الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}
وقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاٍّنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}
أولاً:
نقل الطبريّ في [جامع البيان ج30 ص91] في تفسير الآية عن قتادة قال: « كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاب الله ذلك عليهم ». وعن الربيع بن خيثم قال: « كانت العرب من أفعل الناس لذلك ». وعن ابن زيد قال: « البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهن ».
وقال القرطبيّ في [الجامع لأحكام القرآن ج19 ص233]: « وقد كان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ويمنعون منه، حتّى افتخر به الفرزدق، فقال: (ومنّا الذي منع الوائدات * فأحيا الوئيد فلم يوأد) يعني جدّه صعصعة، كان يشتريهن من آبائهن ».
وثانياً:
جاء في بعض مصادر أهل السنة أنّ عمر بن الخطاب ارتكب هذا الفعل حيث وأد بعض بناته:
جاء في كتاب [المجموع شرح المهذب ج19 ص187] للعلّامة النووي: « وروي أنّ عمر قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية، فقال النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم): أعتق بكل موءودة رقبة. والموؤودة: البنت المقتولة عندما تولد، كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك مخافة العار والفقر ». وقال أيضاً في [ج19 ص189]: « وروي أن عمر قال: يا رسول الله إني وأدت في الجاهلية؟ فقال النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم): أعتق بكل موءودة رقبة. وهذا نص في إيجاب الكفارة على الكافر ».
وجاء في كتاب [الحاوي الكبير ج13 ص67] للعلامة الماوردي: « وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية، فقال: أعتق عن كل موؤود رقبة. وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تحفر تحت الحامل إذا ضربها الطلق حفيرة، يسقط فيها ولدها إذا وضعته، فإن كان ذكراً أخرجوه منها، وإن كان أنثى تُركت في حفرتها، وطُمَّ التراب عليها حتى تموت، وهذا قتل عمد، وقد أُوجب فيه الكفارة ».
وجاء في تفسير [أضواء البيان ج8 ص439] للشنقيطي ذيل الآية الكريمة: « وقد جاء عن عمر قوله: أمران في الجاهلية أحدهما يبكيني والآخر يضحكني. أما الذي يبكيني فقد ذهبت بابنة لي لوأدها، فكنت أحفر لها الحفرة وتنفض التراب عن لحيتي وهي لا تدري ماذا أريد لها، فإذا تذكرت ذلك بكيت. والأخرى كنت أصنع إلهاً من التمر أضعه عند رأس يحرسني ليلاً، فإذا أصبحت معافى أكلته، فإذا تذكرت ذلك ضحكت من نفسي ».
اضغط على الصورة لمشاهدة الصورة بحجمها الاصلي
وثالثاً:
نقل بعض علماء الشيعة هذه الرواية من كتب أهل السنة:
قال الشيخ الطوسي في [الخلاف ج5 ص322]: « (مسألة 6): قتل العمد يجب فيه الكفارة. وبه قال الشافعي، ومالك، والزهري. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا كفارة فيه، سواء أوجب القود - كما لو قتل أجنبياً - أو لم يوجب القود، نحو أن يقتل ولده. دليلنا : إجماع الفرقة وأخبارهم، وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه. وروى واثلة بن الأسقع: قال : أتينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال: أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار. وهذا قتل عمداً ، فإنهم قالوا: استوجب النار بالقتل، ولا يستحق النار إلا بقتل العمد. وروي أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية، فقال: أعتق عن كل موؤدة رقبة ».
والرواية منقولة من مصادر المخالفين لأنّه في مقام الاحتجاج عليهم، وقد نصّ في مقدمة كتابه [الخلاف ج1 ص45] على أنّه يورد الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله) الذي يلزم المخالفَ العمل به. ومن الواضح أنّ الذي يلزم المخالف هو الخبر المنقول بمصادره.
وقال ابن زهرة الحلبيّ في [الغنية ص408]: « ويحتجّ على المخالف في كفارة قتل العمد بما رووه من أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إني وأدت في الجاهلية، فقال: أعتق عن كل مؤودة رقبة ». وعبارته صريحة بأنّها من روايات أهل السنة.
ورابعاً:
حاول بعض المعاصرين القدح في هذه الرواية بأمور مردودة:
الأول: أنّ وأد البنات لم يكن شائعاً في العرب، وكذلك لم يكن شائعاً في بني عدي التي ينتسب لها عمر بن الخطاب، ولا في أسرة الخطاب، ولو كان شائعاً فهذه بنته حفصة ولدت قبل البعثة بخمس سنوات فلماذا لم يدفنها؟
والجواب: أنّ المفسّرين والمؤرّخين ذكروا شيوع هذه الظاهرة في طوائف العرب ـ كما تقدّم ـ، ولم يُنصّ على أنّ العدويين لم يكونوا يفعلوا ذلك، خصوصاً أنّ أسرة الخطاب لم تكن من الأشراف الذين يتجنبون فعل ذلك. نعم، وجود هذه الظاهرة عند العرب لم تكن لحدّ أن يدفنوا سائر بناتهم، وإلّا فمن أين يتزوجون ويتناسلون؟ بل كان ذلك بشكل جزئيّ، فولادة حفصة قبل البعثة بسنوات وعدم دفنها ليس مسوّغاً لنفي ذلك.
الثاني: أنّ الرواية لم ترد في كتب أهل السنة، وإنما وردت في كتب الشيعة فقط.
والجواب: لقد تقدم أنّ الرواية منقولة في كتب أهل السنة المتقدمين، ونقلها علماء الشيعة من مصادر أهل السنة. نعم، لم ينقلها كثير من المصنّفين من أهل السنة؛ لِمَا فيه من التنقيص والطعن بخليفتهم، كما لم ينقلوا الكثير من مطاعن الخلفاء والصحابة، بل يرى جملة من علمائهم أنّه ينبغي إخفاء ذلك وطمسه بل يجب فعل ذلك.
قال الحافظ الذهبي في [سير أعلام النبلاء ج10 ص92]: « كما تقرّر الكف عن كثير ممّا شجر بين الصحابة وقتالهم، وما زال يمرّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والاجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه؛ لتصفو القلوب، وتتوافر على حب الصحابة، والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعيّن عن العامة وآحاد العلماء ».
فإذا كانت القاعدة المقرّرة والأصل المعوَّل عليه عند علماء المخالفين هو إخفاء الحقائق التاريخيّة التي فيها طعن بالخلفاء، بل إعدامها، فمن الطبيعي ألا يتوافر نقل مثل هذه المثالب للخلفاء والصحابة في كتبهم ومصنفاتهم.
الثالث: أن أمر الجاهلية مغفور، والإسلام يجبّ ما قبله، فإذا كان الله يغفر الشرك في الجاهلية فكيف بأمر وأد البنات؟
والجواب: إنّ الإسلام يجبّ ما قبله من العقوبة، وإلّا فهناك أحكام باقية كالحكم الوضعيّ ـ وهو ثبوت كفارة القتل ـ، إذ جاء في قول النبيّ لعمر: « أعتق بكل موءودة رقبة »، وجاء في روايةٍ: أنّ قيس بن عاصم جاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وقال: إني وأدت في الجاهلية، فقال له: « اعتق عن كل واحدة منهن نسمة » [ينظر السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص116، معرفة السنن والآثار ج6 ص253، المعجم الكبير ج18 ص338]. ثمّ إنّه وإنْ كان أمر الجاهلية مغفوراً لكن ذلك لا ينفي شناعة الفعل وخساسة النفس، فقد تقدّم: أنّ أشراف العرب لم يكونوا يفعلوا ذلك بل ينهون عنه.
وخامساً:
سواء ثبت أنّ عمر بن الخطاب وأد بعض بناته أو لا، فإنّ كتب الحديث والتاريخ طافحة بأشياء كثيرة معيبة وشنيعة ارتبكها، ومن أعظمها غصبه الخلافة من أمير المؤمنين (عليه السلام)، والهجوم على الصدّيقة الكبرى (سلام الله عليها)، وقتله ابنها المحسن (عليه السلام)، وشتمه للنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) واتهامه له بالخرف، وإلى غير ذلك من الأمور الشنيعة.