أ _ في القرآن الكريم:
مرَّ ذكر صفات الأُمّة الوارثة وهم (الذين آمنوا)، و(عملوا الصالحات)، و(استضعفوا) وهذه الصفات تضفي علىٰ الأُمّة طابعاً حركياً، وذلك لأنَّ كلّ صفة منها تتضمَّن معنىٰ العمل المستمرّ لتغيير الواقع نحو الأفضل فالإيمان يؤدّي إلىٰ العمل والعمل يؤدّي إلىٰ التغيير والتطوير والإبداع، وفي حال وجود معارض سيستضعف تلك الجماعة عندها سيكون ردّ فعلها أن تزيد من عملها بأُسلوب آخر وبعزيمة أكبر وهكذا تستمرّ هذه الدورة التغييرية حتَّىٰ تحقّق أهدافها(٩٥٣).
ولهذه العملية صور تتجسَّد فيها حركة الأُمّة الوارثة، منها:
الصورة الأُولىٰ: حركيتها في إقامتها الصلاة:
قال تعالىٰ: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ) (الحجّ: ٤١).
معنىٰ الإقامة هو (إدامة الفعل والحفاظ عليه، وقد يُراد بها ما تستقيم بها الأفعال)(٩٥٤)، وقوله جلَّ وعلا: (أَقامُوا الصَّلاةَ) أي أداموها وحافظوا عليها وجعلوها قائمة علىٰ كلّ عمل ومقوِّمة له(٩٥٥)، و(تخصيص إقامة الصلاة بالذكر من بين سائر أجزاء الدين لشرفها وكونها ركناً من الدين يُحفَظ بها ذكر الله والخضوع إلىٰ مقامه الذي هو بمنزلة الروح الحيّة في هيكل الشرائع الدينية)(٩٥٦).
ولا يُراد من إقامة الصلاة الجانب العبادي فقط بقدر ما يُراد منها الآثار التي تعكسها علىٰ المجتمع ومدىٰ فاعليتها في إنهاء أساس الانحراف السلوكي لدىٰ الأُمم الذي يرجع إلىٰ وجود الفاحشة، والتي تعني (القبح في كلّ شيء)(٩٥٧)، سواء كان (في القول أو العمل أو أيّ أمر آخر)(٩٥٨)، وما ينتج عنها من المنكر في كلّ امتداداته الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وسعي الأُمّة الوارثة بأن تكون أعمال الأفراد مستقيمة من خلال قيمومة الصلاة عليها، يعني أنَّهم يحيون الصلة بين الإنسان وخالقه من خلال بثّ مباشر للتعاليم الإلهية التي جاءت بها الرُسُل وعكسها علىٰ الواقع العملي، وهذا ما يُشير له قوله تعالىٰ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: ٢٤)، وإحياء الصلة بالله يعني معرفته، ومعرفته تُؤدّي إلىٰ مراقبة رضاه في كلّ حركة وسكنة، وبذلك فإنَّ (الصلاة تحوَّلت من حركات جسدية إلىٰ عمل حركي واضح المعالم)(٩٥٩) في مفاصل مجتمع الأُمّة المؤمنة.
الصورة الثانية: حركيتها في إيتاء الزكاة:
قال تعالىٰ: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) (الحجّ: ٤١).
الزكاة في اللغة من (زكي) وهو (أصلٌ يدلُّ علىٰ نماء وزيادة وطهارة)(٩٦٠)، والإيتاء هو (مجيء الشيء وإصحابه وطاعته)(٩٦١).
وفُسرت الزكاة بنحوين:
الأوّل عامّ، أي إعطاء كلّ ما يورث النماء والتطهير والطاعة، والثاني بأنَّها الحقّ المالي الذي يجب أن يدفعه المسلم عند تحقّق شرطه(٩٦٢)، وفي كلّ الأحوال فإنَّ معنىٰ الإيتاء يكفي للدلالة علىٰ حركية الأُمّة في شتّىٰ ميادين العطاء المادّي والمعنوي.
الصورة الثالثة: حركيتها في أمرها بالمعروف:
(المعروف) في اللغة هو (ما تسكن له النفس وتطمئنّ)(٩٦٣)، وقال صاحب المعجم الوسيط: (العُرْفُ: المعروف، وهو خلاف النكر، وهو ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم)(٩٦٤)، والمعنىٰ الثاني لا يُعطي معنىٰ دقيق للمعروف لأنَّه قد يتعارف الناس علىٰ أمر باطل أو مخالف للشرع في معاملاتهم، ومجرَّد تعارفهم عليه لا يجعل منه معروفاً بالمعنىٰ الشرعي، ولذلك فالمعنىٰ الأوّل أدقّ.
أمَّا معناه في الاستعمال القرآني فهو: (كلّ ما حسن في العقل أو في الشرع فعله، ولم يكن منكراً ولا قبيحاً عند العقلاء)(٩٦٥)، والآمرون بالمعروف هم: (الذين يأمرون بما أمر الله به من الواجبات والمندوبات، وينهون عمَّا نهىٰ الله عنه وزهد فيه من القبائح)(٩٦٦)، وهذه من أهمّ مميِّزات الأُمّة الوارثة لقوله تعالىٰ: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عاقِبَةُ الْأَمُورِ) (الحجّ: ٤١)، والآية فيها (إرشاد إلىٰ تنازع البقاء والدفاع عن الحقّ، وأنَّه ينتهي ببقاء الأمثل وحفظ الأفضل)(٩٦٧)، و(سمّي الحقّ (معروفاً) والباطل (منكراً) لأنَّ الحقّ يعرف صحَّته العقل، إذ الاعتماد في المعرفة علىٰ الصحَّة، وينكر الباطل بمعنىٰ ينكر صحَّته)(٩٦٨). وبذلك تكون الأُمّة الآمرة بالمعروف ناجية من الخسران الذي بيَّنته سورة العصر لتواصيها بالحقّ من خلال الدفاع عنه، وهذا يستدعي حركة وتواصل مع جميع ميادين الحياة المسهمة في نموّ العمران الدنيوي والأُخروي.
ويمكن تمثيل حركية الآمر بالمعروف بالسائر الحكيم في طريق مملوء بالعقبات والمطبّات التي تُعرقل السير، فهو يزيلها كي يسير بسهولة وفي ذات الوقت يُمهِّد الطريق للآتي بعده أو السائر خلفه.
الصورة الرابعة: حركيتها في مسارعتها للخيرات:
قال تعالىٰ: (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران: ١١٤).
إنَّ تعبير (يسارعون في الخيرات) له (مفهوم واسع إلىٰ درجة أنَّه يشمل التقدّم في جميع الأُمور ذات المنحىٰ الإيجابي من أُمور الحياة)(٩٦٩)، ممَّا يعني أنَّ الأُمّة الوارثة ليست فقط أُمّة إصلاحية وإنَّما أُمّة تطوير، وهذا ما يُعبِّر عنه لفظ (يُسارِعُونَ)؛ لأنَّ (السرعة هي التقدّم فيما يجوز أن يتقدَّم فيه وهي محمودة، وضدّها الإبطاء وهو مذموم)(٩٧٠)، وكذلك هي أُمّة ابداع وابتكار، وهو ما يُعبِّر عنه لفظ (سابِقُونَ) في قوله تعالىٰ: (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) (المؤمنون: ٦١)، لأنَّ معنىٰ (السبق) هو (سبق الناس إليه، أي المبادرة إليه أوّلاً)(٩٧١)، ولذلك وصف الله عز وجل هذه الأُمّة بأنَّها (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) بقوله تعالىٰ: (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران: ١١٣ و١١٤)، فالآية وإن كانت تتكلَّم عن أهل الكتاب لكنَّها لا تنحصر فيهم، فكلّ من اتَّصف بالصفات المذكورة في الآية ينطبق عليهم وصف الأُمّة القائمة(٩٧٢). والمراد بالأُمّة القائمة هي الأُمّة التي تتحرَّك لإنجاز مهامها من صلاة وزكاة ومعروف ومسارعة بالخيرات وسبق لها للنهوض بواقعها(٩٧٣). هذه مجمل الصور التي تجسَّدت فيها حركية الأُمّة الوارثة وميدانيتها في العمل من خلال المنظور القرآني.
ب _ في كتب العهدين:
النصوص الواردة في كتب العهدين القديم والجديد حول الأُمّة التي ترث الأرض ويكون لها الملكوت لم تُصرح بشكل مباشر بماهية الأعمال التي تقوم بها تلك الأُمّة وإنَّما أشارت لها بإشارات، ولكن بإمكان توضيحها بمساعدة نصوص أُخرىٰ لاستجلاء صور حركية الأُمّة.
الصورة الأُولىٰ: تجسّد الحركية في الطلب:
يتضمَّن الطلب معنىٰ العمل والسعي(٩٧٤) حسب (أوامر الله عز وجل للوصول لوراثة الأرض والحفاظ عليها لتسليمها إلىٰ الخلف من بعدهم)(٩٧٥)، وهذا ما بيَّنته النصوص الآتية:
* (احفظوا واطلبوا جميع وصايا الربّ إلهكم لكي ترثوا الأرض الجيّدة وتورّثوها لأولادكم بعدكم إلىٰ الأبد)(٩٧٦).
* (أُطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم)(٩٧٧).
* (أُطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه)(٩٧٨).
وتبيَّن مسبقاً أنَّ دخول الملكوت ووراثة الأرض لا يكون إلَّا من خلال العمل، وهذا ما يحثُّ عليه العهد القديم والجديد لأهمّيته(٩٧٩)، فبه ينتشر الخير وتنتهي الشرور.
الصورة الثانية: تجسّد الحركية بالبرّ:
البرّ كلمة جامعة لكلّ أعمال الخير، ولذلك نبَّه يسوع أتباعه بقوله: (إن لم يزد برّكم علىٰ الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات)(٩٨٠)، ويريد أن يقول لهم: إن لم يزد عملكم الإصلاحي والتغييري لن تدخلوا الملكوت، وهذا ما يُؤكِّده النصّ التالي: (وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين إنَّه قد اقترب ملكوت السماوات..، اشفوا مرضىٰ، طهّروا برصا، أقيموا موتىٰ، أَخرجوا شياطين، مجّاناً أخذتم مجّاناً اعطوا)(٩٨١).
فالنصّ يُظهر حركية هذه الجماعة في (اشفائهم للمرضىٰ بالإضافة إلىٰ إعلان البشارة، ممَّا يُؤكِّد أنَّ ملكوت الله يظهر بالعمل، حتَّىٰ أنَّ إنجيل متّىٰ بكامله مبني علىٰ ثنائية القول والعمل في نشاط المؤمنين بالله)(٩٨٢).
***************
(٩٥٣) ظ/ الفصل الثاني من البحث (وراثة الأرض كدح إنساني).
(٩٥٤) المفردات في غريب القرآن/ الراغب الأصفهاني: ٤٣٤.
(٩٥٥) ظ/ تفسير الميزان/ الطباطبائي ١١: ١٨٣.
(٩٥٦) تفسير الميزان/ الطباطبائي ٨: ١٦٦.
(٩٥٧) معجم مقاييس اللغة/ ابن فارس ٤: ٤٧٨.
(٩٥٨) العين/ الخليل بن أحمد الفراهيدي ٣: ٩٦.
(٩٥٩) العبادة بين الفاعلية والركود (محاضرة)/ عبد الله الغريفي/الموقع الالكتروني (www.alghuraifi.org).
(٩٦٠) معجم مقاييس اللغة/ ابن فارس ٣: ١٧.
(٩٦١) معجم مقاييس اللغة/ ابن فارس ١: ٤٩.
(٩٦٢) ظ/ تفسير مجمع البيان/ الطبرسي ٧: ٢٢٧.
(٩٦٣) معجم مقاييس اللغة/ ابن فارس ٤: ٢٨١.
(٩٦٤) المعجم الوسيط/ إبراهيم مصطفىٰ - أحمد الزيّات وآخرون ٢: ٦٠١.
(٩٦٥) تفسير التبيان/ الشيخ الطوسي ٥: ٥٨.
(٩٦٦) تفسير التبيان/ الشيخ الطوسي ٥: ٣٠١.
(٩٦٧) تفسير الميزان/ الطباطبائي ٢: ١٧٣.
(٩٦٨) تفسير التبيان/ الشيخ الطوسي ٤: ٥٦٢.
(٩٦٩) تفسير الأمثل/ مكارم الشيرازي ١٤: ٩٠.
(٩٧٠) تفسير التبيان/ الشيخ الطوسي ٢: ٥٦٥.
(٩٧١) العين/ الخليل بن أحمد الفراهيدي ٥: ٥٨.
(٩٧٢) القاعدة القرآنية تقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. (ظ/ البرهان في علوم القرآن/ الزركشي ١: ٣٢).
(٩٧٣) ظ/ فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم/ علي محمّد محمّد الصلابي: ٤٧٧.
(٩٧٤) ظ/ الفصل الأوّل من البحث (مفهوم التنافس).
(٩٧٥) ظ/ السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم (شرح سفر أخبار الأيّام الأُوَل)/ وليم مارش: ٣٨.
(٩٧٦) سفر أخبار الأيّام الأُوَل ٢٨: ٨.
(٩٧٧) إنجيل لوقا ١١: ٩.
(٩٧٨) إنجيل متّىٰ ٦: ٣٣؛ إنجيل لوقا ١٢: ٣١.
(٩٧٩) أرسل يعقوب رسالة إلىٰ المشتّتين في روما تحثّهم علىٰ العمل بإخلاص وعدم الاتّكال والكسل، فكانت الرسالة عملية أكثر من كونها لاهوتية أو عقائدية. (الإيمان بدون أعمال ميّت/ ريتشارد توماس: ٣).
(٩٨٠) إنجيل متّىٰ ٥: ٢٠.
(٩٨١) إنجيل متّىٰ ١٠: ٧ و٨.
(٩٨٢) الكتاب المقدَّس/ مجمع الكنائس الشرقية: ٤٥.
المطلب الثاني: صور حركية الأمّة الوارثة
- الزيارات: 280