السمات التي تتميَّز بها حركية الأُمّة الوارثة لا يمكن أن تكون بهذا العمق والشمول لولا أنَّها منطلقة من قاعدة فكرية رصينة تضمن لها وجود واستمرار تلك السمات(٩٨٧)، وهذه القاعدة الفكرية يمكن الوصول إلىٰ معرفة طبيعتها من خلال سمات حركية الأُمّة الوارثة كما يأتي:
١ _ بما أنَّ سمة الحركية ذات طابع واقعي فهذا يعني أنَّها منطلقة من قاعدة فكرية لها طبيعة فطرية منسجمة مع النفس الإنسانية ومتفاعلة معها.
٢ _ بما أنَّ سمة الحركية ذات طابع تغييري، فهذا دالٌّ علىٰ أنَّ قاعدتها الفكرية ذات طبيعة عملية قادرة علىٰ أن تبعث روح العمل في الإنسان وتحرّكه من أجل تلبية متطلّباته المادّية والمعنوية والعيش بشكل أفضل.
٣ _ طبيعة شمولية بإمكانه استيعاب جميع أبعاد حركة الإنسان علىٰ جميع الأصعدة.
وهذه الصفات والخصائص لفكر الأُمّة الوارثة لا يمكن أن يوفّرها أيّ اتّجاه فكري إلَّا الدين الإلهي الذي يقتضي التوحيد و(التسليم والطاعة المطلقة لله عز وجل)(٩٨٨) لقوله تعالىٰ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْأَسْلامُ) (آل عمران: ١٩)، والإسلام في الآية الكريمة: (هو التسليم للحقّ الذي هو حقّ الاعتقاد وحقّ العمل، وبعبارة أُخرىٰ هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والأحكام، وهو وإن اختلف كمَّاً وكيفاً في شرائع أنبيائه ورُسُله غير أنَّه في الحقيقة ليس إلَّا أمراً واحداً وإنَّما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون التضادّ والتنافي، والتفاضل بينها بالدرجات، ويجمع الجميع أنَّها تسليم وإطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده علىٰ لسان رُسُله)(٩٨٩). فـ (التوحيد يجعل الدين متطابقاً مع الفطرة الإنسانية ويُعطيه القدرة علىٰ العطاء في كلّ زمان ومكان)(٩٩٠).
وهذا ما يُفسر معنىٰ دوام التأكيد علىٰ توحيد الله عز وجل وحفظ ناموسه وشرائعه ووصاياه في كتب العهدين والتي لم يلتزم بها أتباعها، فاليهود يتحرَّكون من منطلق أنَّهم شعب الله المختار وبقيّة الأُمم حيوانات مسخَّرة لخدمة اليهود(٩٩١)، والنصارىٰ بسبب فهمهم المحرَّف للإنجيل (وقعوا في فخّ الرهبانية التي لم تكن من أصول دينهم ممَّا جعلت أتباعها ينفرون من الكنيسة وفصلوا نشاطهم وسعيهم عن الدين)(٩٩٢).
فصارت منطلقاتهم الفكرية عاجزة عن إمداد الجناح الثاني لحضارتهم المادّية بالإمداد الروحي لها وبذلك فقدت السمة الواقعية بالنسبة إلىٰ النصارىٰ والسمة الشمولية بالنسبة إلىٰ اليهود.
***************
(٩٨٧) الحركية والفكر (مقال)/ فتح الله كولن/ مجلَّة حراء/ العدد ١٢/ لسنة (٢٠٠٨م).
(٩٨٨) تفسير الميزان/ الطباطبائي ١: ١٧٤.
(٩٨٩) تفسير الميزان/ الطباطبائي ٣: ٦٧.
(٩٩٠) عالمية الإسلام/ أنور الجندي: ٢٣.
(٩٩١) ظ/ الفصل الثالث من البحث (مفهوم الأُمّة في العهد القديم).
(٩٩٢) الرهبانية المسيحية وموقف الإسلام منها/ أحمد علي عجيبة: ١١.
طبيعة فكر الأمّة الوارثة
- الزيارات: 264