، وما وقع عند البعض وإن كنّا لا نرتضيه لكن المراد منه ليس كما يراه الطرف الآخر، فما يعنيه علماء الإماميَّة هو عبارة عن انتفاء الموضوع، وهو خاضع لضوابط وشروط خاصَّة ومنضبطة، فإنَّ الشارع المقدَّس وإن أجاز مثلاً نقل الحقِّ إلى الزوجة لكن هذا الحكم ليس على إطلاقه، فلا يحقُّ للمكلَّف دفع هذا الحقِّ لزوجته مع عدم وجود الشأنية أو عدم استحقاق الزوجة. وأن يكون الدفع حقيقياً وليس صورياً فقط، بل لا بدَّ بعد دفعه أن يدخل في ملكها، ولها حقُّ التصرُّف فيه حاله كحال أموالها الخاصَّة. وكذلك على سبيل المثال ما يُعبَّر عنه بالهروب من الصوم من خلال السفر، فالبعض يطلق عليه بـ (الحيلة الشرعية)، مع أنَّنا لو لحظنا هذا الحكم فإنَّه عبارة عن انتفاء موضوع الصوم بالسفر، فإنَّ المسافر لا يجب عليه الصوم، فمن يخرج قبل الزوال قاصداً السفر وقطع المسافة المطلوبة، فهنا ينتفي وجوب الصوم وينتقض بالسفر، وهذا ليس بحيلة وإنَّما الشارع المقدَّس أجاز للمكلَّف السفر في شهر رمضان فإن تحقَّقت شروط السفر وضوابطه فلا مانع من ذلك، وهذا ليس بحيلة في الحقيقة وإنَّما أُطلق عليه هذا المصطلح من غير أن يُراعى فيه الدقَّة وإن كان ليس في محلِّه كما ذكرنا.
***************
(١٤٠) بحار الأنوار (ج ٥٨/ ص ١٥٠).
(١٤١) مستدرك الوسائل (ج ٩/ ص ٤٢/ باب وجوب أداء حقِّ المؤمن/ ح ١٠).
(١٤٢) إحياء علوم الدين للغزالي (ج ١/ ص ١٨).


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page