خديعة رفع المصاحف
جاء في الكامل في التأريخ لابن الأثير: إنّه لمّا اشتدّ القتال ، ورأى عمرو بن العاص أنّ أمر أهل العراق قد اشتدّ وخاف الهلاك، قال معاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك؟ وأشار عليه برفع المصاحف [1].
فأصبح أهل العراق وإذا بأهل الشام قد ربطوا المصاحف على اطراف الرماح، وكان عدد تلك المصاحف خمسمائة ، ونادى أهل الشام:
يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا، ومن لذراريكم إن قتلناكم، الله الله في البقية... ثم نادوا : يا أهل العراق كتاب الله بيننا وبينكم.
ولمّا رفعت المصاحف خدع أهل العراق ، ووقعت الفتنة التي أرادها معاوية وحليفه عمرو بن العاص، فاختلفت آراء أهل العراق وتشعّبوا بعد أن كان النصر حليفهم ، وكان قاب قوسين أو أدنى.
فصاح الناس وارتفعت اصواتهم مطالبين بإنهاء الحرب والركون إلى الموادعة، في حين أنّ جماعة منهم أدركوا أن المصاحف رفعت خدعة ومكيدة، وما اُريد بها إلاّ إيقاع الفتنة بين صفوف الجيش الكوفي، فكانوا يطالبون بمواصلة الحرب حتّى يفتح الله.
وبهذا وقع الاختلاف والفتنة بين أصحاب الإمام (عليه السلام) فخطبهم (عليه السلام) قائلاً: «عباد الله امضوا على حقّكم وصدقكم وقتال عدوّكم؛ فان معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط و... ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً، وصحبتهم رجالاً... فكانوا شرّ اطفال وشرّ رجال. ويحكم... إنّهم مارفعوها ثم لا يرفعونها، ولا يعلمون بما فيها، وما رفعوها لكم إلاّ خديعة... ومكيدة... الخ.
فقال له مسعر بن فدكي التميمي وممن معه من القرّاء الذين صاروا خوارجاً بعد ذلك:
يا عليّ أجب إلى كتاب الله عزّ وجلّ إذا دعيت إليه وإلاّ ندفعك برمتك إلى القوم... أو نفعل كما فعلنا بابن عفّان...!!!
فلمّا رأى الإمام منهم هذا الاصرار قال لهم: فاحفظوا عني نهيي إيّاكم، واحفظوا مقالتكم لي. أما أنا فإن تطيعوني فقاتلوا... وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم... قالوا له:... فأبعث إلى الاشتر فليأتك [2].
وبعث الإمام (عليه السلام) خلف الأشتر، لكنّ الأشتر رفض الرجوع؛ لأنّه كان يرى أنّ النصر قريب، ولكنّهم الحّوا على الإمام واصرّوا على إنهاء الحرب، فرجع الاشتر الذي كان الفتح أمامه قيد رمح، واشتبك مع الخوارج في معركة كلامية شديدة.
ثم قال الاشتر: يا أمير المؤمنين إحمل الصفّ على الصفّ، يصرع القوم.
فقال الخوارج له: إنّ عليّاً أمير المؤمنين قد قبل الحكومة، ورضي بحكم القرآن...
فقال الاشتر: إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضي بحكم القرآن، فقد رضيت بما رضي به...
فأقبل الناس يقولون: قد رضي أمير المؤمنين... قد قبل أمير المؤمنين.. وهو (عليه السلام) ساكت لا يفيض بكلمة... مطرق إلى الأرض [3].
نعم ، إنّه (عليه السلام) اطرق وسكت لا خوفاً من أن يقتلوه كما فعلوا بعثمان، ولكن سكت عن حقّه خوفاً على المسلمين من الفتنة ، وطالما سكت عن حقّه خوفاً على الاسلام منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الكامل في التاريخ 3: 160.
[2] انظر: تاريخ الطبري 4: 34.
[3] كتاب صفين لنصر بن مزاحم: 357ـ 358.