طباعة

عرض الأعمال

في الرواية عن عبد الله بن أبان الزيّات ـ وكان مكيناً عند الرضا عليه السلام ـ قال: "قلت للرضا عليه السلام: ادعُ الله لي ولأهل بيتي. قال عليه السلام: أولستُ أفعل؟ والله إنّ أعمالكم لتُعرض عليّ في كلّ يوم وليلة. قال: فاستعظمتُ ذلك. فقال عليه السلام لي: أما تقرأ كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون﴾ قال عليه السلام: هو والله ابن أبي طالب عليه السلام". (الكافي، الكليني، ج 1، ص 219، الحديث 4)

تمهيد
إنّ عرض أعمال العباد على الله ورسوله والمؤمنين من الأمور التي وردت فيها آيات من القرآن الكريم، وروايات من السنّة الشريفة، ولا يأباها العقل السليم.

فالآية الكريمة من سورة التوبة: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾1 صريحة بأنّ الله سبحانه وتعالى يرى أعمالنا، وكذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك المؤمنون، لكن أن يراها الله سبحانه في الدنيا قبل الآخرة، فهذا ما لا نشك به، ولكن أن يراها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون فإنّ هذا ما سنبيّنه في هذه الصفحات، كيف يراها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ ومتى يراها؟ ومن هم المؤمنون في هذه الآية؟ وكيف يرون الأعمال؟ وما الفائدة من عرض الأعمال عليهم؟ نسأل الله سبحانه أن يوفّقنا لعلاج هذه المسألة.

رؤية الله للأعمال:
إنّ الإنسان المؤمن بالله سبحانه وتعالى مؤمن بأنّ الله جلّ وعلا مطّلع عليه في كلّ أحواله، فهو الله الذي وصف نفسه في كتابه الكريم ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾2 . وإذا استطاع الإنسان أن يعيش الرقابة الإلهيّة بشكل دائم فإنّه سوف تتبدّل حاله المعنويّة إلى أفضل حال، لأنّه عندما يُريد أن يهمّ بالمعصية ـ والعياذ بالله ـ سوف تقول له نفسه: كيف تعصي الله وهو يراك، وهو المنعم عليك بنعمة الوجود، وبكل النعم التي تشعر بها، حتى باليد التي تريد أن تعصيه بها أو العين أو اللسان أو غير ذلك من جوارحك...؟ ولكن مع علمنا بأنّ الله دائمُ الرؤية لنا نتصرّف في محضره كأنّه لا يرانا، ومع علمنا بأنّه غفّار الذنوب، وبأنّه رحمن رحيم وبأنّه عفوّ وعطوف ورؤوف وسائر صفات الرحمة والجمال متصف بها، تجعلنا نتعامل معه تعالى على أساس هذه الصفات الجمالية فنتصرف كأنّه لا يرانا، ونهمّ بالمعاصي وكأنّه لا يسجلها علين، يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في الدعاء الذي ينقله عنه أبو حمزة الثمالي: "... ويحملني ويجرّئني على معصيتك حلمك عنّي، ويدعوني إلى قلّة الحياء سترك عليّ، ويسرّعني إلى التوثّب على محارمك معرفتي بسعة رحمتك وعظيم عفوك"3 .

رؤية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام:
أما رؤية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام لأعمال العباد، فقد ورد في تفسير الآية عن الإمام الرضا عليه السلام أنّ المراد بالمؤمنين عليه السلام هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام. ونُلاحظ في الرواية التي صدّرنا بها الحديث أنّ الإمام عليه السلام قال لعبد الله بن أبان الزيّات: إنّ أعمالكم لتعرض عليّ في كلّ يوم وليلة، ولا فرق بين إمام وإمام لأنّ الأئمّة عليهم السلام كلّهم نور واحد، فما عند أمير المؤمنين عليه السلام من مهام يقوم بها هي عند سائر الأئمّة عليهم السلام حتّى صاحب العصر والزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.

وقد أفرد الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني قدس سره في كتابه الشريف الموسوم بالكافي في المجلّد الأوّل باباً خاصّاً يحمل اسم "عرض الأعمال على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام"، نذكر منه رواية سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "سمعته يقول عليه السلام: إنّكم تسوؤون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقال رجل: كيف نسوؤه؟ فقال عليه السلام: أما تعلمون أنّ أعمالكم تُعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسرّوه"4 .

وعن إبراهيم بن مهزم قال: "خرجت من عند أبي عبد الله عليه السلام ليلة ممسياً فأتيت منزلي بالمدينة وكانت أمّي معي، فوقع بيني وبينها كلام فأغلظت لها، فلمّا أن كان من الغد صلّيت الغداة وأتيت أبا عبد الله عليه السلام فلمّا دخلتُ عليه قال لي مبتدئاً: يا أبا مهزم، ما لك وللوالدة، أغلظت في كلامها البارحة؟ أما علمت أنّ بطنها منزل قد سكنته، وأنّ حِجرها مهد قد غمرته، وثديها وعاء قد شربته؟! قال: قُلت: بلى. قال عليه السلام: فلا تُغلظ لها"5 .

إنّ الوقوف على هذه الرواية يستدعي الحديث عن الوالدة، ومكانتها في حياة الإنسان، وكيف ينبغي للإنسان التعامل معها حتى في أحلك الظروف، وأنّ عليه أن لا يغلظ لها في الكلام، ولكن هذا يبعدنا عن معنى الحديث، وحديثنا في هذه الرواية كيف ابتدأ الإمامُ إبراهيمَ بن مهزم بنصحه. عمّا جرى معه بالأمس من كلام بينه وبين والدته، وكيف اطلع على غلاظته معها، ممّا يدل بصراحة على عرض الأعمال عليه.

شعيتنا مَن يرعى قلبه:
في حديث بصائر الدرجات عن مرازم قال: "دخلت المدينة فرأيت جارية في الدار التي نزلتها فعجبتني (...) فلما أصبحتُ دخلتُ على أبي الحسن الرضا فقال عليه السلام: يا مرازم ليس من شعيتنا من خلا ثمّ لم يرعَ قلبه"6 . والمراجع لهذه الرواية يجد أنّ مرازم قد حاول مراودة الفتاة عن نفسها، وهي قد رفضت، فهو لم يرعَ الله ولم يخشَه، ولم يخفه، وهذا ما قد يحصل مع بعض شباب اليوم، حيث يحاولون بشتى الطرق والأساليب إيقاع الفتيات في مكائدهم وشراكهم. ومنهم من يظنّ أنّه لا يراه أحد، ولا يطّلع عليه أحد، ولكنّه لو علم أنّ صاحب العصر والزمان | يطّلع على فعله وصنيعه، لارتدع عن فعلته هذه، فها هو الإمام (أبو الحسن) الرضا عليه السلام يطّلع على صنيعة مرازم، ويبادره بالقول "ليس من شيعتنا من خلا ثمّ لم يرعَ قلبه"، ولا فرق بين إمام وإمام، فإنّ لكلّ زمان إمامه، وإمامنا صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف مطّلع على أعمالنا، يفرح لفرحنا، ويحزن لحزننا، ويسوؤه ما نقوم به من معاصٍ وسيّئات، فلنحاول أن لا نؤذي قلب إمامنا.

الإمام الرضا عليه السلام وجنازة المحبّ:
تعالوا نلاحظ الإمام الرضا عليه السلام كيف تعامل مع وليّ من أوليائه وهو جنازة محمول على الأكف، حيث ينقل في مناقب ابن شهر آشوب عن موسى بن سيّار قال: "كنت مع الرضا عليه السلام وقد أشرف على حيطان طوس وسمعت واعية فأتبعتها فإذا نحن بجنازة، فلمّا بصرت بها رأيت سيّدي وقد ثنى رجله عن فرسه، ثمّ أقبل نحو الجنازة فرفعها، ثمّ أقبل يلوذ بهما كما تلوذ السخلة بأمّها، ثمّ أقبل عليّ وقال: يا موسى بن سيّار، من شيّع جنازة وليّ من أوليائنا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه لا ذنب عليه، حتّى إذا وُضع الرجل على شفير قبره رأيت سيّدي قد أقبل فأخرج الناس عن الجنازة حتّى بدا له الميت، فوضع يده على صدره، ثمّ قال: يا فلان بن فلان أبشر بالجنّة فلا خوف عليك بعد هذه الساعة. فقلت: جعلت فداك هل تعرف الرجل؟ فوالله إنّها بقعة لم تطأها قبل يومك هذا. فقال لي: يا موسى بن سيّار أما علمت أنّا معاشر الأئمّة تعرض علينا أعمال شيعتنا صباحاً ومساءً؟ فما كان من التقصير في أعمالهم سألنا الله تعالى الصفح لصاحبه، وما كان من العلوّ سألنا الله الشكر لصاحبه"7 .

نعم، إن إمامنا تُعرض عليه الأعمال صباحاً ومساءً، أعمال كل الناس، ولكن للعلاقة بين الإمام وبين أتباعه وأوليائه وشدّة اهتمامه بهم يقول: تعرض أعمال شيعتنا. ومن الطبيعيّ جدّاً أن يهتمّ الإمام بمحبّيه وأوليائه، لأنّهم هم الّذين يوالونه ويحبّونه ويدعون له بتعجيل الفرج، فلماذا ندعو له من جهة ونؤذيه من جهة أخرى؟ لماذا نسوؤه بالمعاصي والذنوب؟ أليس حريّاً بنا أن نسعى جاهدين كي نُفرح قلبه كلّ صباح وكلّ مساء، وندعو له، كي يؤمّن على دعائنا، ويستغفر لنا ونوطّد العلاقة بيننا وبينه؟

ختام الكلام:
بعد هذا العرض اليسير لعرض الأعمال على الأئمّة عليهم السلام، نذكر أنّ هناك روايات متعدّدة في هذا الصدد. يبقى سؤال صغير أنّه هل يمكننا الاستفادة من هذا المعتقد في حياتنا؟

الجواب: نعم، إنّ من يوطّن نفسه على هذا المعتقد، وأنّ أعماله سوف تعرض على إمامه، يستطيع أن يبني نفسه بشكل أفضل، لأنّه إن لم يخجل من الله سبحانه وتعالى، فإنّه يخجل من إمامه، لا سيّما أنّه يأمل ويرجو أن يكحل عينيه بالنظر إلى وجه إمامه، إمّا في الدنيا أو في الآخرة، فكيف ينظر إلى وجهه الشريف وهو يعلم أنّ هذا الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف كان يعلم بكلّ حركاته وسكناته؟ ألا يخجل الواحد منّا ـ إن كان من أصحاب المعاصي ـ أن يضع عينيه بعيني الإمام عليه السلام؟ ولكي لا يقع في هذا الخجل والحياء، ولكي يكون له الجرأة بالتشرّف بلقائه سوف يسعى لتحسين سيرته، وتهذيب نفسه، والابتعاد عن المعاصي، لذلك كان للإيمان برؤية المعصوم عليه السلام للأعمال، وعرضها عليه ـ مع غضّ النظر عن فلسفتها الحقيقية من دور الإمام في تنظيم شؤون العباد ـ دور في تهذيب نفوس المحبّين.

نسأل الله سبحانه أن يوطّن في نفوسنا هذه الحالة، ويجعلنا من الذين يعيشون حالة مراقبة الله والإمام لنا، ونخلص أعمالنا لله، ويجعلنا من الذين لا يسوؤون إمامهم، بل يُسرّونه ويُفرحونه، ويدعو لنا ويؤمّن لدعائنا. والحمد لله ربّ العالمين.

* وموعظة للمتقين ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- سورة ق، الآية: 16.
3- دعاء السحر في شهر رمضان المبارك، مصباح المتهجّد، الكفعمي.
4- الكافي، الكليني، ج 1، ص 219، الحديث 3.
5- بصائر الدرجات، محمّد بن الحسن الصفّار، ص 263.
6- بصائر الدرجات، محمّد بن الحسن الصفار، ص 267 (بتصرف حذفٍ من وسط الرواية).
7- بحار الأنوار، المجلسي، ج 49، ص 99، الحديث 13.

المصدر : شبكة المعارف الإسلامية

,