• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

إيثار الإمام علي (علیه السلام) الرائع ليلة المبيت

 

قال الله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤوفُ بِالْعِبَادِ ) ( 1 ) .
انتشر دين الله في شبه الجزيرة العربيّة شيئاً فشيئاً ، وعلا الأذان المحمّدي ، وانعكس صداه في أرجاء منها ، وكانت ” يثرب ” من المدن التي سمعت نداء الحقّ ، وقد التقى عدد من أهلها برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في موسم الحجّ ، وعاهدوه سرّاً ( 2 ) .
ومن جهة أُخرى زاد المشركون ظلمهم وجورهم ، وبلغوا ما بلغوا في تعذيبهم واضطهادهم وإرهابهم للناس ، واشتدّ أذاهم للمسلمين ، فأمر النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) بالهجرة إلى يثرب .
من هنا ، هاجر المسلمون إلى يثرب تخلّصاً من جور المشركين واضطهادهم ، وقد بذل المشركون قصارى جهدهم للحؤول دون الهجرة ، بيد أنّ رجالاً كثيراً تركوا ما عندهم في مكّة وغادروها على عجل ، ففزع المشركون لذلك ؛ لأنّهم كانوا يعتقدون أنّه إذا اجتمع خلق غفير من أهل يثرب ، وحصل المسلمون على دعم من بعضهم ، وخرج النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) من مكّة والتحق بهم ، فسيشكّلون قوّة عظيمة تهدّد أمنهم وخاصّه قوافلهم التجاريّة . ولذا عزموا على تدبير مكيدة لإنهاء أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي كان لا يزال بمكّة .
فاجتمعوا وتشاوروا ، فتصافقوا على قتله ( صلى الله عليه وآله ) ؛ إذ لم يكن إخراجه أو حبسه مجدياً . واطّلع ( صلى الله عليه وآله ) على مؤامرتهم المشؤومة عن طريق الوحي ، فكُلِّف بالخروج من مكّة ( 3 ) ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ( 4 ) .
وقد قام المشركون بتطويق داره ( صلى الله عليه وآله ) ، بعد تداولهم في خطّة قتله وكيفيّة التنفيذ ، فإذا قَصَد الخروج فستتلقّاه سيوفهم وينتهي أمره إلى الأبد .
فاقترح ( صلى الله عليه وآله ) على علىّ ( عليه السلام ) أن يبيت في فراشه تلك الليلة ، فسأله : أوَ تسلم يا رسول الله ؟ قال : نعم . فرحّب الإمام ( عليه السلام ) بهذا الاقتراح موطّناً نفسه للقتل عند مواجهة المشركين صباحاً ( 5 ) ، وسجد سجدة الشكر على هذه الموهبة العظيمة ( 6 ) .
والتحف بالبرد اليمانيّ الأخضر الذي كان يلتحف به النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) عند نومه ، ونام مطمئنّاً في فراشه ( صلى الله عليه وآله ) ( 7 ) .
لقد عبّر الإمام ( عليه السلام ) بهذا الموقف عن غاية شجاعته ، وجسّدها وصدع بها عمليّاً ؛ إذ عرّض بدنه الأعزل للسيوف المسلولة ، وهذا اللون من الشجاعة امتاز به دون غيره .
وقد دفع هذا الإيثار الرائع الملائكة الكروبيّين إلى الاستحسان والإعجاب به .
وباهى الله سبحانه ملائكته بهذا المشهد العجيب لنكران الذات ( 8 ) ، فأنزل الآية الكريمة : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ . . . ) لتخليد هذه المنقبة ، وتكريم هذا الإيثار وهذه الفضيلة الرفيعة في أروقة التاريخ .
وبعد تلك الليلة كان ( عليه السلام ) يذهب إلى غار ” ثور ” ليُوصل ما يحتاج إليه النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ورفيقه ( 9 ) . فأوصاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بردّ الأمانات ، واللحاق به في المدينة ( 10 ) .
وبعد مدّة ترك ( عليه السلام ) مكّة قاصداً يثرب ومعه الفواطم ؛ أُمّه فاطمة بنت أسد ، والسيّدة فاطمة الزهراء ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب . فعلمت قريش بذلك ، وعزمت على منعه فبعثت ببعض فرسانها خلفه ، بيد أنّهم اصطدموا بموقفه الشجاع الجرئ ورجعوا خائبين ( 11 ) . وكان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ينتظره في ” قبا ” ، حتى إذا لحق به ، توجّهوا نحو يثرب ( 12 ) .
1 – الأمالي للطوسي عن أنس : لمّا توجّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الغار ومعه أبو بكر أمر النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً ( عليه السلام ) أن ينام على فراشه ويتوشّح ببردته ، فبات عليّ ( عليه السلام ) موطّناً نفسه على القتل ، وجاءت رجال قريش من بطونها يُريدون قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلمّا أرادوا أن يضعوا عليه أسيافهم لا يشكّون أنّه محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، فقالوا : أيقظوه ليجد ألم القتل ويرى السيوف تأخذه ، فلمّا أيقظوه ورأوه عليّاً ( عليه السلام ) تركوه وتفرّقوا في طلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأنزل الله عزّ وجلّ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤوفُ بِالْعِبَادِ ) ( 13 ) .
2 – تاريخ اليعقوبي : أجمعت قريش على قتل رسول الله ، وقالوا : ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات أبو طالب ، فأجمعوا جميعاً على أن يأتوا من كلّ قبيلة بغلام نَهْد ( 14 ) ، فيجتمعوا عليه ، فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد ، فلا يكون لبني هاشم قوّة بمعاداة جميع قريش .
فلمّا بلغ رسول الله أنّهم أجمعوا على أن يأتوه في الليلة التي اتّعدوا فيها خرج رسول الله لمّا اختلط الظلام ومعه أبو بكر ، وإنّ الله عزّ وجلّ أوحى في تلك الليلة إلى جبريل وميكائيل أنّي قضيت على أحدكما بالموت فأيّكما يواسي صاحبه ؟
فاختار الحياة كلاهما ، فأوحى الله إليهما : هلاّ كنتما كعليّ بن طالب ، آخيت بينه وبين محمّد ، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر ، فاختار عليٌّ الموت ، وآثر محمّداً بالبقاء ، وقام في مضجعه ؟ ! اهبطا فاحفظاه من عدوّه .
فهبط جبريل وميكائيل ، فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوّه ويصرفان عنه الحجارة ، وجبريل يقول : بخ بخ لك يا بن أبي طالب ، من مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سماوات ؟ !
وخلّف عليّاً على فراشه لردّ الودائع التي كانت عنده ، وصار إلى الغار فكمن فيه ، وأتت قريش فراشه فوجدوا عليّاً ، فقالوا : أين ابن عمّك ؟ قال : قلتم له : اخرج عنّا ، فخرج عنكم . فطلبوا الأثر فلم يقعوا عليه ( 15 ) .
3 – مجمع البيان – في ذكر مبيت عليّ ( عليه السلام ) على فراش النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : روي أنّه لمّا نام على فراشه قام جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجبرائيل ينادي : بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ! ( 16 )
4 – الأمالي للطوسي عن ابن عبّاس : اجتمع المشركون في دار الندوة ؛ ليتشاوروا في أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأتى جبرئيل ( عليه السلام ) رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخبره الخبر ، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة ، فلمّا أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المبيت أمر عليّاً ( عليه السلام ) أن يبيت في مضجعه تلك الليلة ، فبات عليّ ( عليه السلام ) وتغشّى ببرد أخضر حضرمي كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينام فيه ، وجعل السيف إلى جنبه فلمّا اجتمع أُولئك النفر من قريش يطوفون ويرصدونه ويريدون قتله ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهم جلوس على الباب ، عددهم خمسة وعشرون رجلا ، فأخذ حفنة من البطحاء ( 17 ) ، ثمّ جعل يذرّها على رؤوسهم [ و ] ( 18 ) هو يقرأ ( يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ ) حتى بلغ ( فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (19).
فقال لهم قائل : ما تنظرون قد والله خبتم وخسرتم ، والله لقد مرّ بكم وما منكم رجل إلاّ وقد جعل على رأسه تراباً . فقالوا : والله ما أبصرناه ! قال : فأنزل الله عزّ وجلّ ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ( 20 ) ( 21 ) .
5 – مسند ابن حنبل عن ابن عبّاس – في قوله تعالى : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ ) : تشاورت قريش ليلة بمكّة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق – يريدون النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) – وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله عزّ وجلّ نبيّه على ذلك ، فبات عليّ على فراش النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) تلك الليلة ، وخرج النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليّاً يحسبونه النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، فلمّا أصبحوا ثابوا إليه ، فلمّا رأوه عليّاً ردّ الله مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا ؟
قال : لا أدري ! فاقتصّوا أثره ، فلمّا بلغوا الجبل خلط عليهم فصعدوا في الجبل ، فمرّوا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال ( 22 ) .
6 – الإمام عليّ ( عليه السلام ) : إنّ قريشاً لم تزل تخيّل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار – دار الندوة – وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كلّ فخذ من قريش رجل ، ثمّ يأخذ كلّ رجل منهم سيفه ثمّ يأتي النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلّمها ، فيمضي دمه هدراً .
فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار ، فأخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالخبر ، وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أُقتل دونه ، فمضى ( عليه السلام ) لوجهه ، واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، فلمّا استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي ، فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس ( 23 ) .
7 – الطبقات الكبرى عن عائشة وابن عبّاس وعائشة بنت قدامة وعليّ ( عليه السلام ) وسراقة بن جعشم – دخل حديث بعضهم في حديث بعض – : أتى جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأخبره الخبر [ أي اجتماع قريش على قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ] وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة . . . وأمر عليّاً أن يبيت في مضجعه تلك الليلة ، فبات فيه عليّ وتغشّى بُرداً أحمر حضرميّاً كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينام فيه ، واجتمع أُولئك النفر من قريش يتطلّعون من صِيْر ( 24 ) الباب ويرصدونه يريدون ثيابه ويأتمرون أيّهم يحمل على المضطجِع صاحب الفراش ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهم جلوس على الباب ، فأخذ حفنة من البَطحْاء فجعل يذرّها على رؤوسهم ويتلو :
( يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ ) ( 25 ) حتى بلغ : ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) ( 26 ) ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فقال قائل لهم : ما تنتظرون ؟ قالوا : محمّداً ، قال : خبتم وخسرتم ، قد والله مرّ بكم وذرّ على رؤوسكم التراب ، قالوا : والله ما أبصرناه ! وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ، وهم : أبو جهل والحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي مُعَيط والنضر ابن الحارث وأُميّة بن خلف وابن الغيطلة وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عديّ ، وأبو لهب وأُبيّ بن خلف ونبيه ومُنبه ابنا الحجّاج ، فلمّا أصبحوا قام عليّ عن الفراش ، فسألوه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : لا علم لي به ( 27 ) .
8 – المستدرك على الصحيحين عن ابن عبّاس : شرى عليّ نفسه ولبس ثوب النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ثمّ نام مكانه . قال : وكان المشركون يرمون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ألبسه بردة ، وكانت قريش تريد أن تقتل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، فجعلوا يرمون عليّاً ويرونه النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وقد لبس بردة ، وجعل عليّ ( رضي الله عنه ) يتضَوّر ( 28 ) ، فإذا هو عليّ فقالوا : إنّك للئيم ؛ إنّك لتتضوّر وكان صاحبك لا يتضوّر ، ولقد استنكرناه منك ( 29 ) .
9 – مسند ابن حنبل عن ابن عبّاس : شرى عليّ نفسه ؛ لبس ثوب النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ثمّ نام مكانه ، قال : وكان المشركون يرمون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فجاء أبو بكر وعليّ نائم ، قال : وأبو بكر يحسب أنّه نبيّ الله ، فقال : يا نبيّ الله ، قال : فقال له عليّ : إنّ نبيّ الله ( صلى الله عليه وآله ) قد انطلق نحو بئر ميمون فأدرِكه ، قال : فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار ، قال : وجعل عليّ يُرمى بالحجارة – كما كان يُرمى نبيّ الله – وهو يتضوّر ، قد لفّ رأسه في الثوب لا يخرجه ، حتى أصبح ، ثمّ كشف عن رأسه ، فقالوا : إنّك للئيم ؛ كان صاحبك نرميه فلا يتضوّر وأنت تتضوّر ، وقد استنكرنا ذلك ( 30 ) .
10 – تاريخ الطبري : أصبح الرهط الذين كانوا يرصدون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فدخلوا الدار ، وقام عليّ ( عليه السلام ) عن فراشه ، فلمّا دنوا منه عرفوه ، فقالوا له : أين صاحبك ؟
قال : لا أدري ، أَوَ رقيباً كنتُ عليه ؟ ! أمرتموه بالخروج فخرج . فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلى المسجد ، فحبسوه ساعة ثمّ تركوه ( 31 ) .
11 – الأمالي للطوسي عن هند بن هالة وأبي رافع وعمّار بن ياسر – في ذكر اجتماع قريش على قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعزمه على الهجرة إلى المدينة : دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً ( عليه السلام ) وقال له : يا عليّ ، إنّ الروح هبط عليَّ بهذه الآية آنفاً ، يخبرني أنّ قريشاً اجتمعوا على المكر بي وقتلي ، وأنّه أوحى إليّ ربّي عزّ وجلّ أن أهجر دار قومي ، وأن أنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي ، وأنّه أمرني أن آمرك بالمبيت على ضجاعي – أو قال : مضجعي – ليخفى بمبيتك عليه أثري ، فما أنت قائل وما صانع ؟
فقال عليّ ( عليه السلام ) : أَوَ تسلم بمبيتي هناك يا نبيّ الله ؟ قال : نعم ، فتبسّم عليّ ( عليه السلام ) ضاحكاً ، وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً بما أنبأه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من سلامته ، وكان عليّ صلوات الله عليه أوّل من سجد لله شكراً ، وأوّل من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأُمّة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلمّا رفع رأسه قال له : امضِ لما أُمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي ، ومُرني بما شئت أكن فيه كمسرّتك ، وأقع منه بحيث مرادك ، وإن توفيقي إلاّ بالله . . . .
فلمّا غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر ، أقبل القوم على عليّ صلوات الله عليه يقذفونه بالحجارة والحَلَم ( 32 ) ، ولا يشكّون أنّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى إذا برق الفجر وأشفقوا أن يفضحهم الصبح ، هجموا على عليّ صلوات الله عليه ، وكانت دور مكّة يومئذ سوائب لا أبواب لها ، فلمّا بصر بهم عليّ ( عليه السلام ) قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها ، وكان يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة ، وثب له عليّ ( عليه السلام ) فختله وهَمَز يده ( 33 ) ، فجعل خالد يقمِص ( 34 ) قِماص البَكْر ( 35 ) ، ويرغو رغاء الجمل ، ويذعر ويصيح ، وهم في عرج الدار من خلفه ، وشدّ عليهم عليّ ( عليه السلام ) بسيفه – يعني سيف خالد – فأجفلوا ( 36 ) أمامه إجفال النَّعم إلى ظاهر الدار ، فتبصّروه فإذا هو عليّ ( عليه السلام ) ، فقالوا : إنّك لعليّ ؟
قال : أنا عليّ ، قالوا : فإنّا لم نردك ، فما فعل صاحبك ؟ قال : لا علم لي به وقد كان علم – يعني عليّاً ( عليه السلام ) – أنّ الله تعالى قد أنجى نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) بما كان أخبره من مُضيّه إلى الغار واختبائه فيه ، فأذكت قريش عليه العيون ، وركبت في طلبه الصعب والذلول ، وأمهل عليّ صلوات الله عليه حتى إذا أعْتَم ( 37 ) من الليلة القابلة انطلق هو وهند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الغار ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين ، فقال أبو بكر : قد كنت أعددت لي ولك يا نبيّ الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب .
فقال : إنّي لا آخذهما ولا أحدهما إلاّ بالثمن . قال : فهي لك بذلك ، فأمر ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً ( عليه السلام ) فأقبضه الثمن ، ثمّ أوصاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته .
وكانت قريش تدعو محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) في الجاهليّة الأمين ، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك من يقدم مكّة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوّة والرسالة والأمر كذلك ، فأمر عليّاً ( عليه السلام ) أن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوةً وعشيّاً : ألا من كان له قِبَل محمّد أمانة أو وديعة فليأت فلتؤدَّ إليه أمانته .
قال : وقال النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : إنّهم لن يصلوا من الآن إليك يا عليّ بأمر تكرهه حتى تقدم عليَّ ، فأدّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً ، ثمّ إنّي مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربّي عليكما ومستحفظه فيكما ، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ، ومن أزمع ( 38 ) للهجرة معه من بني هاشم . . . .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعليّ وهو يوصيه : وإذا أبرمت ما أمرتك فكن على أُهبة الهجرة إلى الله ورسوله ، وسر إليّ لقدوم كتابي إليك ، ولا تلبث بعده . . . .
ولمّا ورد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقُباء ، فأراده أبو بكر على دخوله المدينة وألاصَهُ ( 39 ) في ذلك ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن عمّي وابنتي ؛ يعني عليّاً وفاطمة ( عليهما السلام ) . . . ثمّ كتب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه وقلّة التلوّم ( 40 ) ، وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي ، فلمّا أتاه كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تهيّأ للخروج والهجرة ، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين ، فأمرهم أن يتسلّلوا ويتخفّفوا إذا ملأ الليل بطن كلّ واد إلى ذي طوى ، وخرج عليّ ( عليه السلام ) بفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب – وقد قيل هي ضُباعة – وتبعهم أيمن ابن أُمّ أيمن مولى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأبو واقد رسول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم .
فقال عليّ صلوات الله عليه : ارفق بالنسوة يا أبا واقد ؛ إنّهنّ من الضعائف .
قال : إنّي أخاف أن يدركنا الطالب – أو قال : الطلب – فقال عليّ ( عليه السلام ) : أرْبَعْ ( 41 ) عليك ؛
فإنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لي : يا عليّ ، إنّهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه ، ثمّ جعل – يعني عليّاً ( عليه السلام ) – يسوق بهنّ سوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول :
ليس إلاّ الله فارفع ظنّكا * يكفيك ربّ الناس ما أهمّكا
وسار فلمّا شارف ضَجَنان ( 42 ) أدركه الطلب ، وعددهم سبعة فوارس من قريش مستلئمين ( 43 ) ، وثامنهم مولى لحرب بن أُميّة يدعى جناحاً ، فأقبل عليّ ( عليه السلام ) على أيمن وأبي واقد ، وقد تراءى القوم ، فقال لهما : أنيخا الإبل واعقلاها ، وتقدّم حتى أنزل النسوة ، ودنا القوم فاستقبلهم ( عليه السلام ) منتضياً سيفه ، فأقبلوا عليه فقالوا : أظننت أنّك يا غُدَرُ ( 44 ) ناج بالنسوة ؟ ! ارجع لا أبا لك . قال : فإن لم أفعل ؟ قالوا : لترجعنّ راغماً ، أو لنرجعنّ بأكثرك شعراً وأهون بك من هالك ، ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوّروها ، فحال عليّ ( عليه السلام ) بينهم وبينها ، فأهوى له جناح بسيفه ، فراغ ( 45 ) عليّ ( عليه السلام ) عن ضربته وتختّله عليّ ( عليه السلام ) فضربه على عاتقه ، فأسرع السيف مضيّاً فيه حتى مسّ كاثبة ( 46 ) فرسه ، فكان ( عليه السلام ) يشدّ على قدمه شدّ الفرس ، أو الفارس على فرسه ، فشدّ عليهم بسيفه وهو يقول :
خلّوا سبيل الجاهد المجاهدِ * آليت لا أعبد غير الواحدِ
فتصدّع عنه القوم وقالوا له : اغن عنّا نفسك يا بن أبي طالب . قال : فإنّي منطلق إلى ابن عمّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيثرب ، فمن سرّه أن أُفري لحمه وأُريق دمه فَليَتعقّبني أو فَليَدنُ منّي .
ثمّ أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما : أطلقا مطاياكما .
ثمّ سار ظاهراً قاهراً حتى نزل ضَجْنان ، فتلوّم بها قدر يومه وليلته ، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين وفيهم أُمّ أيمن مولاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فظلّ ليلته تلك هو والفواطم – أُمّه فاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وفاطمة بنت الزبير – طوراً يصلّون وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فصلّى ( عليه السلام ) بهم صلاة الفجر ، ثمّ سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله ، والفواطم كذلك وغيرهم ممّن صحبه حتى قدموا المدينة ( 47 ) .
12 – تاريخ دمشق عن أبي رافع : إنّ عليّاً كان يجهّز النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) حين كان بالغار ويأتيه بالطعام ، واستأجر له ثلاث رواحل ؛ للنبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ولأبي بكر ودليلهم ابن أُريقط ، وخلّفه النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، فخرج إليه أهله ، فخرج ، وأمره أن يؤدّي عنه أمانته ووصايا من كان يوصي إليه ، وما كان يؤتمن عليه من مال ، فأدّى أمانته كلّها .
وأمره أن يضطجع على فراشه ليلة خرج ، وقال : إنّ قريشاً لن يفقدوني ما رأوك ، فاضطجع عليّ على فراشه ، فكانت قريش تنظر إلى فراش النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فيرون عليه رجلاً يظنّونه النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، حتى إذا أصبحوا رأوا عليه عليّاً ، فقالوا : لو خرج محمّد خرج بعليّ معه ، فحبسهم الله عزّ وجلّ بذلك عن طلب النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) حين رأوا عليّاً ولم يفقدوا النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) .
وأمر النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً أن يلحقه بالمدينة ، فخرج عليّ في طلبه بعدما أخرج إليه أهله ، يمشي من الليل ويكمن من النهار حتى قدم المدينة ، فلمّا بلغ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) قدومه قال : ادعوا لي عليّاً . قيل : يا رسول الله ، لا يقدر أن يمشي ، فأتاه النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، فلمّا رآه النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) اعتنقه وبكى رحمة لما بقدميه من الورم ، وكانتا تقطران دماً ، فتفل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) في يديه ثمّ مسح بهما رجليه ، ودعا له بالعافية ، فلم يشتكهما عليّ حتى استشهد ( 48 ) .
13 – الإمام عليّ ( عليه السلام ) : لمّا خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة في الهجرة أمرني أن أُقيم بعده حتى أُؤدّي ودائع كانت عنده للناس ، ولذا كان يسمّى الأمين ، فأقمت ثلاثاً فكنت أظهر ، ما تغيّبت يوماً واحداً ، ثمّ خرجت فجعلت أتّبع طريق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى قدمت بني عمرو بن عوف ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مقيم ، فنزلت على كلثوم بن الهدم وهنالك منزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( 49 ) .
14 – الأمالي للطوسي عن مجاهد : فخرت عائشة بأبيها ومكانه مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الغار ، فقال عبد الله بن شدّاد بن الهاد : وأين أنتِ من عليّ بن أبي طالب حيث نام في مكانه وهو يرى أنّه يُقتل ؟ ! فسكتت ولم تُحِرْ جواباً ( 50 ) .
15 – الطبقات الكبرى عن محمّد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت : قدم عليّ للنصف من شهر ربيع الأوّل ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقُباء لم يَرِمْ ( 51 ) بعدُ ( 52 ) .
16 – الأمالي للطوسي عن أُمّ هانئ بنت أبي طالب : لمّا أمر الله تعالى نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) بالهجرة وأنام عليّاً ( عليه السلام ) في فراشه ووشّحه ببرد له حضرمي ، ثمّ خرج فإذا وجوه قريش على بابه ، فأخذ حفنة من تراب فذرّها على رؤوسهم ، فلم يشعر به أحد منهم ، ودخل عليَّ بيتي ، فلمّا أصبح أقبل عليَّ وقال : أبشري يا أُمّ هانئ ؛ فهذا جبرئيل ( عليه السلام ) يخبرني أنّ الله عزّ وجلّ قد أنجى عليّاً من عدوّه .
قالت : وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع جناح الصبح إلى غار ثور ، وكان فيه ثلاثاً ، حتى سكن عنه الطلب ، ثمّ أرسل إلى عليّ ( عليه السلام ) وأمره بأمره وأداء أمانته ( 53 ) .
نقل ونقد
ذكرنا مراراً عند نقلنا للأحاديث المرتبطة بالفضائل العلويّة أنّ إنكار فضائل الإمام ( عليه السلام ) والسعي لمحوها من صفحات التاريخ وأذهان الناس – لبواعث مختلفة وأسباب متنوّعة – دأب أعداء الحقّ على مرّ التاريخ . وقد كان عمرو بن بحر الجاحظ ( م 255 ه‍ ) ممّن عزف على وتر هذه النغمة اللا موزونة – بشأن هذه الفضيلة العظيمة – وحاول أن يُنكر فضيلة المبيت على فراش النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، ويسعى إلى تقليل وهجها الباهر المتألّق بزعمه وظنّه الباطل ؛ فقد قال في رسالته الصغيرة المسمّاة بالعثمانيّة :
لم يكن له في ذلك كبير طاعة ؛ لأنّ الناقلين نقلوا أنّه ( صلى الله عليه وآله ) قال له : ” نَم ؛ فلن يخلص إليك شيء تكرهه ” ( 54 ) .
ومنهم ابن تيميّة الذي لم يألُ جهداً ، ولم يدّخر وسعاً في تقليل شأن فضائل الإمام ( عليه السلام ) وآل الله ، فعطف على ما سبق قوله : وأيضاً فإنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) قد قال : ” اتّشحْ ببردي هذا الأخضر ، فنم فيه ؛ فإنّه لن يخلص إليك منهم رجل بشيء تكرهه ” فوعده – وهو الصادق – أنّه لا يخلص إليه مكروه ؛ وكان طمأنينته بوعد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ( 55 ) .
ولنا عليهما :
1 – إنّ الآية الكريمة : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى . . . ) كما ذكرنا مصادرها الكثيرة في تضاعيف كتابنا نزلت في عليّ ( عليه السلام ) ( 56 ) ، لتدلّ على عظمة هذه الحادثة ، وهذا ما لا يدع مجالاً للشكّ والترديد . وهكذا أطلق الله تعالى على عمل الإمام ( عليه السلام ) تعبير ” شراء النفس ” ، ودعا الملائكة لملاحظة هذا الإيثار الرائع ، بَيْد أنّ الجاحظ ، وابن تيميّة اجتهدا في مقابل النصّ ، ولم يعدّا ذلك ” شراء نفس ” ، وأنكرا كونه فضيلةً ، بذريعة واهية تتلخّص في أنّه ( عليه السلام ) كان يعلم أنّه لا يصل إليه مكروه .
2 – إنّ الكلام الذي تشبّث به هذان الشخصان وهو قوله : ” إنّهم لن يصلوا إليك بشيء تكرهه ” لم يرد في معظم المصادر التاريخيّة المهمّة التي يشار إليها بالبنان ، كما لم يرد في المصادر الشيعيّة . وسنذكر أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) قال له هذا القول بعد المبيت ، وبعدما أوصاه بأداء الأمانات في الغار . وهكذا يستقيم كلام الإسكافي المعتزلي ويصمد شامخاً ، إذ قال في نقد كلام الجاحظ :
” هذا هو الكذب الصراح ، والتحريف والإدخال في الرواية ما ليس منها . . . ” ( 57 ) .
3 – ذكرنا سابقاً أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال هذا الكلام وأمر عليّاً ( عليه السلام ) بأداء الأمانات في إحدى ليالي إقامته في الغار ، بعد حادثة المبيت ، ونقل الشيخ الطوسي رضوان الله عليه هذا القسم من الحادثة بالشكل الآتي :
فأمر ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً ( عليه السلام ) ، فأقبضه الثمن ، ثمّ أوصاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته . . . وقال : ” . . . إنّهم لن يصلوا من الآن إليك يا عليّ بأمر تكرهه . . . ” ( 58 ) .
4 – في ضوء بعض المعلومات التاريخيّة : لمّا هجم المشركون على الدار صباحاً ، ورأوا عليّاً ( عليه السلام ) في الفراش ، وأيِسوا من مؤامرتهم المشؤومة ، اصطدموا بالإمام ( عليه السلام ) ، وقبل ذلك رموه بالحجارة غير مرّة . قال الإسكافي :
ولو كان هذا صحيحاً لم يصل إليه منهم مكروه ، وقد وقع الاتّفاق على أنّه ضُرب ورُميَ بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى تضوّر ، وأنّهم قالوا له : رأينا تضوّرك ؛ فإنّا كنّا نرمي محمّداً ولا يتضوّر ( 59 ) .
وقال الطبري : فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعةً ثمّ تركوه ( 60 ) .
فإذا كان عدم وصول المكروه إليه بوعد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل مبيته في فراش النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) لكان ينبغي عدم وصول شيء من الضرر والأذى إليه أصلا !
وأشار الإمام ( عليه السلام ) في كلام له إلى هذا الاصطدام وقال : ” وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعتُ إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أُقتل دونه ” ( 61 ) .
وأوضح من ذلك كلّه شعر لطيف للإمام ( عليه السلام ) نفسه في وصف هذه الفضيلة الرفيعة :
وقيتُ بنفسي خيرَ من وطئ الحصا * ومن طافَ بالبيتِ العتيق وبالحِجْرِ
رسول إله خاف أن يمكروا بهِ * فنجّاهُ ذو الطول الإله من المكْرِ
وبات رسولُ اللهِ في الغارِ آمناً * موقّىً وفي حفظ الإله وفي ستْرِ
وبتُّ أُراعيهم ولم يتّهمونني * وقد وطنتْ نفسي على القتل والأسْرِ ( 62 )
نلحظ الإمام ( عليه السلام ) في هذه الأبيات يصرّح بمبيته في فراش النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، واستعداده للقتل ، والأسر ، وتفانيه في سبيل المحافظة على حياته ( صلى الله عليه وآله ) .
------------------------------------------------------------------------
( 1 ) البقرة : 207 .
( 2 ) السيرة النبويّة لابن هشام : 2 / 301 ، الطبقات الكبرى : 1 / 221 ، دلائل النبوّة للبيهقي : 2 / 430 – 433 .
( 3 ) الطبقات الكبرى : 1 / 227 ؛ الأمالي للطوسي : 465 / 1031 .
( 4 ) الأنفال : 30 .
( 5 ) الأمالي للطوسي : 447 / 998 و ح 999 ، تاريخ اليعقوبي : 2 / 39 وراجع المناقب للكوفي : 1 / 124 / 69 والمستدرك على الصحيحين : 3 / 5 / 4264 .
( 6 ) الأمالي للطوسي : 465 / 1031 ، المناقب لابن شهر آشوب : 1 / 183 .
( 7 ) تاريخ دمشق : 42 / 67 و 68 ، المستدرك على الصحيحين : 3 / 5 / 4263 ، الطبقات الكبرى : 2281 ؛ الأمالي للطوسي : 445 / 995 .
( 8 ) مجمع البيان : 2 / 535 ، تأويل الآيات الظاهرة : 1 / 89 / 76 ، الفضائل لابن شاذان : 81 ، تاريخ اليعقوبي : 2 / 39 ، المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 65 ، العمدة : 240 / 367 ، تنبيه الخواطر : 1 / 173 ، إرشاد القلوب : 224 .
( 9 ) تاريخ دمشق : 42 / 68 ؛ المناقب للكوفي : 1 / 364 / 292 .
( 10 ) السنن الكبرى : 6 / 472 / 12697 ، الطبقات الكبرى : 3 / 22 ، تاريخ دمشق : 42 / 68 ، أُسد الغابة : 4 / 92 / 3789 ؛ أنساب الأشراف : 1 / 309 ، تاريخ الطبري : 2 / 382 ، السيرة النبويّة لابن هشام : 2 / 129 ؛ الأمالي للطوسي : 467 / 1031 .
( 11 ) الأمالي للطوسي : 470 / 1031 .
( 12 ) الطبقات الكبرى : 3 / 22 ، تاريخ دمشق : 42 / 69 .
( 13 ) الأمالي للطوسي : 447 / 998 . راجع : القسم التاسع / عليٌّ عن لسان القرآن / الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله .
( 14 ) أي شابّ قويّ ضخم ( النهاية : 5 / 135 ) .
( 15 ) تاريخ اليعقوبي : 2 / 39 وراجع العمدة : 240 / 367 وتنبيه الخواطر : 1 / 173 والفضائل لابن شاذان : 81 والمناقب لابن شهر آشوب : 2 / 65 وأُسد الغابة : 4 / 98 / 3789 وإحياء علوم الدين : 3793 .
( 16 ) مجمع البيان : 2 / 535 ، الأمالي للطوسي : 469 / 1031 ، العمدة : 239 / 367 ، الفضائل لابن شاذان : 81 ، المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 65 ، تأويل الآيات الظاهرة : 1 / 89 / 76 ؛ تذكرة الخواصّ : 35 ، شواهد التنزيل : 1 / 123 / 133 كلّها نحوه .
( 17 ) هو الحصى الصغار ( لسان العرب : 2 / 413 ) .
( 18 ) ما بين المعقوفين زيادة منّا يقتضيها السياق .
( 19 ) يس : 1 و 2 و 9 .
( 20 ) الأنفال : 30 .
( 21 ) الأمالي للطوسي : 445 / 995 ، بحار الأنوار : 19 / 54 / 11 .
( 22 ) مسند ابن حنبل : 1 / 744 / 3251 ، المصنّف لعبد الرزّاق : 5 / 389 / 9743 ، المعجم الكبير : 11 / 322 / 12155 ، الدرّ المنثور : 4 / 50 ؛ مجمع البيان : 4 / 826 .
( 23 ) الخصال : 366 / 58 عن جابر الجعفي عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) .
( 24 ) الصِّيْر : شِقّ الباب ( النهاية : 3 / 66 ) .
( 25 ) يس : 1 و 2 .
( 26 ) يس : 10 .
( 27 ) الطبقات الكبرى : 1 / 227 و 228 .
( 28 ) التَّضَوُّر : الصياح والتلوّي عند الضرب أو الجوع ( مجمع البحرين : 2 / 1088 ) .
( 29 ) المستدرك على الصحيحين : 3 / 5 / 4263 ، تاريخ دمشق : 42 / 68 ، تفسير الحبري : 242 / 9 وفيهما ” لنائم ” بدل ” للئيم ” ، تفسير فرات : 66 / 33 كلّها نحوه .
( 30 ) مسند ابن حنبل : 1 / 709 / 3062 ، فضائل الصحابة لابن حنبل : 2 / 684 / 1168 ، المستدرك على الصحيحين : 3 / 143 / 4652 وص 5 / 4263 نحوه ، خصائص أمير المؤمنين للنسائي : 72 / 23 ، تفسير العيّاشي : 1 / 101 / 293 .
( 31 ) تاريخ الطبري : 2 / 374 ، الكامل في التاريخ : 1 / 516 نحوه .
( 32 ) جمع حَلَمة : نبات ينبت بنجد في الرمل ، لها زهر ، وورقها أُخيشن ، عليه شوك ( لسان العرب : 12 / 148 و 149 ) .
( 33 ) خَتَلَهُ : أي داورَه وطلبه من حيث لا يشعر ( النهاية : 2 / 10 ) ، والهَمْز : العصر ( لسان العرب : 5 / 426 ) .
( 34 ) القِماص : هو أن لا يستقرّ في موضع ، تراه يقمِص فيَثب من مكانه من غير صبر ( لسان العرب : 7 / 82 ) .
( 35 ) البَكْر : الفَتيُّ من الإبل ، بمنزلة الغلام من الناس ( النهاية : 1 / 149 ) .
( 36 ) جَفَلَ : إذا أسرع وذهب في الأرض ( مجمع البحرين : 1 / 300 ) .
( 37 ) أعْتَمَ الرجل : صار في العَتَمة ؛ وهي ثلث الليل الأوّل بعد غيبوبة الشَّفَق ( لسان العرب : 12 / 381 ) .
( 38 ) أي أجمعَ الرأي وعزمَ عليه ( مجمع البحرين : 2 / 781 ) .
( 39 ) أي أدارهُ وراودهُ ( النهاية : 4 / 276 ) .
( 40 ) التَّلَوُّم : الانتظار والتلبّث ( لسان العرب : 12 / 557 ) .
( 41 ) أي ارفق بنفسك وكُفّ ( الصحاح : 3 / 1212 ) .
( 42 ) جبل بناحية تهامة على بريد من مكّة ، وهناك الغميم ، في أسفله مسجد صلّى فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( معجم البلدان : 3 / 453 ) .
( 43 ) استلأم الرجل : إذا لبِس ما عنده من عُدّة ؛ رمح وبيضة ومِغفَر وسيف ونَبل ( لسان العرب : 12 / 532 ) .
( 44 ) غُدَر : معدول عن غادر للمبالغة ( النهاية : 3 / 345 ) .
( 45 ) أي حادَ ( لسان العرب : 8 / 431 ) .
( 46 ) هي من الفرس مُجتمع كتفيه قُدّام السرج ( النهاية : 4 / 152 ) .
( 47 ) الأمالي للطوسي : 465 – 469 / 1031 وراجع المناقب لابن شهر آشوب : 1 / 182 – 184 وكشف الغمّة : 2 / 30 – 32 .
( 48 ) تاريخ دمشق : 42 / 68 / 8416 ، أُسد الغابة : 4 / 92 / 3789 نحوه وفيه من ” وخلّفه النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ” ؛ المناقب للكوفي : 1 / 364 / 292 ، إعلام الورى : 1 / 374 .
( 49 ) الطبقات الكبرى : 3 / 22 عن عبيد الله بن أبي رافع ، تاريخ دمشق : 42 / 69 وراجع السنن الكبرى : 6 / 472 / 12697 وأنساب الأشراف : 1 / 309 وتاريخ الطبري : 2 / 382 والسيرة النبويّة لابن هشام : 2 / 129 .
( 50 ) الأمالي للطوسي : 447 / 999 ، المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 57 .
( 51 ) رامَ يَرِيْمُ إذا برح ( لسان العرب : 12 / 259 ) أي والنبيّ ( صلى الله عليه وآله ) بقباء لم يغادرها بعدُ .
( 52 ) الطبقات الكبرى : 3 / 22 ، أُسد الغابة : 3 / 39 / 2538 عن أبي زكريّا بن يزيد بن إياس وفيه ” النصف من ربيع الأوّل ” .
( 53 ) الأمالي للطوسي : 447 / 1000 .
( 54 ) شرح نهج البلاغة : 13 / 262 .
( 55 ) منهاج السنّة : 7 / 116 .
( 56 ) راجع : القسم التاسع / عليّ عن لسان القرآن / الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله .
( 57 ) شرح نهج البلاغة : 13 / 263 .
( 58 ) الأمالي للطوسي : 467 و 468 / 1031 .
( 59 ) شرح نهج البلاغة : 13 / 263 .
( 60 ) تاريخ الطبري : 2 / 374 ، الكامل في التاريخ : 1 / 516 ، تاريخ الخميس : 1 / 325 ، بحار الأنوار : 19 / 39 / 6 ، الصحيح من سيرة النبيّ : 4 / 38 .
( 61 ) الخصال : 2 / 14 ، بحار الأنوار : 19 / 46 / 7 .
( 62 ) المستدرك على الصحيحين : 3 / 5 / 4264 ، تذكرة الخواصّ : 35 ؛ الغدير : 2 / 48 .
المصدر: موسوعة الإمام علي (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ / الشيخ محمد الريشهري


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page