في الدنيا والآخرة :
يا بني : انك منذ سقطت الى الدنيا واستدبرتها واستقبلت الآخرة ، فدار انت اليها تسير اقرب اليك من دار وانت عنها مبتعد.
يا بني : لا تركن الى الدنيا ولا تشغل قلبك بها ، فما خلقك الله خلقا هو اهون عليه منها ، الا ترى انه يجعل نعيمها ثواب للمطيعين ولم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين.
يا بني : ان تك في شك من الموت ، فارفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك ، وان كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه ولن تستطيع ذلك ، فانك اذا فكرت في هذا علمت ان نفسك بيد غيرك وانما النوم بمنزلة الموت ، وانما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت.
يا بني : لا تقترب فيكون ابعد لك ، ولا تبعد فتهان ، كل دابة تحب مثلها وابن آدم لا يحب مثله.
لا تنشر (1) بزّك الا عند باغيه ، وكما ليس بين الكبش والذئب خلة ، كذلك ليس بين البار والفاجر خلة ، من يقترب من الزفت تعلق به بعضه ، كذلك من يشارك الفاجر يتعلق من طرفه.
من يحب المراء يشتم ، ومن يدخل مدخل السوء يتهم ، ومن يقارن قرين السوء لا يسلم ، ومن لا يملك لسانه يندم (2).
يا بني : ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع اخضر فاكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها ، ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها فتركتها ولم ترجع اليها آخر الدهر ، اخربها ولا تعمرها فانك لم تؤمر بعمارتها.
واعلم انك ستسأل غدا اذا وقفت بين يدي الله عزوجل عن اربع : شبابك فيما ابليته ، وعمرك فيما افنيته ، ومالك مما اكتسبته وفيما انفقته ، فتأهب لذلك واعد له جوابا ولا تأس على ما فاتك من الدنيا ، فان قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه ، وكثيرها لا يؤمن بلاؤه ، فخذ حذرك ، وجد في امرك ، واكشف الغطاء عن وجهك ، وتعرض لمعروف ربك ، وجدد التوبة في قلبك ، واكمش في فراقك قبل ان يقصد قصدك ، ويقضي قضاؤك ، ويحال بينك وبين ما تريد.
يا بني : خذ من الدنيا بلغة ولا تدخلن فيها دخولا فتضر فيها بآخرتك ، ولا ترفضها فتكون عيالا على الناس.
يا بني : ان الدنيا قليل ، وعمرك فيها قليل من قليل ، وقد بقي قليل من قليل القليل (3).
يا بني : ان الدنيا بحر عميق ، قد غرق فيها عالم كثير ، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وحشوها الايمان ، وشراعها التوكل ، وقيمها العقل ، ودليلها العلم ، وسكانها الصبر. (4)
يا بني : انك مدرج في اكفانك ومحل قبرك ، ومعاين عملك كله.
يا بني : كيف تسكن دار من اسخطته ؟ ام كيف من قد عصيته ؟.
يا بني : عليك بما يعنيك ، ودع عنك ما لا يعنيك ، فان القليل منها يكفيك ، والكثير لا يعنيك.
يا بني : انه قد احصي الحلال الصغير فكيف بالحرام الكثير ؟
________________________________________
1 ـ اي لا تظهر متاعك الا عند طالبه.
2 ـ تفسير الميزان : سورة لقمان.
3 ـ قصص الانبياء وبحار الانوار : ج 13 حياة لقمان الحكيم.
4 ـ نفس المصدر.